العددان ٢٣-٢٤ - ٢٠١٩

الثورة تؤرّخ لنفسها

هتافات وشعارات شعب السودان الحرّ

الحديث عن الحراك الثوريّ في السودان من منظورٍ عربيٍّ شائكٌ ومشوب بالإجحاف، فهو يضع وقائع الثورة السودانيّة ضمن سرديّة «الربيع العربي» التي تقع السودان في العمق من تجربتين حسّاستين منها: مصر وليبيا. والشاهد على الموجات الثوريّة التي واكبت الانتفاضات العربيّة في السودان (خلال الأعوام ٢٠١١، ٢٠١٢، وأيلول / سبتمبر ٢٠١٣) سيدرك التأثّر الشديد بهذه الموجة الإقليميّة، خصوصاً في مظاهرات يوم الجمعة (جمعة الكنداكة، جمعة الكتاحة، جمعة لحس الكوع، إلخ.)، التي لم تكن بطبيعة الحال مجرّد انعكاسٍ «لتأثير أحجار الدومينو» بقدْر ما امتلكتْ كلُّ تجربةٍ فيها خصوصيّتها ودوافعها السياسيّة الخاصّة. وهو ما لم يختلفْ عليه الوضع في السودان، الذي شهد استقلال جنوبه في ذلك العام (٢٠١١) ليبدأ مع خسارة إيرادات النفط في سلسلة من الانحدار الاقتصادي، ساهمتْ مع انغلاق الأفق السياسيّ واستمرار نظام عمر البشير إلى اندلاع انتفاضة كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٨ التي أدّت إلى خلع البشير بعد ثلاثين عاماً من الحكم الشموليّ.

هنا، يجب التأسيس لظاهرتَين، الأولى هي وقوف التجربة السياسيّة السودانيّة على ذاكرةٍ ثوريّةٍ متجذّرة، منذ ثورة تشرين الأول / أكتوبر١٩٦٤، التي أطاحت بأوّل نظام عسكريٍّ في السودان، وانتفاضة نيسان / ابريل ١٩٨٥، التي انقلب البشيرُ فيها على الحكومة الديمقراطيّة المنتخَبة. أمّا الظاهرةُ الثانية فهي الاختلافُ الجذريُّ في نمط القيادة القاعديّة للجموع المنتفضة في هذا الحراك، حيث امتلكت الحركةُ الطلابيّة وخصوصاً في جامعة الخرطوم قدَم السبَق ومركزيّةً لا تضاهى في الموجات الثوريّة السابقة، لكونها أقدمَ الصروح الأكاديميّة في السودان، إضافةً إلى موقعها الإستراتيجيّ في وسط العاصمة، في المسافة الفاصلة بين القصر الجمهوريّ ومقارّ القيادة العامّة للقوّات المسلّحة. ففي كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٨، كانت الدراسة لا تزال متوقّفةً في الجامعة، بينما الجامعاتُ الخاصّة التي لا تمتلك أيّة بُنية تحتيّة تنظيميّة هي التي تشارك في الإضرابات، فيما ظهَرَ جيلٌ جديد من مواليد نهاية التسعينيّات وأوائل الألفَيّة الثالثة، من الذين لم يسهموا بشكل أساسيٍّ في الحراك الأقوى السابق، في أيلول / سبتمبر ٢٠١٣، ولا امتلكوا ارتباطاً وجدانيّاً أو عضويّاً مع الميراث الثوريّ للنشطاء السياسيّين الطلّابيّين المخضرَمين.

في هذه السانحة، سنحاول أن نؤرّخ بتلخيصٍ لأهمّ شعارات الثورة السودانيّة، مع الوضع في الاعتبار صعودَ هذه الروح الجديدة، التي تجعل من هذا الحراك الحوضَ الجامعَ لتراكميّة الحراك الثوريّ في السودان.

