العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

ألكسندرا كولونتاي

رائدة تحرّر المرأة

النسخة الورقية

ألكسندرا كولونتاي من أبرز نساء الحركة الشّيوعيّة الروسيّة، حتّى أنّ مكسيم غوركي يروي على لسان مارتوف قوله: «في روسيا شيوعيّان اثنان فقط: لينين ومدام كولونتاي!».

كانت أوّل امرأة في العالم تشغل منصب وزير. ولعبت دوراً هامّاً في الحزب والدّولة خلال السّنوات الأولى لثورة أكتوبر. ثمّ واصلت خدمتها للدولة السوفياتيّة في السلك الدّبلوماسي خلال ربع قرن، لكنّ مساهمتها الكبرى هي نضالها الذي كرّست له كلّ حياتها ككاتبة ومناضلة شيوعيّة من أجل تحرّر المرأة وتحرّر النّساء العاملات بشكل خاصّ.

ولدت ألكسندرا دومونتوفيتش لدى أسرة عقيد في الجيش الروسي في سان بطرسبرغ عام ١٨٧٢. وتزوّجت أحد أقاربها، المهندس فلاديمير كولونتاي. تأثّرت باكراً بالأفكار الثوريّة عبر نظريّة داروين التّطوّرية واهتمامها بالتّربية وعلم نفس الأطفال. ومع أفول القرن التّاسع عشر كانت كولونتاي في عداد ذاك الرّعيل من النساء الأرستقراطيّات والبرجوازيّات اللواتي سعين إلى التّحرّر الشخصيّ عبر التّدريس وعبر «التّوجّه إلى الشّعب». وكانت تلك الفترة تشهد نهايات «الحركة الشّعبويّة» التي تعتبر الفلّاحين عماد الثورة ضدّ القيصرّية، والجماعة البدائيّة في الريف قاعدة الانتقال المباشر إلى الاشتراكيّة. وقد انشقّ عنها جناحٌ إرهابيّ سرعان ما اتّضحت حدوده بعد سلسلةٍ من الاغتيالات الفرديّة الجريئة ضدّ القياصرة وكبار موظّفي الدّولة.

في تلك الأثناء كانت روسيا عند منعطف تاريخيّ، فقد أدّى النّموّ المتسارع للصّناعة وتمركزها الشّديد وانتقال مئات الألوف من الأقنان السّابقين للانخراط بقوّةٍ في العمل المأجور، وتغلغل الرّأسمالية في الزّراعة وتدميرها السريع للإنتاج البطريركي إلى ولادة الطبقة التي ستتمكّن من الانتصار أخيراً على القيصريّة وبناء الاشتراكيّة: الطّبقة العاملة. ومن العلامات الفارقة لهذا الانعطاف الإضرابات العماليّة الضّخمة في سانت بطرسبرغ عام ١٨٩٦، حيث أسهمت العاملة إلى جانب العامل في تحطيم الآلات (وهو أحد الأشكال البدائية للصّراع الطّبقي) ومقاومة الشّرطة.

مع البروز السّريع للطّبقة العاملة الروسيّة، برزت الحلقات الماركسيّة التي اتّحدت في «حزب العمّال الاشتراكي الديمقراطي الروسي» عام ١٨٨٩. انضمّت كولونتاي إلى الحركة العمّاليّة منذ سنيّها الأولى. وقد أثّرت فيها زيارة قامت بها لأحد مصانع النّسيج الضّخمة الذي يضمّ ١٢ ألف عاملة وعامل. فقرّرت بعد ذاك ربط مصيرها بالطبقة الثوريّة الصّاعدة. فأدّى التزامها السياسيّ إلى تأزّم علاقاتها بزوجها الذي اعتبر نشاطها السياسي بمثابة تحدٍّ شخصيّ له. فانفصلت عنه، ومعها طفلها الوحيد، رغم ما كانت تكنّ له من حبّ واحترام. واختارت حياة النّضال والعمل الخلّاق على حياة الحبّ والأسرة. ولم يكن مثل هذا الاختيار أمراً يسيراً بالنسبة إليها وإلى بنات جيلها. وتروي في مذكّراتها (المكتوبة عام ١٩٢٦):

