شحيحة رسائل النساء التي عثر عليها المؤرّخ الأميركيّ مارك د. ستينبرغ١ أثناء تنقيبه في الأرشيف الروسيّ، ضمن الكمّ الهائل من الرسائل والنداءات والشكاوى والعرائض المرفوعة إلى طرفَي مرحلة «ازدواجيّة السلطة» في العام ١٩١٧، الحكومة المؤقّتة وسوفيات بتروغراد، من آلاف العمّال والجنود والفلّاحين الذين صمّم الكثير منهم على الكتابة وهم بالكاد يفكّون الحرف.
في هذا تفاوتٌ كبير، إذا ما قورن بالدور الحيويّ، والمفاجئ وقتذاك، الذي لعبتْه النساء في انطلاقة الأحداث الثوريّة الروسيّة، بدءاً من احتجاجات طوابير الخبز فتظاهرات «يوم المرأة العالميّ» في ٢٣ شباط / فبراير (٨ آذار / مارس بالتقويم الغريغوري)٢، التي غلبتْ عليها المشاركة النسائيّة، وخصوصاً عاملات مصانع النسيج، لكن أيضاً ربّات المنازل، وما تحوّل سريعاً إلى إضرابٍ عامّ فانتفاضة واسعة مع انضمام قطاعات البحّارة وجنود الحامية العسكريّة في العاصمة.
لإعطاء فكرةٍ عن طبيعة هذا التّفاوت بين المشاركة والصوت، يلتقط ستينبرغ قصيدةً نشرتْ في العدد الأوّل من الجريدة النسائيّة البلشفيّة «رابوتنيتسا» في أيّار / مايو١٩١٧، موقّعةً باسم جنديّ. في القصيدة، يتحدّث الجنديّ على لسان امرأةٍ تناجي محبوبها المَرمي على الجبهة، في أتون الحرب التي يندّد البلاشفة باستمرارها. يبالغ الجنديّ أندرييف في انفعالات المرأة ومشاعرها، على نحوٍ كاريكاتوريّ. بالنسبة إلى ستينبرغ، تسامُح محرّراتِ الجريدة مع هذا التنميط ينمّ عن رغبةٍ في تفادي شبهة «الانفصاليّة النسويّة» عن الوحدة الطبقيّة، للرجال والنساء، في الصراع، ولو من خلال استعارة صوت الذّكَر الكادح البلشفيّ، التنميطيّ لانفعالات المرأة وأحاسيسها، وهو يحتلّ مساحة صوتها، لمناجاة نفسه كذكَر في آخر الأمر.
١ ضدّ «الانفصاليّة النسويّة»
وضدّ إهمال الحزب لـ«المسألة النسائيّة»
لكتاب ستينبرغ عن «الثورة الروسيّة ١٩٠٥ - ١٩٢١» مكانة مميّزة بين لائحةٍ عامرةِ من الكتب صدرتْ في المئويّة، لكنّه يتعسّف هنا في «نقد أدبيّ» لقصيدة جنديّ في جريدةٍ بلشفيّةٍ نسائيّة. أوّلاً، لأنّ «الانفصاليّة النسويّة» لم تكن خشيةً داخليّةً غير مصرّح عنها تتفاداها محرّرات «رابوتنيتسا»، بل كانت خصماً سجاليّاً من لحمٍ ودم: تجربة «حزب النساء التقدميّ» بقيادة الطبيبة ماريا بوكروفسكايا (١٩٢٢ - ١٨٥٢) التي اكتسبتْ شهرةً من عملها بين الفقراء. يصنّف حزب بوكروفسكايا هذا على يسار الحركة النسائيّة البرجوازيّة، أي على يسار «رابطة النساء من أجل المساواة في الحقوق لعامّة روسيا» المنادية بحقّ الاقتراع العام للنساء (وهذه أكبر منظّمات روسيا النسائيّة قبل الثورة، وقريبة من حزب الدستوريّين الديمقراطيّين، الكاديت). رفض حزب بوكروفسكايا حصر مَطالبه بقضايا المرأة فقط، لكنّه اعتبر في الوقت نفسه أنّ التعاون مع الرجال، في منظّماتٍ مشتركةٍ، حزبيّة أو نقابيّة، من أجل تحصيل حقوق النساء، سيكون دائماً لمصلحة الرجال لا النساء٣. وعندما تمكّن، مثلاً، الجناح البلشفيّ من «حزب العمّال الاشتراكي الديمقراطي الروسيّ» من الحصول على إذن السلطات في يوم المرأة العالميّ لعام ١٩١٤، لتنظيم لقاءٍ محدودٍ في سانت بطرسبرغ، تحسّرت بوكروفسكايا، «كما توقّعنا، فإنّ اليوم العالميّ للمرأة لم يحتجّ قطّ على تبعيّة النساء لأزواجهنّ، بل تَركّز الحديث فيه على استعباد رأس المال لنساء البروليتاريا، ولم يتطرقوا إلى التبعيّة المنزليّة إلّا عرضاً»٤. بوكروفسكايا المنفصلة «جندريّاً» عن النّضال «الاقتصاديّ»، هي نفسها بوكروفسكايا التي تحمّست لدخول روسيا في الحرب ضدّ ألمانيا بعد ذلك بأشهرٍ قليلة، معتبرةً أنّ الحرب، وما تفترضه من تضحيات من قبل المرأة، هي السبيل كي تحقّق المرأة التقدّميّة ذاتها. وفي فترة صدور «رابوتنيتسا» بالتحديد، كانت «الانفصاليّة النسويّة» التي تمثّلها بوكروفسكايا، في طليعة المؤيّدين لقرار الحكومة المؤقّتة الاستمرار في الحرب العالميّة، جنباً إلى جنب، مع كوكبة من «بطلات» الاشتراكيّة الثوريّة، آنا فيغنير، ويكاترينا بريشكو بريشكوفسكايا، وآنا ياكيموفا، والمنشفيّة فيرا زاسوليتش، اللواتي تحوّلن إلى دعم حكومة الأمير جيورجي لفوف المستمرّة في الحرب، وذلك تحت شعار أنّ حرب القيصر نقولا الثاني قد صارتْ بعد إسقاطه، حرب الدفاع عن الثورة الروسيّة ضدّ الإمبرياليّة العسكريّة الألمانيّة.
