بين جمال عبد الناصر وسيد درويش خاض محمود الشريف غمار عمره. حياة كاملة وضعها بين ثورتين سخّر لأجلهما فنه وابداعاته. بين الثائر السياسي والثائر الموسيقي عاش محمود الشريف مخاض الشوق الى الخروج والتمرد على واقع الظلم السياسي والقهر الاجتماعي والفن التقليدي الذي كان حبيس القصور وليالي الأنس التي لا تكاد تلامس اسماع المواطن العادي، ابن البلد المكافح ولا تمسح عن جبينه ماء التعب في لحظة صفاء أو عند استراحة محارب. هذا الانسان العادي هو بالضبط من تطلّع إليه محمود الشريف بعقله وقلبه، هو من أرقّه وقضّ مضاجع فنه المتوقد. هو الشوق ذاته الذي دفع سيد درويش الى الخروج والتمرد على القوالب التقليدية السائدة في عالم الموسيقى آنذاك والى وضع البذرة الاولى للتطور الموسيقي التعبيري حين ادرك انّ الموسيقى اداة تعبيرية ولها القدرة على اداء فكرة معيّنة. بهذا التماهي مع الثورة السياسية والثورة الموسيقية وضع الملحن محمود الشريف إطار تجربته الفنية، ومن بذور ثورتيهما صاغ مئات الأعمال التي خلّدته وطبعت بصمته الخاصة في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة وسط رفاق استطاع معهم أنْ يرسم تلك اللوحة الفنية النابضة بالحياة لمجتمع يتحوَّل بعمق.
هذا التوق الى الانعتاق من أغلال الماضي بكل ما أنتجه من نظم سياسية، واجتماعية، وثقافية، وفنية لم ينقطع بعد سيد درويش بل واصله كبار الموسيقى العربية: القصبجي، محمد عبد الوهاب، السنباطي، فريد الاطرش، أحمد صدقي، محمد فوزي، ثم الجيل الذي تلاه: منير مراد، كمال الطويل، محمد الموجي، عبد العظيم محمد، سيد مكاوي إلخ. لكن التجديد الذي أحدثه الرواد الاوائل ظل في معظمه حبيس القصور والنخب الثقافية والاجتماعية في المرحلة الأولى حتى رفعته ثورة ١٩٥٢ الى مقام الشعب. وذلك بما حققته من اصلاحات جعلت الفنون في متناول الناس، وذلك عبر انتشار الحفلات العامة كأضواء المدينة التي كانت تجوب القرى والنجوع من الاسكندرية الى أسوان، وتشجيع الإبداع على أنواعه وانخراط الفنانين في ورشة إبداعية لم يسبق ان شهدتها مصر قبل الثورة ولا بعد انحسار قيمها بوفاة زعيمها جمال عبد الناصر. استلهم محمود الشريف التجربة الدرويشية بكافة أبعادها الثورية السياسية والاجتماعية والفنية، فيما اقتصر تأثر الرواد بسيد درويش على فكرة التجديد الموسيقي وحسب، بخاصة الاستاذ محمد عبد الوهاب الذي كان دائم التطلع الى مواكبة العصر بوسائله وأدواته بما يضمن لفنه دوام الحضور والانتشار. كذلك استبق محمود الشريف الثورة في التعبير عن نبض الشارع، هو الذي عاش الفقر والتشرد في طفولته بعد رحيل أبيه حين اضطر الى ترك المدرسة للعمل في اسواق الاسكندرية، حيث «فتيات الريف يقبلن في نشاط حاملات اقفاص الطيور بجلابيبهن ذات الالوان الزاهية»، وحيث دكان عم فرج بائع الاسطوانات وجرامافونه، وصالون الاسطى بلبع المزين وعوده.
ينتمي محمود الى ذلك الجيل الذي ساهم في صنع النهضة الموسيقية العربية دون صخب إعلامي، حتى بات بحق جندياً مجهولاً يقف وراء أعمال شامخة جابت الآفاق ورددتها الجماهير العريضة من المحيط الى الخليج، من دون أن تعرف ان وراءها فناناً سكندرانياً ملهماً عمل مع عدة فرق جوالة لمدة ثلاثة عشر عاما في بداية حياته الفنية، تنقل فيها عبرالمناطق والمقاهي الريفية وغنّى ومثّل في الموالد والاعياد. دعته بديعة مصابني في بدء الثلاثينيات إلى العمل في الكازينو الذي يحمل اسمها، فبدأ مرحلة جديدة في حياته مغنياً وملحناً حيث تعرّف الى عدد من كبار الفنانين الذين تخرجوا من مسرح بديعة: إبراهيم حمودة، محمود شكوكو، إسماعيل يس، فريد الاطرش، عزت الجاهلي، ومحمد عبد المطلب الذي ربطته بمحمود الشريف صداقة متينة كان من آثارها زواج محمود من أخت زوجته ثم تعاون فني كبير بين الرجلين بدأ عام ١٩٣٤ بأول أغنية لمحمود الشريف تلحيناً «بتسأليني بحبك ليه... سؤال غريب مجاوبش عليه». هذه الأغنية قدمتهما معاً لأول مرة إلى عالم الشهرة، فتم طبعها على أسطوانة لشركة «بيضافون» ثم أذيعت في الإذاعة المصرية الرسمية بعد افتتاحها في ٣١ أيار/مايو ١٩٣٤ (قبل هذا التاريخ كانت الإذاعات في القاهرة والإسكندرية أهلية خاصة).