«ما زلت أنتمي إلى جيلٍ من النساء نشأ عند منعطف التّاريخ. وكان الحبّ، بكلّ ما يجريه ويجرّه من خيبات أملٍ متكرّرة ومآسٍ وسعي دائمٍ وراء السعادة الكاملة، لا يزال يلعب دورا كبيراً في حياتي، دوراً أكبر ممّا يجب أن يكونه! ولقد هدرت فيه الوقت الثمين والكثير من الطاقة، ويمكن القول إنّه كان عديم الجدوى في التحليل الأخير. فنحن، نساء الجيل الماضي، لم نكتشف السّبيل إلى التّحرّر الفعلي، فبذلنا طاقاتنا بدون حساب، وهدرنا قدراتنا العلميّة في تجارب عاطفيّة عقيمة. وتأكيداً، فإنّي وغيري من المناضلات والكادحات أدركنا أنّ الحبّ ليس الهدف الأساسيّ للحياة، وتمكّنّا من أن نجعل العمل محوراً لحياتنا. ولولا أنّنا لم نهدر طاقاتنا في الصّراع الدائم مع عواطفنا تجاه الآخرين، لكنّا استطعنا بذل المزيد من الجهد الخلّاق. والواقع أنّ هذا النزاع كان حرباً دائمة ضدّ تدخّل الرجل في شؤوننا وتعدّيه على ذاتيّتنا، نزاعٌ يدور حول مشكلة معقّدة: العمل أم الحب أم الزواج؟ نحن نساء الجيل القديم لم ندرك، كما يدرك الشّبان والشّابّات اليوم، أنّه يمكن التّوفيق بين العمل والسّعي وراء الحبّ، بحيث يبقى العمل محوراً للوجود. فقد منحنا كلّ ذاتنا للمحبوب على أمل بلوغ التّناغم الروحيّ الكامل.

غير أنّ الرجل كان يسعى باستمرار إلى فرض ذاتيّته علينا وتكييفنا حسب مبتغاه. فاضطرمت الثورة في داخلنا، رغم كلّ شيء، وتحوّل الحبّ تكراراً إلى قيدٍ يقيّدنا، وشعرنا أنّنا مستعبدات وحاولنا التّحرّر من قيد الحبّ. وبعد نضالاتٍ متواصلة مع المحبوب انعتقنا أخيراً وتدافعنا نحو الحريّة. وسقطنا مجدّداً في الوحدة والتعاسة والوحشة. لكنّنا كنّا ننعم بحرّية السعي وراء فارس أحلامنا - العمل.

من حسن حظّ الجيل الحالي أنّه ليس مضطرّاً إلى خوض غمار هذا النّضال عديم الجدوى بالنّسبة إلى المجتمع البشريّ، فيوفّر كامل جهوده للنّشاط الخلّاق».

بعدما استعادت كولونتاي «حرّيّتها» غادرت روسيا إلى ألمانيا ودرست الاقتصاد السياسيّ في زيوريخ، وأسهمت في الحركة الاشتراكيّة الدّيمقراطيّة الألمانيّة وتوثّقت صلاتها بأبرز قادتها وبخاصّة زورا لوكسمبورغ وكلارا زتكن. أمّا على صعيد السّياسة الثّوريّة الرّوسيّة فقد وقفت كولونتاي إلى جانب المناشفة خلال انشقاق الحزب عام ١٩٠٣. ولم تنضمّ إلى البلاشفة إلّا خلال الحرب العالميّة الأولى.

عادت كولونتاي إلى روسيا مع اندلاع الثورة الأولى عام ١٩٠٥. وكرّست معظم وقتها، في فترة ما قبل الحرب العالميّة الأولى، للعمل بين النساء. أُسّست الحركة النّسائيّة في روسيا عقب الثورة الأولى. وكانت بقيادة الحركة النسويّة البرجوازيّة، المطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجال والنساء، بغضّ النّظر عن التّحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة المطلوبة لتحقيقها، وسعيها لتنظيم كافّة النساء حول هذا المطلب، الأمر الّذي يميّع وعي العاملات للاستغلال الّذي يتعرّضن له ويضعهنّ تحت القيادة البرجوازيّة. في سعيها لتأسيس عملٍ اشتراكيّ بين النساء، اضطرّت كولونتاي إلى النضال على جبهتين: ضدّ الحركة النسويّة من جهة، ومن أجل إقناع رفاقها ورفيقاتها في الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ بضرورة الاهتمام بتنظيم العاملات. فأسّست مع رفيقات لها «نادي النساء العاملات»، عام ١٩٠٦، لدراسة قضايا المرأة العاملة والتّدريب على مختلف أشكال الدعاية والتّحريض في صفوف العاملات. وأخذت تطالب بإنشاء أجهزة حزبيّة متخصّصة للعمل بين النساء انطلاقاً من خصوصيّة وضع المرأة كأمّ وربّة بيت، وبالتالي خصوصيّة أشكال القهر والاستغلال الإضافيّة التي تتعرّض لها. وقد أسهم هذا النادي في تكوين أوّل نواة للحركة الاشتراكيّة النسائيّة في روسيا. وفي المؤتمر النسائيّ الأوّل لعموم روسيا، المنعقد عام ١٩٠٨، أمكن للمرأة العاملة أن تتمثّل وتطرح مطالبها المتميّزة بواسطة وفدٍ من النساء الاشتراكيّات ضمّ ثلاثين عاملة، معظمهنّ من الأمّيات.