كما أنّ العدد الأوّل لجريدة «رابوتنيتسا» في أيّار/ مايو ١٩١٧ كان بالأحرى استئنافاً للجريدة التي صدر أوّل عدد منها في٢٣ شباط / فبراير١٩١٤، في يوم المرأة العالميّ. من جملة النّقاط المهمّة لكتاب المؤرّخ والمناضل التروتسكيّ الفرنسيّ جان جاك ماري «النساء في الثورة الروسيّة» الصادر في أيلول / سبتمبر٢٠١٧ عن دار سوي، إيضاحُه أنّ إنييسا آرمان هي التي طرحتْ في الأساس فكرة هذه الجريدة، وأن ناديجدا كروبسكايا فرضتْ هذه الفكرة على لينين الذي كان قليل الحماسة لها، بل متحفظاً، ولم يساهم في أيٍّ من الأعداد السبعة التي صدرتْ منها خلال أعوام الحرب٥.
بين ألكسندرا كولونتاي وكلارا تستكين
في الموازاة، تصدّتْ قياديّةٌ بلشفيّة مثل ألكسندرا كولونتاي، باكراً لما اعتبرتْه إهمالاً من جانب حزبها لقضيّة نساء الطبقة العاملة، لكنّها رفضتْ في الوقت نفسه مقولة «الحركة النسويّة». فلم تضيّعْ كولونتاي مجهودها النظريّ في «الأسس الاجتماعيّة لمسألة المرأة»٦ (١٩٠٩) في إطار بلوَرة «نسويّة ثوريّة» بالضدّ من «النسويّة البرجوازيّة»، بل وضعت النسويّة بالمطلق في خانة البرجوازيّة، واعتبرتْ أنّ «تحرير النساء البروليتاريّات لا يمكن أن يكون قضيّةً مشتركةً للنّساء من كلّ الطبقات، بل هو فقط المجهود الشامل لكلّ البروليتاريا من دون تمييز بين الجنسين». صدر كرّاس كولونتاي هذا في الفترة نفسها تقريباً التي كتبت فيها كلارا تستكين «حركة النّساء الاشتراكيّات الألمانيّات»٧. المقالة الأخيرة جمعتْ بين التشديد، بالضدّ من حركة حقوق النساء البرجوازيّة، على أولويّة التناقضات الطبقيّة على التناقضات الاجتماعيّة بين الجنسين، وبين التشديد على أنّ نضال الاشتراكيّات الألمانيّات من أجل الظفر بحقّ الاقتراع للنساء أقوى بكثير ممّا تقوم به المنادياتُ بحقوق المرأة حصراً، وتحديداً لأنّ هذا الاقتراع ليس هدفاً في ذاته، بل هو بالنسبة إليهنّ، سلاح مسخّر لبلوغ مرامي الاشتراكيّة.
الفارق بين تستكين وكولونتاي هنا، أنّ الأولى تقيم المفاضلة بين حركة حقوق النساء في حدودها البرجوازيّة، وبين النسوة الاشتراكيّات، فتوجِد حيّزاً قائماً بذاته للأخيرات في إطار الحركة الاشتراكيّة، في حين أنّ كولونتاي لا ترمي لإعطاء كيانيّة بذاتها للنساء الاشتراكيّات، بل تفصح عن مشكلتها مع «النسويّة» بحدّ ذاتها، وتقول «تَرى النسويّات الرجال كعدوّ مشتركٍ لهنّ، أمّا النّساء البروليتاريّات فلهنّ موقفٌ مختلف. لا تنظر النساء البروليتاريّات إلى الرجال كأعداء ومضطهِدين لهنّ، بل هم رفاقٌ وشركاء في الكدح اليوميّ وفي الكفاح من أجل مستقبلٍ أفضل. يستعبد المرأةَ ورفيقُها الرجل من قبْل الظروف الاجتماعيّة نفسها». مع هذا، تشدّد كولونتاي على أنّ النسوة العاملات يَنؤْنَ تحت أعباء مضاعفة. ويبدو لنا هنا أنّ انتقاد روزاليند مارش لألكسندرا كولونتاي في محلّه، فالأخيرة تميل إلى دمج ميتافيزيقيّ نوعاً ما، بين «المرأة الاشتراكيّة» وبين «المرأة البروليتاريّة»، كما أنّ رفضها إعطاء أيّ صكٍّ للحركة النسويّة بحدّ ذاتها يصطدم بمآل التجربة البلشفيّة نفسها، كما أنّ إعادة اكتشاف إرث كولونتاي، سواءٌ في الغرب أو في الاتّحاد السوفياتيّ، ارتبط بموجة تجذيرٍ للفكر النسويّ. يبقى أنّه، في نهاية الأمر، ومهما يكن التّحفّظ اليوم على موقف كولونتاي السلبيّ من «النسويّة» بعامّة، إلّا أنّه أقلّ ما يُقال هنا أنّه كان موقفاً مبَلوَراً نظريّاً، ومن التعسّف اختزاله إلى تفويض الصوت للرجل حفاظاً على وحدة خطّ الطبقة العاملة، كما يحتسب ستينبرغ، حين يتناول قصيدة الجنديّ أندرييف في «الرابوتنيتسا».
٢ زوجات الجنود وعاملات النسيج
يصحّ في المقابل حديث ستينبرغ عن مفاجأة الحزبيّين الاشتراكيّين بدور النساء في ثورة شباط، ويصحّ أقلّ توصيفه لنظرة هؤلاء إلى المرأة الروسيّة على أنّها، سياسيّاً، أكثر تخلّفاً من الرجل على وجه العموم، وغير مجرّبة، وخجولة، ولا بدّ من الإيضاح هنا أنّه بالنسبة إلى ستينبرغ حدث تحوّل مطلع القرن العشرين من نظرةٍ مثاليّةٍ للريف في معترك الثوريّين الروس إلى نظريّةٍ سلبيّةٍ تربطه بالرجعيّة والتخلّف ووقوفه مع القيصر، وتنظر على هذا النحو للمرأة الريفيّة الـمسمّاة في الروسيّة الـ«بابا».