كانت بدايات هذا الفنان على مستوى كبير من النضج فحققت النجاح الباهر، وقدمته لكل الأصوات المعروفة آنذاك وفي طليعتها ليلى مراد، التي لحّن لها العديد من الأغاني العاطفية الرفيعة المستوى «أطلب عينيّ، من بعيد يا حبيبي أسلم، أسأل عليه» ثم بعد ذلك مع كارم محمود في «على شط بحر الهوا، عيني بترف»، ومع محمد قنديل في «ثلاث سلامات» والمطربة أحلام التي قدم لها أول اغنية في حياتها أوصلتها بسرعة إلي الشهرة «يا عطارين دلوني». وكان له لقاء واحد مع نادية فهمي «اه يا سلام على الهوى»، ومع نجاة «أوصفولي الحب» (سبق أن غنتها شادية في فيلم «الهوى سوا»)، «وطني وصبايا وأحلامي» (لنجاة وعبد الرؤوف إسماعيل)، ومع صباح في «دي سكّتي ودي سكّتك» ومع سعاد محمد في «القلب ولا العين» و»هاتوا الورق والقلم»، ولعبد الحليم حافظ لحن «حلو وكداب» و»يا سيدي أمرك»، ولفايزة أحمد عندما جاءت إلى القاهرة للمرة الأولى «يا ليل كفاية حرام» التي تعتبر من أكثر ألحانه حزناً لأنها جاءت إثر وفاة زوجته بمرض القلب الذي لازمها طوال حياتها لكنه لم يثنها عن عزمها على الإنجاب فتركت له طفلة وحيدة: إكرام. وتعتبر محطة شادية من المحطات الثرية جداً في مسيرته التلحينية حفلت بعشرات الأعمال للإذاعة والأغنية السينمائية التي عُدّ مع زميله أحمد صدقي من فرسانها في الخمسينيات والستينيات. كانت شادية من أقرب المطربات إلى قلب محمود الشريف الذي أعجب بطريقة أدائها وصوتها، بعدما قام الفنان محمد فوزي باكتشافها وتقديمها ووجد في صوتها تميزاً وفرادة وقدرة على تقديم أعماله بشكل يرضي طموحه ورؤيته الموسيقية. وقدم لها العديد من الألحان فاقت في عددها ما قدمه لسواها، منها: «حبينا بعضنا، ليالي العمر معدودة، مسيرك هاتعرف، ابيض يا وردي، حبه حبه، يا نور عينيه واكثر شوية، آه يا لموني، يا بنت بلدي زعيمنا قال»، والعديد غيرها.
الأغنية الشعبية
اذا كانت الأغنية الشعبية بمفهومها ومضامينها جزءاً من التراث الشعبي المرتبط بدوره بالفلكلور أو بالثقافة المجتمعية المعبِّرة عن الواقع الاجتماعي والثقافي في مجتمعاتها، وعن مدى امتزاج الوجدان الجماعي بالبيئة والأرض وبمفردات الحياة اليومية وأحلام البسطاء وعاداتهم وتقاليدهم، فإن ما قدمه محمود الشريف في هذا المجال لم يبتعد كثيراً عن هذه المضامين. مضامين اتخذت شكلا آخر ليس هو الاغنية الشعبية بالمعنى الفلكلوري للكلمة، وان اقتربت أحيانا من مضامين الفن الشعبي التراثي الذي غالبا ما يتحول الى مأثورات شعبية تتناقلها الأجيال وتضيف اليها وتطغى شهرتها على شهرة صاحبها ومُنشِئِها الأول. هذا بالضبط هو القاسم المشترك بين ما قدمه محمود الشريف في مجال الاغنية الشعبية وبين المفهوم العلمي المصطلحي للكلمة. فمحمود الشريف من القلائل الذين طغت أعمالهم على شهرتهم لأصالتها وقربها من نبض الجماهير وتعبيرها عن روح الشعب، حتى بدت بعض أعماله أقرب الى الفلكلور أو الى التراث الشعبي الذي غالباً ما يكون مجهول المصدر تتناقله الشعوب جيلا بعد جيل فيجري كالنهر المنساب في عمر الزمان، كالأمثال الشعبية أو القصص الشعبي تخلد هي ويضمحل ذكر قائلها. نتوقف عند نموذج شديد الدلالة من نظم ابو السعود الابياري وهو «يا حسن يا خولي الجنينة»، على كون محمود الشريف قد اقترب كثيرا من إبداع أثر فني شعبي أصبح من كلاسيكيات الموسيقى الشعبية، اذا جاز لنا أن نتحدث عن «كلاسيكية» مرتبطة بالتراث الشعبي وذلك لا من حيث تصنيفها بالتأكيد ضمن المدارس الموسيقية، وإنما من حيث قدرتها على تجاوز الزمان والمكان وعلى ايجاد مكانتها الخاصة في لوحة التراث والذاكرة الموسيقية العربية ومكانها المميز كمرجعية موسيقية يستدل بها، ونماذج يهتدى بها لتكون انطلاقة ونقطة ارتكاز لمسار تغييري أصيل من نسيج الهوية ومن روح البيئة الطبيعية التي تمنح حضارة ما ملامحها الخاصة. هكذا تولد من هذه الأغنية عشرات التوزيعات الموسيقية بتنويعات متعددة ورؤى موسيقية مختلفة، كما استخدمت كموسيقي تصويرية في عدد كبير من الأعمال الدرامية السينمائية والتلفزيونية والمسرحية المعبّرة عن الواقع الشعبي. حين قدّم محمود الشريف هذه الاغنية للتراث الموسيقي أتراه كان يدرك أنها ستجوب الآفاق شرقا وغربا يتغنى بها الناس وتغنيها الأمهات لكل «حسن» في أفراد أسرتها وأبنائها؟ يحملنا السؤال الى إشكالية فنية توقّف عندها نقاد الأدب والموسيقى طويلا وهي جمالية التلقي واسهام المتلقي أو المستمع في بناء النص أو اللحن أو العمل الإبداعي، وتلك العلاقة الوثقى بحركة العواطف والمشاعر والانفعالات التي تنمو وتصطخب في أرواحنا مخلّفة أثرا جمالياً يستعصي على التفسير.