مع اشتداد موجة القمع والإرهاب وصدور أمر بإلقاء القبض عليها، اضطرّت كولونتاي إلى سلوك طريقٍ المنفى عام ١٩٠٧. في ألمانيا واصلت عملها النسائيّ وحضرت مؤتمر شتوتغارت للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. كذلك كانت كولونتاي في عداد المحاضرين في مدرسة الكادر الحزبيّة للعمّال الروس في إيطاليا، ووضعت مشاريع القوانين حول رعاية الأمومة والطّفولة ليقدّمها النوّاب الاشتراكيّون - الديمقراطيّون في مجلس الدوما. وفي المنفى صدر كتابها «الأسس الاجتماعيّة لمسألة المرأة»، وهو بمثابة سجال ضدّ الاتّجاه النسوانيّ ودعوة للحزب الاشتراكي الدّيمقراطي الروسي إلى أن يبني حركة عماليّة نسائيّة. شاركتْ كولونتاي، عام ١٩١١، في تنظيم أوّل عيدٍ عالميٍّ للمرأة الّذي ما زلنا نحتفل به في الثامن من آذار / مارس من كلّ عام. وزارت فرنسا حيث أسهمت في تنظيم إضرابات ربّات البيوت ضدّ غلاء المعيشة، وفي إنكلترا، حيث اطّلعت على الدور الّذي تؤدّيه النساء في النقابات العمّالية الإنكليزيّة.

غادرت كولونتاي ألمانيا بعد اندلاع الحرب العالميّة، وقد صعقها موقف أغلبيّة الأحزاب الاشتراكيّة - الديمقراطيّة الأوروبيّة المؤيّدة لحرب اقتسام المغانم بين الدّول الاستعماريّة. فقطعت صلاتها نهائيّاً بالاتّجاه المنشفي وانضمّت أخيراً إلى البلاشفة في حزيران / يونيو ١٩١٥. ولعبت طوال ذلك العام دوراً هامّاً، إلى جانب ألكسندر شليابينكوف، في الدّعاية ضدّ الحرب وضدّ الاتّجاه الاشتراكي - الإمبريالي في الحركة العمّاليّة، وكانت صلة الوصل بين لينين - في سويسرا - واللّجنة المركزيّة للحزب البلشفي داخل روسيا. ثمّ سافرت إلى الولايات المتّحدة، بتشجيعٍ من لينين، حيث قامت بجولةٍ واسعةٍ ألقت خلالها عشرات المحاضرات ضدّ الحرب الاستعماريّة ومن أجل تحويلها إلى حربٍ أهليّة ضدّ الرّأسماليّة.

عادت كولونتاي إلى روسيا بعد انهيار الحكم القيصريّ، وكانت الحرب قد رفعت أكلاف المعيشة، وهذا ما شجّع البلاشفة على إيلاء العمل بين النّساء العاملات الأهمّيّة لإصدار صحيفة شيوعيّة نسائيّة، ونظم العمل بين النّساء المسلمات، وعقد مؤتمرين عالميّين للنّساء في موسكو. وتكلّل نشاط كولونتاي بالنّجاح عندما دعم لينين شخصيّاً مشروعها القاضي بجعل الإجهاض عملاً شرعيّاً يتمّ تحت رعاية الدّولة وعلى حسابها.

