كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.
١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟
أتت انتفاضة 17 تشرين الأول في سياق انهيار اقتصاديّ/ ماليّ وفي أسبوع حرائقَ وفشلٍ ذريع للدولة في التعامل معها، بالإضافة إلى اجتماعٍ وزاريٍّ فجّر الشارع بعد قرار زيادة ضرائب جديدة، لاسيّما ضريبة على مكالمات "الواتساب". كان من المتوقّع أن تكون هناك ردّة فعل في الشارع طبعًا، لكن لا أعتقد أن أحدًا توقّع أن تقوم انتفاضة ثوريّة بهذا الشكل.
شهد لبنان منذ العام 2011 تزايدًا في الحركات الاجتماعيّة التي ترفع قضايا مطلبيّة اجتماعيّة واقتصاديّة. وكانت معظم هذه التحرّكات بتنظيمٍ من مجموعات شبابيّةٍ ناشطةٍ في المجتمع المدنيّ ومجموعات نسويّة ومجموعاتٍ سياسيّة يساريّة صغيرة وحركة نقابيّة بديلة. إلّا أنّ حجم الأزمة الاقتصاديّة التي شهدتْها البلاد، منذ صيف 2019، أدّت إلى أن تقوم انتفاضة شعبيّة بادر بقيامها شبابٌ بعيدون كلّ البعد عن أجواء الناشطين والمجموعات التي كان لها دور كبير في التحرّكات السابقة. بدأت الانتفاضة بتحرّك شباب "عاديّين"، معظمُهم عاطلون من العمل أو عاملون في القطاع غير المنظّم، عادة ما يكونون الأكثر عرضةً للاستغلال الزبائنيّ الطائفيّ. تحرّك هؤلاء الشبابُ بطريقةٍ لا تشبه تحركات الماضي القريب للحركات الاجتماعيّة المعارِضة: أحرقوا إطاراتٍ وقطعوا طرقاتٍ وأعلنوا بلسانهم "ثورة" بدأت في بيروت وانتشرت في كل أرجاء البلد خلال بضع ساعات. تجعلني هذه اللحظات الأولى، بمكوّناتها الاجتماعيّة وأساليب تحرّكها التي عمدت إلى "شَلّ" البلد، أعتبر أنّ ما حدث هو "انتفاضة ثوريّة"، لا "حراكٌ" على غرار عام 2015. ولذا لا أرى أيّ إشكالٍ في التعبير عنها كـ"ثورة" ولو أنّ مفهوم الثورات من القرن الماضي لا ينطبق عليها. أعتبر أن إمكانيّة تحوّل الانتفاضة الشعبيّة إلى ثورة تكمن جزئيًّا في المخيال السياسيّ للمتظاهرين، إذ من المهمّ أن يعتبروا تحرّكهم جزءًا من ثورةٍ وأن ينظروا إلى أنفسهم كثوّار. يمكن لهذا المسار أن يجذّر الانتفاضة ويدفع بنا إلى التفكير بشكل أعمق بأساليب التنظيم والتحرّك الثوري، وبالبدائل السياسيّة الثوريّة التي نريدها. لا شكّ في أنّ أكبر مأزقٍ للانتفاضة الثوريّة اليوم غياب التنظيمات والأحزاب القاعديّة القادرة على الدفع بهذه العمليّة الثوريّة ونقلها إلى مرحلة طرح بديل سياسي لاستلام السلطة، أو التفاوض على السلطة كما في السودان.
أما بالنسبة إلى تقديري للشرائح والفئات المشارِكة، فأعتقد أنّ البداية كانت مع شبابٍ من الطبقات الفقيرة والمهمَّشة، واستقطبت الانتفاضة بسرعة الطبقات الوسطى التي تأذّت أيضًا بشكل مباشر وكبير من الانهيار الاقتصادي والحصار المصرفيّ. لكن ما لبثت الساحات أن تغيّرت مع الوقت، بعدما جاءت بعض المجموعات الناشطة بالمنصّات ومكبّرات الصوت واستلمت زمام الأمور في الساحات، وبدأت فئات واسعة بالانسحاب من الساحة في بيروت. كذلك كانت مشاركة النساء كبيرة منذ البداية إذ شاركنَ في كل التحرّكات من قَطْع طرقات إلى قَرْع الطناجر وتنظيم التظاهرات والعمل السياسي.
٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟
إذا كان مطلب بعض شرائح الانتفاضة حكومة تكنوقراط مستقلّة، فقد حقّقت هذه الشريحة أقرب ما يمكن تحقيقه من مطلب كهذا مع حكومة الرئيس حسان دياب. أمّا مطلب الانتخابات المبكّرة، فأنا لا أؤيّده في ظلّ غياب تنظيماتٍ سياسيّة للانتفاضة. علّمتْنا التجربة المصريّةُ أنّ الانتخابات يمكن أن تكون مقبرة الثورة، وأنّ الديمقراطيّة ليست فقط في الصندوق الانتخابيّ لكنّ العمل السياسيّ والاعتراضيّ المباشر والتحرّكات الشعبيّة هي أيضًا وجهٌ مهمّ من وجوه الديمقراطيّة.
عادةً ما تأخذ الانتفاضات واحدًا من مسارين، إمّا أن تأخذ منحًى إصلاحيًّا ودستوريًّا وتطالبَ بتغيير عبر الانتخابات، وفي مثل هذا السيناريو أعتقد أنّ المطلب الأول يجب أن يكون تعديل القانون الانتخابيّ، وهنا سيحصل الفرز السياسيّ بين مجموعات الثورة. أمّا المنحى الثاني فمنحى ثوريّ "انقلابيّ" تفرض فيه القوى الثوريّة عبر ضغط الشارع مجلسًا انتقاليًّا وتقوم بصياغة دستور جديد للبلاد. على الرّغم من أنّي من مناصري المسار الأكثر جذريّة (وهو إعادة صياغة الدستور)، أرى أنّ الفرصة التاريخيّة لطرح كهذا لم تعد موجودة اليوم في ظلّ تراجع الزخم في الشارع وغياب التنظيمات والقيادات الثوريّة. وطبعًا لا تقع المسؤوليّة هنا على عاتق الناشطين كأفراد، بل على عدم قدرتنا الجماعيّة، عبر السنوات السابقة، على الانخراط في عملٍ سياسيّ منظّم وعلى خلق أحزابنا ومجموعاتنا التي ترى في الصراع الطبقي، الذي انفجر في وجهنا في 17 تشرين الأول/أكتوبر، أساسًا للعمل السياسي.
٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟
أعتقد أنّ الانتفاضة أنجزت الكثير إذ كثّفت تَبَلور الوعي السياسي عند شرائح واسعة من المجتمع، وأدخلت التحليل الاقتصاديّ والاجتماعيّ إلى كل منزل، ووضعت المجتمع برمّته أمام أسئلة كبيرة تتعلّق بالنظام المصرفيّ والوضع الاقتصاديّ والسياسي والاجتماعي، وأهمّ من ذلك كلّه، وضعتْنا الانتفاضة أمام إمكانيّةٍ جديّة للتغيير ودفعتنا إلى التفكير بالبدائل الممكنة. كما أنّ الانتفاضة حقّقت مكاسب عدّة متفرّقة عبر فرض تسعير بطاقات الخلوي بالليرة اللبنانيّة ووقْف دفع الباركميتر ونجاح طلاب بعض الجامعات الخاصة في الضغط على إداراتهم لدفع الأقساط بالليرة اللبنانيّة، وغيرها من الإنجازات الاقتصاديّة الصغيرة كهذه.
أمّا بالنسبة إلى المطالب المعيشيّة التي كان يفترض أن تسعى الانتفاضة إلى تحقيقها، أو على الأقلّ إلى رفعها بشكل واضح، فأعتقد أنّه كان يمكن للمطالب المتعلّقة بحقّ العمل والحقّ في بدل البطالة أن تكون أعلى وأوضح في الساحات. مطالبُ كهذه، أساسيّة لضرب منطق النظام الرأسمالي النيوليبرالي المعادي لدولة الرفاهيّة (welfare state)، وللحدّ من الزبائنيّة الطائفيّة التي نراها اليوم، في ظل أزمة الكورونا وانعكاساتها الاجتماعيّة التي تعيد تعويم الزعامات الطائفيّة والمناطقيّة.
٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟
أرى أنّ شعار "الشعب" (لا "نحن"، كما ورد في السؤال) "يطالب ولا يفاوض" كان شعارًا ذكيًّا في المراحل الأولى من الثورة عندما تمّ تداولُه، وذلك لسببين: الأوّل وعي الـ"شارع" بأنّه لا يملك تنظيماتٍ وقياداتٍ يثق بها ويمكن أن تمثّله في أيّ عملية تفاوض، خاصة بعد تجربة عام 2015 عندما استعملت السلطة حجّة التفاوض مع الحراك على مسألة النفايات لكبح التحرّكات وإنهاء الحركة في الشارع، ولم يستطع الخبراء المفاوضون في لجنة أكرم شهيّب فرض أيٍّ من الحلول المطروحة آنذاك، ففي غياب التنظيمات المعارضة، التي تحظى بثقة جزءٍ من الشعب، لا يمكن لـ"الشعب" المنتفض بشكل فرديّ أن ينظّم نفسه ويشكّل قياداتِه ويبلور مطالبه السياسيّة في غضون أيّامٍ أو أسابيع، أو حتى أشهر. ما دامت الجماهير في الشارع تتحرّك بصفتها الفرديّة فلا يمكن للانتفاضة أن تخلق بديلها السياسيّ، لأنّ مجموع الأفراد لا يشكّل مجتمعًا سياسيًّا أو تنظيماتٍ سياسيّة. من هذا المنطلق، أرى أنّ محاسبة الانتفاضة على عدم قبول التفاوض مع السلطة ليست في مكانها، إذ إنّ معرفتنا بالواقع السياسيّ المعارض في لبنان وبتشرذمه وغياب تنظيماته القاعديّة وضعف حركته النقابية، لا يمكن أن توصلنا إلى تخيّل أنه يمكن لأيٍّ كان أن يفاوض باسم جموعٍ غفيرة ومتنوّعة وغاضبة بهذا الشكل. ما حصل هو انفجار اجتماعيّ، لا حركة ثوريّة سياسيّة منظّمة، وبغياب التنظيمات التي يمكنها أن تنقل انتفاضةً كهذه إلى حلبة السياسة والصراع السياسيّ لا يمكن أن يكون التفاوضُ مَخرجًا متاحًا.
أمّا السبب الثاني الذي يجعلني أرى أنّ شعار "الشعب يطالب ولا يفاوض" كان موفّقًا فهو ببساطة أنّ الشعار دقيق في تعبيره عن الحقوق والواجبات للمواطنين. لا يمكن مساواة "الشعب" بالـ"سلطة" في عمليّة تفاوض، فالشعب يُفترض أن يكون مصدر السلطات وليس السلطة بحدّ ذاتها. وبالتالي لا يمكن لشعب بأكمله أن يفاوض، بل يمكنه أن يطالب، وهذا حقٌّ أساسي له في الأنظمة الديمقراطيّة. كما سبق أن قلت، يحصل التفاوض عندما ينظّم "الشعب" نفسه ويكون له ممثّلوه الذين يمكن أن يفاوضوا في ظل ضغطٍ شعبيّ عارم، لأنّ التفاوض من دون وجود موازين قوى واضحة وأوراقِ تفاوضٍ قويّة لا جدوى منه سوى احتواء الشارع.
٥ ما هي الدروس الرئيسة التي تستخلصها من حراك ١٧ تشرين؟ يرجى أن تعطي فكرة عن أبرز نشاطات الحراك في منطقتك وأبرز المطالب التي برزتْ خلال الحراك.
الدرس الأساسيّ الذي أستخلصه هو أهمّيّة التنظيم، على الرغم من صعوبته في الواقع اللبناني. لا أرى أيّ مجالٍ لتحوّلٍ سياسيّ وتغيير جذريٍّ في البلاد من دون نشوء حركات سياسيّة ونقابيّة بديلة تعمل على استقطاب شرائح واسعة من المجتمع، وتضع العمل والصراع الطبقيّ في صلب فكرها السياسي. من دون تنظيمات قاعديّة ومن دون تبلور مشاريعَ سياسيّة ذات فكرٍ سياسيٍّ يساريّ يطرح المسائل الاجتماعيّة والاقتصادية كمدخل أساسيٍّ للسياسة، لا يمكننا السير قدمًا في انتفاضة تشرين اللبنانية.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.