عندما اندلعت الثورات العربيّة العام ٢٠١١ ساد تشبيهٌ لها في الصحافة والإعلام ومصانع الأفكار وحتى في العوالم الاكاديميّة الأوروبيّة والأميركيّة بثورات العام ١٨٤٨ في أوروبا. لا تستطيع المركزيّة الغربيّة أن تتمثِّل ما هو خارجها إلّا بإعادته إلى ما يحيل إلى حياتها أو تاريخها أوثقافتها. صكّ الإعلام الغربيّ مصطلح «الربيع العربيّ» من وحي ثورات العام ١٨٤٨ التي سُمّيت «ربيع الشعوب». وما لبث الإعلام العربيّ ومعه قطاعٌ واسعٌ من الإنتلجنسيا أن اعتمد التسمية على الطريقة الببغاويّة كما هي العادة. غلبت التسمية أكانت من قبيل التبنّي أم التجريح، وانحصر «الربيع» بين مزدوجين إلى أن سقط منهما لتحوّله الفصاحةُ العربيّة إلى «خريف» و«شتاء». وفي الحالات كلّها لم يُفدنا التشبيه في دراسة تلك الثورة الأوروبيّة المرجعيّة ولم يزدْنا علماً بثوراتنا المحلّيّة وما كشفتْه عن حالة المجتمع والدولة أو عن أسبابها وآليّاتها وقواها ومساراتها وأنماط ردود الفعل عليها.
هذا لا يمنع أنّ دراسة ثورات العام ١٨٤٨ الأوروبيّة ذات فائدة لا يستهان بها بالنّسبة إلى انتفاضات العام ٢٠١١ العربيّة أقلّه لشمولها أكثر من بلد، وقيامها في مرحلة انتقاليّة من تاريخ تلك المجتمعات، وتعدّد القوى المنضوية فيها وتناقضها، وتضارب رؤاها وبرامجها ووسائلها، فضلاً عن مجابهتها الفوريّة بسلطات الأمر الواقع وقوى الردّة المضادّة للثّورة («الثورات المضادّة»).
«ربيع الشعوب» في فرنسا
هبّت رياح الحريّة على مدن أوروبا والأرياف مع إطلالة ذلك الربيع الذي سمّي «ربيع الشعوب». بدأت الانتفاضات بثورة أهالي باليرمو الإيطاليّة على حكم آل بوربون في ١٢ كانون الأول / ديسمبر. ولحقتْ بها باريس بعد شهر وكرّت المسبحة فلحقتْها ميلانو والبندقيّة ونابولي وفيينا وبراغ وبودابست وكراكاو وبرلين وكولن. تأثّر بها أكثر من خمسين بلداً وصولاً إلى البرازيل. تعدّدت العوامل التي أطلقت الثورات بقدْر ما تعدّدت الأهداف. أبرز عوامل تلك الانتفاضات النتائج الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة للثورات الصناعيّة - من بطالة وفقر وهجرة مدينيّة وظروف عمل قاهرة - والتوسّع الرأسماليّ الذي أخذ ينخر بنية الأنظمة الملكيّة الاستبداديّة ويطرح قضيّة توحيد الأسواق المحلّيّة.
الثورات في وجهٍ منها ثوراتٌ ديمقراطية تطالب بالملكيّات الدستوريّة أو بإعلان الجمهوريّة واعتماد الاقتراع العامّ وتأمين حريّة الصحافة والرأي والاجتماع. والثورات في وجهٍ آخر ثورات تحرّر وطنيّ ووحدةٍ قوميّة. عرفت المقاطعات الإيطاليّة والإمارات الألمانيّة والمجر وسويسرا وأيرلندة نزعات انفصاليّة كما في صقلية ضدّ حكم أسرة آل بوربون وفي المجر الساعية إلى الانفصال عن النمسا. في المقابل، جاءت الثورات في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا في سياق النضال من أجل تحقيق الوحدتين الألمانية والإيطاليّة بتجميع عدّة ممالك وإماراتٍ ومقاطعات. في أمكنةٍ أخرى، أخذ التيّار القوميّ شكل نزعات مركزيّة من مثل حركة إعادة تجميع الكانتونات السويسريّة في إطارٍ كونفدراليّ.
في الآن ذاته، اتّخذت الحركات الاجتماعيّة طابعاً لا يخلو من الحِدّة. انتشرت الانتفاضات الفلاحيّة المعادية للإقطاع ونجحت في إلغاء القنانة في النمسا وبروسيا في أواسط القرن. وأخيراً ليس آخراً قامت انتفاضاتٌ عمّاليّة في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا، عبّرت عن ردود الفعل الأولى على التصنيع والرأسماليّة، وخرجتْ من صلبها تيّارات عماليّةٌ واشتراكيّةٌ لم تكن لتكتفي بالمطالبة بتحسين مستوى معيشة العمّال وشروط عملهم بل دعتْ إلى تنظيمٍ اجتماعيٍّ جديد قائم على الحريّة والمساواة. وعن حدّة الصراعات الاجتماعيّة والطبقيّة في «ربيع الشعوب» كتب الدبلوماسيّ والسياسيّ الفرنسيّ ألكسي دُ توكفيل، صاحب كتاب «الديمقراطيّة في أميركا»: «المجتمع منشطرٌ إلى شطرين هما: المحرومون يوحّدهم الحسد، والمالكون يوحّدهم الرّعب».
في فرنسا، التي سنركّز عليها في هذه الصفحات، انطلقتْ الشرارة من قرارٍ حكوميٍّ بمنع «حفلات الغداء السياسيّة» التي ابتكرتْها المعارضة للتّحايل على إلغاء حريّة الصحافة وتحريم الاجتماعات السياسيّة، فتحوّلت المطاعم إلى أندية لنقد النّظام والمطالبة بالإصلاح. انطلقتْ تظاهرات الاحتجاج في شوارع باريس يوم ٢٢ شباط / فبراير. هتف المتظاهرون بسقوط رئيس الوزراء غيزو وحاصروا قصره فاشتبكوا مع قوّات «الحرس الوطنيّ». سالت دماءٌ وارتفعت المتاريس في الأحياء. في اليوم التالي استقال غيزو فتوجّه المتظاهرون صوب مبنى وزارة الخارجيّة. أطلق الجيش النّار على المتظاهرين فسقط منهم خمسون قتيلاً. حاصرتْ جموعٌ هائجةٌ القصر الملكيّ، ففرّ لوي فيليب من قصره إلى إنكلترا.
كان الشاعر لامارتين أبرز شخصيّات الثورة. فهو الذي أعلن قيام الجمهوريّة أمام مبنى مجلس باريس البلديّ يوم ٢٤ شباط / فبراير. وهو الذي ترأس «الحكومة المؤقّتة» فصار الحاكم الفرد لفرنسا لثلاثة أشهرٍ على الأقلّ.