بعد أسبوع من اندلاع ثورة شباط، أخذتْ جريدة «البرافدا» البلشفيّة تمتدح النساء لكونهنّ السبّاقات إلى الشارع في «يوم المرأة العالميّ»، ولدورهنّ في ثَنْي الجنود عن إطلاق الرصاص، ولم تذكر «البرافدا»، كما يشير ستينبرغ، إلى أنّ كوادر الحزب في منطقة فيبورغ طلبوا من العاملات عدم التظاهر والالتزام بالانضباط، وأنّ حركة النساء في الشارع في اليوم التالي لم تقتصر على محاولة ثنْي الجنود عن إطلاق النّار، بل كانت بينهنّ السبّاقاتُ إلى تنظيم الهجمات على مراكز الشرطة وإضرام النيران فيها. مع هذا، فإنّ إقامة التعارض هنا بين «عفويّة جماهير» نسائيّة وبين «كوادر سراطية» ليس في محلّه، إذ كما يوضّح المؤرّخ ستيفن سميث، حتى لو كانت هذه الكوادر قد طالبتْ عاملات مصانع النسيج في منطقة فيبورغ بالانضباط والتقيّد بقرارات الحزب، فإنّ هذه الكوادر نفسها هي التي ضخّت في الساعات التالية «عنصراً سياسيّاً» أخذ التّظاهرات في الاتّجاه التصعيدي٨.
يستعيد جان جاك ماري كيف أنّ الكادر الحزبيّ البلشفيّ فيكتور كايروف طلب من عاملات مصانع النسيج في فيبورغ عدم الخروج إلى الشارع في يوم المرأة العالميّ. كانت المنظّمات الحزبيّة في العاصمة في حالةٍ من الضعف في تلك الفترة جرّاء نجاح الشرطة السرّيّة «الأوخرانا» بتوقيف عدد كبيرٍ من الكوادر في أعوام الحرب، وبسبب إرسال عددٍ كبير من الشباب إلى الجبهة. بالتوازي، كانت الأحزاب الاشتراكيّة الثلاثة، البلاشفة والمناشفة والاشتراكيّون الثوريّون، تنظر إلى معامل النسيج على أنّها الأقلّ تطوّراً في سلّم الصناعات، ويختلط ذلك بموقف ذكوريّ بلا ريب ما دامت أكثريّة اليد العاملة في هذه المعامل من النساء. مع ذلك، وفي هذه المعامل تحديداً، بقيَت حيّة ذاكرةُ الإضرابات العمّاليّة الكثيفة التي شهدتْها روسيا في السنتين السابقتين على اندلاع الحرب، وبالأخصّ إضراب منطقة فيبورغ نفسها في أيلول / سبتمبر١٩١٣. كما تضاعفتْ نسبة النساء، ما بين اندلاع الحرب وبداية العام ١٩١٧، لتُقارب نصف اليد العاملة الصناعيّة: فمع الحرب واستمرار ضخّ الشبّان إلى الجبهة، عملت النساء في قطاعات لم تكن متاحة لهنّ من قبل، مثل الترامواي والقطار والحراسة والعتالة والعمل في الموانئ وورش البناء والبريد، وإلى حدّ كبير كانت الأجور هي الأضعف في القطاعات التي توظّف نسبةً عاليةً من النساء، كما في حال معامل النسيج والغذاء والكاوتشوك، في حين كان للعامل الرجل ضعف ما للمرأة في معامل الجلد والأحذية والصابون. وبما أنّ المرأة العاملة في قطاعات الإنتاج هذه هي أيضاً امرأة عاملة في الإطار المنزليّ، وجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ أزمات التموين تصيب النّساء قبل الرجال. لم تكن الكوادر الحزبيّة الاشتراكيّة تتوقّع انفجاراً اجتماعيّاً جماهيريّاً في شباط / فبراير١٩١٧، مع أنّ تقارير الشرطة في بتروغراد كانت تحذّر منه بالفعل قبل أسابيع قليلة من حصوله، وفي وقت كان السفير البريطاني يراسل حكومته محذّراً من أنّ انفجاراً للأوضاع بات وشيكاً في روسيا، لكنّه لا يستطيع أن يحدّد إذا كان انفجاراً من فوق، أم من تحت.
كتب فيكتور كايوروف بالتفصيل، عام ١٩٢٣، وقائع تلك الساعات. طلب من العاملات التوقّف عن أيّ دعوة مباشرة إلى التظاهر والإضراب، وانتظار توجيهات الحزب، وأنّه كان من جملة الذين يعتقدون بأنّه ليس هناك ظرف مؤاتٍ للتحرّك، اذ «ليس هناك من سبب سوى طوابير الخبز»، وأنّ موقف الحزبيّين تبدّل بعدما خرجت العاملات إلى الشارع، وبتنسيق ثلاثيّ بين الأحزاب الاشتراكيّة في منطقة فيبورغ، حيث أخذت الكوادر المحلّيّة تطالب الهيئات الحزبيّة الأعلى بالاستجابة لهذا الضغط القاعديّ العمّالي النسائي. ما حدث أنّ القطاع «الأكثر تأخّراً» من الطبقة العاملة، عاملات النسيج، كان القطاع الأكثر تأثّراً بأزمة التموين، والأقلّ تقيّداً بالانضباط الحزبيّ، وأثمر ذلك رغبة في إحياءٍ نضاليّ عند أولئك العاملات لإحياء يوم المرأة العالميّ في الشارع. حتى العام ١٩٢٣، كان لا يزال ممكناً رؤية الأمور على هذا النّحو في الاتّحاد السوفياتيّ بلا مشكلة. وكلّما اقتربنا من الثلاثينيّات صارت الأمور مقيّدة بالسرديّة الرسميّة التي تقلب الوقائع، ومعها يصير الناشطون الحزبيّون هم الذين جالوا على عنابر العاملات في فيبورغ، ودفعوا بهنّ إلى التظاهر والإضراب، ولبّتْ تسعون ألف امرأة النداء. لم يعد مسموحاً للكادر أن يدخل في لعبة تأثّر وتأثير مع عاملات النسيج، بل صار «الكادر يقرّر كلّ شيء» وفقاً للمقولة الستالينيّة.
