منذ بروزها إلى العلن في كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٨، وخلال مسيرتها الباهرة، كانت الثورة السودانيّة تجلب إلى ذهني عبارة دولوز في وصف فوكو: «هناك خرائطيٌّ جديدٌ في المدينة». فقد اتّخدتْ ثورتنا من المكان عنصرَها الأصيل. ابتهاجٌ بالمكان، إعادة تشكيله، تحديده وترسيمه، قفله جزئيّاً أو كلّيّاً وفقاً لضرورة الحراك (ربّما كانت كلمة حراك أكثر نبلاً في وصف شعراء الفضاء هؤلاء).
تمثّلتْ بهجة المكان الأولى بتاريخ ١٩ كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٨ في المقاطع البصريّة التي تبيّن حريق دار الحزب الحاكم في مدينة عطبرة العُمّاليّة وتحوّله إلى محض سخامٍ في جهاز السودان العصبيّ، ليَطردَ الخوفَ ويبني الأمل بإعادة بناء التضامن بعد ثلاثين عاماً من الاكتئاب الجماعيّ. تدفَّقت الإشارة في المكان وبدأت الثورة صوب اكتشاف قوّةٍ تعيد الربط بين الفعل والوجود المشترَك.
للقيام بذلك أعاد السودانيّون اكتشاف تكتيكاتٍ تقليديّة مثل تكتيك «حرب العصابات» (Guerilla Warfare) واشتباكات المدن، ومناورات الاستنزاف، لكنْ تحت راية الثورة السلميّة. فقد كان من الصعب، إن لم يكن المستحيل، اتّخاذ سبيل المواجهة المباشرة مع النظام الذي قَتل المئات خلال انتفاضة أيلول / سبتمبر ٢٠١٣، وزجّ بالآلاف في معتقلات النظام سيّئة الصّيت المعروفة بوسائل تعذيبها الفانتازيّة. لكنْ في الوقت عينه كانت «سبتمبر» فرصةً لتطوير لجان مقاومة الأحياء التي ستلعب الدور الفعّال في «ثورة #تسقط-بس» بعد ستّ سنوات.
في كتابهما المشترك «إعلان» (Declaration)، رسَمَ الماركسيّان أنتونيو نيغري ومايكل هارتْ السِّمات والخصائصَ المشتركة لدورة نضالات العام ٢٠١١ التي بدأت في تونس ثمّ مصر، وانتشرتْ حتى ميادين عواصم الدول الغربيّة:
«تتشارك هذه الحركات في سلسلةٍ من الخصائص، أبرزُها استراتيجيّة التخييم أو الاحتلال. قبل عقْدٍ من الزمان كانت حركات العولمة البديلة ذاتَ طبيعة بدويّة مترحّلة، تهاجر من اجتماعِ قمّةٍ إلى آخر، لتكشف الطبيعة المعادية للديمقراطيّة وممارسات مؤسّسات نظام القوّة العالميّ الظالمة: منظمة التجارة العالميّة، صندوق النقد الدوليّ، البنك الدوليّ، والزعماء الوطنيّين لمجموعة الثماني، وغيرها. على النقيض من ذلك كانتْ دورة النضالات التي بدأت في عام ٢٠١١ ذاتَ طبيعةٍ مستقرّة. بدلاً من التجوال وفقاً لجدول اجتماعات القمّة، تظلّ هذه الحركات قائمةً في موقعها، بل وترفض التحرّك. ترجع لا تحرُّكيّة حركتها جزئيّاً إلى حقيقةِ أنّهم متجذّرون في القضايا الاجتماعيّة المحلّيّة والوطنيّة».
أسلوب جدول المسارات
منذ بدايتها رسمتْ ثورة «تسقط بس» أسلوباً جديداً يخصّها، نابعاً من خبرة شابّات السودان وشبّانه الطويلة في مقاومة نظام عمر البشير، بأيديولوجيّته الإسلاميّة القمعيّة، لكنّه في اللحظة ذاتها أسلوبٌ تجريبيّ، براغماتيّ، مفتوح النهايات، أسلوبٌ يمكن التعبير عنه بعبارةٍ واحدة: جدول المسارات.