سعتْ ثورة ١٨٤٨ إلى تحقيق ما أجهضته ملكيّة لوي فيليب البرجوازيّة من أهداف ثورة ١٨٣٠. تحقّقتْ مكاسب فعليّة في الأشهر الأولى. زِيد عدد الذين يحقّ لهم الترشّح والانتخاب إلى تسعة ملايين ذكَر. وتفجّرت التعبيرات عن حريّة الرأي بصدور لا أقلّ من ٤٧٩ مطبوعة قبل أفول العام. وتكاثرت الجمعيّات الجمهوريّة والاشتراكيّة وتأسّستْ نقاباتٌ عمّاليّة وجمعيّات نسائيّة تطالب بحقّ النساء في الاقتراع أسوة بالرجال. وعلى الصعيد الاجتماعيّ، صدر في فرنسا أوّل تشريعٍ أوروبيّ يضمن «حقّ العمل» وافتتحت «الورشات الوطنيّة» التي أمّنت العمل لأكثر من مئة ألف عاطل من العمل في باريس وحدها، أدارها اليساريّون وشكّلت نماذج مصغّرة لمجتمع جديد قائمٍ على التعليم المجانيّ والضمانات الاجتماعيّة. وأنشئ «البرلمان الصناعيّ» برئاسة لوي بلان، ممثّل الطبقة العاملة في اللجنة التنفيذيّة للثورة، لتنظيم العلاقات بين الصناعيّين والعمّال، واتّخذ مقرّاً له في قصر اللوكسمبور.
٢٣ نيسان / أبريل. أسفرتْ انتخابات «المجلس الوطنيّ التأسيسيّ» عن مجلسٍ يهيمن عليه «حزب النظام» الملكيّ يجناحَيه، الليجيتيميّين (ممثّلي ملّاك الأرض الكبار) والأورليانيّين (ممثّلي الأرستقراطيّة الماليّة)، وانتهج المجلس سياساتٍ محافِظة رغم معارضة النواب الاشتراكّيين والجمهوريّين الراديكاليّين. ومع أنّ المعارضة في «الجمعيّة الوطنيّة»، فرضتْ على الثورة أن تعلن عن نفسها «جمهوريّةً ذات مؤسّسات اجتماعيّة»، إلّا أنّ الأغلبيّة البرلمانيّة ما لبثتْ أن نجحتْ في إاقصاء ممثّلي الطبقة العاملة لوي بلان وأوغست بلانكي عن «اللجنة التنفيذيّة» للثّورة (الوزارة عمليّاً) ورفضتْ إنشاء وزارة للعمل.
الانتفاضة العمّاليّة
ثار عمّال باريس ضدّ «المجلس الوطنيّ التأسيسيّ» في ١٥ أيار / مايو ونصَبوا المتاريس وأعلنوا «حكومة مؤقّتة» شعاراتها «حرّية، مساواة، أخوّة» في تعديلٍ لشعار الثورة الفرنسيّة الكبرى للعام ١٧٨٩ - ١٧٩٤ الذي اقتصر على شعارَي «حريّة ومساواة». قَمَع «الحرس الوطنيّ» الانتفاضة واعتقل قادتها أوغُست بلانكي وآرمان باربيس وفرانسوا راسباي. وأكمل «حزب النظام» الردّة بإغلاق «الورشات الوطنيّة». يوم ٢٣ حزيران / يونيو، نزل ١٧٠ ألفاً من عمّال باريس إلى الشارع احتجاجاً وانتصبت المتاريس مجدّداً. حَشَد قائد الجيش الجنرال أوجين كاڤينياك، وهو من جنرالات احتلال الجزائر، ١٢٠ ألف جنديٍّ ضدّ الانتفاضة العمّاليّة واضطرّ إلى ثلاثة أيامٍ من القتال الدمويّ وراءَ المتاريس للتغلّب أخيراً على مقاومة عمّال باريس. وقَفَ لامارتين عاجزاً أمام اندلاع أعمال العنف في ١٥ أيّار / مايو وعارض انتفاضة حزيران / يونيو العمّاليّة بشدّة وانسحب من واجهة الاحداث. لم يخطئ ماركس عندما عزا نفوذ لامارتين الاستثنائيّ إلى أنّه لم يكن يمثّل أيّة قوّة فعليّة من قوى المجتمع أو الثورة فإذا به «يمثّل الانتفاضة العامّيّة بأوهامها وشِعرها ومضمونها الخياليّ ورطانتها».
ثار العمّال وحيدين في انتفاضة حزيران / يونيو. تكالبتْ عليهم الأرستقراطيّة الماليّة والبرجوازيّة الصناعيّة والطبقة الوسطى والبرجوازيّة الصغيرة والجيش و«الحرس المتحرّك» وكبار المثقّفين والقساوسة والأرياف. تحالف الجميع ضدّهم باسم «الأمن والنّظام» في مقابل من اتُّهموا بأنّهم «حزب الفوضى». قضى في المجزرة ثلاثة آلافٍ من العمّال الثّائرين واعتُقل عشرات الألوف.
انقسم اليسار بين جناحٍ شيوعيٍّ متنوّع الأطياف، يضمّ فيما يضمّ الانقلابيّين من أتباع بلانكي وجناح السان سيمونيّين المنضوين في «كنيسة العمل» بقيادة آنفانتان، يرون إلى العمل بما هو العنصر الذي يوحّد الصناعيّين والعمّال في مقابل الذين يجنون مداخيلفهم من الريوع، ويدعون إلى تسليم السلطة لأرباب الصناعة من قادةٍ وخبراء. أدان السان سيمونيّون الانتفاضة العمّاليّة لرفضهم المبدئيّ للعنف. اختزلوا مطالبهم من الثورة بتعليم الأطفال وتأمين التّقاعد للعجز وحذّروا من المحاولات المتسرّعة لزيادة أجور العمّال وتحسين علاقات العمل وشروطه وعارضوا أيّ مساسٍ بالملكيّة الفرديّة على اعتبار انّه لن ينجم عنه غير الفوضى. وكان عددٌ من أتباع سان سيمون قد وصل إلى البرلمان وانتُخب أحدهم دوشيز رئيساً للجمعيّة العموميّة وعيّن آخر، هيبوليت كارنو، وزيراً للتعليم الرسميّ.
