العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

درسٌ من التجربة السودانيّة

كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.

 

١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟

كانت مفاجأة سارّة. على الرغم من أنّني من الذين كانوا قبل عام ٢٠١١ يتوقّعون انفجار المنطقة العربيّة برمّتها، وعلى الرغم من أنّني أصررتُ على أنّ"الربيع العربيّ" لعام ٢٠١١ لم يكن سوى المحطّة الأولى في ما سمّيتُه سيرورةً ثوريّة طويلة الأمد، وعلى الرغم من أنّ الهبّات الشعبيّة والانتفاضات التي تلت ذلك "الربيع" لم تفاجئني للسبب المذكور، لاسيّما الانتفاضتان السودانيّة والجزائريّة، لم أتوقّع قيام الانتفاضتين التشرينيّتين في أيٍّ من العراق ولبنان. طبعًا، لم يكن سبب عدم التوقع غياب الأسباب الفاعلة في توليد الانفجار الإقليميّ عن البلدين: فليس العراق ولا لبنان بمنأى عن الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي ولّدت الانفجار الإقليميّ، بل على العكس، فإنّ هذه الظروف، وقد لخّصتُها تحت عناوينَ ثلاثة هي الفقر واللامساواة واللااستقرار، هي على أسوئها في البلدين بما هو في غنًى عن الشرح.
غير أنّ ما جعلني أتشاءم في شأن التحاق العراق ولبنان بالسيرورة الثوريّة الإقليميّة هو أنّ البلديَن تميّزا بنظامٍ سياسيّ من البرلمانيّة الرثّة الطائفيّة، يحلو لبعض الناس تسميتُه "ديمقراطيّة توافقيّة". وقد أثبت هذا النظام في لبنان جدارته في خنق الاستياء الشعبيّ الأفقيّ بتأجيج الانقسام العموديّ بين المِلل الطائفيّة - السياسيّة بما يؤدّي إلى اصطفاف أفراد الشعب كلٌّ وراء زعيمه وإلى توَخّيهم المحسوبيّة والزبونيّة وسيلتين لتأمين لقمة العيش بالاتّكال على الزعيم بدل مطالبة الدولة. فحيث يكون زعماء الملّة الطائفيّة- السياسيّة هم الوسطاء الإلزاميّون والمعتادون بين الأفراد وما يُطلَق عليه اسم الدولة، يتوجّه كلّ فردٍ إلى زعيمه بدل أن يتوجّه الشعب إلى الدولة، بل لا يوجد شعب بوصفه فاعلًا سياسيًّا، وتكاد لا توجد دولةٌ بوصفها موضع العامّ مقابل الخاصّ في المجتمع. ومن الطبيعيّ أن تكون تبعيّة الفرد للزعيم أقوى إذا كان الفرد أفقر وأقلَّ تعلّمًا وبالتالي أكثر ارتهانًا بخدمات الزعيم، فقد رأينا كيف تفلّت قسمٌ من الشرائح الوسطى المتعلّمة (ما يسمّى "الطبقة الوسطى") من قفص النظام اللبناني في حراك عام ٢٠١٥ وكيف تخطّى المعلّمون الحواجزَ الطائفيّة في نضالهم النقابيّ، غير أنّه بدا في كل حينٍ أنّ انتقال عدوى النضال المطلبيّ غير الطائفيّ إلى صفوف الشرائح المفقَرة التي تشكّل الغالبيّة الشعبيّةَ أمرٌ مستعصٍ، إن لم يكن مستحيلًا.

فيا ترى، ما الذي سمح للاحتجاج الشعبيّ بأن يتخطّى فجأة حاجز النظام السياسيّ القائم بحيث انبثقتْ إرادة شعبيّة بدت وكأنّها موحّدة: "كلّنا يعني كلّنا" ضد "كلّن يعني كلّن"؟ لا أرى تفسيرًا لهذه "المعجزة" سوى في أنّ قدرة الطبقة الحاكمة على توفير الحدّ الأدنى من شروط العيش للشرائح الفقيرة قد تقلّصت كثيرًا. بكلام آخر، تقلّص الشرط الاجتماعيّ- الاقتصاديّ لإعادة إنتاج "الهيمنة" بمفهوم غرامشي إلى حدّ فقدان الفاعليّة، كالمخدِّر الذي يزول مفعوله بعد تقلّص جرعاته بينما يتزايد الألم. هذا ما حصل في العراق حيث تضافر انخفاض مداخيل الدولة إثر حرب أسعار النفط الأولى التي شنّتها المملكة السعوديّة في عام ٢٠١٤ مع تكاليف محاربة داعش بدءًا من العام نفسه ليفرضا سنواتٍ عجافًا في الميزانيّة الحكوميّة حدّت كثيرًا من الأموال "العامّة" التي يتصرّف بها أفراد الطبقة الحاكمة ويجدّدون بواسطتها ولاء قواعدهم الشعبيّة.

