العددان ٢٣-٢٤ - ٢٠١٩

كنداكات عين الشمس

«يا بنات ابقو الثبات... الثورة دي ثورة بنات»

«نحن في قوى المعارضة السودانية متّحدون على قلب

امرأة واحدة»

(الدكتور معاوية شداد - القيادي بقوى إعلان الحريّة والتغيير ١٦ شباط / فبراير٢٠١٩)

كان لا بد من أن تمرّ شهور أربعة، منذ منتصف كانون الأوّل / ديسمبر٢٠١٨ حتى منتصف نيسان / أبريل ٢٠١٩، ليجد الإعلام العالميّ أيقونته البصريّة التي قفزتْ بالثورة السودانيّة من ثالث أخبار النشرات أو رابعها إلى الخبر الأول.

بمصادفة، كلقاء قطرتَي مطر، التقطت المصوّرة لانا هارون صورةً للشابّة آلاء صلاح، يوم ٨ نيسان / أبريل ٢٠١٩، وهي ترتدي ثوباً سودانيّاً أبيض، في تناغمٍ مع فعاليّة ثوريّة عُرفتْ باسم «مارس الأبيض»، وتقف على سطح سيّارة بدا وسط الحشود المتحلّقة كمنبرعالٍ لملكةٍ تخاطب مستمعيها من الجنسين.

لم تَعد الأمور بعدها كما كانتْ. قفزت الصورة بسرعة، بسبب مواقع التواصل الاجتماعيّ، لتصبحَ رمزاً بصريّاً شهيراً للثورة. وربّما تستمرّ لعقودٍ لتخْلد بجوار صورة نيك آوت التي التقطها لفتاة حرب فيتنام، أو صورة ألفريد أيزينشتيدت لقُبلة ميدان التايمز.

مع طوفان الصورة التي أغرقت الإعلام الدوليّ، وتحوّلت إلى رسومات غرافيتي في دولٍ عدّة، بدأ لفْظ «كنداكة» ينتشر، بارتباكٍ أوّلَ الأمر إذ ظنّ كثيرون أنّه لقب الفتاة في الصورة. في ذلك اليوم، وحدَه، أجريتُ ثلاث مقابلاتٍ تلفزيونيّة أشرح فيها تفاصيل الصورة ودَور المرأة السودانيّة في الثورة، وساعدتُ قناةً أجنبيّةً لترجمة مقاطع من الأهزوجة التي كانتْ تُلقيها آلاء صلاح. لم يَعد أحدٌ يسأل عن الثورة ومآلاتها، أصبحتْ تلك أخباراً قديمة. الكلّ يبحث الآن، بجشعٍ، عن مشاركة المرأة السودانيّة في الثورة. أصبح الجميع يريدون أن يعرفوا المزيدَ عن «الكنداكة». كان لنا صوت. والآنَ أصبح لنا صورة.

«حوالي الثانية والنصف فجراً أو الثالثة، بدأ أصحابُنا خارجً الاعتصام يتّصلون بنا ويقولون إنّ هناك أخباراً عن محاولة فضٍّ للاعتصام هذه الليلة، وطلبوا منّا الخروج. أكيدٌ لم نختر الخروج لأنّنا ما كنّا لنفرّط في الاعتصام».

من أقوال شاهدة عيان لقناة الجزيرة مباشر - ١٤ حزيران / يونيو٢٠١٩

منذ اندلعت الثورة السودانيّة في ١٣ كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٩، وحتى لحظةِ كتابة هذا المقال لم تخفتْ مشاركة المرأة الفاعلة فيها في كلّ المواقع. فعلى الرغم من الشائع عن دَور النساء في الاشتباكات أنْ يكنّ عبئاً على الرجال، أو يكتفينَ بالوقوف في الصفوف الخلفيّة، إلّا أنّ المرأة السودانيّة، في الاشتباكات القليلة التي وقعتْ وجهاً لوجه مع العسكر، كانت تتقدّم إلى خطوط النار فتشعلُ ذهول رفاقها.

