كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.
١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟
أستبعد أن يكون أيٌّ من اللبنانيين توقّع اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر بالشكل الذي حصل فيه. كانت ثمّة تحضيراتٌ واستعداداتٌ عند بعض القوى لتصعيد المطالبة بتغيير حاكم مصرف لبنان لأسبابٍ تتعلّق بالعقوبات الأميركيّة لا بالمطالب المعيشيّة. من ناحيةٍ ثانية، كان يسود اعتقادٌ بأنّ النظام السياسيّ اللبناني محصّنٌ بطائفيّته وبإمساك القوى الحاملة للشعار الطائفي بإبقائه قيدَ العمل على الرغم من تفاقم الأزمة الاقتصاديّة-الماليّة التي أخذت شكل رفع المصارف فوائدَها على الودائع إلى أرقامٍ غيرِ واقعيّة وتقييد عمليّات السحب والتحويل، وقد بدأتْ هذه قبل اشتعال الانتفاضة، الأمرُ الذي لا ترغب السلطة بالتذكير فيه، ناهيك عن بداية انهيار قيمة العملة اللبنانيّة التي لم تعد السلطات المالية قادرةً على الدفاع عنها وتثبيتها على النحو الذي اصطنعتْه منذ العام 1992.
نبّهت الشرارةُ التي شكّلها تمادي السلطة في تحميل اللبنانيّين أعباءَ سياساتها الاقتصاديّة والماليّة الفاشلة المرتكزة على نهب المال العام، أو ما سُمّي "ضريبة الواتسآب"، قطاعاتٍ واسعةً من المواطنين إلى أنّ الفساد والاستيلاء على الثروات الوطنية الذي يمارسه الإئتلاف الحاكم لن يقف عند حدّ، وأنّ التحالف مستمرّ في جذب مستوى معيشتهم السيّئ والمهدّد أصلًا، نحو الأسفل من دون أن تتحمّل أطرافُ السلطة والفئات الاجتماعية والسياسيّة المكوِّنة لها أيّ قدْر من المسؤوليّة عن الواقع الذي صاغتْه من خلال فسادها واعتمادها المال العام مصدرًا رئيسًا لمراكمة الثروات. ويتعيّن القول إنّ الثرواتِ هذه، وإن كانت تدخل في نظام التوزيع والزبائنيّة الذي يؤبّد الدولة الطائفية (وليس الهمينة الطائفية على دولة مدنيّة كما يرى البعض)، لم تعد كافيةً لصون القاعدة الاجتماعيّة للقوى السياسيّة التي أعادت تجديد نفسها في الانتخابات التشريعيّة عام 2018، بأقلّ من نصف الناخبين.
عليه، حمل الحراكُ في جوفه العديد من النوى: فهو حراكٌ عند المحتجّين على إجراءاتٍ محدّدة أقدمت السلطة عليها، وفي الوقت نفسه انتفاضة على منظومةٍ سياسيّة-اقتصاديّة أوردت اللبنانيين مواردَ التهلكة بانتهاكها كلَّ القيَم حتى تلك التي ينصّ عليها الدستورُ، وعلى محاولات التحالف الحاكم طرح تغييرٍ غير واضح المعالم ولا الوجهة لصيغة إدارة البلاد والمعتمدة منذ اتفاق الطائف، بغضّ النظر عن المثالب والمظالم التي حملها الاتفاق وتطبيقه أثناء الوصاية/الاحتلال السوري للبنان. وأخيرًا، لا شكّ في أنّ من بين صفات الحراك صفةٌ ثوريةٌ عبّر عنها الشبابُ المتظاهرون منذ اليوم الأوّل إذ دعَوا إلى إسقاط النظام الطائفيّ. لا يُلغي الافتقارُ إلى البديل الجاهز أو الشعارُ الضروري في تلك المرحلة، من نوع إقامة نظام ديمقراطي-مدنيّ أو شكل هذا النظام، السمةَ الثوريّةَ للدعوة إلى إسقاط الطائفيّة. وفي الوقت الذي يرى عددٌ من الكتّاب أنّ العنف لا بدّ أن يلازم الثورة حتى تستحقّ هذا الاسم، أظن أنّ الطبيعة الثوريّة يحدّدها السعيُ إلى الانتقال من مستوًى من العلاقات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة-السياسيّة إلى مستوى آخر. هذا الانتقال في تنظيم العلاقات، سواء نحو الأرقى أو نحو الأكثر تخلّفًا، يمثّل ثورة أو ثورة مضادّة، بحسب وجهة نظر الناقد او الناظر وانحيازه السياسيّ-الأيديولوجي.