تدفيع الفقراء ثمن تعويم خزانة الدولة

وهذا ما حصل في لبنان بالطبع حيثُ تفاقمت الأزمة الاقتصاديّة، هنا أيضًا ارتباطًا بانخفاض أسعار النفط، والكل يعلم أنّ قسمًا عظيمًا من مداخيل الاقتصاد اللبنانيّ مشتقّ من الرَّيع النفطيّ لدول الخليج، بما فيها إيران بالطبع. وقد أخذت الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة تتفاقم بصورة حادّة في الأشهر التي سبقت انفجار تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠١٩، بما أدّى بالحكومة القائمة آنذاك، والتي تمثّلت فيها التيّارات الطائفيّة-السياسيّة الرئيسية كافّة، إلى السعي وراء جعل الفقراء يدفعون ثمن تعويم خزانة الدولة التي أفرغها المشاركون في السلطة. إنّ السبيل المعهود إلى ذلك هو الضرائب غير المباشرة، ومنها بدعة ضريبة "الواتساب" التي كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير. هكذا طفح الكيل والتقت في الساحات الشرائحُ الفقيرة مع الشرائح الوسطى في خليطٍ اجتماعيٍّ ثقافيّ ذكّر بذلك الذي شهده عام ٢٠٠٥، مع فارقٍ عظيم هو أنّ الانشطار العموديّ بقي ساريًا في المناسبة السابقة، بل بلغ أوجّه مع الانقسام بين ٨ و١٤ آذار، بينما تغلّب الانشطار الأفقيّ الاجتماعيّ في انتفاضة ١٧ تشرين إلى حدّ مفاجئ (وإن لم يكن تغلّبًا كاملًا) على الانشطار العموديّ الأقوى الذي تبلور في عام ٢٠٠٥.

أمّا تشخيص ما جرى بين ١٧ تشرين الأول وتشكيل حكومة حسّان دياب ثم دخول فيروس كورونا في اللعبة، فغالبًا ما يتحوّل إلى نقاشٍ عقيم. لا شكّ في أنّ ما شهدناه هو "حركة احتجاج"، غير أنّ هذا مفهومٌ فضفاض لا يشير إلى حجم الحركة المذكورة، صغيرة ومحصورة أم جماهيرية. وكذلك لا شكّ في أنّ ما جرى كان حراكًا شعبيًّا، بيد أنّ الحراك الشعبيّ قد يكون محصورًا في منطقة واحدة أو يكون مطلبيًّا بحتًا (حراك منطقة الريف في المغرب على سبيل المثال) وقد يكون عارمًا شاملًا لشتّى أنحاء البلد ومطالِبًا بإسقاط النظام، وعندها لا بدّ من توصيف الحراك بأنّه ثوريّ. ولا شكّ في أنّ ما حصل كان انتفاضة بمستوى سائر الانتفاضات التي عرفتْها المنطقة العربيّة منذ انتفاضة تونس، مع حفظ الفروقات في الأحجام والظروف والديناميّات بين انتفاضةٍ وأخرى. وأخيرًا لا شكّ في أنّ ما جرى كان ثورةً بالمعنى العربيّ للتعبير المشتقّ من فعل «ثار» والذي تجوز ترجمته إلى «revolt» كما إلى «revolution» بالإنكليزيّة، وبغيرها من اللغات الأوروبيّة التي تميّز لغويًّا بين المفهومين (نوّهت بذلك الأمر وشرحتُه في كتابي «الشعب يريد»). فلا شكّ في أنّ الانتفاضة اللبنانيّة كانت ثورة بمعنى «revolt» كما لا شكّ بأنّها لم تنجزْ ثورة بمعنى «revolution»، أي إطاحة الشعب بالنظام السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الاثنين معًا، إلّا لو أردنا اعتبارها ثورة منتهية ومهزومة على غرار ثورات ١٨٤٨ الأوروبية أو ثورة ١٩٠٥ الروسيّة على سبيل المثال.