كوفئ كاڤينياك بتعيينه رئيساً للدولة في ٢٨ حزيران / يونيو ١٨٤٨. إلّا أنّه سقَطّ سقوطاً مدوّياً في الانتخابات الرئاسيّة في العاشر من كانون الأوّل / ديسمبر أمام لوي نابليون بونابارت، ابن أخ نابليون الأوّل والمطالِب بالعرش الذي نال ثلاثة أرباع الأصوات الفرنسيّين. تكاثرت الشكوك في أهليّة الوريث البونابارتيّ للترشّح أصلاّ حسب الدستور. فقد تخلّى عن جنسيّته الفرنساويّة وحمل الجنسيّة السويسرانيّة، ثمّ إنّه خدم دولةً اجنبيّةً - وأيّة دولة! - إذ تطوّع في لندن كشرطيٍّ للمساهمة في قمع حركة «الشارتريّين» العمّاليّة التي كانت تطالب بالحقّ في الاقتراع العامّ. لكنّ سياسات بونابارت التي وُصفتْ بأنّها «كلّ شيء لكلّ الناس» كانت جلّابة تأييد لكلّ أصحاب الامتيازات كبيرها والصغير تتلخّص في فرض الأمن والاستقرار، وتشكيل حكومةٍ قويّةٍ، وتعزيز الوحدة الوطنيّة وبعْث الأمجاد القوميّة بإحياء المؤسّسات والطقوس والرموز العائدة إلى عهد عمّه، نابليون الأوّل. صوّت له أنصار «حزب النظام» ظنّاً أنّ ولايته سوف تكون مرحلةً انتقاليّة نحو استعادة النظام الملكيّ. وانحازتْ إليه البرجوازيّة والبرجوازيّة الصغيرة وقد أفزعتْهما الانتفاضة العمّاليّة فرأوا فيه القائد الوحيد القادر على قطع الطريق على ثورة شيوعيّة. واستثار بونابارت الحنين إلى المغامرات النابليونيّة العسكريّة فانحاز إليه الجيش وصوّت له الفلّاحون بكثرة تعبيراً عن غضبة الأرياف الدفينة ضدّ استئثار باريس بالسلطة والثروة والامتيازات.
مهما يكنْ، أسفرت الانتخابات النيابيّة عن جمعيّةٍ وطنيّةٍ يسيطر عليها «حزب النظام» بما هو تحالفٌ حزبَي ملّاك الأرض وأرستقراطيّة المال، وذراعه العسكريّ الجنرال شارغرنييه الذي تولّى قيادة الفوج الأوّل في الجيش و«الحرس الوطنيّ» في باريس، بعد تصفية جناحه الديمقراطيّ. وكان الحزبان يتنافسان من أجل استعادة البيت الملكيّ لواحدٍ منهما، بيت بوربون أو بيت أورليان. بنهاية العام كانت الردّة المضادّة للثورة قد عمّتْ أوروبا كلّها.
انقلاب الثاني من ديسمبر / ١٨ برومير لوي بونابارت
لم يخيّب لوي نابليون الظنّ في قدرته على فرض «الأمن والنظام». ما إن تسلّم الرئاسة حتى أمر بنفي ١٥ ألفاً من ثوّار انتفاضة حزيران / يونيو العمّاليّة، الكثير منهم إلى الجزائر، وأعلن حلّ «الحرس الوطنيّ المتحرّك» وألغى «النوادي» وهما محورا قوّة اليسار الجمهوريّ والعمّاليّ. في ذكرى انتفاضتهم السنويّة، أعلن اليساريّون والاشتراكيّون انتفاضةً جديدةً ضدّ الرئيس احتجاجاً على الانقلاب في سياسته الإيطاليّة من دعم الجمهوريّين الوحدويّين إلى محاربتهم لمنع ضمّ الدول البابويّة إلى إيطاليا الموحّدة. ولم يخفَ على أحدٍ أنّ هذا الانقلاب في السياسة الخارجيّة دافعه تملّق الرئيس للكنيسة واليمين الملكيّ الكاثوليكيّ. رفع اليسار شعار «الاعتداء على الجمهوريّة الرومانيّة هو عدوانٌ على الجمهوريّة الفرنسيّة» ونزل جمهوره إلى الشارع وانتصبت المتاريس. أعلن الرئيس الأحكام العرفيّة وقُمِعت الانتفاضة عبرَ الجيش في حين شنّت الشرطة حملات اعتقال واسعةً ودهمت المطابع الجمهوريّة وأمعنتْ في تخريبها.
توالت الأحداث سريعةً نحو الانقلاب البونابارتيّ. بعدما نزع لوي نابليون من «الجمعيّة الوطنيّة» سلطتها على الوزارة، عيّن حكومةً جديدةً من دون رئيس، في تشرين الأوّل / أكتوبر ١٨٤٩. سمّيت الحكومة «حكومة دوتبول - دُ بوفور»، أحد ضبّاط احتلال الجزائر وسجّان الأمير عبد القادر قائد المقاومة فيها. ترأّس دوبول فريقاً من رجالات لوي نابليون من دون أن يسمَّى رسميّاً رئيساً لها. شغل دُ بوفور منصب وزير الدفاع وأمّن للبرجوازيّة، لضمان سلطتها، استبدال شعار «الحرّية والمساواة والأخوّة» بشعار «المشاة والخيّالة والمدفعيّة»، على حدّ تعبير ماركس. خصّص دُ بوفور معظم وقته وإمكانات وزارته لتطوير اجهزة العسَس والاستخبارات. ودعم كلّ الإجراءات المعادية للشعب، بما فيها القانون الشهير ضدّ معلّمي المدارس. إلّا أنّ بونابارت ما لبث أن عزل وزير دفاعه في نهاية العام ١٨٥٠ نزولاً عند ضغط الجنرال شانغارنييه، قائد الجيش وآمر «الحرس الوطنيّ» في باريس والزعيم الفعليّ لـ «حزب النظام» وسعى لتحميله كلّ موبقات الحقبة الأولى من رئاسته. هكذا انفرد شانغارنييه في أن يكون «الطفل المعجزة للخواف البرجوازيّ»، على ما سمّاه ماركس، وبطلها المخلّص من الثورة العمّاليّة.
على الصعيد الداخليّ، اهتمّ بونابارت بالتصنيع وتنفيذ المشاريع الكبرى، وأحاط نفسه بالمستشارين ورجال الأعمال من أتباع سان سيمون. وخطّط لتحديث باريس. وسنّ دستوراً جديداً وأعاد تطبيق الاقتراع العامّ الشامل (للرّجال).
ونشب نزاعٌ عنيفٌ بين بونابارت و«الجمعيّة الوطنيّة» عندما سعى الرئيس إلى تجديد ولايته المحدّدة دستوريّاً بأربع سنوات غير قابلة للتّمديد. رفضَت أكثريّة النوّاب تعديل الدستور، فلجأ لمليشياته المنضوية في «جمعيّة العاشر من ديسمبر» وقد شكّل هؤلاء جمهور تظاهرات التأييد التي تهتف بحياة الإمبراطور، أو تتشكّل منها عصابات البلطجيّة تقاتل اليساريّين والجمهوريّين في الشوارع بحماية البوليس.