«وله يا وله»
كان لهذا الغناء الشعبي فرسانه من المطربين الكبار، في مقدمتهم محمد عبد المطلب وعبد الغني السيد اللذان قدّم لهما محمود الشريف مجموعة كبيرة من الأغنيات الشعبية منها على سبيل المثال: «يا ابو العيون السود» و «بياع الهوى» لعبد المطلب واغنيات «عالحلوة والمرة» و«لبيض الأمارة» لعبد الغني السيد، وتستوقفنا بشكل خاص أغنية «وَلَه يا وله» الشهيرة التي غناها عبد الغني السيد من نظم أبو السعود الابياري، وهي نوع من التشبيب الشعبي المعاصر بالحبيبة على طريقة أولاد البلد:
«يا بتاع التفاح فين تفاحك راح؟ / في خدود ست الكل
يا بتاع الياسمين مين يندهلك مين ؟ / واحنا معانا الفل
دي حورية يا وله والنبي يا وله... يا وله»
ما أجمل هذه الدلالات الكامنة وراء تلك الكلمات المنتقاة بدقة من قاموس التشابيه البلاغية في تراثنا الأدبي التي تحيلك الى جسد المرأة وعطرها، الى ذلك التكوير الذي يلف قوام الأنثى الشرقية واستدارة تضاريسها في صياغة تميل الى الخجل اللفظي عن طريق تخيل بائع افتراضي يحاوره الشاعر العاشق ليقارن بين بضاعته وجمال محبوبته! هذه الصيغة في اعتقادنا ابتدعها المؤلف لا للمقارنة بين بضاعة و«بضاعة» بل هي محاولة للهروب من التشبيه المباشر والإشارة الواضحة إلى مناطق حساسة في جسد المرأة بما يحترم التقاليد والأعراف والقيم العربية الاسلامية. ثم هذه المنافسة المحببة بين الفل والياسمين هي في صميم الحس الشعبي في مصر، وانتصار زهرة الفل في النهاية ربما لأن الياسمين أسرع الى الذبول لوهن وريقاته. هو هنا يتحدث عن امرأة مكتملة الأنوثة تجمع بين الجمال والقوة والنضج مما يجعلها أقرب الى زهرة الفل المكتنزة. إن نص أبو السعود الابياري في غاية العمق والجمال والبساطة الملائمة للغة البسطاء وأولاد الحتّة التي لا تخلو من بلاغة ورمزية عميقة في التراث العربي الديني والأدبي ولا تنفصل، في الإحساس العام المتوارث، عن ادراكهم وانفعالاتهم الحسية والمعنوية والروحية.
يستهل محمود الشريف الأغنية بلازمة من مقام النهوند الذي يظللها من بدايتها الى نهايتها، نهوند بطعم يختلف عن ذلك الذي ألفناه في أغاني الخيال والرومانسية التي تحلّق في أعالي الروح وفي أجواء ترفل بالنعيم. نحن هنا أمام نهوند الفقراء، نهوند شعبي شجيّ يعبّر عن إحساس القلوب البسيطة وأحلامها وطموحاتها المتواضعة وعشقها الواضح والمغامر أحيانا. نهوند قد يثير دموعك لروعة شجنه والشحنة العاطفية التي يحملها لكنك تحتار في مصدر هذه الدموع، أمن الفرح هي أم من الحزن. هذا الالتباس الجميل لعله يعبِّر عن حالة حب يكون فيها المعشوق «قريباً على بعد بعيداً على قرب»، أو ربما هو حالة من العشق الممنوع بين ابن البلد وإحدى «الغوازي» وهو اللقب الذي كان يطلق على الراقصات والمغنيات الرُّحل اللواتي يجلن الأرياف والمدن لتقديم فنهن طلباً للرزق. فيما اختار الشريف مقامي الرست والهزام بشكل متداخل للكوبليهات التي تتحدث عن أوصاف حسية مباشرة كالعيون والفم والضحكة والجبين الوضاء، توليفة واقعية مناسبة للأوصاف التي تبدو ماثلة أمام ناظري المستمع على إيقاع مقسوم يناسب أجواء الرقص المصاحب للأغنية التي قدمها عبد الغني السيد في مشهد تمثيلي غنائي في فيلم «شارع محمد علي». ثم ينتقل الى الجزء الثاني من الأغنية التي تتحدث عن باعة افتراضيين جوالين يبيعون التفاح والرمان والفل والياسمين كأنك في حارة أو سوق شعبي. هنا تتراجع الموسيقى التي تعزفها الوتريات ويبقى الإيقاع والصوت الميلودي الجميل وأيضا النهوند المسيطر على جو الأغنية ليضفي عليها مسحة من الشجن والرقي الذي يبلغه الانسان العاشق مهما تدنت ثقافته أو بيئته أو طبقته.
يمكننا اعتبار هذه الاغنية بحق نموذجا للأغنية الشعبية التي تدل بوضوح على إحدى خصائص محمود الشريف الفنية في تناوله لمضامين الأغنية الشعبية، هذه الخاصية تكمن في كونه هبط بالحب من الأجواء الأثيرية والحدائق الغنّاء في «ليالي الأنس في فيينا» الى الأرض ليحاكي أشواق وأحلام وأحاسيس الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي زاد تهميشها في التراث الفني الموسيقي بشكل عام حتى تنبه سيد درويش وقلة من تلاميذه، على رأسهم محمود الشريف، وكوكبة من الشعراء الذين آمنوا بضرورة الالتفات الى هذه الفئات المهمشة من الشعب المصري التي ظلت على الهامش تماما في مجمل النتاج السينمائي والفني والثقافي عموما حتى ثورة ١٩٥٢ التي رعت هذا التوجه وأنصفت تلك الفئات التي على أكتافها صنعت مصر نهضتها الحديثة الاقتصادية والسياسية. فبعدما كانت الأغنية العاطفية تعبّر عن الحب المخملي، حب أبناء الذوات والأغنياء، أصبحت مع محمود الشريف وناظمي اغانيه تُعبِّر عن حب أبناء الأحياء الشعبية، حب الحواري والأزقة والمقاهي الشعبية، وعن حوار المشربيات والنوافذ المتلاصقة. هذه المفردة «وله» نابعة من أعماق اللغة الشعبية في الأحياء والحواري والازقة، هي إذاً الأغنية الشعبية ببعدها الطبقي لا بالمعنى الفلكلوري للكلمة، ولو أن محمود الشريف اقترب كثيرا من روح الفلكلور في بعض أعماله كما اسلفنا. كذلك كان محمود الشريف من أساتذة الأغنية الشعبية بمعناها الدارج الذي يدل على شكل معيّن من الاشكال الغنائية الموسيقية التي هي غالباً ما تكون أميل الى الطقطوقة أو الأغنية ذات المذهب والكوبليهات. هذه القدرة على النفاذ الى روح الشعب واشواقه كانت من أهم مميزات الفنان محمود الشريف وإحدى خصائصه بين مبدعي جيله.