وبالعودة إلى ليون تروتسكي في «تاريخ الثورة الروسيّة» نجده يشدّد على أنّ «عناصر القاعدة التي تجاوزتْ منظّماتها الثوريّة المعترضة، هي التي فجّرت ثورة شباط / فبراير، وأنّ المبادرة أُتتْ عفويّاً من قسم من البروليتاريا الأكثر عرضةً للاستغلال والاضطهاد من سواه، عاملات النسيج، وينبغي أن نحصي من جملتهنّ عدداً غير قليل من نساء الجنود»٩. تروتسكي الذي كان في منفاه النيويوركيّ لحظة اندلاع هذه الأحداث، يَذكر إرسال عاملات النسيج، في صبيحة يوم المرأة العالميّ، مندوباتٍ إلى عمّال التعدين.
كان «الخبز» هو الشعار الأساسيّ لليوم الأوّل من الثورة الروسيّة. الطابع النسائيّ الغالب على حشود التسعين ألف نسمة التي أضربتْ وتظاهرتْ في ذلك اليوم، ممتزجاً بشعار الخبز، كان له، مع ذلك، أثرٌ سيئٌ في «يوميّات» الشاعرة زيناييدا غيبيوس، رائدة «المدرسة الرمزيّة» في الفنّ الروسيّ، والتي عُرفت بانحيازها إلى ثورة ١٩٠٥ ومعارضتها لدخول روسيا حرب الـ١٩١٤. اعتبرت زيناييدا هذه التظاهرات شبيهة بما كان يحدث في تلك الفترة من قلاقل على خلفيّة الجوع في ألمانيا، وكتبتْ، هي التي لم تشارك في هذا اليوم، بل راقبتْه من النافذة كما يسجّل ماري، «كان احتجاجنا هذا بلا كرامة، وخضوعنا من بعده سيكون أيضاً من دون كرامة». لكنّ المشهد كبُر في اليوم التالي، حيث شارك أكثر من نصف العمّال الصناعيّين في بتروغراد في إضراب وتظاهرات ٢٤ شباط، وتصاعدتْ حدّة المواجهات الدامية، وتطوّر الشعار إلى «إسقاط الأوتقراطيّة»، ومع ذلك وصفت الجماهير بأنّها «حشدٌ من الصعاليك والبنات»، وبأنّ روسيا ليست ألمانيا كي تشهد «انتفاضة سيّدات».
ما أشاحت زيناييدا عينيها عنه هنا، لم يعتنِ به جان جاك ماري في عرضه هو أيضاً، فعلى الرّغم من ملاحظة تروتسكي أنّ من عاملات النسيج عدداً كبيراً من نساء الجنود، لم يطرق ماري هذا الباب. نساء وأرامل الجنود، أو «السولداتكي»، ويقدّر عدَدُهنّ بنحو ١٤ مليوناً وقت اندلاع الثورة، شكّلْن كتلة احتجاجيّة حقيقيّة طيلة فترة الحرب العالمية الأولى في روسيا، إذ لم تنقطع يوماً طيلة أعوام الحرب موجات احتجاجات الخبز، ونهب المخازن والمستودعات من جانب الـ«سولداتكي». ٢٨٨ هجمة جماعيّة في العام ١٩١٦ وحدَه، وقد أخذت احتجاجات «السولداتكي» تلك مسار التنديد التصاعديّ باستمرار الحرب نفسها١٠.
٣ من حقّ التصويت للمرأة إلى «لواء الموت النسائيّ»
ما حدث في شباط / فبراير - آذار / مارس١٩١٧، أنّ «انتفاضة من تحت» بدأتْ بين عاملات النسيج و«السولداتكي» ثمّ توسّعت لتشمل الطبقة العاملة الصناعيّة والبحّارة لتنحازَ لها الحامية العسكريّة، تقاطعتْ مع «حركةٍ ضاغطةٍ من فوق»، بادرتْ فيها المعارضة الليبراليّة، من أكتوبريّي نوكاديت، بتشكيل «لجنة دوما الدولة» برئاسة الأكتوبريّ ميخائيل رودزيانكو، وأقنعت فيها اللجنة قيادة أركان الجيش «الستافكا» بالضغط على القيصر نقولا الثاني للتنحّي. لم يكن مطروحاً بالنسبة إلى هذه الحركة الضاغطة من فوق إلغاء المَلَكيّة في لحظتها، لكنّ موافقة القيصر السريعة على التنحّي، مع عدم التقيّد بقانون توارث العرش في الأعقاب، المعمول به منذ بولس الأوّل، والذي بموجبه ينتقل العرش إلى ابنه المريض ألكسي، وإصراره على تطبيق فكرته عن الأوتقراطيّة اللامحدودة لصاحب السيادة لآخر لحظة ممكنة، من خلال نقل العرش إلى أخيه الأرشيدوق ميخائيل، هو الذي تسبب «تقنيّاً» بانتهاء حكم سلالة آل رومانوف، فميخائيل اعتذر عن قبول ذلك ما لم ينل مصادقة جمعيّة منتخَبة.
حكم هذا التقاطع بين «انتفاضةٍ من تحت» والنخَب الليبراليّة والقيادة العسكريّة من فَوق، على عام الثورة الروسيّة بالتباسٍ سيزداد تفاقماً، ولن يجد حسماً له إلّا مع استيلاء البلاشفة على السلطة ونجاحهم في الاحتفاظ بها. وهكذا ستتجاور في جناحَين من قصر طوريد طوال أشهر، سلطتان، واحدة تمثّل «ثورة النّخَب»، وهي الحكومة المؤقّتة، وثانية تمثّل «ثورة النّاس»، من خلال «سوفيات مندوبي العمّال والجنود». بين لحظة وضُحاها، أخذ الجميع يُطْنب في امتداح الثورة الحاصلة، بمن في ذلك قادة الكنيسة الأرثوذكسيّة، وفي الوقت نفسه الذي اتّفقت فيه الحكومة المؤقّتة بقيادة الأمير لفوف مع اللجنة التنفيذيّة للسوفيات برئاسة الاشتراكيّ الديمقراطيّ المنشفيّ نيقولا تشخيدزه على التعاون، وكان من الطبيعيّ أن يلعب المحامي ألكسندر كرنسكي دوراً محوريّاً في تلك الفترة، بحكم كونه صلةَ الوصل بين الحكومة المؤقّتة التي شغل فيها في البدء منصب وزير العدل، وبين تنفيذيّة السوفيات التي كان عضواً فيها. بهذا التعاون، جرى تأجيل البتّ في طبيعة نظام ما بعد الثورة إلى حين قيام جمعيّة تأسيسيّة منتخَبة، وهذه ظلّ موعدُ انتخابها يتأجّل، ولم يحصل إلّا في نهاية العام ١٩١٧، ومباشرةً بعد إطاحة البلاشفة بالحكومة المؤقّتة، ثمّ تفريقهم الاجتماعَ الأوّل للجمعيّة التأسيسيّة التي لم تَرُق لهم تركيبتُها، في انعطافةٍ حادّة باتّجاه منطق الحرب الأهليّة.