استغلّ بونابارت شَلَل الجمعيّة الوطنيّة والتعارض بين جناحَيها الملكيَين لتنفيذ انقلابه ليلة 1 - 2 كانون الأوّل / ديسمبر ١٨٥٢. عزل شاغارنييه ورشى كبار الجنرالات وألقى القبض على قادة الكتل البرلمانيّة. وفَجْر يوم الثاني من كانون الأوّل، احتلّت قوّاته ومليشياته الساحات العامّة ومبنى «الجمعيّة الوطنيّة» وأعلن حلّ «الجمعيّة الوطنيّة» و«مجلس الدولة» وفَرَضَ حالة الطوارئ في باريس الكبرى.
وصف ماركس انقلاب الثاني من ديسمبر بمعادلةٍ تلخّص طبيعة النظام البونابارتيّ «انتصار نابليون الثالث على البرلمان وانتصار الهيئة التنفيذيّة على الهيئة التشريعيّة وانتصارالقوّة البكماء على قوّة الكلمات».
كارل ماركس في ثورات ١٨٤٨
انتقل ماركس إلى فرنسا في نهاية عام ١٨٤٣ مصطحباً عروسه جيني ڤون ويستڤالن بعدما أقفلت السلطات البروسيّة صحيفةً ليبراليّة رأس تحريرها في كولون، أبرز المدن الصناعيّة الألمانيّة، يموّلها صناعيّون. ناهضتْ «داي نيو رانيش زايتونغ» المَلَكيّة المطلقة ودعتْ إلى الاقتراع العامّ وحريّة الصحافة والاجتماع. وقد أقفلت الصحيفة بسبب كتابات ماركس المعادية لقيصر روسيا ومقالاته في الاقتصاد السياسيّ.
في باريس اختلط ماركس بعمّالٍ وحرفيّين ألمان مهاجرين منضوين في جمعيّات سرّية متأثّرين بدعوات شيوعيّة مسيحيّة منتشرة في ألمانيا وتمزج بينها وبين تعاليم الاشتراكيّين المثاليّين، سان سيمون وأوين وفورييه. وفي باريس، تعرّف إلى فريدريك إنغلز، ابن صناعيٍّ ألمانيّ في بريطانيا، فنشأتْ بين الرجلين صداقةٌ وزمالةٌ سوف تستمرّ عمراً بكامله. نقل ماركس إلى إنغلز خبرته الأوليّة في أثر المصالح الاقتصاديّة على السياسة وحريّة الرأي وقد تعلّم أوّل درس له في العلاقة بين المال والحريّات واكتشف جبن الرأسماليّين. وقد خلص في إحدى مقالاته في هذا الموضوع إلى أنّ «الخطر الأكبر على حريّة الصحافة هو المال». وهو درسٌ ثمين ازداد أهميّة في القرن التالي. من جهته، نقل إنغلز إلى ماركس خبرته المباشرة في أوضاع الطبقة العاملة الإنكليزيّة.
في باريس العام ١٨٤٤ كتب ماركس مجموعة من المخطوطات الاقتصاديّة والفلسفيّة سوف تعرف لاحقاً باسم «مخطوطات باريس»، بلور فيها مفهوم استلاب العمل في ظلّ الرأسماليّة وتطّلع إلى قيام مجتمعٍ يحقّق الملكيّة الجماعيّة لوسائل الإنتاج يصير فيه البشر أحراراً لتنمية طاقاتهم في تعاونيّات إنتاج. وكان ذلك بمثابة الإعلان عن اعتناقه الشيوعيّة.
طُرد ماركس من باريس مطلع العام ١٨٤٥ بضغطٍ من السلطات البروسيّة. فانتقل إلى بروكسل حيث قضى ثلاث سنوات زار خلالها صديقه إنغلز ومعمل غزل القطن الذي تديره أسرته في مانشستر. وفي بروكسل طوّر ماركس نظريّته التي سُمّيت «الماديّة التاريخيّة» وكتب سجالاً ضدّ برودون، المفكّر الاشتراكيّ الفرنسيّ.
في ربيع العام ١٨٤٧ انضمّ ماركس وإنغلز إلى «عصبة العادلين» وهي جمعيّة سرّيّة ثوريّة أسّسها في باريس عمّالٌ وحرفيّون ألمان مهاجرون. في مؤتمرها الثاني في لندن في نوفمبر - ديسمبر / تشرين الثاني - كانون الأوّل من ذلك العام تسمّت العصبة «العصبة الشيوعيّة» وتبنّت «العقيدة الشيوعيّة النقديّة» معلنةً التزامها «إطاحة البرجوازيّة وإقامة سلطة البروليتاريا والقضاء على المجتمع القديم القائم على التناقض الطبقيّ وتشييد مجتمع جديد بلا طبقات ولا ملكيّة فرديّة». وكلّفت العصبة ماركس وزميله إنغلز كتابة إعلان مبادئ للتنظيم الجديد. كتب إنغلز أوّل مسوّدة بعنوان «تعاليم الشيوعيّة» على شكل ٢٥ سؤالاً وجواباً تشرح العقيدة لجمهورٍ عمّاليّ. (راجع الترجمة العربيّة لنصّ فريدريك إنغلز بعنوان «تعاليم الماركسيّة» في هذا العدد من «بدايات»). ثمّ تولّى ماركس الصياغة النهائيّة لنصٍّ له طابع منشوريّ بعنوان «البيان الشيوعيّ» صدر في شباط / فبراير ١٨٤٨ قبل أيّامٍ من اندلاع «ربيع الشعوب».
اندلعت ثورات «ربيع الشعوب» بعد أسابيع من صدور البيان الشيوعيّ. واكبها ماركس فكريّاً وصحافيّاً ومهنيّاً أيضاً. أعاد إصدار «داي نيو رانيش زايتونغ» التي لاقت رواجاً ملحوظاً. طُرد من بروكسل فلجأ إلى باريس وحضر الانتفاضة العمّاليّة في حزيران / يونيو ١٨٤٨ إلى أن أعيد طرده في ربيع ١٨٤٩ فعاد إلى كولْن ولم يكد يستقرّ فيها حتى انتصرت الردّة المضادّة للثورة في بروسيا، فاعتُقل وقدّم للمحاكمة بسبب كتاباته الصحافيّة، فرافع عن نفسه بقوله «الواجب الأوّل للصحافة هو زعزعة أركان الدولة السياسيّة القائمة»، فطردتْه السلطات البروسيّة من بلده وسحبتْ منه الجنسيّة.
أربعة مفاهيم رئيسة
استقرّ ماركس في لندن، المنفى الذي سوف يقضي فيه بقيّة حياته.