كانت هناك طاقةٌ من الغضب تحفز الفتياتِ، كأنّها روحٌ مسّتْهنّ. هتافهنّ كان الأكثر احتشاداً بالسخط، والتحدّي. تراكمتْ عليهنّ ثلاثون سنةً من حكْم عمر البشير كنّ دائماً مستهدفاتٍ فيها، والآنَ حان أوانُ الثأر.

امتلأت معتَقلات النظام بالنساء. ونشطتْ ربّاتُ المنازل، اللائي كان شغْلهنّ قديماً إعدادَ الطعام وتربيةَ الصغار، في لجانِ مقاومة الأحياء لتنسيق المظاهرات، ووضع خطَط مواجهة القوّات النظاميّة.

كجنرالات قديماتٍ نفضْنَ عن أنفسهنّ رماد المطابخ وعناء تدريس الأبناء، وشرعْنَ في وضع خطط المقاومة. طُرق سَير المظاهرات، أماكن التراجع والاختباء، أسقف البيوت المناسبة لرجم العسكر من فوقها ثمّ القفز الى غيرها بعيداً. خرجْنَ من مطابخهنّ شامخاتٍ كأنّهنّ يخرجْنَ من أكاديميّة ساندهرستْ العسكريّة الملكيّة.

أمّا طالباتُ الجامعات فكنّ يملأنَ الشوارع الرئيسيّة بالهتاف «يا بنات ابقو الثبات... الثورة دي ثورة بنات». لقد علمنَ من أوّل يومٍ أنّها ثورتُهنّ ومسروليّتهنّ. سيكون النصر لهنّ.

في ٢٩ نيسان / أبريل، كنتُ داخلَ غرفة إذاعة اعتصام القيادة العامّة، حين ثار شَغَبٌ مفاجئٌ وحاولتْ مجموعاتٌ غاضبةٌ اقتحامَ الإذاعة. كنّا مجموعةُ من الشبّان والشابّات. تحصّنّا داخلَ الإذاعة وأحكمنا إغلاقَ الأبواب والنوافذ بينما حاوَلَ المقتحمون تحطيم الأبواب للدّخول. كنتُ أتصبّبُ عرقاً بشكلٍ ملحوظ، حين حاولتْ إحدى الفتياتِ أن تأخذَ مكانيَ في حماية الباب. لعلّها ظنّتْني أتعرّق خوفاً فأشفقتْ عليّ. أخبرتُها، وكانت لحسن حظّي طبيبةً، أنّي أعاني من فرْط التعرّق لأسبابٍ كثيرةٍ منها ارتفاعُ ضغط الدم وانخفاض السكّر. كرّرَتْ طلبَها بتصميم. لكنّني أكّدتُ لها أنّي قادرٌ على الدفاع عن مكاني حتى اللحظة الأخيرة. لحُسن حظّنا لم تأتِ تلك اللحظةُ الأخيرة. وخرجْنا كلّنا أحياء وبلا إصاباتٍ تلك الليلةَ.

في الليلة التالية راجَت الشائعاتُ أنّ العسكرَ قادمونَ لإزاحة المتاريس التي يحيطُ بها الثوارُ مكان الاعتصام. وبأسرعَ ما كان الخبرُ يَعدو وسْط الاعتصام، كان الثوارُ قد اعتلوا المتاريسَ يهتفون في وجه العسكر بصدورٍ عاريةٍ مستعدّة لمعانقة الرصاص.

لمّا تجاوزتُ الحشودَ بصعوبةٍ وجدتُ صديقتي التي كانت تمشي معي وقد اختفتْ فجأةً كدخانٍ تبخّر. كانت تقف على أعلى المتاريس وتضع يَديها على وسْطِها في تحدٍّ، وتنظرُ للعسكر بازدراءٍ أمضى من رصاص المدافع الآليّة. كان العسكرُ مدجَّجينَ بالأسلحة، وكانت المتاريسُ مكلَّلةً بالثوّار والثائرات. كتفاً بكتفٍ رفعوا رؤوسهم للسماء مستعدّين لتلقّي الرصاص على قمم المتاريس ولا تفضّ. على هذه المتاريس قُتل، بعد شهرٍ من تلك الليلة، أكثر من ١٠٠ ثائر رفَضَ أن يتركَ مكانَه.