«حرّيّة سلام وعدالة» و«الثورة خيار الشعب»

بوصفه الشعارَ المنطلقَ في أوّل أشهر الحراك، كان لا بدّ من اتّسامه بالاستمراريّة، فهو لم يكن شعاراً جديداً ولا وليدَ اللحظة الثوريّة الجديدة، بل امتداداً لسابقتها، حيث كان الشعار الأساسيَّ لانتفاضة أيلول / سبتمبر ٢٠١٣، التي وئِدت بوحشيّة، وقُتل فيها المئاتُ في ظرف أسابيع. ورغم طابع الاستعارة، إلّا أنّ هذا الشعارَ بالذات يعتبر أكبرَ ملخّص للبرنامج السياسيّ المفترَض الذي يتبنّاه الحراك الثوريُّ السودانيّ: النظام الديمقراطيّ التعدّدي، إنهاء الحرب الأهليّة، واستقلال الجهاز القضائيّ. مع استمرار الحراك، وبدء قادته في قوى إعلان الحريّة والتغيير الغرقَ في جولات التفاوض الطويلة والمَشوبة بالمماطلة، تبلورَ وعيٌ لدى الجماهير بعدم صدقيّة المجلس العسكريّ في ادّعاء الرغبة بتسليم الحكم لسلطةٍ مدنيّة، فتطوَّر الشعارُ الأساسيّ.

حرية سلام وعدالة مدنيّة خيارُ الشعب

وفيما يشبه التحيّة والاستعارة من الثورة المصريّة، ردّد المتظاهرون أحد أشهر هتافات ثورة يناير: «ثوار.. أحرار.. حنكمّل المشوار». ولكن، أسفرت الأسابيع المتتالية للحراك عن إنتاج ثقافةٍ ووعيٍ سياسيّ متجدّد برز في جملةٍ من الهتافات والأناشيد، نحاول هنا تلخيص أبرزها:

أي كوز ندوسوا دوس

ما بنخاف.. ما بنخاف.. ما بنخاف

تعود جامعة الخرطوم لفرض مركزيّتها المفقودة في هذا الحراك برسالةٍ خفيّة عبر هذا الشعار، الذي يستعير أهزوجةً طلّابيّة صرفة، كانت هجاءً ساخراً يهتف به طلاب كلّيّة الهندسة في المباريات الكرويّة بين أندية كليّات الجامعة:

أندروس (دواء للحموضة) ندوسوا دوس (نتناوله)

ما بنخاف.. ما بنخاف.. ما بنخاف

ست الجنّ أدّينا جِنّ

بشلن بشِلِن بشلن

ست الواوا أدّينا واوا

ما بناباها ما بنابها ما بناباها

ومع اقتراب انتخابات اتّحاد طلبة جامعة الخرطوم عام ٢٠٠٥، فاز التحالف الديمقراطيّ الذي كان طلّابه يهتفون بنفس الأهزوجة بعد تعديلها لتتّخذ مضموناً سياسيّاً:

أي كوز.. ندوسوا دوس

ما بنخاف.. ما بنخاف.. ما بنخاف

أمّا الكوز، فهو وصمةٌ ومفردة مركزيّة في الثقافة الشعبيّة السودانيّة، تشير إلى أيّ عضوٍ في الحركة الإسلاميّة، أو أيّ منتفِع انتهازيٍّ من العاملين في جهاز الدولة، وتعود جذور استخدام اللفظ إلى ندوةٍ سياسيّة للمنظِّر السابق وعرّاب النظام حسن الترابي، الذي ردّد مقولةً تُنسَب في المرويّات لحسن البنا: «لو كان الإسلام بَحر، فنحن كيزانه». والكوز هو كوبٌ معدنيّ يستخدَم في شرب الماء.

يا بوليس ماهيتك (مرتّبك) كم؟

الكيزان خامنها خم

في مواجهة قوّات مكافحة الشغب وبنادق الغاز المسيل للدموع، كانت الجموع المشتبكة من المتظاهرين تحاول دائماً استمالة تعاطُف الجنود، وتذكيرهم أنّهم جزءٌ لا يتجزّأ من الشعب ومطالبه، فخلال مظاهرات آذار / نيسان ١٩٨٠، ظهر هتاف: «يا بوليس ماهيتك (مرتبك) كم؟ رطل السكر بقي بكم؟» حيث كان ارتفاع أسعار السلع الأساسيّة هو المؤشّر الأكبر للانهيار الاقتصاديّ، وبالتالي الدينامو المحرِّك لأيّ انتفاضةٍ شعبيّة ناجحة.

في كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٨ وما تلاه، كان هذا الهتاف من جملة الهتافات المستعارة من الذاكرة السياسيّة، لكنْ هنا كان لاختلاف النظام أن يضيفَ اختلافاً للنسخة: «الكيزان خامنها خم»، في إشارة إلى انتشار الفساد السياسيّ والمحسوبيّة وسط الإسلاميّين في الحكومة.

أمّا أشهر الشعارات الموجَّهة لرجال الأمن التي كانت وليدة هذه الحركات، فهي صراخ أحد المتظاهرين لجنديٍّ هارب من القوّات النظاميّة وهو يعاتبه بالقول: «نحن أخوانك يا بليد».

ومع استمرار التظاهرات ودخولها الشهر الأوّل، انتشرتْ عبر وسائل الإعلام تصريحاتٌ مختلفة لمسؤولين في النظام، تهدّد باستخدام العنف ضدّ المتظاهرين، في واحدة من أكثر مظاهر القلق وسط رجالات الدولة، كانت هذه التهديدات مغذّيةً للاحتجاجات، الأمر الذي انعكس على الهتافات بالطبع. في لقائه مع أعضاء حزب المؤتمر الوطنيّ الحاكم في كانون الثاني / يناير ٢٠١٩، قال الفاتح عزُّ الدين أمين الفكر والثقافة بالحزب، ورئيس لجنة مناصرة رئيس الجمهوريّة المشير عمر البشير: «أدّونا أسبوع والراجل تاني يمرق والشايل سلاح حنقطع راسو»، ورغم دمويّة التصريح، كانت العبارة التي استفزّت المحتجّين هي أقلّ تحريضأ لكنّها أكثر إغراقاً في المحلّيّة، عندما تعهّد عز الدين بمعالجة أزمة السيولة في المصارف السودانيّة بالقول: «حنطبع (يقصد أوراق العملة) لمّن نصل السقف والصرافات حتدور رب.. رب.. رب!».

كان ردّ الجماهير المحتشدة في الأيّام التالية بهذا الهتاف:

رب رب رب

وينوا زفت الطين؟

رب رب رب

وين الفاتح عزّ الدين؟

 

 

في تزامنٍ مع ذلك، خرج نائبُ رئيس الجمهوريّة السابق، علي عثمان محمد طه، أحد مؤسِّسي نظام ثورة الإنقاذ الوطنيّ، في لقاءٍ متلفَزٍ بقناة سودانيّة (٢٤)، مع الصحافي الطاهر حسن التوم، وقال متوعّداً: «هذا النظام تحميه كتائب ومجموعات هي على استعدادٍ للتضحية... - تقف من وراء مؤسّسات الدولة المطلوب منها أن تقوم بدورها - لكنْ هناك كتائب ظِلّ كاملة يعرفونها... هي موجودة تدافع عن هذا النظام إذا ما احتاج الأمر...».

وكان الردّ في الشارع:

لا بنكلّ ولا بنملّ

ولا بٍنهاب كتايب الظِلّ

أسفر الوقت الطويلُ للحراك واستمراريّته العنيدة عن انتشار وعي واسع بالقوى المتصارعة، منه إدراكُ سكّان الخرطوم أخيراً أنّ صراعهم الجديد ضدّ المؤسّسة العسكريّة وتحديد قوّات الدعم السريع، التي أعيدت تسميتُها تحت مظلّة قوّاتٍ نظاميّة، ما هي إلّا مليشيات الجنجويد، التي لطالما ارتكبت الفظائع ضدّ المدنيّين في إقليم دارفور، التي أصبح سكّانُ الخرطوم على موعدٍ الآن للتعرّف على ويلات حربها في شوارعهم، ممّا أدّى إلى هتافٍ تضامنيّ، جمَعَ كل السودانيّين كضحايا الآلة العسكريّة نفسِها: «یا عنصري ومغرور / كل البلد دارفور».