لكنّني لا أرى أن ما بدأ في ١٧ تشرين الأوّل قد هُزم وانتهى لسنوات مقبلة، بل أنا مقتنعٌ بأن النار تحت الرماد، لاسيّما أنّ الأحوال الاجتماعيّة الاقتصاديّة لا تني تتدهور، وتتصاعدُ النقمةُ الشعبيّةُ بموازاتها. سوف تتوالى انفجارات الغضب الشعبيّ في إطار تلك السيرورة الثوريّة طويلة الأمد التي شخّصتُها بالنسبة للمنطقة العربيّة برمّتها والتي لم يعد لبنان خارجًا عن دائرتها.

 

٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟

أعتقد أنّ الشعارين المذكورين يعبّران بصورة صادقة وفي آن واحد عن التطلّعات الجماهيريّة وعن قصور الوعي السياسيّ في الانتفاضة اللبنانيّة. عبّرا عن التطلّعات الشعبيّة من حيث إنّهما أشارا إلى رفض الجماهير للطاقم الحاكم بأكمله (بهذا المعنى يرتبطان بشعار "كلّن يعني كلّن")، وهو رفضٌ تجلّى في التوق إلى حكومة من خارج التركيبة الحاكمة التقليديّة وإلى انتخابات تُفرز مجلسًا نيابيًّا مغايرًا للمجلس العفن القائم. غير أنّ الشعارين عبّرا عن قصور الحراك إذ كانا مفعميْن بالنوايا الطيّبة، لكنّهما قصيرا النظر وسطحيّان للغاية، فإنّ مطلب حكومة "تكنوقراط" أو حكومة "اختصاصيّين"، من دون تحديد مَن يشكّلها ونحن ما زلنا في إطار النظام القائم، كالمطالبة بحكومة دُمى يحرّكها أرباب النظام، أي المطالبة بتمثيلٍ للتركيبة ذاتها بأوجهٍ أخرى "جديدة" مرتهنة بمن ولّاها حقائبها الوزاريّة.
أمّا شعار "الانتخابات المبكّرة"، فيقع في المطبّ ذاته الذي وقعتْ فيه بعض انتفاضات "الربيع العربي" حيث لم يفطن الناس إلى أنّ العمليّة الانتخابيّة لن تنتج بسحر ساحر انعكاسًا برلمانيًّا للقوى الحيّة التي كانت في صميم الانتفاضة ولن تجسّد الأماني والتطلّعات التي سادت في الانتفاضة، بل ستأتي بالقوى الحائزة على التنظيم والمال والإعلام وهي في الغالب مموّلة من الخارج. هكذا فازت "حركة النهضة" بالقسط الأكبر من مقاعد المجلس التأسيسيّ الذي جرى انتخابه في تونس بُعيد الإطاحة ببن عليّ، وهيمن الإخوان المسلمون والسلفيّون على مجلس الشعب المصري الذي جرى انتخابه بُعيد الإطاحة بمبارك. وبتفوّقه السياسيّ الواضح، تدارك الحراك السودانيُّ هذا الأمر ولم يقع في الفخّ، بل أصرّ على ألّا تقوم انتخابات جديدة قبل أربع سنوات (رضي بثلاث إثر التفاوض) كي يُتاح للقوى التي أشرفت على الثورة أن تنظّم نفسها وتفكّك أركان النظام البائد كي تُعدّ شروطَ منافسةٍ انتخابيّة نزيهة بين قوى تتعارض ببرامجها من دون أن يتمكّن بعضها من استغلال شبكات النفوذ التي حاكتْها في ظلّ النظام الساقط، علاوة على وضع حواجز أمام التدخّل الخارجي. أمّا لو أجريت انتخابات مبكّرة في لبنان في ظل موازين القوى الفعليّة الراهنة، فإنّها ستغدو لا محال فرصةً جديدةً للتنافس بين القوى التقليديّة الطائفيّة - السياسيّة بحيث يكون الحراك من حيث لم يدرِ قد منَحَ النظام القائم فرصةً لإعادة تحكّمه بالأوضاع.