في تلك الأثناء، كان يدور في صفوف الحزب البلشفي سجالٌ عاصف حول دور النّقابات في ظلّ دكتاتوريّة البروليتاريا، فوقفت كولونتاي موقفاً معارضاً لأغلبيّة الحزب، يدعو إلى تسيير الصناعة من قبل مؤتمر للمنتجين في عموم روسيا. وشكّلت كتلة حزبيّة معارضة مع ألكسندر شليابينكوف وبعض القادة النّقابيّين عرفت بـ«المعارضة العماليّة». وكانت «المعارضة العمّالية» تردّ بالدّرجة الأولى على تروتسكي الّذي رفع شعار «عسكرة العمل» بفرض الانضباط العسكري الصّارم على الطّبقة العاملة، وتسخير النّقابات لتنفيذ هذه السياسة واعتماد التّعيين بدل الانتخاب في اختيار القيادات النّقابيّة. وقد التفّت غالبيّة الحزب حول لينين الّذي دان بشدّة النّزعة البيرقراطيّة الإداريّة عند تروتسكي. وردّ على «المعارضة العمّالية» معتبراً أنّ الدّعوة إلى تسيير النّقابات للإنتاج والصّناعة تلغي الدّور القيادي للحزب ودور النّقابات كحلقة وصل بين الطّليعة الشّيوعيّة والجماهير، فتبقى الطّبقة العاملة نهبا لشتّى الأضاليل والانحرافات التي ترْشح إليها من الوسط الفلّاحي والبرجوازي الصّغير المحيط بها. ودعا لينين في المقابل:

١ إلى منح النّقابات حدّاً من الاستقلالية للاستمرار في الدّفاع عن مصالح الطّبقة العاملة تجاه الدولة السوفياتيّة، التي لم تصبح بعد دولة اشتراكيّة وإنّما هي دولة عمّاليّة «ذات انحراف بيرقراطي» ترتكز على تحالف العمّال مع الفلاحين الّذين يشكّلون أكثريّة الشّعب السّاحقة.

٢ إلى اعتبار النّقابات مدرسة للشّيوعية ودرساً للإدارة العمالية. وقد هزم الجناحان المعارضان في مؤتمرٍ للحزب عام ١٩٢٢ وصدرت عنه توصية باعتبار «المعارضة العمّالية» تكتّلاً ممنوعاً.

بعد هذا التّاريخ، تقلّص دور كولونتاي في السّياسة الدّاخليّة، فانضمّت إلى السّلك الخارجيّ عام ١٩٢٣ وشغلت عدّة مناصب ديبلوماسيّة في النّرويج والمكسيك وفنلندا والسّويد، إلى أن رقّيت إلى رتبة سفيرة متجوّلة عام ١٩٤٣. وقد انتدبتها الحكومة السوفياتية لتوقيع اتّفاقيّة الهدنة السّوفياتيّة - الفنلنديّة عام ١٩٤٥.

وما من شكٍّ في أنّ انسحاب كولونتاي المبكّر من الحياة السّياسية الدّاخليّة أنقذها من المصير المظلم الّذي لاقاه رفاقها في «المعارضة العمّاليّة» والعديد غيرهم من قادة وكوادر الحزب البلشفي من مختلف الاتّجاهات على يد ستالين في منتصف الثلاثينات. وقد توفّيت كولونتاي في موسكو عام ١٩٥٢ ولها من العمر ثمانون عاماً. وتركت عدداً كبيراً من الكتابات حول قضايا التّربية والمسألة القوميّة والاشتراكيّة في فنلندا والحرب العالميّة والطّبقة العمّاليّة في روسيا السّوفياتيّة، نشر منها ثلاثة نصوص «الشّيوعيّة والأسرة» وهو كرّاس دعاوي كتب بعد قيام السّلطة السوفياتيّة و«تاريخ حركة العاملات الاشتراكيّات في أوروبا» و«التّقرير أمام المؤتمر الثالث الكومنترن» ننشره هنا مع المقرّرات المرتبطة به (ترجم النّصّين الأوّل والثاني فواز طرابلسي وترجم النص الثّالث طلال الحسيني). لقد لخّصت كولونتاي نفسها فهمها لقضيّة تحرّر المرأة الّتي نذرت حياتها لها بهذه العبارات المقتطفة من مذكّراتها (المكتوبة عام ١٩٢٦):