ثمّة مفارقتان تأسيسيّتان في بداية عمل كلٍّ من سوفيات بتروغراد والحكومة المؤقّتة.
دمقرطة الجيش وحقّ التصويت للنّساء
فيما يتعلّق بالسوفيات. تلاحظ المؤرّخة الأستراليّة شيلا فيتزباتريك أنّ السوفيات، ومباشرةً قبل انتخاب قيادته التنفيذيّة التي سيطر عليها المناشفة، كان قد أقرّ نصّاً ثوريّاً للغاية، هو «القرار رقم ١» الذي ينصّ على دمقرطة الجيش من خلال جمعيّات منتخَبة للجنود، وتخفيض سلطة الضبّاط، وإقرار مرجعيّة السوفيات حول كلّ الأسئلة المتعلّقة بالقوّات المسلّحة، ورهن أيّ قرارٍ حربيّ للحكومة بتوقيع السوفيات أيضاً١١. تقول فيتزباتريك إنّ اللجنة التنفيذيّة للسوفيات التي هيمن عليها الاشتراكيّون المؤيّدون للتّعاون مع الحكومة المؤقّتة، ثمّ المشاركون بعد ذلك بأشهرٍ قليلة في هذه الحكومة، حاولت المستطاع للتنصّل من «القرار رقم ١»، إلّا أنّ هذا القرار أسّس لافتراقٍ كبير، بين الضبّاط الذين باتتْ مرجعيّتهم هي الحكومة المؤقّتة، والجنود وبحّارة الأسطول الذين باتتْ مرجعيّتهم هي السوفيتّات ولجانهم المنتخَبة، وفي حين اتخذت اللجنة التنفيذيّة للسوفيات موقفاً «دفاعيّاً» تجاه استمرار الحرب، أي تسويغ استمرارها طالما الأراضي الروسيّة عرضة للهجوم، فإنّ «السوفيات من تحت»، صارتْ تميل أكثر فأكثر إلى الموقف الداعي لوقْف الحرب بكلّ بساطة.
أمّا المفارقة الثانية فيُظهرُها جان جاك ماري عند تناوله مسألة منح الحكومة المؤقّتة حقّ التصويت للمرأة.
ففي ١٩آذار / مارس١٩١٧، وبمبادرة من رابطة النساء من أجل المساواة في الحقوق، ستتوجّه أربعون ألف امرأة، محاطات بمواكب من مليشيا النساء على الأحصنة، إلى قصر طوريد، مقرّ الدّوما، وكلّ من السوفيات والحكومة المؤقّتة، تحت شعار «مكان النساء هو في الجمعيّة التأسيسيّة»، وبعدما كان كلٌّ من الحكومة والسوفيات قد سبق لهما أن اعتبرا أن حقّ اقتراع المرأة ليس مسألةً ملحّةً ولا راهنة.
في حين يصف ستيفان سميث هذا اليوم بأنّه «لحظة نادرة كان فيها الجندر وليس الطبقة هو محور التعبئة»١٢، ونجد ستينبرغ يركّز على المخاوف التي انتابت اليسار بالتحديد من أن يرتدّ منْحُ الاقتراع للنساء في ظروف روسيا الاجتماعيّة والثقافيّة لمصلحة الرجعيّة، نجد ماري يلتقط نوعاً من المقايضة بين الحركة النسويّة الروسيّة والحكومة المؤقّتة: منح الحقوق السياسيّة للمرأة في مقابل إسهام النخب النسائيّة في دعم قرار الاستمرار بالحرب. بالأجندة القوميّة، وتحت شعار استمرار الحرب، جرى انتزاع حقّ التصويت للمرأة، ولو أنّ الموقف «الحربيّ» للنساء اللواتي دخلْن إلى قاعة دوما الدولة، تتقدّمهنّ «البطلات الثوريّات» مثل بريشكو - بريشكوفسكايا وفيرا فيغني، كان مختلفاً عن قسمٍ من النساء في محيط القصر، المعارضات للحرب١٣. تلاقتْ كلٌّ من «البطلات الثوريّات» لعهد الإرهاب ضدّ النظام القيصريّ والحركة النسويّة البرجوازيّة على هذه المقايضة «الحقوق السياسيّة في مقابل دعم الحرب». وفي هذا الإطار، ستولدُ تجربة «الألوية النسائيّة» في ربيع ١٩١٧، التي شكّلتْها الحكومة المؤقّتة لإعادة ضخّ الحيويّة على الجبهة، حيث تطوّعت النسوة بالذّهاب إلى الجبهة وإعادة تذكير الرجال بواجباتهم الوطنيّة، وستبرز خصوصاً ظاهرة الفلّاحة المتطوّعة ماريا بوتشكاريفا، التي شكّلت في أيار / مايو من ذلك العام - أي في وقت كانت فيه وزارة الحرب في عهدة كرنسكي - «لواء الموت النسائيّ» في بتروغراد. وفي نهاية المطاف، لن يجد كرنسكي سوى «اللواء النسائيّ» للمرابطة أمام قصر الشتاء عشيّة الهجوم البلشفيّ للإطاحة به في ٢٥ تشرين الثاني / نوفمبر. في المقابل، شكّلت زوجاتُ وأراملُ الجنود «السولداتكي»، الكتلة الاجتماعيّة الأساسيّة في الحركة الشعبيّة المناهضة لاستمرار الحرب، وتقاطعتْ أكثر فأكثر مع المسار الذي سيسلكه الحزب البلشفيّ، خصوصاً بعد عودة لينين والمنفيّين.