«ليت لنا جميعاً زوجاتٍ من هذا الطراز حتى تخرجَ النساءُ مع رجالهنّ إلى القتال»

اينوباربوس - مسرحيّة «أنطونيو وكليوباترا» لوليام شكسبير.

يَرجعُ لقب «كنداكة» الذي اشتهر منذ نيسان / أبريل ٢٠١٩ إلى عهد الدولة المرويّة في السودان (٨٠٠ ق.م - ٣٥٠ م). يطلَق اللقبُ على «الملكة الأمّ»، في نظامٍ كان يورِّث السلطةَ عن طريق الأمّ لا الأب. فكان المُلك يورَّث من الخال إلى ابن أخته، ممّا يُعطي الملكةَ الأمَّ سلطةً واسعة، خصوصاً إذا كان الوريثُ بعدُ طفلاً. ثمّ أصبح اللقبُ يطلَق على الملِكات عموماً، حتى في حياة أزواجهنّ الملوك.

وأشهرُ ملِكتَين كنداكتَين في تاريخ مروي هما آمانيريناس وأمانيشاخيتي. وهما جزءٌ مفقودٌ من مسرحيّات شكبير عن يوليوس قَيصر وكليوبترا، وحروب أنطونيوس وأوكتافيوس المنتصر الذي أصبح أغسطس الإمبراطورَ وسمّى شهراً في السنة على اسمه.

حاربَت الملِكتان، على التوالي، إمبراطورَ روما المنتصِر أغسطس. واستطاعت الكنداكة آمانيشاخيتي أن تنتزعَ منه حكْم أسوان الذي فازَ به حين هزَمَ كليوباترا البطلميّةَ. وأَجبرت الكنداكةُ قيصرَ روما الفخورَ على أن يلغيَ الضريبةَ التي كان فرَضَها سابقاً على مملكتها. لذلك وقفتْ آلاء صلاح تهزج فخورةً «أنا حبّوبتي كنداكة».

بعضُ الناشطاتِ السودانيّات كانت لديهنّ اعتراضاتٌ موضوعيّة على اللقَب. ففي رأيهنّ انَّ اللقبَ يوحي أنّهنّ نزلْنَ بغتةً من عوالمَ تاريخيّةٍ قديمة، كمومياوات مروية تمّ اكتشافُها فجأة، ولم يكنّ جزءاً أصيلاً من حراكٍ مُعارضٍ متواصل تراكَمَ منذ حزيران / يونيو ١٩٨٩حتى سُقوط النظام في ٢٠١٩. كما أنّ اللقبَ اكتسبَ زخماً جماعيّاً يُلغي فرديّةَ المرأة ليحوّلَها إلى جزءٍ من كيانٍ متوهَّمٍ هو «الكنداكات». إضافةً إلى نقطةٍ ذكيّةٍ ترى أنّ «الكنداكة» لقَبٌ ملكيّ، بينما هنّ جزءٌ من ثورةٍ شعبيّةٍ لا طبَقات فيها موجّهة ضدّ السلطة. تبدو تلك نقاطاً جدليّةً عميقةً، لكنّها خسرتْ في مواجهةِ شعبويّة اللقب واحتفاء الإعلام العالميّ به. فأصبحت الثائرةُ السودانيّة، قبلتْ ذلك أو رفضتْه، كنداكةً.

آذار / مارس٢٠١٩ كان شهرَ النساء الثائرات بلا نزاع. ففي ذلك الشهر، احتفالاً باليوم العالميّ للمرأة قرّرَت قوى الثورة السودانيّة أنْ تعلن «مارسَ الأبيض»، شهر تَزيّي السودانيّات بالثوب الأبيض التقليديّ، في اعتزازٍ بالجذور الأفريقيّة الخاصّة للثورة.