«إذا كنت قد حقّقتُ شيئاً في هذا العالم، فليس مردّ ذلك لصفاتي الشّخصيّة، فإنجازاتي ما هي إلا الدّليل على أنّ المرأة باتت تسير باتّجاه كسب الاعتراف العامّ بها،على الرّغم من كافّة الصّعاب. فانخراط ملايين النّساء في العمل الإنتاجي الذي تمّ بوتيرةٍ متسارعةٍ خلال الحرب، هو الذي أفسح المجال أمام المرأة لكي تحتلّ أعلى المراكز السيّاسيّة والدّبلوماسيّة. غير أنّه من المؤكّد أنّ بلداً مستقبليّاً، كالاتّحاد السوفياتي، هو وحده القادر على معالجة قضايا المرأة دون أفكارٍ مسبقة، وعلى تقييم أعمالها فقط من منظار مهارتها ومواهبها، وبالتّالي فهو وحده القادر على أن يوكّل إليها مراكز المسؤوليّة. وحدها العواصف الثوريّة الجديدة امتلكت القوّة الكافية لكنْس كافّة العقد والتّرسّبات ضدّ النساء. واتّحاد الشّعب الكادح المنتج هو القادر على تحقيق المساواة الكاملة والتّحرّر النّاجز للمرأة ببنائه المجتمع الجديد».
ف. ط.

في تحرر المرأة العاملة: ألكسندرا كولونتاي

العمل المنزليّ لم يعد ضرورة

في الماضي كانت المرأة الفقيرة، في المدينة والرّيف، تقضي كلّ حياتها في كنف الأسرة، تجهل كلّ ما يجري خلف عتبة دارها، لا بل إنّها نادراً ما كانت توّاقة إلى المعرفة، على كلّ حال. وكتعويضٍ عن ذلك، كانت المرأة تؤدّي في بيتها مهمّات ضروريّة ومتنوّعة تنفع الأسرة والدّولة في آنٍ معاً. كانت المرأة تؤدّي كافّة المهامّ التي تؤدّيها حاليّاً أيّ امرأة عاملة أو فلّاحة: تطبخ وتغسل وتنظف البيت وتكوي وترتق الثّياب. ولكن لم يكن عملها يقتصر على ذلك، فقد كانت تؤدّي مهامّ لم تعد تؤدّيها المرأة المعاصرة، كأن تغزل الصّوف والكتّان وتحيك الأجواخ والقماش وتصنع الجوارب وأشرطة الزّينة. كذلك كانت تصنع المخلّل (الكبيس) وتدخّن اللحوم بالقدْر الذي تسمح لها به مواردها الماديّة، وتستخرج المشروبات للبيت وتصبّ الشّموع. ما كان أكثرها واجبات المرأة في تلك الأيّام! هكذا قضت أمّهاتنا وجدّاتنا حيواتهنّ. وحتّى في أيّامنا هذه لا تزال تجد في بعض القرى النائية في أقاصي الرّيف بعيداً عن الطّرقات والأنهر الكبيرة جيوباً لا تزال تحتفظ بنمط الحياة القديم هذا بكلّ نقاوته، حيث ربّة المنزل تنوء تحت عبء أعمالٍ أعفيت منها المرأة العاملة في المدن والمراكز الصناعية المكتظّة بالسّكان منذ زمنٍ بعيد.

عمل المرأة الصّناعي في البيت

على أيّام جدّاتنا كان هذا العمل المنزليّ عملاً بالغ الأهميّة والضّرورة يتوقّف عليه رفاه الأسرة كلّها. وبالقدر الذي كانت تجتهد فيه ربّة المنزل في أداء مهامّها، بقدر ما كانت حياة البيت منتظمة ومزدهرة. حتى الدّولة أفادت من نشاط المرأة كربّة منزل. فالمرأة في تلك الأيّام لم تكن تكتفي بطبخ حساء البطاطا لها ولأسرتها وإنّما كانت تصنع عدّة منتجات مثل الجوخ والخيوط والزّبدة إلخ. وهذه كلّها يمكن بيعها في السّوق حيث تتحوّل إلى سلع، أي إلى أشياء ذات قيمة.