«البِيض الأَمارة»
من العلامات الفنية الكبيرة في مسيرة محمود الشريف التلحينية. حققت نجاحاً جماهيرياً واسعاً منقطع النظير على الرغم من كونها عملاً راقياً جداً ورفيع المستوى ويحتاج الى ذائقة فنية خاصة، وقد يفسر لنا ذلك الرواج رهافة الحس الفني الفطري والذائقة الفنية الرفيعة المستوى لدى الشعب المصري في ذلك الزمان المُجيد. لقد صاغ محمود الشريف لحنه هذا أيضاً من مقام النهوند الأثير لديه باستثناء جملتين في الكوبليه الثاني كأنه أراد الحفاظ على وحدة الحالة الشعورية، التي تتأرجح بين الأسى والحسرة وصولا الى اللوعة وتسير بخطى متئدة، كأنه يستعذبها على ايقاع مقسوم بطيء مع غياب شبه كامل للتوزيع الموسيقي رغبة في عدم تشتيت المعاني التي تنبعث من روح اللحن لكي يضاعف تأثيره في النفس.
تنويعات تعبيرية خمس من مقام النهوند في الكوبليه الاول تبدأ من درجة منخفضة من قرار المقام لتحاكي حالة الأسى المقيم التي عادة ما تدخلنا في حالة من الهدوء هي أقرب الى الاستسلام منه الى الرضى، ثم يتدرج صعودا الى مرحلة الحسرة واللوعة التي استدعت نداءً الى القمر بعد أن تعذر الحل على الأرض عله ينير قلب المعشوق ليعود عن ظلمه:
«يا بدر تحت سماك عليل وعز دواه
أمانة تبعت ضياك للي ظلمني هواه» (ضبط)
وهنا لفتة جميلة وعميقة من الشاعر سيد مرسي الذي صاغ ببلاغة وعمق العلاقة بين ضياء القمر وظلم المحبوب فلمّح ضمنياً الى أن الظُّلم ظلام في النفس لا ينقشع الا بضياء الانصاف والوفاء. ثم يواصل صعوده:
«بلّغهم سلامي وادّيهم أمارة
أشواق وهيامي وليل الحيارى»
ويعود الى هدوء أساه ليعبرفي شجن عن حكمة الذي اختبرالضنى وعذاب الهجر على خلفية من الغناء الشجي للكمنجات. أجل! فإن الحزن ابن المعرفة:
«كاس الزمن بيدور ما حد غاب عنو
اصبر على المقدور فين راح تروح منو»
ثم تنويع تعبيري خامس على النهوند:
«البيض جرحوني راحوا وفاتوني ده بعادهم خسارة».
إن التنويعات التعبيرية على المقام الواحد هي انتقالات عمودية كالحفر في باطن المقام لإخراج نفائسه وكنوزه، لذا تراه في كثير من الأحيان أكثر عمقا في مستوى التعبير وأنفذ سهما في القلب وأشد أثرا في النفس. وهذا لا يمنع أن الإنتقالات الأفقية بين المقامات المختلفة قد تحدث التأثير ذاته اذا وُظّفت في خدمة المعاني وصيغت في اطار من السلاسة التي لا تعتمد انتقالات فجة أو مفتعلة بلا مبرر لمجرد التنويع السطحي والثراء الكمِّي.
يستهل محمود الشريف الكوبليه الثاني بمقام الحجاز مواصلا به سرد حكايته مع ظلم الحبيب، الذي يراه الشاعر في الواقع ظلم الحب نفسه بغض النظر عن لون المحبين، معبراً عن التعجب والاستغراب من الجحود، «السمر لاقوني اصون الوداد/بإديهم سقوني مرار البعاد»، في تدرج نغمي صعودا يهيئ المناخ للحظة الذروة الشعورية التي عبّر عنها خير تعبير مقام الكورد الدرامي الشديد التأثير:
«قولولي أسأل مين على اللي راح مني
وفين ديارهم فين يا مين يوصلني».
النهوند والحجاز والكورد ثلاثة مقامات، تخللهما موّال من ارتجال المطرب الكبير عبد الغني السيد الذي تنقّل فيه بين النهوند والبياتي في إطار نهوندي مسيطر، صنعت من هذا العمل الفني الشعبي تحفة موسيقية ساهمت في تعزيز مكانة فن الطقطوقة وارتقت بالأغنية الشعبية الى ذرى تعبيرية لم تكن لتبلغها لولا هؤلاء الملحنون الكبار.
اليوم، وبعد عقود على هذه الأعمال المتطورة الناضجة، اتخذت الطقطوقة شكلا بدائيا جدا ليس فيه جهد ولا خيال، جملتان أو ثلاث على الأكثر تتردد من أول الأغنية الى آخرها، مما أدى الى تجرؤ كبير على هذا الفن واستسهال التلحين الى درجة جعلت الدخلاء على المهنة أكثر من أصلائها، والى تراجع التلحين لصالح التوزيع الذي احتل الصدارة في تنفيذ الأعمال الموسيقية، للتغطية على ضعف المستوى الفني لدى الملحن وعلى خواء في الخيال الموسيقي الذي ترك للموزع مهمة استحضاره لترقيع فراغات اللحن الفادحة.
«البيض الأمارة» عمل فني شعبي جميل يكاد يخلو من التوزيع لصالح الميلودي الثري جداً الذي من خلاله صال محمود الشريف وجال في واحة النهوند المترامية الأطراف ليعبّرعن النص الشعري بإخلاص العاشق واحساس الموهوب. محمود الشريف ورفاقه ينتمون الى جيل النمنمات والزركشات والأرابيسك الموسيقي القادر على ابتداع تلاوين وأشكال لا حدود لها تجمع صنوف الخيال التعبيري في لوحة واحدة خلقت من هذا النوع الغنائي الموسيقي تياراً أو اتجاهاً أرسى قواعد الأغنية الشعبية في تراثنا الموسيقي وجعلها تحتل مكانتها المرموقة في مسيرة التراث العربي الموسيقي.