وأمام رصاص قوّات الأمن، تفتّقتْ بسالة المتظاهرين عن التأكيد على ضرورة السلميّة في مواجهة هذه الآلة القمعيّة المسلّحة:

الطلقة ما بتقتل

بقتل سُكات الزُول (الرجل / الإنسان)

دم الشهيد بكم؟ وِلاّ السؤال ممنوع؟!

يعتبر استخدام العنف المفرِط - والقتل تحديداً - من قبل القوّات الحكومية من أكبر المحفّزات لتصاعد الغضب الشعبيّ، والانتقام الثوريّ الذي يأتي بصورة مظاهراتٍ مشحونة، غالباً ما تبدأ بمَواكب تشييع الشهداء، وتتحوّل بعد مراسم الجنازة إلى مظاهراتٍ عارمة، تشهد في الكثير من الأحيان سقوط شهداء جدد، في دائرةٍ مفرغة من العنف والغضب المضادّ. إحدى المفارقات القصوى في الذاكرة السودانيّة، هي أنّ أولى الثورات السودانيّة - في تشرين الأول / أكتوبر ١٩٩٤ - اندلعتْ إثر اغتيال قوّات الشرطة للطالب أحمد القرشي، أمام أسوار جامعة الخرطوم، لمنع قيام ندوةٍ سياسيّة تناقش قضيّة الجنوب. وبعد مقتله، تحوّل تشييع القرشي إلى مظاهرةٍ حاشدة قادت الحركةُ إلى إسقاط الحكومة العسكريّة في انتفاضةٍ لم تتجاوزْ أعدادُ ضحاياها التسعة عشرة شخصاً، فيما كان الهتاف المرافق لاغتيال القرشي شهيد الثورة هو: «مقتل طالب.. مقتل أمّة!».

هنا، يواجه السودانيّون آلة قمع مسلّحة أكثر دمويّة، مارست العنف والأعمال الإجراميّة طوال عقودٍ من الحرب الأهليّة، والصراع العرقيّ، الذي دفع إلى توجيه الاتّهام لقادة النظام من العسكريّين بارتكاب جرائمَ ضدّ الإنسانيّة، فلم يعد «مقتل طالب واحد» سبباً كافياً لدفع العسكر إلى الاستقالة والتنحّي، وكلّما أدّى استمرارُ الحراك إلى سقوط المزيد من الشهداء، تصاعدت النداءاتُ المطالبة بالقصاص، من بينها هذا الهتاف الذي انتشر بعد سقوط القتلى في مظاهرات مدينة القضارف (شرق السودان) مستعيرةً مقطعاً من قصيدة للشاعر أزهري محمد علي:

يا صاحب المشروع في قصرك العالي

الصوت هناك مسموع؟

دم الشهيد بي كم؟

ولّا السؤال ممنوع؟! دم الشهيد غالي

والانكسار في الروح ما بجبرو الوالي

أرواح تزفّ أرواح

وبرضو اللسان مبلوع

في مجموعةٍ مختلفة من القصائد الشبيهة، الممتلكة للتركيبة العروضيّة نفسها، تمّت الإفادة من هذا الإيقاع لتكوين أهازيج متعدّدة وتفاعليّة بين الهاتف والحشد، بحيث يتزامن كلُّ بيتٍ من القصيدة مع كل ثلاث صفقات، يتبعها هتاف «ثورة!» من الجماهير، فتصبح الأهزوجة كالتالي:

الصوت هناك مسموع؟

ثورة!

دم الشهيد بكم؟

ثورة!

ولاّ السؤال ممنوع؟

ثورة!