٤ تركة القياديّات البلشفيّات
في كتابها «السياسات والشعب في روسيا الثوريّة» تشدّد سارة بادكوك على أنّه، وفي مقابل أهميّة دور «السولداتكي»، بقيت المرأة غائبةً عن كلّ درجات الإدارة في البيروقراطيّة المرتبطة بالحكومة المؤقّتة، ونسوة قليلات انتُخبن مندوباتٍ لسوفيات بتروغراد، وتذهب بادكوك إلى أنّه من منظار سائر المناطق، كان هناك ميل لاختزال حضور المرأة في الهيئات عموماً حين تشارك كمندوبة عن المدرّسين١٤. أمّا ستيفن سميث، فيعتبر أنّ ثقافة اليسار الاشتراكيّ الروسيّ بقيتْ ثقافةً يهيمن عليها الرجل، رغم الهالة التي اكتسبتْها فيه البطلات الثوريّات، وخصوصاً الإرهابيّات النارودنيّات والاشتراكيّات الثوريّة مثل فيرا فيغنير ويكاترينا بريشكو - بريشكوفسكايا، وخصوصاً ماريّا سبيريدونوفا، لكنّ سميث يضعنا أمام مفارقةٍ تستأهل متابعةَ البحث والتفكير: في إحالة على مقالة لبيت فيزلر عن «تشكّل المرأة الاشتراكيّة - الديمقراطيّة الروسيّة»، يعتبر أنّ النّساء داخل حزب العمّال الاشتراكيّ الديمقراطيّ الروسيّ، بجناحَيه البلشفيّ والمنشفيّ، كنّ في العهد القيصريّ أوسع مشاركةً في أطرهنّ الحزبيّة بالمدن ممّا كان للنساء في «الحزب الاشتراكيّ الثوريّ» المنبثق عن الحركة الشعبيّة، والحزب الجماهيريّ الأكبر في روسيا عام ١٩١٧، والأكثر تجذّراً في الأرياف، مع نسبةٍ لا بأس بها بين العمّال أيضاً. ويتابع سميث أنّ هذا الدور المهمّ للنساء الاشتراكيّات - الديمقراطيّات، في الجناحين، والذي لعب دوراً مهمّاً بعد ثورة شباط، سيتراجع ما أن يبدأ القادة القدماء للحزب، الرجال في أعمّهم الغالب، بالعودة من المنافي.
يخالف جان جاك ماري هذه الوجهة، مركّزاً على الوجوه القياديّة النسائيّة البلشفيّة العائدة إلى روسيا في آذار / مارس ونيسان / أبريل، مثل ألكسندرا كولونتاي وإيلينا ستاسوفا وإنييسا آرمان وناديجدا كروبسكايا، والمشاركات في المنعطف المحوريّ للكونفرنس السابع للحزب الذي سيتبنّى «موضوعات نيسان» اللينينيّة، ويدشّن بالتالي العدّ العكسيّ لتقويض الحكومة المؤقّتة واستيلاء البلاشفة على السلطة. يذكر ماري أنّه، على هامش هذا الكونفرنس، حاولتْ كولونتاي أن تجمع بعض المندوبات لدعم اقتراحها انشاء أقسام نسائيّة في منظّمات الحزب، وهو اقتراح تصرّفت معه آرمان بلامبالاة، فالأخيرة فضّلت تكريس جهدها للنّشاط الحزبيّ العامّ١٥، وأيّاً يكن من شيء فإنّه في فترة ما بعد إقرار «موضوعات نيسان» تكثّف جهد القياديّات البلشفيّات، على ما يوجزه جيوفري سوين على كلٍّ من «السولداتكي»، زوجات الجنود، وعاملات المصابغ والمغاسل، وكان الداعي المباشرة لإعادة إصدار «رابوتنيتسا» هو إضرابٌ لنقابة هذه العاملات. عدم تمكّن كولونتاي من إقناع الحزب، ولا سيّما رفيقاتها، بفكرتها حول المكاتب النسائيّة، ترافَقَ في نفس تلك الفترة مع صعود شعبيّتها بين الأوساط العمّاليّة، وقد زادتْ بعد اعتقالها إثر «أيّام تمّوز» إلى أن أطلق سراحها أواخر آب / أغسطس، مباشرة بعد فشل محاولة الجنرال كورنيلوف تطويق حكومة كرنسكي من اليمين، الأمر الذي فتح المجال لتقويضها من جهة البلاشفة بعد ذلك بشهرين، واستبدالها بمجلس مفوّضي الشعب الذي حلّت فيه كولونتاي، كمفوّضة الشعب للشؤون الاجتماعيّة، وبالتالي كأوّل وزيرة في العالم.
إجراءات البلاشفة الديمقراطيّة
يركّز ماري على ما اتّخذه البلاشفة من إجراءات «ديمقراطيّة» لم تكن الحكومة المؤقّتة المهمومة بمتابعة الحرب والحفاظ على النّظام الاجتماعيّ القائم لتضعها أمام أعينها، ومن جملتها فصل الكنيسة والدولة، والكنيسة والمدرسة، وسنّ قانون أحوالٍ شخصيّة مدنيّ، وتأميم المصارف، وإنشاء مصرف مركزيّ للدولة، وكذلك، تحت ضغط كولونتاي وآرمان ومثيلاتهما، الخطو باتّجاه تشكيل شبكةٍ عموميّة من حضانات ورياض الأطفال والسعي إلى تحرير المرأة من إرهاق العمل المنزليّ، والغاء كلّ تمييز في القانون بين أطفال يولَدون داخل مؤسّسة الزواج أو خارجا١٦، وإعلان عدم تدخّل الدّولة والمجتمع في العلاقات الجنسيّة بين الأفراد إلّا في حالات التعنيف والقسْر، وإلغاء عقوبة السجن للمثليّين، ولغاية إلغاء تجريم الإجهاض في ١٨ تشرين الثاني / نوفمبر١٩٢١.