«رمضان جانا»
وإذ نمضي قدماً في اقتفاء مسيرة محمود الشريف الفنية، يدهشنا مرة أخرى عمل فني بالغ الأهمية ترك بصمته على التراث الغنائي الخاص بالمناسبات الشعبية الدينية. تلك هي رائعته الخالدة «رمضان جانا» من نظم حسين طنطاوي والتي لم تعد مجرد اغنية عابرة في ذاكرة المصريين والعرب الموسيقية، بل استحالت جزءاً من ضرورات حياتهم واحتفالاتهم بالحدث الديني الأهم، شهر رمضان الكريم. ببساطة بليغة وسهولة ممتنعة وعشق روحيّ، قدّم محمود الشريف رائعته تلك، فإذا بها تتجاوز قيمتها الموسيقية البحتة المهمة الى وظيفتها الاجتماعية، حتى غدت في عرف الناس من مستلزمات رمضان كالزبيب والتين واللوز والجوز وقمر الدين، لا يحلو الشهر الفضيل الا بها ولا يشعر الناس بمذاقه الجميل ولا بإطلالته البهية الا برؤية هلالها كأننا أمام هلالين يحملان البشرى: هلال في السماء وهلال في الارض. «رمضان جانا» علامة فارقة وبصمة خاصة في تراثنا الموسيقي العربي، لا من حيث التقنية الفنية والتعقيدات أو السكك اللحنية لهذا العمل الجميل وحسب، بل من حيث قدرته على اختراق وجدان الناس بصدقه وعمق تاثيره. فهذه الاغنية ليست بالبساطة التي تبدو عليها، بل هي لحن شديد التنوع والتركيب استهلّه بمقام العجم المسيطر على «المذهب»، حتى اذا انتقلنا الى الكوبليهات يبهرنا محمود الشريف بقدرته على التنقل السلس بين مجموعة من المقامات المتداخلة في «كوبليه» واحد بين حجاز وبياتي ورصد ولمسة نهوند، ثم عودة الى مقام العجم عند الرجوع الى المذهب، صنع منها جميعا حالة انسيابية فريدة من نوعها توحي بالسهولة والبساطة على المستوى السمعي والذوقي، فيما هي مركبة على المستوى التقني الإبداعي. هذا الحفر في عمق الوجدان العربي والنقش على صخرة الزمان من خصائص الفن الرفيع الممتد من عميق الجذور الى أعالي الغصون، فن ينفذ الى القلب لا لبساطة في تأليفه وتقنياته الفنية وإنما لبساطة الصدق الخالص والموهبة الأصيلة.
«رمضان جانا» مدينة كذلك للأداء الرائع والمؤثّر للصوت الشعبي العملاق محمد عبد المطلب. لم يكن عبد المطلب يغني لهفته الى الشهر الفضيل بل كان يزأر بهذه اللهفة، تحديدا عند كلمة «جانا» التي كان يؤديها بكلية صوته الأجش وتمام حنجرته القوية، فتبلغ الشحنة الشعورية منا مبلغا عند نهاية كل مقطع، وتُحدث فينا ما تحدث من مشاعر تنساب دموعا وبسماتٍ وقشعريرة. «رمضان جانا» أيقونة الأغنيات الشعبية الاحتفالية وفانوس جميل يعلقه الأطفال كل عام على نوافذهم المتشوقة الى شهر الرحمة والغفران.
المسرح الغنائي
حين اتجه سيد درويش الى المسرح الغنائي كان يحلم بإحداث ثورة فنية عارمة ترتقي بالموسيقى من اداة للتسلية والطرب وليالي السمر والسلطنة الى أداة تعبيرية راقية ذات وظيفة اجتماعية وثقافية قادرة على إحداث التغيير. فالمسرح يتيح للموسيقي التعبير عن مضامين وأفكار قد تفوق قدرة الاغنية الفردية بكثير، لا سيما أن التراث الموسيقي العربي لم يعرف الموسيقى المحضة بمفهومها المعاصر الا في مراحل متأخرة مع ظهور المسرح والسينما اللذين اثمرا نوعا جديدا من الموسيقى التعبيرية في ما اصطلح على تسميته بالموسيقى التصويرية، ثم ما لبث أن اصبح للتأليف الموسيقي رواده في مصر من امثال أبو بكر خيرت ومدحت عاصم وعزيز الشوان ورفعت جرانه وسواهم. لكن ظلت الموسيقى المحضة موسيقى نخبوية ولم تستطع أن تخترق الوجدان الجمعي في حضارتنا الموسيقية على غرار الأغنية الفردية، لكون موسيقانا تنتمي بدايةً الى ثقافة التخت الشرقي لا الى ثقافة الأوركسترا. وبقي المسرح أداة مثالية لتقديم هذا النمط من الاعمال الموسيقية الغنائية المعبرة عن المواقف والكلمات وتلك الموسيقى الخالصة المعبرة عن الافكار والرؤى. فعلى خشبة المسرح ولدت الأغنية التعبيرية واطلقت العنان للخيال التلحيني.
عشق محمود الشريف المسرح الغنائي، وكان يعدّه المحك الحقيقي لقدرة الموسيقي على التعبير وإظهار إمكاناته الفنية وقدرته على إبداع عمل فني متكامل البناء. ومذ تطلع سيد درويش بعين الحب الى مشاركة الناس آلامهم وأحلامهم عبر توجيه الخطاب لفئات الشعب المهمشة، من عربجية وفلاحين وعسكر و»غراسين» وصولا الى الحشاشين، دون حواجز معرفية تحول دون تذوقهم للموسيقى واستيعابهم لجمالياتها، أحدث نقلة نوعية في تاريخ الموسيقى العربية ووظيفتها موظفاً المسرح الغنائي في سبيل هذه الغايات، حتى بتنا نتحدث عن مسرح ما قبل وما بعد سيد درويش. كان محمود الشريف يؤمن يقيناً أن هذا النوع من الفن هو مسرح ذو دور حضاري وتثقيفي، ذاك الذي حلم به وسعى جاهداً إلى تحقيقه واستنهاضه من جديد. وكيف لا يكون ذلك نهجه وتلك رؤيته، هو الذي اهتدى بأعمال ومسرحيات أستاذه الاول سيد درويش، وداود حسني، ثم كامل الخلعي (الذي أدركه وهو على فراش المرض). حاول محمود الشريف أن يستلهم هذه التجربة وفق متغيرات جيله ومقتضيات عصره وإبداعه الخاص عبر الاحتضان الموسيقي لأحلام الشعب وطموحاته، الذي لم يكن سوى تلك الشعلة المتقدة في روحه، وذلك الاحترام العميق في قلبه للشعب بكل فئاته والاحتدام المشتعل لقوى الثورة في روحه التواقة الى العدل الاجتماعي والتحرر السياسي من المستعمر. لكنه فشل في محاولاته الحثيثة لتكوين فرقة مسرحية غنائية أو الإعداد لعمل مسرحي غنائي متكامل يحقق طموحاته حتى وفاته لأسباب متعددة، رغم مشاركته مع عدد من زملائه في بعض الاعمال المسرحية.