من حقّي أغنّي لشعبي

ومن حقّ الشعب عليّا

لم يكن أزهري محمد علي، الشاعر الوحيد الذي أعيد انتشار قصائده الثوريّة الإيقاعيّة، لكنّه كان الوحيد الباقي على قيد الحياة من جيل الشعراء الثوريّين الذين ارتبطت أسماؤهم بمقاومة النُظم الدكتاتورية منذ السبعينيّات، من بينهم محمد الحسن سالم (حميد) ومحجوب شريف، اللذان لطالما ارتبط اسماهما أيضاً بالحزب الشيوعيّ، حيث انتشرت لهم منذ الثمانينيّات العديد من الأغاني الثوريّة، كانت أشهرها للفنّان محمد وردي.

هنا، أغنية للفنّان مصطفى سيّد أحمد من كلمات حميد، أعيد انتشارها كهتاف:

من حقّي أغنّي لشعبي

ومن حقّ الشعب عَليا

لا بإيدك تمنع قلبي

ولا قلبي كمان بإيديّا

علّمني أغنّي الطين المخرطة والطورية

الناس الصابرة سنين بالحالة الما دغرية

القابضة الجمرة بإيدا والجمرة تلهلب حيّة

لا قادرة الجمرة تقيّدا إلا قادرة تولع هي

أمّا أشهر أغاني انتفاضة نيسان / ابريل ١٩٨٥ التي تمّ تداولُها من جديد، فأغنيتان لمحمد وردي، من الأولى:

يا شعب،

تسامی يا هذا الهمام

تفجّ الدنيا ياما

وتطلع من زحاما

زيّ بدر التمام

تدّي النخلة طولها

والغابات طبولها

والأيّام فصولها

والبذرة الغمام

أمّا أغنية وردي الثانية من نفس الحقبة فهي أيضاً معنْونة بلازمة «يا شعب»:

على أجنحة الفجر ترفرف

فوق أعلامك

ومن بينات أكمامك

تطلع شمس أعراسك

يا شعب

لهبك ثوريّتك!

أنت تلقى مرادك والفيّ نيّتك

النسخة الجديدة منها، كانت للمنسّق الموسيقيّ (Dj) سماني هيغو، الذي استخدم نسخة من الأغنية يؤدّيها شاب سودانيٌّ مجهول في مقطع فيديو منتشر على الإنترنت، ومزجها بأهزوجةٍ من فيديو أخر لأطفالٍ من عرب دارفور يعتقد أنّهم من قرية مستريحة، يهجون البشير وقوّاته: «قوّة البشير قوة خاسرة قوة البشير قوة غاشمة حركات حركات قوّة فاسدة جنّنو البنات قوّة فاسدة».

هذه الطفرة الموسيقيّة التي اتّسمتْ بالمزج بين خصوصيّة اللحظة الراهنة والميراث الفنّيّ للثمانينيّات، تمظهرتْ في أكثر من نموذجٍ موسيقيّ من بينها أغنية «زوزيتا» وهو اسم فنيّ لمغنّية شابّة أعادت توزيع إحدى أغاني كورال الحزب الشيوعيّ السودانيّ الشهيرة التي كتبها محجوب شريف في الثمانينيّات، وأدّاها الكورال بقيادة مصطفي سيّد أحمد، ولكن جاءت نسخة زوزيتا تحت اسم «أغنية حبّ للخرطوم» بإيقاعٍ أبطأ مصحوبة بالغيتار وبدون أي كورس:

غنّي يا خرطوم غنّي

شدّي أوتار المغنّي

ضوي من جبهة شهيدك

أمسياتك واطمئني

الحلّ في البل

الحسم الثوريّ كان أكثر ما اتّسمت به الشعارات المطلبيّة التي تشي بالعناد والمثابرة والاستمراريّة، تلَخّص ذلك في سؤال: «الحلّ في شنّو؟» وإجابته: «الحلّ في البل!». والبل ومعناه الحرفيّ: البلل، هو إشارة لاستخدام القوّة بمعناها غير المسلّح، فعندما يقوم أحدهم بضرب غريمه يوصف ذلك بلغة الشارع بـ«فلان بَلّ فلان!».

تسقط بس!