كانت ثورات «ربيع الشعوب» أوّل تجربةٍ له في الفعل الثوريّ من حيث هي تحدٍّ فكريّ. اعترف العام ١٨٥٠ بأنّ الثورة قد انتهت وأنّ الثورة المضادّة قد أطبقتْ. وعكف على تحليل أسباب قيام ثورات «ربيع الشعوب» ودروسها. في «الصراعات الطبقيّة في فرنسا» طبّق منهجه في المادّيّة التاريخيّة لأوّل مرّة على لحظةٍ تاريخيّة معيّنة في بلدٍ معيّن وصاغ جملةً من المفاهيم للتّعامل مع الثورة والطبقات وتمثيلها السياسيّ ومع الحقل السياسيّ خصوصاً. وفي كتابه «١٨ برومير للوي بونابارت» توقّفَ امام انقلاب لوي نابليون. هنا كان التحدّي هو التفكير في الدولة وقد بدتْ تتحكّم بالطبقات وصراعاتها من فوق وتسيطر على «المجتمع المدنيّ» كلّه. بعدها انكبّ ماركس على أبحاثه التحضيريّة عن الرأسماليّة والاقتصاد السياسيّ لكتاب «رأس المال». وخلال تلك الفترة أيضاً، كتب ماركس عدداً وافراً من المقالات لصحيفة «نيويورك دايلي هيرالد» الأميركيّة خلال فترة ١٨٥٢ - ١٨٦٢. (يمكن الاطلاع على مقالاته المتعلّقة بالاقتتال الأهليّ في جبل لبنان والتدخّل العكسريّ الفرنسيّ في العام ١٨٦٠ - ١٨٦١ في مكانٍ آخر من هذا العدد).
أودّ في هذا البحث التركيز على أربعة مفاهيم يمكن استخراجها من كتابات ماركس عن ثورات العام ١٨٤٨.
1 التفكير في ظاهرة الثورات، أسبابها، مساراتها، قواها، مطالبها، ردود الفعل عليها، مآلاتها.
2 قضيّة التمثيل السياسيّ للطبقات الاجتماعيّة.
3 تعامل ماركس مع الديمقراطيّة السياسيّة.
4 التفكير في «الردّة» وإنتاج ماركس لمقولة البونابارتيّة.
آمل أن تلقي مراجعة هذه العناوين الأربعة ضوءاً على وجهين من الماركسيّة غالباً ما يغيبان في غياهب التبسيط: الأوّل هو غنى التحليل الطبقيّ ومشكلاته والأنماط المختلفة لتمثيل الطبقات في الحيّز السياسيّ والثقافيّ، والثاني هو التعلّم من الممارسة، أي دور الممارسة كمادّة معرفيّة.
1- الثورات ظاهرات مركّبة
أوّل ما يتبدّي من التأمّل في ثورات ١٨٤٨ انّها ظاهرات متعدّدة ومعقّدة يستحيل اختزالها بمواجهةٍ بين قوّتين اجتماعيّتين او سياستين أو عسكريّتين. لا تقتصر الثورة على حشد احتجاجات عدّة قوى مجتمعيّة في وجه سلطات الأمر الواقع وحسب. تطلق الثورة أيضاً عدّة ثوراتٍ متباينة وأحياناً متناقضة في آن معاً.
حملتْ ثورات ١٨٤٨، كما أسلفنا، ثورات تحرّر وطنيّ ضدّ الاحتلال الأجنبيّ وثوراتٍ من أجل الوحدة القوميّة، مثلما حوت ثوراتٍ من أجل الحريّة وثوراتٍ من أجل المساواة.
غير أنّ ما حُسم في الوجهة التي سوف تتّخذها الثورات أو في إنجازها الطبقيّ في نهاية المطاف كان توازن القوى بين قوى عسكريّة تابعة للسلطات والقوى المجتمعيّة بما فيها مصادر القوّة والعنف لديها. لا معنى للحديث عن ثوراتٍ من دون ورود القوّة والعنف. الثورات في ممارسة الجماهير لقوّتها، قوّة العدد في الأساس، ضدّ سلطات الأمر الواقع. في فرنسا، أجبرت قوّة الجماهير المتظاهرة والمحتشدة والمسلّحة الملك على الاستقالة والهرب. لم يحصل ذلك لولا خللٌ وقع في أجهزة القمع السلطويّة، إمّا على شكل انشقاقٍ في القوّات النظاميّة أو تمرّد قطاعات منها أو تمنّعها عن نجدة سلطة الأمر الواقع. وفيما بعد، أخذت القوى الاجتماعيّة المختلفة تنشئ لنفسها تشكيلاتٍ عسكريّة خاصّة بديلة للجيش الأرستقراطيّ النظاميّ ومناهضة له: الحرس الوطنيّ، الحرس الوطنيّ المتحرّك، الشعب العامل المسلّح، المليشيات البونابارتيّة، إلخ. إلى دور القوّة والعنف في الثورات، يجب أن يضاف وزن قوى التدخّل الخارجيّة، العسكريّة منها خصوصاً، في تغيير موازين القوى الداخليّة او حتى في تغليب قوّةٍ على أخرى، مع أنّ العامل الخارجيّ لم يلعب دوراً مهمّاً في الثورة الفرنسيّة.
2- قضيّة التمثيل الطبقيّ
تكشّفت ثورة العام ١٨٤٨ عن البنية الطبقيّة الفرنسيّة على حقيقتها المعقّدة والانتقاليّة، متعدّدة أنماط الإنتاج، حيث نمط الإنتاج الصناعيّ واحدٌ من أنماط الإنتاج والتناقض بين بروليتاريا ورأسماليّة صناعيّة تناقضٌ واحدٌ بين عدّة تناقضات طبقيّة. كانت أكثريّة الشعب الفرنسيّ لا تزال تعيش في الأرياف في ظلّ الإنتاج الفلّاحيّ السوقيّ الصغير أو في الإنتاج الحرفيّ. وهكذا في مقابل طبقتَي البيان الشيوعيّ الجوهريّتين، برجوازيّة / بروليتاريا، اكتشف ماركس ما سوف يسمّيه «التشكيلة الاجتماعيّة» التي تضمّ عدّة أنماط إنتاج وبالتالي عدداً من من الطبقات والشرائح الطبقيّة المرتبطة بها. وقد عدّدها ماركس في حالة فرنسا على النّحو الآتي: كبار ملّاك الأراضي، البرجوازيّة الماليّة، البرجوازيّة الصناعيّة، البرجوازيّة الصغيرة، البروليتاريا الصناعيّة، البرولتياريا الرثّة وصغار المزارعين الفلّاحين.
في ١٨ برومير، بات ماركس يتحدّث عن «كتلةٍ حاكمة» متعدّدة الطبقات أو الشرائح الطبقيّة تمييزاً عن الدولة بما هي الجهاز التنفيذيّ للبرجوازيّة. ولا يكتسب الطابع الطبقيّ للسلطة فقط بناءً على طبيعة الطبقة المسيطرة وإنّما أيضاً بناءً على طبيعة الشريحة المسيطرة داخل تلك الطبقة.