لا جدوى في مطالبة الحراك الجماهيريّ بانتخاباتٍ سوى عندما تكون ثمّة قوى سياسيّة تمثّله وتحوز على القدرات التنظيميّة والماليّة والإعلاميّة التي تخوّله الطموحَ بالفوز الانتخابيّ بشيءٍ من الواقعيّة. أمّا عدا ذلك، فينبغي التركيز على النضال في الساحات العامّة وأماكن العمل والسعي وراء توفير القدرات المذكورة. ولا أرى أنّ شعار "الانتخابات المبكّرة" كان خاطئًا وحسب، بل أعتقد أنّه كان ينبغي على المناضلات والمناضلين في الحراك أن يحذّروا منه بوصفه من الحِيَل الممكنة لدى النظام القائم من أجل إعادة تأجيج الانشطارات العموديّة الطائفيّة - السياسيّة على حساب التضامن الشعبيّ الأفقيّ الذي تَجسّد في الانتفاضة.

 

٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟

إنّ أبرز إنجازات الحراك على الإطلاق في نظري ما وصفتُه آنفًا من تخطٍّ للانشطار العموديّ وتوحيد الصفوف الشعبيّة في انتفاضةٍ اجتماعيّةٍ شملتْ كافّة أرجاء البلاد، ولو بصورة غير متساوية لأسبابٍ معروفة. وثمّة إنجازٌ آخرُ يستحقّ الذكر هو رفع وعي الشعب السياسيّ وتركيز أنظاره على ممارسات الحكم في المجالَين الاقتصادي والاجتماعيّ، وهي ممارساتٌ كان معظم الناس غافلين عنها بمتاهات السياسة التقليديّة لدى بعضهم، أو خطاب "الممانعة" لدى بعضهم الآخر. وقد بات جميع الناس في لبنان يترقبّون سياسات الحكم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والماليّة بمستوًى من اليقظة لم يسبق له مثيل في لبنان. أما القصور الأهمّ فكان في التهاء الحراك بمطالب عقيمة كالشعارَين سالفَي الذكر بدل التركيز على مطالبَ اجتماعيّة واقتصاديّة محدّدة لمواجهة الأزمة، كالتي تضمّنتها وثيقة «من أجل خطّة إنقاذ اقتصاديّة طارئة في لبنان» التي اتّفق عليها في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر عددٌ من الباحثات والباحثين يمثّلون طيف الحساسيّات السياسيّة والأيديولوجيّة (بل وحتى الطائفيّة!) المشاركة في الحراك. كان ينبغي تبنّي الحراك لتلك المطالب وتركيز النضال على تحقيقها بدل تركيزه على من يجلس في الحكومة أو في المجلس النيابيّ بغياب القدرة على تغيير طبيعة أيٍّ من المؤسستين وبالتالي نهجهما.

 

٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟

شعار «نحن نطالب ولا نفاوض» هو تعبيرٌ صادق آخر عن قصور الانتفاضة، إذ إنه مثالٌ واضح عن تلبيس الضرورة ثوبَ الفضيلة، فالحقيقة أنّ الحراك اللبناني لم يكن قادرًا على التفاوض، إذ إنّ التفاوض يتطلّب مَن يفاوض بالنيابة عن كل طرف من أطرافه، ولم يكن لدى الحراك القدرة على فرز مندوبين. بل يمكن أن نجزم بأنّ أيّ محاولة لتعيين وفدٍ يفاوض باسم الحراك كانت ستؤدّي حتمًا إلى أزمة في صفوفه وانشقاقات نظرًا لتنافر مكوّناته الاجتماعيّة والسياسيّة. والحقيقة أنّ الحراك جمعَه رفضٌ مشترك لما كان قائمًا، لكنّه لم يفرز تصوّرًا مشتركًا للبديل، وذلك لسبب بديهيّ هو الافتقار إلى إطار منظّم يحوز على شرعيّةٍ تمثيليّة في نظر الغالبيّة الواسعة من المشاركات والمشاركين، ويقوم بدورٍ شبيهٍ بالذي قام به في عام ٢٠١١ «الاتّحاد العام التونسيّ للشغل» أو في العام الماضي «تجمّع المهنيّين السودانيّين».
درسٌ من التجربة السودانيّة

 

٥ ما هي الدروس الرئيسة التي تستخلصها من حراك ١٧ تشرين؟ يرجى أن تعطي فكرة عن أبرز نشاطات الحراك في منطقتك وأبرز المطالب التي برزتْ خلال الحراك.