ينبّهنا ماري مع ذلك إلى أنّ الذين أقرّوا هذه الإجراءات الطليعيّة لم يكونوا في البداية مقتنعين بأنّها اعتُمدتْ لتبقى، وأنّ كولونتاي مثلاً كانت تثمّن قرارات الحكومة الثوريّة على أنّها شهادة للبروليتاريا العالميّة في المستقبل، فممّا أسرّتْ به لجاك سادول، من اللجنة العسكريّة الفرنسيّة، والمنبهر بجمال وجاذبية أوّل وزيرة في العالم، أنّ البلاشفة سيُهزمون بلا ريب، لكنْ يوهم نفسه في الغرب مَن يعتقد أنّ هزيمة الثورة الروسيّة تعني هزيمة الاشتراكيّة العالميّة١٧.
الطريف هنا هو التزامن بين تقديم كولونتاي في ٣ تشرين الثاني / نوفمبر١٩١٧ مشروع الزواج المدنيّ إلى مجلس مفوّضي الشعب وبين إلقاء الكنيسة الأرثوذكسيّة الحرَم عليها، ليس لتهمة تجديف لاهوتيّ كما كانت الحال يوم ألقيَ الحرَم على ليون تولستوي في شباط / فبراير ١٩٠١، بل لأنّه جرى، بإيعاز من كولونتاي، وبمساعدة الحرس الأحمر، احتلال دير ألكسندر نيفسكي وطرد الرهبان منه وتحويله إلى بيت معوّقي الحرب. الحرَم على أوّل وزيرة في العالم الحديث كان إيذاناً من الكنيسة بالتصعيد. أرسلَت الكنيسة التي انتقلت في غضون أشهر من مكافحة البلشفيّة داخل الإكليروس إلى الترويج داخلها للقناعة بأنّ حكم البلاشفة سينهار في غضون أسابيع، لائحةً من ٢٤ بنداً للسوفناركوم، تنصّ على الاعتماد الرسميّ لروزنامة الكنيسة، وانسجام التعليم المدرسيّ مع روح الكنيسة، وتأمين الحاجات الروحيّة لأعضاء الكنيسة في الجيش والأسطول، وتخصيص الدولة ميزانيّةً من المال للكنيسة، وحصر الزواج وإبطاله بالكنيسة. بديهيّ أنّ السوفناركوم لم يأخذ بأيٍّ من هذه البنود، بل إنّه بعد أيّام من انضمام الاشتراكيّين - الثوريّين الثلاثة إلى السونفاركوم في ١١ كانون الأوّل / ديسمبر، استصدر مرسوم «نقل ملفّ التعليم وتكوين المعاهد الكنسيّة إلى إدارة مفوّضيّة الشعب للتعليم». تأزّمت الأمور أكثر، وسارع بطريرك موسكو تيخون (فاسيليبيلافين) إلى اعتبار البلاشفة مجانين، وأنّ عملهم شيطانيّ، ومنع المؤمنين تحت طائلة إنزال الحرَم من التعاون معهم. المفارَقة هنا أنّ بطريركيّة موسكو كان قد ألغاها بطرس الأكبر قبل ثلاث قرون، عام ١٧٢١، ولم تُحيِها الكنيسة إلّا في ٢٨ تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٧ (١٠ تشرين الثاني / نوفمبر بالتقويم الغريغوريّ)، أي بعد بضعة أيّام على استيلاء البلاشفة على السلطة.
اللافت في المقابل، أنّ مرسوم الزواج المدنيّ الذي أقرّه السوفناركوم يرفع سنّ الزواج إلى ١٨ سنة للذكور و١٦ سنة للإناث، لكنّه يلحظ أنّه بالنسبة إلى سكّان البلاد العابرة للقوقاز، تخفّض السنّ القانونيّة إلى ١٦ سنة للذكور و١٣ سنة للإناث، وبالتالي لم يستجب المرسوم لمطلب السيّدات المسلمات في مؤتمر المسلمين بموسكو، أيّار / مايو ١٩١٧، منع زواج الفتيات ما دون الـ١٦ عاماً.
التصدّع في الموقف من الحرب والسلام
وبالعودة إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة،يربط جان جاك ماري توقيت تعبئتها ضدّ الزواج المدنيّ بأزمة مفاوضات الصلح في «بريست ليتوفسك»، وانقسام الحزب البلشفيّ تحديداً بين تيّار كان عمليّاً أقلويّاً، يقوده لينين، يطالب بتوقيع الصلح في أسرع وقت وبأيّ ثمَن، وبين أنصار «الحرب الثورّية». يشدّد ماري على أنّ قائدات العمل النسائيّ، ألكسندرا كولونتاي وإنييسا آرمان وفارفارايا كوفليفا وإيفعينيا بوش، كنّ في مواجهة مع لينين في تلك الفترة، ويرَيْنَ أنّ توقيع السلام الإملائيّ المرهق هو خيانة للثورة العمّاليّة، التي هي مبرّر الثورة الروسيّة نفسها. في تلك الفترة كان الحزب على حافّة الانشقاق، واللجنة المناطقيّة لموسكو لم تعد تسمع للّجنة المركزيّة، بل تشكّل مجلس مفوّضي شعب مستقلّ لولاية موسكو، ضمّ مفوّض شعْب للشؤون الخارجيّة، الأمر الذي علّق عليه لينين بسخرية مرّة وهو يسأل إن كان «الموسكو» من الآن فصاعداً سيقيمون علاقاتٍ دبلوماسيّة مع تفير ونوفغورو دوبسكوفوريازان، «وقد باشرنا هكذا العودة ستمئة سنة إلى الوراء». لقد استمرّت هذه الحكومة الإقليميّة الموازية، واليسارويّة، حتى ٩ حزيران / يونيو ١٩١٨. لم يخرج الحزب البلشفي من أزمته الداخليّة الحادّة بعد «برستليتوفسك» إلّا في مرحلةٍ بات يشتد فيها عليه الخنّاق، من أخصامه الاشتراكيّين الثوريّين اليمينيّين (تمرّد «جمعيّة الدفاع عن الوطن الأمّ والحرّيّة» بقيادة سافينكوف)، ثمّ حلفاء البلاشفة بعد تشرين الأوّل / أكتوبر، الاشتراكيّين الثوريّين اليساريّين وصولاً إلى انتفاضتهم ٦ - ٧ تموز / يوليو في موسكو، والتي لعبتْ فيها ماريا سبيريدونوفا دوراً بارزاً. الجناح اليمينيّ للحزب الاشتراكيّ الثوريّ وضع نفسه في خانة «الثورة المضادّة» في مواجهة البلاشفة، والجناح اليساريّ للحزب وضع البلاشفة أنفسهم في خانة «الثورة المضادّة». في مواجهة هذين الجناحَين، استعاد الحزب البلشفيّ وحْدته، واليوم هناك شبه إجماع عند المؤرّخين، من مختلف المواقع، على أنّ الحزب البلشفيّ لم يكن في الأعوام ١٩١٧ - ١٩١٨ يشبه نموذج الحزب المركزيّ الهرَميّ الذي رسم لينين صورته في «ما العمل؟» (١٩٠٢).