السبب الرئيس هو أنّ مصادر القوى والأحزاب السياسيّة ليستْ هي ذاتها مصادر القوى الاقتصاديّة، خصوصاً في المراحل الانتقاليّة كالتي عبّر عنها المخاض الثوريّ في العام ١٨٤٨. تستعير الطبقات الجديدة الصاعدة الشخصيّات التي تمثّلها وأجهزة تمثيلها السياسيّ من الطبقات السابقة. وقد تمتدّ هذه العمليّة لفتراتٍ طويلة. خلال تلك الفترة، كانت أسرتان ملكيّتان تتنافسان على العرش هما آل بوربون وآل أورليان، فإذا الحزبان الملكيّان يمثّلان جناحين من أجنحة البرجوازيّة الصاعدة. مثّل حزب البوربون الأرستقراطيّة الماليّة ومثّل حزب الأوروليانيّين البرجوازيّة الصناعيّة. وكانت تلك المفارقة بين الموقع الاجتماعيّ والموقع السياسيّ سمةً مشتركة في عددٍ آخر من الدول الأوروبيّة في مراحل الانتقال من الإقطاع إلى الرأسماليّة.
لم تكن البرجوازيّة الصناعيّة موحّدة التمثيل الطبقيّ، كان التيّار السياسيّ الساعي إلى توفير قيادةٍ بديلة وحديثة لها هم الاشتراكيّون المثاليّون - السان سيمونيّون - وهم فئة جديدة كلّ الجدّة من الشرائح الاجتماعيّة أفرزها النموّ الرأسماليّ: التكنوقراط والخبراء وأصحاب المهن الحرّة من أبناء الطبقات المتوسّطة. مجّد هؤلاء قيمة «العمل» وسعَوا إلى تحقيق تحالفٍ تاريخيّ بين الصناعيّين والعمّال محورُه «العمل» بما هو قيمةٌ قائمة بذاتها، في وجه الطبقات المتعيّشة على ريع الأرض واستغلال الفلّاحين أو المتطفّلة على جهاز الدولة الذي يتعيّش بدوره على الرسوم والضرائب المفروضة على سواد الشعب. من هنا دعوة السان سيمونيّين إلى إلغاء الإرث. وقد نافحتْ تلك الفئة الصاعدة من الطبقات المتوسّطة عن شرعيّةٍ جديدة للحكم قائمةٍ على الذكاء والعلم والكفاءة.
هذه هي البرجوازيّة التقدميّة ذات المشروع الكونيّ لتصنيع وتحديث العالم بأسره، أي تحقيق التوسّع الكولونياليّ لفرنسا تتقدّمه المصارف وشركات سكك الحديد للسيطرة على الموارد الطبيعيّة والاستيلاء على الخدمات العامّة، إلخ. وسوف يتولّى لوي نابليون تنفيذ بعض عناصر ذاك المشروع في التوسّع الكولونياليّ لفرنسا جنوبيّ البحر الأبيض المتوسّط من الجزائر غرباً إلى سورية شرقاً.
مسألةٌ أخرى من مسائل التمثيل الطبقيّ يعالجها ماركس في كتاباته الفرنسيّة السياسيّة هي مسألة تمثيل الفلّاحين وتحديداً الملّاكين الزراعّيين الصغار. وهذه فئة واسعةٌ ولكنّها مبعثرة على طول التراب الوطنيّ، يرى أن لا سبيل لها لأن تتمثّل إلّا بأن تتوحّد كطبقةٍ عبر الدولة ومن خلالها. شكّل الفلّاحون القاعدة الاجتماعّية للبونابارتيّة. هكذا تمكّن لوي بونابارت أن ينتصر في الانتخابات الرئاسيّة العام ١٨٥٢ بواسطة الاقتراع الشعبيّ العامّ لكسبه تأييد أكبر طبقةٍ في فرنسا عدديّاً، التي هي طبقة الملّاك الفلّاحين الصغار المتمرّدين ضدّ الجمهوريّة. كتب ماركس بهذا الصدد:
«قدّمت الجمهوريّةُ نفسها للفلّاحين عن طريق جابي الضرائب، فقدّموا أنفسهم للجمهوريّة عن طريق الإمبراطور. كان نابليون الرجل الوحيد الذي مثّل مجموع مصالح الطبقة الفلّاحيّة التي تكوّنت حديثاً ابتداءً من العام ١٧٨٩. فبالنسبة إلى الفلّاحين لم يكن نابليون شخصاً، كان برنامجاً. ساروا إلى مراكز الاقتراع رافعين الأعلام، ضاربين الطبول، ونافخين في الأبواق يصرخون «لا ضرائب بعد الآن، يسقط الأغنياء، تسقط الجمهوريّة، يعيش الإمبراطور!»». (الصراعات الطبقيّة في فرنسا، ١٨٤٨ - ١٨٥٠، ص ٧٢).
من هنا المعادلة التي صاغها ماركس عن الفلّاحين «لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، يحتاجون إلى من يمثّلهم». على أنّ علاقة التمثيل هذه ليست انتداباً من تحت إلى فوق بقدْر ما هي هيمنةٌ أبويّةٌ من فوق لتحت. «إنّ ممثّلهم [للفلّاحين] لا بّد له أن يبدو على أنّه سيّدهم، على أنّه سلطةٌ فوقهم، أي أنّه سلطةٌ حكوميّة غير مقيّدة تحميهم من الطبقات الأخرى وتستنزل عليهم المطر أو تستشرق الشمس من عليائها» (١٨ برومير، ٢٢٤).
يتّضح ممّا سبق كيف أنّ الثورة لا تعفي أيّ طبقة وأيّ قوّة اجتماعيّة من الانخراط في الميدان السياسيّ أو الميدان العسكريّ إذا اقتضى الأمر. في تحليله لسلوك البرجوازيّة الصغيرة المدينيّة يؤسّس ماركس للمقولات اللاحقة عن ازدواجيّة تلك الطبقة وتناقضات وعيها وسلوكها. فيلاحظ أنّ القوى الممثّلة للبرجوازيّة الصغيرة نزلتْ إلى الشارع للدّفاع عن سيولة الأسواق والملكيّة الفرديّة وهي ذاتها لا تملك المساكن التي تعيش فيها وتشكّل الضحيّة الأولى للمرابين. في المقابل، قد تُنتج البرجوازيّة الصغيرة تيّاراتٍ جمهوريّة وديمقراطيّة واشتراكيّة وإن تكن كطبقة شديدة الاستجابة لخواف الأمن والنظام.
وجرياً على حقيقة أنّ الثورات لا تترك أيّ قوّةٍ أو شريحة اجتماعيّة خارج الحقل السياسيّ، لم يهمل ماركس، في تحليله الطبقات وشرائحها وتعبيراتها السياسيّة، ما سمّي «البروليتاريا الرثّة» وهي الفئات المفقرة والمكدّحة من المجتمع ذات الفعاليّات الهامشيّة، من دون أن تكون مدرجة في النظام الإنتاجيّ. وأبَان الدور المهمّ نسبيّاً الذي لعبتْه تلك الفئات بما هي مليشياتٌ في الانقلاب البونابارتيّ.