يظلّ الشعار الأشمل الذي كان أكثر شعارات انتفاضة كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٨ انتشاراً على هيئة وسم (هاشتاغ) في مواقع التواصل الاجتماعي هو #تسقط-بس ومعناه: أن يسقط البشير، ونظامه فحسب، بدون أيّ تفاهم أو مساومة، باعتباره المطلب الأكبر والأهمّ، في دلالةٍ على الحسم والوضوح في المطلب، يتجاوز كلّ التساؤلات المتردّدة عن البديل السياسيّ المطروح.

إنّ من أكبر الإشارات الرمزيّة التي وصلت هذا الحراك بسابقه، اختيار تجمّع المهنيّين السودانيّين لتاريخ سقوط الدكتاتور الأسبق جعفر نميري في يوم ٦ نيسان / ابريل ١٩٨٥، للحشد باتّجاه وسط الخرطوم، وتحديداً مقرّ القيادة العامّة للقوّات المسلّحة، حيث نجحت الآلاف الهادرة في التدفّق والاحتشاد ومحاصرة مقارّ الجيش، وبعد ليالٍ عدّة من المقاومة المضادّة من قبل أجهزة الأمن، اندفَعَ الجيشُ كما في المرّة السابقة لاتّخاذ موقفٍ حاسم، وتمّ الانقلاب على الرئيس البشير أخيراً وإعلان إزاحته عن السلطة. ومع بدء المتظاهرين في الاعتصام أمام القيادة العامّة للجيش مطالبين بتشكيل حكومة انتقاليّة مدنيّة، تمظهرتْ ثقافةٌ ثوريّة جديدة في مختلف الجوانب، كان في أوّلها، إشادةٌ واضحة بالمضيفين (الجيش) وموقف صغار ضبّاطه وجنوده في بداية الاعتصام، حيث استخدَموا السلاح لمهاجمة قوّات أمن النظام التي هاجمت المعتصمين، فانتشرتْ هتافاتٌ من قبيل: جيش واحد.. شعب واحد. وهو هتافٌ مستعاد من انتفاضة نيسان / ابريل ١٩٨٥، أعيد استخدامُه في سرديّةٍ ساذجة، روّجت لفكرة استقلاليّة القوّات المسلّحة كمؤسّسة قوميّة، تضع مطالب الشعب وسيادة الدولة فوق مصلحة النظام. وهنا خرج هتافٌ جديد ينطلق من السرديّة ذاتِها:

جيشنا معانا

وما همّانا

الجيش جيش السودان

الجيش ما جيش كيزان

بموازاة ذلك، تماهي الخطاب الثوريُّ مع الثقافة العسكريّة طوال فترة الاعتصام أمام مقارّ الجيش، الذي كان له أيضاً نتاجه الغنائيّ، وهو أغاني «الجلالات»، وهي مجموعةٌ من الأناشيد الإيقاعيّة التي يهتف بها الجنود أثناء تمرينات الإحماء الصباحيّة، أو في ناقلات الجند في اتّجاه مناطق العمليّات، وخلال فترة الاعتصام:

نحنا منّك ريح

وهبّت نار

وشبّت في وجوه الخانو

اسمك يا جميلة

صدحتْ تلك الجلالات عبر مكبّرات الصوت جنباً إلى جنب مع الأغاني الثوريّة القديمة، وهي بكلماتها تنضح وتمتدح الكثير من القيَم الذكوريّة المرتبطة بالرجولة والبسالة:

وصونا قالوا لينا الشردة (الهرب)

عيب وشينة عيب وشينة

الراجل الحمش فوق الجمر بمش

ما بسوي شينة هيه هي هي هي

من أبرز السمات التي تمتّعتْ بها الهتافات في القيادة

سرعةُ البديهة، والهجاء اللاذع، فبعد إعلان تنحّي البشير، وترؤّس وزير دفاعه الفريق ابن عوف، للمجلس العسكريّ الأوّل، هتفت الجموع:

شالوا كديسة (قطّة)

وجابوا فطيسة (جثّة)