لم ترُق الفكرةُ حين إعلانها لكثيرين. ورأى البعضُ أنّ «الثورةَ» تقتضي قَطعَ العلائق بالماضي لا تعزيز الارتباط به. واعتبروا تزيّي النساءِ بالأبيض ردّة لثيابِ الجدّات وحقبةٌ فارقتْها المرأةُ السودانيّةُ بالبنطال الأنيق والتنانير الجميلة. لكنّ كل الاعتراضات ماتتْ على الشفاه، وذبلتْ في مواقع التواصل الاجتماعيّ حين بدأتْ صورُ الزحف الأبيض تُلقي ببتلْات الغاردينيا إلى الناس.

كان ما رأيناه جميلاً. بل كان أجملَ ما رأينا في حياتنا. عندها تنبّه كثيرون إلى أنّ الثورةَ السودانيّة، في شهرها الثالث، هي ثورةٌ جماليّة بالمقام الأوّل. هي ثورةٌ ضدّ القبْح الذي كبّلْنا به نظامَ الحركة الإسلاميّة السودانيّة لثلاثة عقود. حتّى أشدُّ النسويّات تطرفاً احتفَين بذلك البهاء والجمال الأنثويّ الذي بدتْ به الفتياتُ السودانيّات في الثياب البيضاء. كان الفعلُ الثوريّ الرمزيّ باعثاً جماليّاً لم نعتدْه. ورغمَ افتقاره لبهرجةِ الألوان التي يظنّ المرءُ أنّها مرادفٌ الجمال، إلّا أنّ الفتياتِ السودانيّات بدَون في الثياب البيض كزهراتِ غاردينيا لا تنمو إلّا في المناطق الدافئة مثل مناخ السودان الحار بشمسه وحكْم عسكره الإسلاميّين. في ذلك الحرّ تفتَّح الجَمالُ حتى أدهشَنا. لقد انتصرت المقاومةُ الجماليّة على قُبْح النظام، بحسن الإناث في الثياب البيض.

«أمرونا بخلع ثيابنا إن أردْنا أن نبقى على قيد الحياة. كلّ ذلك كان تحت وابلٍ من الرصاص أُطلق في الهواء لبثّ الرعب في نفوسنا، ولإرغامنا على الاستجابة. كان الاعتداء الجنسيّ بالتناوب. أجبرونا أولاً على ممارسة الجنس الفموي، وهم يصفوننا بأقذع الألفاظ، ويرددون «أليس هذا ما تردنه؟ أليس هذا ما كنتن تفعلْنه هنا؟» ثمّ بدأت الممارسة الجنسيّة. اغتصبني أكثر من شخص. بعدها فقدتُ الوعيَ ولم أستيقظْ إلّا وأنا ملقاة على الطريق، أنزف».

من شهادة إحدى الناجيات من مذبحة فضّ اعتصام القيادة العامّة.

منذ مجيء الدبّابات الملتحية في ٣٠ حزيران / يونيو١٩٨٩ كانت المرأةُ السودانيّة من الأهداف الرئيسيّة لنظام البشير. القوانينُ التي وُضعتْ لتقييد حركة المرأة، وزيّها، وسلوكها، وسفَرها، كانت أكثرَ من أيّ قوانينَ وُضعتْ لحظر العمل السياسيّ أو انفاذ الاقتصاد الإسلاميّ وسياسة تعريب التعليم وعسكرة المجتمع. كان مشروعُ «الحكم بالشريعة» في جوهره منصبّاً على قمعِ النساء وقهرهنّ. فمظهرهنّ هو ما يحدّد «إسلاميّة» الدولة. كانتْ عقوباتُ الجَلد تطبَّق على النساء لارتداء البنطال أو تنّورةٍ ضيّقة أو قصيرة أو كَشْف الرأس أو الجلوس مع رجل في مكانٍ خاصٍّ أو عامّ. قد تستطيع فتاةٌ أنْ تمشيَ في الطريق كاشفةً رأسَها، لكنّها بالتأكيد لنْ تستطيعَ دخولَ مكانٍ حكوميٍّ، سواءٌ جامعة أو مصلحة حكوميّة لتخليص إجراءات.