كانت الظروف تعاكس محمود الشريف وتدفن حلمه الكبير في مهده حتى جاء اليوم الذي ارتبط فيه هذا الفنان الكبير بالسيدة أم كلثوم. كان يرى فيها تجسيداً حياً لتحقيق حلم إحياء المسرح الغنائي الذي كان قد اندثر بعد الازمات المالية التي ألمّت بالفرق المسرحية خلال الحرب العالمية الثانية، وانتشار السينما، ورحيل رواده الكبار سيد درويش، وكامل الخلعي، وداود حسني (باستثناء بعض الأوبريتات الجميلة التي قدمها كل من زكريا أحمد وأحمد صدقي). أقنعها الشريف بأهمية المسرح الغنائي وبضرورة أن تكون المرشحة الأولى للقيام بهذه المهمة القومية والحضارية. وكادت الفكرة تتحقق لكن الظروف حالت مرة أخرى دون ذلك، وكانت فرصته الأخيرة عندما دعته وزارة الإرشاد إلى تلحين رواية إحسان عبد القدوس الغنائية «هدية الاثنين»، فسارع محمود الشريف بقلب مفتوح ورغبة جامحة إلى تنفيذ هذا العمل مستعيناً بفؤاد الظاهري موزعاً وقائداً للأوركسترا، وبمأمون الشناوي كاتباً للأغاني. لكن الأمنية تبخرت عبر اتصال مفاجئ من وزارة الإرشاد (ممثلة بعبد المنعم الصاوي آنذاك) ترجوه أن يدع هذا العمل للموسيقار محمد عبد الوهاب ويستبدله بمسرحية «مهر العروسة» التي كان مكلفاً بتلحينها موسيقار الأجيال. فاجأه الطلب وأحزنه، إذ كان متابعا في الصحف للمشكلات الكثيرة التي كانت تحوم حول «مهر العروسة» ثم وافق إرضاء لصديقه محمد عبد الوهاب، لكن المشكلات حول المسرحية لم تتوقف ولم يكتب لهذا العمل أن يرى النور. أما «هدية الاثنين» فلم تر النور هي الأخرى حتى لحنها في ما بعد محمد الموجي. ولم تثن هذه الإحباطات المتتالية عزمه، وظل يحاول دون جدوى، فالأغاني الفردية لم تكن تروي ظمأه وتحقق طموحه، فالتفت إلى ألوان أخرى وجد فيها تعويضاً عن المسرح الغنائي كالاغنية السينمائية والصور الغنائية الاذاعية. وكان الشريف من الاوائل الذين لحنوا الصور الغنائية التي برزت كنمط فني جديد بعد غروب المسرح الغنائي في مصر الثلاثينات، وقدم العديد من الأوبريتات والاوبراليات الإذاعية التي برع فيها إلى حد كبير: «بالوما، قَسَم، ولد العم، الراعي الأسمر، عذراء الربيع، ريا وسكينة، جحا المصري، شارع عماد الدين» إلخ. ولمحمود الشريف يعود شرف تقديم أول اوبرا مصرية من خلال الإذاعة «روما تحترق» سنة ١٩٤٢، شارك فيها بالغناء كارم محمود وأحلام وسعاد مكاوي ثم «روميو وجولييت» سنة ١٩٤٦. وللمسرح، قدم الشريف بالاشتراك مع زملاء له اوبريت «القاهرة في ألف عام» التي أخرجها فؤاد الجزايرلي في أواخر الستينيات، وأخيراً شارك أحمد صدقي وعبد الحليم نويرة وفؤاد حلمي تلحين أوبريت «موال من مصر» في أوائل السبعينيات، والتي قدمت على مسرح سيد درويش في الإسكندرية ومسرح الصوت والضوء في الهرم وكانت من إخراج زكي طليمات. لم يكن باستطاعة محمود الشريف أن يتصدى للمسرح الغنائي بمفرده، لأن مثل هذه الأعمال تحتاج إلي دعم كبير ومساندة من وزارة الثقافة، لكن ذلك لم يحدث ورحل محمود الشريف وكانت آخر الكلمات: «إنني وأنا علي فراش المرض، أرنو ببصري إلى خمسين عاماً عشتها بين الموسيقى والغناء، أتطلع إلى اليوم الذي يزدهر فيه فن الاوبرا والاوبريت بعدما تم افتتاح دار الأوبرا الجديدة. إنه ذلك الحلم الذي عشت من أجل تحقيقه وودت أن يتحقق في حياتي. فهل أراه يتجسد حياً أمام عيني قبل أن أفارق الحياة ؟». ويبدو أن جل ما استطاعه المسؤولون في حق هذا الفنان هو أن ينفذوا له رغبته في دفنه في منطقة المنارة، حيث يرقد سيد درويش ومشاهير الإسكندرية.