تحوّلتْ كلمة الجدول (timetable) إلى تعويذةِ الثورة الأساسيّة التي يردّدها الثوّار بنشوةٍ طفوليّةٍ نيتشويّة: («الجدول مَرَق»، «بكرة الموكب، بكرة الموكب» وغيرها). بتاريخ ٢٥ كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٨ خرجَ بيانٌ موقَّعٌ باسم «تجمّع المهنيّين السودانيّين» يدعو الناسَ إلى مليونيّةٍ صَوب القصر الجمهوريّ تدعو الرئيس إلى التنحّي وتسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنيّة. ومع أنّ الموكبَ لم يحقّق غايتَه، فقد وضَعَ الأساس لعلاقةٍ تتّسم
بشاعريةٍ ثوريّة بين التجمّع والثوار. ولأنّ أعضاء «التجمّع» كانوا مجهولين بالنسبة للجميع، بمن فيهم قوى النظام ومليشياتُه القمعيّة، فإنّ الرابطَ بين قوّة الفعل والوجود المشترك كانتْ تقوم فقط عن طريق البيانات والإعلانات. يكفي أنْ يَصدر بيانٌ على صفحات التجمّع على مواقع التواصل الاجتماعي يحدّد المواقيتَ والمساراتِ لتتدفّق عشراتُ الآلاف في الزمان والفضاء المعلومَين. لقد انكسر الخوف، لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ التجميعات (assemblages) الجديدة بدأتْ في التشكّل.
لأربعة أشهرٍ متتالية، يوماً وراء يوم، خرجت السودانيّات والسودانيّون في مواكبَ سلميّة متواصلة في جميع أرجاء البلاد، مواكب تأتي دعواتُها عبْر بيانات «تجمّع المهنيّين» تحدّد جداول المكان، والزمان، والشعار. التزم «الجمعُ المتعدّد» (multitude) بالجداول كثيراً، وخانوه أكثر (الخيانة اسمٌ آخرُ للحرّيّة مثلما نبّهنا دولوز). جاءت الخيانة من الأجسام الأكثر غموضاً، «لجان مقاومة الأحياء» التي مثّلتْ ميكروفيزياء الحراك السلميّ. كلّما خرج بيانٌ لـ«التجمّع» يحدّد أحياء معيَّنة للخروج في تاريخٍ معيَّن، إذا أحياء أخرى تخرج في خيانةٍ واضحة للجدول. فيتحوّل الأمر في آخر المطاف إلى وجود أحياءٍ بعينها (حيّ بُرّي، مثلاً) تمرَّست في إخلاصها المعتاد للخيانة. وممّا يجب ذكره هنا أنّ «لجان المقاومة» هذه قد استندتْ إلى منظومةٍ للقيَم السودانيّة قائمة على التشاركيّة، وفتْح البيوت للجميع، وحماية الملهوف. هي منظومةٌ كثيراً ما عملتْ في السابق كفانتازمٍ كاذب، قبل أن تحوّلها الثورةُ إلى روح الثقة والتضامن. انتقلت الثورة إلى أصغر حيّز، إلى البيوت، وإلى الأسرة، ووجدان الآباء والأمّهات.
إعادة رسم المدينة
يمكن القولُ إنّ الجسم الأفقيّ اللامركزيّ الغامضَ لـ«تجمّع المهنيّين» قد استند إلى إخلاصِ «لجان المقاومة» للخيانة، تغذّيها منظومةُ قيَم تضامنٍ ينخرط فيها الجميع. إنّها واحدةٌ من اللحظات النادرة لاكتمال البراكسيس الثوريّ في تاريخنا البشريّ.