في العام ٢٠٠٠ فاجأ عددٌ من الفتيات حكومةَ ولاية الخرطوم بعملهنّ في محطّات وقود. لم يكن خيالُ المنع عند الحركة الإسلاميّة قد وصلَ إلى هذه النقطة. فلم يكن هناك قانونٌ يمنعُ ذلك. لكنَّ واليَ الخرطوم، وقْتَها الدكتور مجذوب الخليفة، أصدر فوراً قانوناً محلّيّاً يمنع عملَ النساء في مجالاتِ خدمة الجمهور، خصوصاً الكافتريات والفنادق ومحطّات الوقود. وتحدّى الوالي، الذي رحلَ بعد سبع سنوات في حادث سيّارة، قرارَ المحكمة الدستوريّة بتعليق القانون. وقال إنّه مرتبطٌ بالقيَم والأخلاق والمجتمع الرساليّ. إثرَ ذلك، سيّرَ عددٌ من النساء مظاهرةً رافضةً لقوانينِ الخليفة ومتضامنةً مع حقّ المرأة في العمل، وتعاملتْ معهنّ الشرطةُ، كعادتِها، بعنفٍ مفرطٍ وتمّ اعتقال ٢٦ ناشطة.

bid2324_malaf_hammour_ziade_photo1.jpg


رويترز / اوميت بكتاش

 

ما تلى ذلك من السنوات كان بروز مبادرة «لا لقهر النساء» كحركة نسوية قوية ناضلت لفك القيود المكبلة للمرأة. ربما لم تنجح المبادرة في كسر القيود، لكنها خلخلت حلقاتها وأوهنتها وجعلتها هشة تنتظر هبة الثورة التي تتخلق لتسقط إلى الأبد.

- لماذا لا يوجد تمثيلٌ كافٍ للمرأة في الحكومة والتفاوُض رغم أنّها شاركتْ في الثورة؟

- لقد أطلقْنا على المرأة السودانيّة لقب «كنداكة»، وهذا أعظمُ اعترافٍ بها (!)

مندوبةُ بعثة حكومةِ السودان في الأمم المتّحدة، رحمة صالح العبيد، ٩ تموز / يوليو٢٠١٩.

في ٣٠ حزيران / يونيو ٢٠١٩ دعتْ قوى إعلان الحرّيّة والتغيير السودانيّة الجماهيرَ للخروج إلى الشارع للضّغط على المجلس العسكريّ الحاكمِ لتسليم السلطة. كانت هذه الدعوةُ بعد أقلّ من شهرٍ على مذبحة فضّ اعتصام القيادة العامّة في ٣ حزيران / يونيو، وبعد أكثرَ من ٧٠ حالة اغتصابٍ موثّقة.

لم تكنْ تلك المرّةَ الأولى التي تَستخدمُ فيها سلطةُ الحركة الإسلاميّة الاغتصابَ كسلاحٍ ضدّ النساء في السودان. فحسب التقارير الدوليّة هناك آلافُ الحالات الموثّقة لجرائمِ اغتصابٍ ممنهَجةٍ ارتكبتْها المليشياتُ الحكوميّة في إقليم دارفور المضطرب. فبحسب تقريرٍ لمنظّمة العفْو الدوليّة اعترفَ أحدُ الجنود السابقين في مليشيا الجنجويد بأنّ «الاغتصابَ جزء اجباريّ من مهمّتنا. خصوصاً اغتصاب الفتيات صغيرات السنّ». لكنّ نّ الخروج العظيمَ في ٣٠ حزيران / يونيو أظهر للسلطة الحاكمةِ أنّ المرأةَ السودانيّة لن يكسرَها هذا السلاحُ. ورغم أنّ محاولاتِ المنظّمات المدنيّة المختصّة لم تكلَّل بنجاح كامل حتى الانَ في إقناع كثيرٍ من الناجيات بالخضوع للعلاج النفسيّ، إلّا أنّ الغضبَ النسويَّ كان أقوى من الخوف من سلاح الجنجويد المفضّل. خرجت المرأةُ السودانيّة في ٣٠ حزيران / يونيو في حشودٍ أضخمَ وأكبر من تلك التي خرجتْ ضدّ الرئيس المخلوع عمر البشير. وأظهرت الفيديوهات المنتشرةُ على مواقع التواصل الاجتماعيّ التزامَ النساء بالمقاومة والهتاف والمواجهة التي لا تتراجع.