محمود الشريف في شبابه
ولو استعرضنا التاريخ الموسيقي لمحمود الشريف وتوقفنا ملياً عند نتاجه، لعرفنا كمّ الظلم الذي لحق به نتيجة عزوف الدولة والإعلام عن رعاية هذه العبقرية الفنية بما يليق بها وابراز حقيقة قيمتها، مما أدى الى لجم قدراتها الإبداعية، نتيجة لطغيان ثقافة المصالح والمحسوبيات بشكل كبير في عالم الفن والثقافة في انعكاس طبيعي لمنظومة الفساد التي سادت منذ أواخر السبعينيات حتى وصلنا الى الانحطاط الكامل. واقتصر اهتمامها واشكال تقديرها على منح الجوائز واقامة المهرجانات التي ساعدت على تبديد الأموال لا على تغيير الأحوال للافضل. بل لعلها شاركت في مسيرة الانحدار، ونشر ثقافة الابتذال، والفن الهابط، لا في الأغنية فحسب بل على صعيد المسرح تحديدا الذي شهد انحداراً مروعاً على كافة المستويات، وطغيان مسرح القطاع الخاص الذي تحول الى شبه ملاهٍ ليلية في الثمانينيات والتسعينيات، وانحسر دور المسرح القومي الذي كان يقدم أعمالا جادة، وكذا المسرح الخاص الذي يحترم تاريخ المسرح المصري بقطاعيه، الذي شهد عمالقة المسرح العربي يوسف وهبي وزكي طليمات. إنّ تخلي الدولة عن واجبها في هذا المجال، واتجاه المبادرات الخاصة القادرة على احتضان اعباء المسرح الغنائي الكبيرة الى الاعمال ذات المنحى التجاري والمردود المادي السريع، ساهما في وأد جميع المحاولات التي وضعها محمود الشريف ورفيقه أحمد صدقي لإنعاش المسرح الغنائي وإعادة إحيائه. لقد استقالت الدولة تماما من هذه المهمة الحضارية، كذلك لم تعر أي اهتمام جدي حقيقي للبحث العلمي في مجال الموسيقى والفن والثقافة للارتقاء بالذوق العام الذي يساهم في اعلاء القيم الحضارية في مجتمعاتنا، لا على المستوى الأكاديمي المتخصص ولا على المستوى التعليمي في المدارس والجامعات.
الأغنية الوطنية
شهدت حقبة الخمسينيات والستينيات نهضة كبيرة للاغنية الوطنية التي قفزت قفزات نوعية في مسيرة تطورها من مجرد اغنية شبيهة بالمارشات العسكرية تتغنى بالوطن الى أغان وأناشيد وأهازيج ذات أبعاد ومضامين سياسية وثقافية واجتماعية وحتى إيديولوجية. فقد عبّرت الاغنية الوطنية في هذه المرحلة عن أفكار الثورة ومشروعها السياسي والاجتماعي والوطني والقومي، وانخرط الجميع مبدعين وجماهير في هذا الحراك الكبير الذي توج مصر قائدة للأمة العربية على كافة الصعد. فأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦ صدحت الإذاعة المصرية بمجموعة من الأناشيد الوطنية التي ألهبت حماسة الجماهير، وكانت نقطة تحول في مسار الأغنية الوطنية، نذكر منها بشكل خاص نشيد نداء العروبة الشهير بـ «وطننا في خطر» الذي أدته باقتدار شديد المطربة نجاح سلام وكتب كلماته الفنان محمد سلمان ولحنه الملحن اللبناني المبدع عفيف رضوان. وكان أول نشيد أطلقته إذاعة صوت العرب من القاهرة مباشرة قبل أن يتوقف البث نتيجة العدوان، ثم أذاعته العواصم العربية وعلى رأسها دمشق التي اطلقت آنذاك صرختها المدوية لدعم مصر «هنا القاهرة من دمشق». كذلك نشيد «لبيك يا علم العروبة» الشهير جدا من تأليف والحان وأداء محمد سلمان، ثم «دع سمائي فسمائي محرقة»، اداء الصوت الجهوري القوي فايدة كامل، وكلمات الشاعر المناضل اليساري الكبير كمال عبد الحليم، وتلحين العملاق علي اسماعيل المؤلف والموزع الموسيقي والملحن الذي كان له الفضل في إخراج أغلبية الأناشيد الوطنية لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بهذه الصورة البديعة، وكذلك مجمل الأعمال الوطنية للكبيرين كمال الطويل ومحمد الموجي ولاحقا بليغ حمدي. بل يمكننا القول إن حقبة الخمسينيات والستينيات كانت حقبة علي اسماعيل بامتياز في مجال الأغنية الوطنية. ولا ننسى في هذا الاطار الاعمال الوطنية الكبيرة لرياض السنباطي وزكريا أحمد وأحمد صدقي التي قدمتها الاصوات القديرة والبارزة في تلك المرحلة. في هذه الاجواء الحبلى بالانتصارات والأمل، عبّر الفنان محمود الشريف ورفاقه بموسيقاهم عن ثورة ٢٣ يوليو التي حاول البعض التشكيك في ثوريتها ووضعها في خانة الانقلاب العسكري، غير أن الواقع على الارض والتحولات الكبرى التي شهدتها مصرعلى كافة الصعد الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والايديولجية، والتقنية التحديثية بين عامي ١٩٥٢ و١٩٦٧، لا تحتمل تسمية اخرى.
لم يكن محمود الشريف فناناً محايداً. كان واضح الانحياز، صلب المواقف. فمنذ اللحظة الأولى أعلن انحيازه الكبير إلى صفوف الجماهير بتقديمه الأغنية الشعبية المعبرة عن أحلام الشعب وأشواقه. وقف محمود الشريف بجرأة ووضوح ضد الحكم الملكي وكل ما يصدر أو يعبر عنه، سياسياً وحضارياً وثقافياً. وما أغنيته الشهيرة «يا عطارين دلوني» سوى إرهاص من إرهاصات الثورة التي عشقها وكان لها في نفسه مكانة خاصة. يقول عنها في مذكراته إنها «جاءت رداً على سخف الأغاني التي كانت تردد اسم فاروق بالحب والإجلال والتكريم، بينما الجماهير تهتف بسقوطه في شوارع القاهرة والإسكندرية. هذه الأغنية رددتها كل جماهير الشعب من الإسكندرية إلى أسوان وأحبتها أغنيةً عاطفية، لكنها في الحقيقة كانت تعبيراً صادقاً عن نفاد الصبر، والتوق إلى التغيير الذي كنا جميعاً في انتظار حدوثه. كنت أرددها بعشق خاص وحفرت في نفسي مجرى معادياً لكل ما هو ملكي وكل ما يصدر عن القصر». وجاءت ثورة ٢٣ يوليو فكان محمود الشريف أحد الأعمدة الفنية الصلبة في تدعيم الثورة السياسية التي غيّرت وجه مصر وانداحت تداعياتها على امتداد الأمة العربية، فقدم مجموعة من الألحان والأناشيد الوطنية الخالدة التي أثرت في مسار الثورة وتأثرت بها. وما زالت الجماهير ترددها حتى اليوم وتستحضرها كلما عصفت بالأوطان المحن.