بعد هذا التحليل الجدليّ لتمثيل الطبقات وسلوكها، في حالة من الأزمة القصوى - الثورة، ينتقل ماركس إلى تعيين خصوصيّةٍ أخرى للتّمثيل الطبقيّ. الموقع الطبقيّ كناية عن حواجز في الفكر والسلوك ليست محصورة بالذين ينتمون إلى الموقع الطبقيّ المخصوص الذي يمثّلونه. إنّ تمثيل الديمقراطيّين الجمهوريّين للبرجوازيّة الصغيرة، مثلاً، لا يعني بالضرورة أنّهم هم أعضاء في تلك الشريحة الاجتماعيّة:
«إنّ أذهانهم محكومةٌ بالحواجز ذاتها التي لا تستطيع البرجوازيّة الصغيرة أن تتجاوزها في الحياة الحقيقيّة، و... هم بالتالي مدفوعون نظريّاً إلى تبنّي المشكلات ذاتها والحلول ذاتها التي تندفع البرجوازيّة الصغيرة إليها عمليّاً بحكم المصلحة المادّيّة والموقع الاجتماعيّ. تلك هي العلاقة العامّة بين الممثّلين السياسيّين والفكريّين لطبقةٍ ما والطبقة التي يمثّلون» (١٨ برومير لوي بونابارت، ص ١٧٦ - 1٧٧).
يسترسل ماركس بأمثلةٍ عن تلك الحدود والحواجز. فيتحدّث عن أوهام ممثّلي الطبقة العاملة عن دور وزارة العمل المحدود إلى جانب سائر الوزارات التي تمث!ل البرجوازيّة. ويتحدّث عن وهْم الممثّلين السياسيّين للطبقة العاملة عن إمكان تحقيق تحرّرهم جنباً إلى جنب مع البرجوازيّة داخل جدران فرنسا وإلى جانب سائر الأمم البرجوازيّة. ذلك أنّ علاقات الإنتاج الفرنسيّة محكومةٌ بتجارة فرنسا الخارجيّة وبموقعها في السوق العالميّة - تلك السوق التي يتحكّم بها بدوره المستبدّ البريطانيّ. فكيف لفرنسا أن تكسر تلك القوانين من دون حرب ثوريّة أوروبيّة؟
3- ماركس والديمقراطيّة
لم يستخفّ ماركس بالديمقراطيّة السياسيّة البرلمانيّة بل اعتبرها بمثابة «التحرّر السياسيّ» للطبقات العاملة والمستغلَّة (الصراعات الطبقيّة في فرنسا، ص ٧١).
كانت أبرز حركة تطالب بالاقتراع العامّ (للذكور) في بريطانيا خلال «ربيع الشعوب» الأوروبيّ هي الحركة الشارتريّة ذات القاعدة العمّاليّة والشعبيّة الواسعة. وقد سُمّيت شارتريّة، نسبةً إلى «تشارتر»، أي شرعة. ذلك أنّها كانت صاحبة شرعة شهيرة جمعتْ عليها ملايين التواقيع. والشرعة من ستّ نقاط تطالب بحقّ الاقتراع للرجال فوق سن ٢١؛ والتصويت بالبطاقة السريّة، وإلغاء شروط الملكيّة للترشيح لمجلس العموم، ودفع علاواتٍ لأعضاء المجلس للسماح لذوي الدخول المحدودة بالوصول إلى مجلس العموم، وتقسيم دوائر انتخابيّة متماثلة من حيث الحجم، وإجراء انتخابات برلمانيّة سنويّة لمنع الرشوة والضغوط على حريّة الاقتراع.
علّق ماركس على تلك الشرعة بالقول إنّ تطبيقها - أي تحقيق الحقّ في الاقتراع العامّ، ولو للذكور، يوازي تسلّم الطبقة العاملة للسلطة السياسيّة في اإكلترا على اعتبارها تشكّل أكثريّة السكان. («الشارتريّون», Surveys from Exile، ص ٢٦٤). وكتب في مقالة أخرى عن «الشارتريّين»، يصف اجتماعاً جماهيريّاً لأحد أبرز قادتهم، إرنست جونز، وكان من أقرب أصدقائه. حصل جونز على ٢٠ ألف صوت ترشّحه للنيابة. لكنّ منافسه السير شارل وود اللبرالي فاز عليه مع أنّه لم ينلْ أكثر من ٥٠٠ صوت. والسبب أنّ ما أحد من الذين رشّحوا جونز كان يحقّ له التصويت لعدم استيفائهم الشروط الماليّة لذلك («الشارتريّون»، المصدر ذاته، ٢٧١)، ويعزو ماركس السبب الرئيس لفشل الحركة الشارتريّة الإنكليزيّة في إحداث أيّ تغيير جذريّ عن طريق شرعتها وتظاهراتها الجماهيريّة الواسعة خلال ثورات ١٨٤٨ الأوروبيّة، إلى أنّ الطبقة الحاكمة البريطانيّة تنازلت سلفاً ووسّعت قاعدة أصحاب الحقوق الانتخابيّة في بريطانيا في العام ١٨٤٣. في المقابل، شرّعت ثورة ١٨٤٨ الفرنسيّة الاقتراع العامّ (للذكور) لكنّها ما لبثتْ أن تراجعت عنه قبل أن يستعيده بونابارت ثمّ يتخلّى.
هذا عن حق الاقتراع والقانون الانتخابيّ. بمناسبة هذا المثال عن مصاعب فرض الاقتراع العام، يجدر تذكير الذين يعتبرون الديمقراطيّة بما هي هبة من البرجوازيّة، أو النتاج المباشر للحريّة الاقتصاديّة في ظلّ الرأسماليّة، بأنّ تحقيق المساواة السياسيّة والقانونيّة بين المواطنين تطلّبَ عدّة ثورات شعبيّة، كانت ثورات العام ١٨٤٨ واحدة منها، وما استتبعها من تقدّم وتراجع، وقيام أنظمة وانقلابٍ على أنظمة، إلى أن فُرضت الجمهوريّة الديمقراطيّة بطريقة متدرّجة مطلع القرن العشرين في فرنسا مثلاً.
قلنا إنّ كتابات ماركس خلال ثورات «ربيع الشعوب» أولى محاولات اقتحام حقل السياسة. حملت الثورات، كما رأينا ثورتين بارزتين على الأقلّ: ثورة حريّة وثورة مساواة. وقد افتتحت الشغل النظريّ على ثنائيّة: تحرّر سياسيّ / تحرّر اجتماعيّ، أو الدولة / المجتمع المدنيّ. وأثارتْ مسألة العلاقة بين الديمقراطيّة والاشتراكيّة التي سنعود إليها في ختام هذا النّصّ.