لم تواجه المرأةُ السودانيّة مليشياتِ النظام وحدَها، لكنّها واجهتْ حتى قوى التغيير السودانيّة. في آذار / مارس٢٠١٩ أعلن تجمّعُ المهنيّين السودانيّين عن حملةِ مقاومةٍ رمزيّة، قبلَ سقوط المخلوع البشير في ١١ نيسان / أبريل، أطلق عليها «حملة حنبنيهو» (الحبّوبة هي الجدّة في العامّيّة السودانية.) دعا فيها الشبابُ لتنظيف شوارع المدن التي تراكمتْ فيها القاذورات نتيجةً لتردّي الخدمات الحكوميّة. جملة شاردة في البيان طلبت من «الكنداكة» أن تحمل مقشّتها كانت كافيةً لاثارة غضب «الكنداكات». اعتُبرت الجملة تنميطاً لدور المرأة، ورغم أنّ دعوةَ حملة النظافة كانت موجّهةً للجنسَين إلّا أنّ البيانَ ربطَ المقشّة بالمرأة. تلقّى البيانُ رجماً لا هوادةَ فيه حتى اضطرَّ تجمّع المهنيّين السودانيّين إلى أن يُصدر بياناً آخرَ للاعتذار. ولم يمرَّ شهرٌ حتى اصطدمت النساء مرةً أخرى بقوى التغيير حين تكوّنَ وفدُ التفاوض الثوريّ من ١٠ رجال وامرأةٍ واحدة. انتقادات حادّة وجّهَتها الناشطاتُ النسويّات لقوى الحريّة والتغيير حتى تمّ إجبارُها على تنحية أحد المفاوضين واستبدال مفاوِضة شابّة به. وفي ٢٧ تموز / يوليو نظّمت ناشطاتٌ وقفةً أمام مقرّ تجمّع المهنيّين احتجاجاً على ضعف التمثيل النسويّ في العمليّة السياسيّة، وفي هياكل السلطة المقترحة، إذ التزمتْ قوى التغيير بنسبة ٤٠٪ للنساء في المجلس التشريعيّ فقط دون بقيّة هياكل السلطة. الوقفةُ التي حملتْ لافتاتٍ مندّدةً بمدح «الكنداكات» في المظاهرات وتجاهلهنّ في المفاوضات والسلطة طالبتْ برفع نسبة مشاركة النساء إلى ٥٠٪ في كلّ هياكل السلطة، تحت شعار «النُصّ بالنّصّ». وحتى لحظةِ كتابة هذا المقال يبدو حراكُ المرأة السودانيّة شديدَ الضراوة ضدّ كلِّ مَن يقف أمام مكتسبات النساء، سواءٌ أكان في جانب السلطة العسكرية، أم قوى التغيير. تَمضي الثورة السودانيّة في تعرّجات الطريق الذي يصنعه المشي، لا أحد يعرف أين تنتهي. لكنّ المرأةَ السودانيّة تمشي بهذا الطريق متقدّمةً على أقرانها الرجال، تخوض معركتين. معركةَ وطنٍ ديمقراطيّ حرّ، ومعركةَ تمكين المرأة وتعزيز مشاركتها.

إن سألتني عن رأيي! فلن نُهزمَ في معركة تتقدّمها المرأةُ السودانيّة.

العددان ٢٣-٢٤ - ٢٠١٩
«يا بنات ابقو الثبات... الثورة دي ثورة بنات»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.