«الله أكبر فوق كيد المعتدي»: نشيد الأناشيد
آمن محمود الشريف بالثورة، وقدم لها أعمالا عظيمة توجت برائعته الخالدة عام ١٩٥٦ اثناء العدوان الثلاثي على مصر «الله أكبر فوق كيد المعتدي» الذي اعتبر قنبلته المدوية ونشيد الأناشيد حتى يومنا هذا. في نشيد «الله أكبر» ارتأى محمود الشريف أن يعود الى نمط الأناشيد التي سادت الأربعينيات وبداية الخمسينيات وكانت مستوحاة من موسيقى المارشات العسكرية والأناشيد الوطنية الرسمية لأن اللحظة كانت تستدعي بث روح المقاومة والثبات وإيقاع المارش يحقق هذه المعادلة. صاغه محمود الشريف من مقام العَجَم، كلمات عبد الله شمس الدين وتوزيع المايسترو والمؤلف الموسيقي عطية شرارة وأداء المجموعة.
ان الأداء المدهش للمجموعة والتنفيذ المبهر للأوركسترا بكامل آلاتها، وبخاصة آلات النفخ والآلات النحاسية ذات الدوي والتأثير الحماسي الكبير، حوّلا هذا النشيد الى سلاح حقيقي ساهم بشكل فعّال في معركة ١٩٥٦. ولهذا النشيد قصة يجدر التوقف عند مدلولاتها التي توضح التفاف الجماهير حول هذه الثورة ومدى التعبئة الروحية التي فاقت كل تصور والتي كانت تتجلى عند كل استحقاق وطني. ويروي محمود الشريف الحكاية: «كان مدير الإذاعة وقتئذ الفنان محمد حسن الشجاعي، فاستمع إلى اللحن، وقرر تنفيذه على الفور، وقد يعتقد البعض أن الأصوات التي غنت النشيد هي أصوات الكورال المحترف الذي يتعامل عادة مع الإذاعة في الأغاني الجماعية، لكن ما حدث كان مفاجئا، فبمجرد أن بدأت البروفات التف حول الاستوديو كل عمال الإذاعة واخذوا يرددون النشيد الذي هز ارجاء الوطن العربي بحماسة منقطعة النظير. لقد أحسست دقات قلوب الجماهير وأنا ألحن هذا العمل قبل أن يرى النور على الشاشات وفي الإذاعات».
وبالفعل فقد تحول هذا النشيد وقوداً لكل المعارك التي خاضتها مصر والبلدان العربية من المحيط إلى الخليج، كما أصبحت موسيقاه السكة الأساسية التي صيغ منها النشيد الوطني الليبي، وأعمال اخرى كثيرة له، ابرزها أغنية شادية «يا بنت بلدي زعيمنا قال ... قومي وجاهدي ويا الرجال»، التي أصبحت اللحن المميز لبرنامج «ربات البيوت» وكانت خير تعبير عن الموقف التقدمي للثورة من المرأة وحقوقها. ثم قدم بعد ذلك لحن «من الشرقية للغربية»، وسنة ١٩٥٦ بعد تأميم القناة في ٢٦ تموز/يوليو، قدم «إرفع رأسك يا أخي» والنشيد الشهير «من المحيط الهادر إلي الخليج الثائر لبيك عبد الناصر». بعد ذلك عهدت إليه قيادة الثورة وضع الألحان الرسمية الخاصة بالكليات العسكرية: الطيران، البحرية، الحربية. كما وضع محمود الشريف نشيد اتحاد العمال العرب، وأهدى إلى الثورة الجزائرية عدداً من الأناشيد، ووضع أناشيد خاصة لطلبة وطالبات مدارس وجامعات دمشق، فقلده الرئيس الراحل شكري القوّتلي وسام الاستحقاق السوري في مهرجان كبير قدم فيه مقطوعة بعنوان «البطل جول جمال».
ويتوقف الفنان الكبير عن تقديم الأغنية الوطنية بعد رحيل عبد الناصر باستثناء مساهمات قليلة في معركة أوكتوبر ١٩٧٣، بل ويعتزل التلحين عموماً باستثناء عدد بسيط من الأعمال على فترات متباعدة كان آخرها على الأرجح «غربتني الدنيا عنك يا حبيبي» لياسمين الخيام سنة ١٩٨٥. وكان هذا التوقف يعبر عن موقفه الرافض للواقع الذي آلت إليه البلاد بعد عام ١٩٧٣. يقول في مذكراته: «اعتزلت التلحين بعدما بدأ الانفتاح يأخذ طريقة ويتغلغل في الواقع المصري، مفسداً أشياء كثيرة، مشوهاً القيم والمفاهيم والثوابت، والأغنية المصرية من بينها، فآثرت ألا أقع في مصيدة السقوط الذي أصاب مسار الأغنية، وفضّلت أن أظل في القمة التي تربعت عليها منذ زمن».
وبالفعل لولا التراث الفني الهائل والقيّم الذي شهدته حقبة الخمسينيات والستينيات، والرعاية الثقافية الرسمية لها لكان الحال كارثياً. ولانقطع حبل السياق التاريخي للتطور الموسيقي في مصر والعالم العربي، اذ شكلت هذه الحقبة الفنية امتداداً حضارياً وثقافيا لتراث الرواد الذي وضع لبنة النهضة الحقيقية للموسيقى العربية. ويبقى الملحن محمود الشريف قيمة من تراثنا الفني تستحق الإحياء لا على سبيل محاكاة ما جاء به الأوائل، وإنما للإبقاء على ذلك الجذر الذي يمنح الشجرة خضرتها وقدرتها على النماء والإثمار.
التعليقات
رحم الله الفنان محمود الشريف
رحم الله الفنان محمود الشريف ملحنا ومبدعا ومجددا بالفن المصري العربي الاصيل ، لقد ترك لنا تراثا رائعا من الالحان التي لازلنا نتذكرها ، ونستمتع بسماعها ، ورحمه الله فنانا مصريا عربيا ملتزما .
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.