4 - البونابارتيّة أو الدولة
استدعتْ ثورات العام ١٨٤٨ ظاهرة ارتدادٍ سياسيّة أدّت إلى المزيد من التحدّي لماركس في مفاهيمه للدولة والطبقة. إنّها نظام الردّة المضادّة للثورة الذي جاء بلوي نابليون إلى الحكم.
إنّ اكتشاف الظاهرة البونابارتيّة تحدّى الصيغة المبسّطة الواردة في «البيان الشيوعيّ» عن الدولة بما هي الجهاز التنفيذيّ لحكم البرجوازيّة. يبدو مع البونابارتيّة وكأن الدولة تحوّم فوق الطبقات. ينتقل ماركس من التعيين الوظيفيّ للدولة إلى تعيينٍ نوعيّ، إن جاز التعبير، فيقول إنّ الدولة هي النتاج الحكميّ للصراعات الطبقيّة. ويشدّد على القوّة المستقلّة نسبيّاً للسلطة التنفيذيّة التي نشأتْ منذ نابليون الأوّل بحيث تحوّلت الدولة إلى ما يسمّيه «جسماً طفيليّاً مخيفاً، يحيط بجسم المجتمع الفرنسيّ مثل قماط ويسدّ عليه كل مسامّه» (١٨ برومير، ٢٣٧).
بونابارت حالةٌ مختلفة من حالات التمثيل الطبقيّ: هو فاعلٌ سياسيّ واحد يمكنه أن يمثّل عدّة طبقات اجتماعيّة قدْر ما يمكن أن يتعدّد الفاعلون الذين يمثّلون طبقةً معيّنة. علماً بأنّ هذا النّمط من التمثيل لا يأتي من دون غلبة.
لكي يستطيع الإمبراطور ادّعاء تمثيل كافّة الطبقات، كان عليه أن يمثّل أوّلاً طبقة صغار الفلّاحين المالكين للأرض التي يظهر الإمبراطور، ليس فقط بما هو ممّثل انتصاراتهم القوميّة، وإنّما بما هو الدولة التي تحميهم من الطبقات الأخرى «من هنا أن النفوذ السياسيّ للفلّاحين من صغار مالكي الأرض يلقى تعبيره النهائّي في السلطة التنفيذيّة التي تخضع المجتمع لها» (١٨ برومير).
ولأنّه ادّعى أنّه فوق الطبقات، سعى بونابارت إلى أن يمثّل كلّ طبقة ضدّ أخرى. وذلك هو الثمن الذي سوف تدفعه الطبقات المالكة خصوصاً عندما يأتيها «مخلّصٌ» باسم الأمن والنظام: قضى بونابارت على التمثيل البرلمانيّ السياسيّ للطبقات ليتولّى تمثيلها بالدولة ذات الاستدعاءات المختلفة لعددٍ من الطبقات. فالقاعدة الفلّاحية القائمة على الإنتاج السوقيّ الصغير يضارعها تمثيل الرأسماليّة الصناعيّة في طَورها التوسّعيّ الداخليّ والخارجيّ. فتولّى جهاز الدولة البونابارتيّ بناء البنى التحتيّة للتصنيع وتنميته المبادرة إلى التوسّع الكولونياليّ من الجزائر وسورية إلى المكسيك. البونابارتيّة بهذا المعنى تعديلٌ جذريٌّ لمقولة ماركس التي يميّز فيها بين الدولة الإقطاعيّة المضطرّة إلى التدخّل بالعنف من أجل حماية سلطتها ومصالحها، والدولة الرأسماليّة، على افتراض أنّ الثانية تتطلّب فقط التدخّل المباشر للبرجوازيّة في الحياة السياسيّة.
من هنا اعتراف ماركس بوجود جهاز دولة منفصلٍ عن «المجتمع المدنيّ» تحتاج إليه البرجوازيّة لإنقاذ سيطرتها أو الدفاع عنها، في ظروف الأزمات خصوصاً، يحمل نمطاً مميّزاً من الاضطهاد تمارسه الدولة على المجتمع المدنيّ، بما يتجاوز استغلال رأس المال للبروليتاريا. وهذا ما يبرّر تصوّر ماركس للثورة البروليتاريّة على أنّها ليست مجرّد ثورة لإنهاء الاستغلال الرأسماليّ وإنّما هي أيضاً ثورة تحرّر المجتمع من سيطرة الدولة عليه.
يلجأ ماركس إلى مفهوم «المجتمع المدنيّ» بما هو مجموع المؤسّسات الواقعة خارج السلطة، والتي كانت تعني في زمانه المجتمع البرجوازيّ الماليّ والصناعيّ الناشئ في كنَف المجتمع الإقطاعيّ، بالمقارنة مع الدولة أو «المجتمع السياسيّ» الذي هو الدولة الملكيّة البيرقراطيّة الممثلة لأرستقراطيّة الأرض.
لكنّ «المجتمع المدنيّ» عند ماركس مكوّنٌ من عدّة طبقات متناقضة ومتصارعة. هكذا يتجلّى التناقض الأساس بين المساواة السياسيّة والقانونيّة في الدولة وعدم المساواة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في المجتمع المدنيّ، ما تترتّب عليه نتيجتان:
الأولى، تتحوّل الدولة إلى الركيزة الأساس لحماية اللامساواة الطبقيّة (والمناطقيّة، إلخ) في المجتمع المدنيّ.
الثانية، ترتدّ اللامساواة الاجتماعيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة إلى تخريب المساواة السياسيّة والقانونيّة للمواطنين في الدولة. أي نخر الديمقراطيّة والتمييز في المساواة السياسيّة والقانونيّة ذاتها.
هكذا تصوّر كارل ماركس الديمقراطيّ الجذريّ، الشيوعيّ فلسفيّاً، زمن ١٨٤٨، الاشتراكيّة بما هي الحلّ لهذا التناقض الذي يستكمل الديمقراطيّة السياسيّة بتحقيق «الديمقراطيّة الاجتماعيّة» أو ببناء «الجمهوريّة الاجتماعيّة» كما سمّاها عمّال باريس الثائرون. بعبارة أخرى، المجتمع حيث الاشتراكيّة هي تكملةٌ للديمقراطيّة بما هي تحقيقٌ لنظامٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ وسياسيٍّ يحقّق المطابقة بين الديمقراطيّة في الدولة والديمقراطيّة في المجتمع.
وهذا هو أساس فكرة ماركس عن اضمحلال الدولة الذي يعادل التحرّر الإنسانيّ الشامل، الذي يسمّيه الانتقال من عالم الضرورة إلى عالم الحريّة. وتلك هي الديمقراطيّة الاشتراكيّة التي تحلّ التناقض بين الفرْد والمجتمع، «حيث التطوّر الحرّ لكلّ فرد هو التطوّر الحرّ للجميع» (انظر مقالة تيري إيغلتن حول المعنى العمليّ لاضمحلال الدولة في مكان آخر من هذا العدد).
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.