ولعلّ من النواقص في شغل جان جاك ماري إهمال الحالة التي شكّلتها ماريا سبيريدونوفا في مرحلة وقوفها ضدّ البلاشفة، خصوصاً يوم بدت الأمور تنقلب لصالح حزبها في موسكو، ولو لساعات، قبل أن يتوجّب على هذه المناضلة فوق العاديّة عيش سلسلةٍ من التجارب المُرّة بنقْلها ما بين سجنٍ ومصحّةٍ وصولاً إلى إعدامها عام ١٩٤١، هي وأولغا كامينيفا، شقيقة تروتسكي وزوجة كامينيف، في مجزرة غابة ميدفيديف.
تحرير المرأة من العمل المنزليّ
أمّا فيما يتعلّق بعمل كولونتاي في فترة الحرب الأهليّة، فقد نجح ماري في تتبّع خطوط أساسيّة أبرزها هاجس تحرير النساء من العمل المنزليّ، هي التي اعتبرتْ أنّ فصل المطبخ عن الزواج «سيكون إصلاحاً عظيماً، لا يقلّ أهمّيّةً عن فصل الدين عن الدولة»، والجمع بين رزمة قوانين حمائيّةٍ للمرأة العاملة وبين الانطلاق من مبدأ إجباريّة العمل، والطليعيّة في إباحة الإجهاض مع الظنّ بأنّه سوف تتضاءل الحاجة إليه مع الانتقال نحو الاشتراكيّة. ولئن شكّل قيام «الجينوتدل» أو الهيئة الموكلة بالعمل بين النساء لدى اللجنة المركزيّة، ومثيلاتها على الصعد المحلّيّة، محطّةً أساسيّةً في تكريس إسهامات هذا الجيل من القياديّات البلشفيّة، يرى ماري في التعطيل اللاحق للجينوتدل وصولاً إلى إلغائه نهاية العشرينيّات، بحجّة أنّ «تحرير المرأة» قد أنجز، منعطفاً باتّجاه المحافظة الاجتماعيّة اللاحقة، رغم أنّ جزءاً أساسيّاً من «إصلاحات كولونتاي» قد استمرّ في روسيا إلى اليوم، في حين تواصل الكنيسة الأرثوذكسيّة حمْلتها من أجل العودة عن حرّيّة الإجهاض الممنوحة عام ١٩٢٠.
- ١. Mark D. Steinberg. The Russian Revolution 1905-1921, Oxford, 2017, p.28-32
- ٢. حتى ٣١ كانون الثاني/يناير ١٩١٨ كان معمولاً بالتقويم اليولياني في روسيا، حيث تشبثت به الكنيسة الأرثوذكسيّة، وفقط بعد استيلاء البلاشفة على السلطة اتخذ قرار الانتقال الى التقويم الغريغوري، وعليه جرى القفز مباشرة من ٣١ كانون الثاني ١٩١٨ إلى ١٤ شباط/فبراير. فيما عنى الأحداث بروسيا، تلتزم هذه المقالة بالتقويم اليولياني حتى لحظة الاستعاضة عنه
- ٣. Rosalind Marsh. The birth, death and rebirth, of feminist writings in Russia, in: Textual Liberation – European Feminist Writing in Twentieth Century, Edited by Helena Forsas-Scott, Routledge, 1991
- ٤. Jean-Jacques Marie. Les Femmes dans la Révolution russe, Paris, Seuil, 2017, p.153
- ٥. Op.cit. p.146
- ٦. Selected Writing of Alexandra Kollontai. Translated with an introduction and commentaries by Alex Holt, p.58
- ٧. للإطلاع على مقالة كلارا تستكين «حركة النساء الإشتراكيات الألمانيات» Clara Zetkin, German Socialist women’s movement, https://www.marxists.org/archive/zetkin/1909/10/09.htm
- ٨. S.A. Smith, Russia in Revolution, An Empire in crisis 1890-1928. Oxford, 2017, p.102
- ٩. Léon Trotsky, Histoire de la révolution russe. 1. La révolution de Février Editions du Seuil, 1995, p.141
- ١٠. S.A. Smith, op.cit. p.96-97
- ١١. Sheila Fitzpatrick, The Russian Revolution, second edition, Oxford, 1994, p.47-48
- ١٢. S.A. Smith. op.cit. p.140
- ١٣. J-J. Marie, op.cit. p.167
- ١٤. Sarah Badcock, Politics and the People in Revolutionary Russia. A Provincial History. Cambridge University, p.106
- ١٥. J-J. Marie, op.cit, p.187 أما المؤرخ جيفري سوين فيشير الى ان كروبسكايا هي التي رفضت دائماً فكرة المكاتب الحزبية النسائية Geoffrey Swain. The Russian Revolution, London, Tauris, 2017, p.117
- ١٦. من جملة ما يوضحه جان جاك ماري أن القانون المقر في ١٦ أيلول ١٩١٨ نص على أن تتوجه المرأة الحامل غير المتزوجة إلى مقر البلدية قبل ثلاثة أشهر من الولادة وتسجل اسم والد الطفل، ويمكن للشخص المعترض على تسميته أن يلجأ إلى المحكمة، كما أعطى القانون للقاضي أن يوزع النفقات على أكثر من معاشر للمرأة الحامل غير المتزوجة إن تعذّر الفصل في هوية والد الطفل. في ظروف الحرب الأهلية والجوع، حصل أن استخدمت بعض النساء هذه المادة للاستفادة من نفقات غذائية لعدد من المعاشرين
- ١٧. J-J. Marie, op.cit. p.200-201
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.