وعملوا الحركة الما دسيسة (السيئة)

لكنّ أذكى الهتافات وأكثرها بذاءةً، كانت الاستفادة من شبكة الاستخبارات الشعبيّة، التي قادتْها المجموعات النسائيّة عبر موقع فيسبوك، التي لطالما تميّزت، وتحديداً منذ دعوات العصيان المدنيّ في ٢٠١٩، بالاستقصاء والتحقّق من هويّة وأصول المتنفّذين في النظام من باب الأواصر الاجتماعيّة، من بينها الإشارة إلى زوجات المسؤولين. فمع ازدياد السمعة السيّئة لزوجة الرئيس البشير الثانية، وأرملة وزير الدفاع الأسبق، وداد بابكر، المتنفّذة والممتلكة لثروةٍ هائلةٍ وغير مشروعة، شرعتْ هذه الشبكات إلى الاستقصاء واستخدام اسم زوجة القائد الجديد للمجلس العسكريّ، في رمزيّةٍ إلى استمراريّة نهج النظام ولو اختلفتْ رموزه:

شالوا وداد

وجابوا أماني

زيّ ما سقطت، تسقط تاني

اعتصام المتظاهرين أمام القيادة العامّة طوال شهر، صاحَبَه تطوّرٌ في الأساليب اللوجستيّة والحشد الجماهيري، من بينها تجهيز التروس ونقاط التفتيش المدنيّة في المداخل المُفضية إلى ساحات الاعتصام، التي احتلّتْ مساحاتٍ شاسعة حول محيط مقرّ الجيش، وللحفاظ على سلميّة الاعتصام، انتشر الناشطون الشباب وتناوبوا على حماية هذه المداخل خلف المتاريس وتفتيش كلّ من يرغب في دخول محيط الاعتصام مهما كانت هويّته أو سنّه أو جنسه، مع الوضع في الاعتبار وجود ناشطاتٍ لتفتيش السيّدات والفتيات، الموصوفات بالكنداكات، وهو اسم الملكات يطلق على الملكات النوبيّات. ولتخفيف الحرَج من عمليّة التفتيش الذاتيّ، انتشر بين الناشطين الشباب هذا الهتاف:

أرفع يدك فوق

التفتيش بالذوق

أرفع يدك تاني

التفتيش في ثواني

وأمام الرافضين بذريعة الانضواء تحت العمل التنظيميّ، هتفوا:

الجنّة ما لجنة

تتفتّش

عموما عمو

تتفتّش

ومع تبرّم المجلس العسكريّ، وذراعه المتنفّذة (قوّات الدعم السريع) التي حاولتْ أكثر من مرّة التحرّش بالمتاريس للتضييق على المعتصمين قبل فضّ اعتصامهم نهائيّا، كان حراس المتاريس يهتفون:

إيدك على إيدي

زيد الترس

قوّة الترس ده

ما بتشال

الترس وراو رجال

وبسبب الحساسيّة الجندريّة لاستخدام كلمة (رجال) وما ترمي إليه من إقصاءٍ للنساء، باعتبار الرجولة وحدَها هي المرتبطة بالقوّة والبسالة، استدرك الشباب هذا الأمر وتمّ استبدال السطر الأخير من الهتاف ليصبح: «الترس وراو ثوار».

ومع تعثّر المفاوضات بين القيادة السياسيّة للثورة متمثّلة في قوى إعلان الحرّيّة والتغيير والمجلس العسكريّ، ولّد العنادُ لدى المعتصمين هتافاتٍ تستخدم مفهوم «الصبّة». والصبّة هي مصطلح عمّاليّ تُقصَد به عمليّة صبّ الأسمنت السائل على أساسات المباني قَيد التشييد، في مجاز إلى صمود المعتصمين وبقائهم «مصبوبين» حتى تنفيذ مطالب الثورة:

سقطت ما سقطت

صابنها

حتى لو سقطت

صابنها.

العددان ٢٣-٢٤ - ٢٠١٩
هتافات وشعارات شعب السودان الحرّ

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.