أفضى اتّساعُ المطالب التي حملتْها الانتفاضة وتعدّدها إلى جذب فئاتٍ اجتماعيّة متنوّعة، من البرجوازيّة التي ضاق القسم المستبعَد فيها من الانتفاع من غنائمِ المال العامّ ومن نهج حصر المقاولات والمناقصات بقلّة من أتباع الأحزاب الحاكمة، وصولًا إلى الشرائح المسحوقة التي كانت قبل انطلاق الانتفاضة قد اكتشفت الحدود التي يمكن أن يبلغها نظام الزبائنيّة وانقلابه ناديًا حصريًّا لغلاة الموالين والأتباع. غنيّ عن البيان أنّ جمهورًا بهذا الاتّساع والتنوّع سيواجه صعوباتٍ كبيرةً في صوغ خطابه السياسيّ وفي فرز قيادة ذات مصداقيّة يتولّيان، الخطاب والقيادةَ، توجيهَ الممارسة اليومية للانتفاضة.
٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟
لم تكن حكومة التكنوقراط ولا إجراء انتخابات مبكرة شعارين للانتفاضة، بل كانا مطلبين تقدّمت بهما بعضُ القوى المشاركة في التظاهرات كإجابتين عن أسئلة طُرحت على الانتفاضة من الخارج، أي من وسائل الإعلام الموالية للحكم، ومن الشخصيّات السياسيّة التقليديّة والمتحدّثين باسمها. فالتأمّل في هذين المطلبين ينتهي سريعًا باستحالة ولا جدوى السير بهما، ذلك أنّ موازين القوى التي ما زالت قائمة في لبنان والحضور ثقيل الوطأة للأحزاب والتيّارات الطائفية في الحياة السياسيّة كما في الإدارة العامّة والأجهزة الامنيّة وغير ذلك من مؤسسات الدولة، لن يسمحا بتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلّة قادرة على تحقيق أيِّ قدرٍ من الإصلاح حتى لو ضمّت أكثرَ الخبراء والتكنوقراطيين كفاءة، إذ إنّ الخلل في بُنى الدولة، كما سلَفَت الإشارة، هو خلل مطلوبٌ ومنشود من حكّام هذا البلد كأداةٍ يديمون بها زعاماتهم ويجدّدونها. وسيعني ذلك أنّ أي حكومة لا تستند إلى موازين قوى تستطيع تحدي التحالف المسيطِر على الدولة لن يُكتبَ لها أن تتشكل، ناهيك عن أن تنجح في مهمّتها.
لم يكن المطلبان، إذًا، غير وسيلتين في السجال السياسوي الآنيّ، وقد طُرحا كمدخلٍ لعمليّةٍ سياسيّة لم تُكتب لها الحياة، وكان منتظَرًا أن تتقدّم نحوها قوى الانتفاضة التي أخفقت في تطوير خطابها.
٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟
لعلّ الإنجاز الأبرزَ كان اقتراب الانتفاضة من إسقاط شرعيّة الائتلاف الحاكم وفرض نوع من الرقابة الشعبيّة على عمل المؤسسات الرسميّة. وهو إنجازٌ ما لبث أن تآكل، فاستعاد النظامُ سيطرتَه على الشارع وعلى المؤسسات التي استأنفتْ سيرتها الأولى. أمّا مسألة المطالب المعيشيّة فلا يمكن فصلُها عن الموضوع السياسي، والفشل هنا أفضى إلى فشلٍ هناك. بكلمات ثانية، أدّى العجزُ عن التقدّم في مجال تحقيق إصلاحاتٍ سياسيّةٍ إلى غياب المعالجات للمسائل المعيشيّة، فالموضوعان ينجدلان على نحوٍ لا فكاكَ للواحد منهما عن الآخر.
٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟
هذا من الشعارات التي أوقعتْ أصحابَها أنفسَهم والانتفاضة عمومًا في مأزقٍ عميق. في البدء يتعيّن تحديد من "نحن"؟ من هي الشرائح الاجتماعيّة المشارِكة في الحراك التي تطالب ولا تفاوض وما هي موازينُ القوى التي تستند إليها لرفع شعارٍ كهذا ينضح منه الغرورُ والعمى السياسيّ؟ وما هي القدراتُ العمليّة للقوى المذكورة على تغيير الواقع وفرض حقائق سياسيّة واقتصاديّة جديدة؟ للأسف ثمّة أوهامٌ كبيرةٌ سيطرتْ على عقول كثرٍ من المشاركين في الانتفاضة، ربما بفعل نشوة نزول مئات الآلاف إلى الشوارع وربما لأسبابٍ أخرى تتعلّق بضحالة الخبرة السياسيّة أو الاستسلام لشعاراتيّةٍ مجانيةٍ ألقتْ جملةً من المصطلحات والأفكار غير القابلة للتحقيق في الواقع اللبناني الذي لم يختفِ يومًا من ساحات الانتفاضة وظهَرَ مرّاتٍ كثيرة في هجمات الأحزاب والتيارات الطائفية على المتظاهرين وخيامهم ومسيراتهم. ربما كان ينبغي التفكيرُ بشعار نقيض لـ"الثورة تطالب ولا تفاوض". ربما كان يجب أن يُرفع شعار "نريد مَن يفاوضنا" والاستعانة بالحشود لدفع التفاوض نحو نتائجَ سياسيّة. يقودنا هذا إلى طبيعة العداوات والانقسامات والشخصنة في معسكر الانتفاضة التي لم تستطِع التحلّي بقدْر كافٍ من المناورة واللجوء إلى التاكتيك السياسيّ لفرض مطالبها، سواءٌ عبر التفاوض أو التظاهر أو أيّ شكلٍ من الاحتجاج.
٥ ما هي الدروس الرئيسة التي تستخلصها من حراك ١٧ تشرين؟ يرجى أن تعطي فكرة عن أبرز نشاطات الحراك في منطقتك وأبرز المطالب التي برزتْ خلال الحراك.
قضى وباء كورونا على الشكل الذي ساد بين تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 وشباط/فبراير 2020، من الانتفاضة بعدما وصل الشكل هذا إلى نهايته المحتومة، على أثر استيعاب "الطبقة" السياسيّة للموجة الأولى والكبرى للحراك وخروجها سالمةً إلى حدٍّ بعيد من الامتحان الذي شكّلتْه الانتفاضة. لعلّ من الدروس المهمّة والتي نستخلصها دوريًّا من دون أن ننجحَ في البناء عليها ومراكمة خلاصاتها، سواءٌ من تظاهرة 14 آذار أو حراك 2015 المتعلّق بأزمة النفايات، درسين:
الأوّل أنّ الحركة الشعبيّة لن يُكتب لها النجاح، مهما صفت النوايا ومهما بُذل من تضحيات، من دون إيجاد حلٍّ لارتباط لبنان بأوضاع الإقليم (هل من عاقل يتصوّر نجاح انتفاضة لبنانيّة مدنيّة فيما يحكم سورية تحالفُ الأسد-خامنئي-بوتين؟) ودوره كمنصّة استراتيجيّة لسياسات تفوق قدراته. ليس الانهيار الاقتصاديّ-الاجتماعيّ الذي نعيشه كافيًا لإخراج لبنان من هذا النفَق، بل العكس قد يكون أقربَ إلى الصّواب، إذ كلّما تعمّقت الأزمةُ الاجتماعيّة، ازداد خطاب التعبئة الطائفيّة حدّةً. ولا أهمّيّة هنا لموضوع التعبئة، ففلسطين والسفارات والعمالة كلّها تخدم هدفًا واحدًا؛
الثاني، أنّ تجاهلَ التكوين الطائفيّ للدولة اللبنانية من خلال وهْم إحلال الصراع الطبقيّ مكان الانقسام الطائفيّ إحلالًا يُلغي الثاني ويركّز على الأوّل أفضى إلى فشل العديد من محاولات التغيير، وقد ساهم أيضًا في تحديد المدى الذي يمكن لانتفاضة 17 تشرين أن تصل إليه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.