الدرس الرئيسيّ الذي أستخلصه من انتفاضة ١٧ تشرين هو ذاته الذي أستخلصه من سائر الانتفاضات التي شهدتْها المنطقة العربية حتى الآن وعددها الإجماليّ عشرُ انتفاضات. ما أثبتتْه كافة هذه التجارب هو أنّ الزخم العفويّ للانتفاضات الشعبيّة التي يحرّكها الغضب على الحكّام يكفي في بعض الظروف لإحداث سقوط أرباب النظام، لكنّه لا يكفي في أيّ ظرفٍ لتغيير النظام بالعمق. كما أنّ شبكاتِ التواصل الاجتماعيّ تتيح نَسْج "شبكة من الشبكات" تسمح بتنظيم حراكاتٍ جماهيريّة واسعة النطاق، لكنّها لا تستطيع أن تنوب عن إطار منظّم يوحّد قرار الحراك ويضاعف بالتالي فاعليّته في تحديد غايات ما بعد إسقاط أرباب النظام والعمل على بلوغها. هنا يكمن سرّ تفوّق التجربة السودانيّة التي لم تقتصر على شبكات الإنترنت، بل جمعت بين شبكاتٍ أفقيّة ميدانيّة بالغةِ الأهميّة تُعرف باسم «لجان المقاومة» وبين منظمة قامت بدور مركز النضالات وحازت على شرعيّة تمثيليّةٍ في نظر الشبكات العينيّة، هي «تجمّع المهنيّين السودانيّين».
هذه الخاصية هي التي أتاحت للانتفاضة السودانيّة أن تحقّق أكثر بكثير من أيّ من الانتفاضات التسع الأخرى، لاسيما انتفاضات الموجة الثانية في السيرورة الثوريّة الإقليميّة التي شملت الجزائر والعراق ولبنان، فضلًا عن السودان. أمّا سرّ ذلك التفوّق فهو، من جهة، تراكم التجارب النضاليّة في السودان (البلد الإقليميّ الوحيد الذي أفلحتْ فيه الحركة الشعبيّة بإسقاط نظامين في عامي ١٩٦٤و١٩٨٥ قبل إفلاحها بإسقاط نظام عمر البشير). وهو من الجهة الأخرى، كَون نظام البشير قد جمع بين الديكتاتوريّة العسكريّة والجماعات الأصوليّة الإسلاميّة بحيث تفادى السودان الدور التخريبيَّ الذي تقوم به الجماعات المذكورة عندما تكون في المعارضة فتركب موجة الانتفاضات، كما حصل في معظم الانتفاضات الإقليميّة. يبقى أنّ السيرورات الثورية التاريخيّة سيروراتٌ تراكميّة في الخبرة السياسيّة والثوريّة وليست تكراريّة، أي أن الانتفاضات المتتالية ترسم خطًّا متصاعدًا في إنضاج الشروط السياسيّة والتنظيميّة لإحراز الانتصار.

طبعًا، ليس الانتصار بالمؤكّد حتى لو نضجتْ شروطه لدى الطرف الثوريّ، إذ إنّ الطرف المضادّ يتعلّم هو أيضًا من التجربة التاريخيّة، وقد يلجأ على سبيل المثال إلى "ثورةٍ سلبيّة" بالمفهوم الذي بَلْوره غرامشي لإبقاء هيمنته. بيد أنّ شروط "الثورة السلبيّة" تكاد تكون منعدمة في منطقتنا نظرًا لدرجة تكلّس التركيبات الاجتماعيّة-السياسيّة السائدة. وهذا ينطبق تمامًا على لبنان حيث توَهّمَ بعض الناس بأن يأتيهم "مخلّص" من صفوف الجيش ويسير على خطى فؤاد شهاب في إصلاح النظام. هذا وهْم خالص، بصرف النظر عن أنّ التجربة الشهابيّة أبعد ما كانت عن النجاح في تغيير النظام (أقرّ بالأمر شهاب نفسه). والحال أنّ الجيش لم يعد العمود الفقريَّ للدولة اللبنانيّة منذ انفراطه في عام ١٩٧٦، فقد أعيد بناؤه بعد اتفاق الطائف في دولة وُلدت على هيئة توأمين متلاصقين، ازدوجت فيها المؤسسات بدءًا بالمؤسسة العسكريّة، الأمر الذي أفضى إلى تعايش جهازَي دولة على أرض بلدٍ واحد. فالعمليّة بالغة التعقيد تتطلّب نفَسًا طويلًا ومستًوى رفيعًا من الصبر الثوري، والأمل هو أنْ يتمكّن الجيل الذي كان رأس حربة انتفاضة ١٧ تشرين من التقدّم بسرعة على طريق بناء الأطر المنظِّمة التي لن يخرج من دونها لبنان من الحضيض الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي وصل إليه.

العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.