أعاد خرائطيّو الثورة هؤلاءِ رسمَ مدينتهم. لم يعدْ معمار الخرطوم يشبه سابقه. أصبحتْ مدينةً جديدة الهيئة، فقد انتصبت المتاريسُ الشاهقة، تلوّنت الجداريّاتُ بالغرافيتي الثوريّ (كثيرٌ منه يشبه رسومات الأطفال والمجانين)، أغلقت الكباري التي تعبُر النيل بين أحياء العاصمة، والطرق التي تربط العاصمة بالولايات، والولايات بالولايات. لكنّ علينا التأكيد هنا على خصيصة طريفة: في كثيرٍ من الأحيان تلازَمَ خلوّ الشوارع من الناس مع استمرار الثورة. ما أن يُشعل الثوّار الإطاراتِ ويرفعون المتاريس في أزقّة الأحياء الضيّقة وشوارعها حتى يهجمَ رجال الأمن والشرطة بسيّاراتهم رُباعيّة الدفع. ينسحب الثوّار داخل البيوت، يصعدون أسقف البيوت، ويصوّرون مقاطع فيديو تبيّن بَلادة وغباء سقوط السيّارات في الفخاخ المنصوبة، فيما تقهقه المؤثّرات الصوتيّة للأطفال والنساء والثوار (التي كثيراً ما بكتْ أيضاً بحرقةٍ تقطع القلب). هذه المدينة التي أعيد تخريطها بعنايةٍ لا يعلم مساراتِها إلّا الثوّار.
تعلن هذه الاستراتيجيّةُ عن مبدأ يقول إنّ الثورة مستمرّة، وإنّ اعادة بناء التضامن مشوارٌ ليس سهلاً، لكنّه مع ذلك مشوارٌ ممتع، وإنّ ليس من برنامجٍ ثوريّ خارج التجريب والممارسة والصيرورة - الثوريّة. من خلال التجريبيّة البراغماتيّة اكتشف ثوّارُ السودان ضعف خصمهم. كانتْ مليشيات النظام ملثَّمة الوجه تتساقط واحدةً تلو الأخرى في أزقّة المدينة الجديدة المجهولة بالنسبة لهم. كلّما ارتدَوا قناعاً يُخفي وجوههم، ارتدت المدينة خريطةً جديدة وهي تهتف «سلميّة يا خرطوم».
نجادل هنا أنّ ثوريّي «حرب العصابات» السلميّين هؤلاء أنجزوا ثورةً تتّسم بخصيصةٍ فريدة داخلَ دورات النضال العالميّ التي بدأتْ في عقد القرن الواحد والعشرين. لكنّ علينا الحذر هنا. فبطريقةٍ ما تُعتبر الثورةُ السودانيّة استمراراً لصيرورة نداءٍ مستمرّةٍ ومتنوّعة بدأتْ من قبل، انطلقتْ مسبّباتُها من مأساةٍ محلّيّة لجشع رأس المال العالميّ، والتَّجاور النجس للكمبرادور القمعيّ مع ديمقراطيّاتٍ غربيّة يربطهما إعلانٌ للحقوق العالميّة تجريديٌّ في تصوّره لمفهوم الإنسان. لكنْ في نفس الوقت، يبيّن العملُ الميدانيّ أنّ الصورة - فعلٌ لثورة «تسقط بس» ذات فرادة استراتيجيّة تبتعد عن تمييز نيغري وهارتْ بين نزعتَي الثورة التي وسمتْ القرنَ الواحد والعشرين. لم تكن «تسقط بس» نومادولوجيّةً (ترحاليّة) تشبه مؤتمرات بورتو أليغري، كما لم تكن مستقرّةً مثل ميدان التحرير. في انتشار أقلمتِها وإعادة أقلمتها اليوميّ في «اضربْ واهربْ»، تشابهت الثورة السودانيّة أكثر مع استراتيجيّات حركات تحرير منتصَف القرن العشرين، ومع «متاريس» حروب عصابات حركات الطلبة والعمّال وكارتيلات المخدّرات في ستينيّاتها، وتكتيك تحرير الجزائر الاستنزافيّ. ما يجمع هذه النماذجَ ويموضعها في الحالة السودانيّة هو الخريطة، وهو المسار.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.