صحيحٌ أنّ عمل جدّاتنا وأمّهاتنا لم يكن يثمّن بالمال. لكنّ جميع الرّجال، أكانوا فلاحين أم عمّالاً، كانوا يبحثون عن امرأةٍ «يداها من ذهب» كما يقول المثل، لأنّ موارد الرّجل وحده بدون «عمل المرأة المنزلي» ليست كافية لبناء بيتٍ زوجيّ مزدهر. في ذلك الحين كانت مصالح الأمّة والدولة تلتقي مع مصالح الزّوج، فبقدر تسمك المرأة بالأسرة بقدر إنتاجها لشتّى المنتجات من نسيج وجلد وصوف يباع الفائض منها في السّوق، فتسهم بذلك في ازدهار البلد الاقتصاديّ.

المرأة المتزوّجة والمصنع

إنّ الرّأسماليّة قد غيّرت كلّ نمط الحياة هذا. وكلّ ما كانت تنتجه الأسرة صارت تنتجه المشاغل والمصانع. وحلّت الآلة محلّ أنامل المرأة الرّشيقة. فأيّ ربّة بيت تشغل نفسها الآن في صبّ الشّموع أو غزل الصوف أو نسج الجوخ في وقتٍ يمكن فيه شراء كلّ هذه الحاجيّات في الحانوت المجاور؟ وهل شاهدتم صبيّة تصنع جواربها بنفسها؟ أوّلاً، لا وقت لديها لذلك، فالوقت من ذهب. ومن منّا يريد هدر المال بطريقةٍ غير مجدية دون أن يجني منه أيّ ربح؟ إنّ ربّة المنزل، التي هي امرأة عاملة في الوقت ذاته، تشتري جواربها في السّوق بدلاً من أن تضيّع وقتها في صنعها. وقليلات هنّ النّساء العاملات اللواتي يصرفن وقتاً في تخليل الخيار أو صنع المحفوظات في وقتٍ يبيع فيه البقّال المجاور المخلّلات والمحفوظات على أنواعها.

وعلى الرّغم من أنّ المنتوج الذي يبيعه البقّال قد يكون أدنى من حيث النّوعيّة، والمصنوعات الخارجيّة من المصنع ليست في جودة المحفوظات التي تصنعها ربّة المنزل، فإنّ المرأة العاملة لا تملك الوقت ولا القدرة على القيام بهذه العمليّات كلّها. إنّها عاملٌ مأجور أوّلاً بأوّل، يضطرّها عملها المأجور إلى إهمال عملها المنزليّ. ومهما يكن من أمر، فالأسرة في وضعها الرّاهن آخذة في الانعتاق تدريجيّاً من مختلف الأعباء المنزليّة - هذه الأعباء التي كانت جدّاتنا لا يتخيّلن الأسرة خالية منها. وما كانت تنتجه الأسرة بالأمس بات ينتجه الجهد المشترك للعمّال والعاملات في المصانع والمشاغل.

نهاية العمل المنزليّ الفرديّ

إنّ الأسرة باتت تستهلك الآن ولا تنتج. والأعباء الرّئيسية التي تقوم بها ربّة المنزل هي: شؤون النّظافة (مسح الأرض ونفض الغبار والتّدفئة والعناية بالإضاءة إلخ.) والطّبخ (تحضير الغذاء والعشاء) والغسيل والاعتناء ببياض وثياب الأسرة (رتق الثّياب وما شابه).

وهذه أعباء مرهقة مؤلمة تستغرق كلّ وقت المرأة العاملة المضطرّة إلى بذل ساعات عمل طويلة في المصنع وتستنفد كلّ قوّتها. لكنّ الأكيد أنّ المهامّ التي كانت جدّاتنا يقمن بها كانت أكثر تنوّعاً. وبالإضافة إلى ذلك، كان عمل جدّاتنا يتميّز بميزةٍ بات يفتقدها العمل المنزليّ للنّساء العاملات، وهي أنّ النساء فقدن فائدتهنّ بالنّسبة إلى الدّولة (من منظار مساهمتهنّ في الاقتصاد الوطنيّ)، ذلك أنّ العمل الذي يقمن به لا ينتج أيّ قيَم جديدة ولا يسهم في ازدهار البلد.

عبثاً تقضي المرأة العاملة يومها بكامله من الصباح للمساء وهي تنظّف البيت وتغسل وتكوي الثّياب هادرةً كلّ حياتها في جهود لا متناهية لرتق الثياب المهترئة أو لتحضير الطّعام، حسب الموارد المتواضعة المتوافرة لديها، دون أن ينتهي يوم عملها هذا إلى أيّ نتيجةٍ مادّية، لأنّها لا تنتج بأيديها التي تعمل بلا كلل أيَّ شيء يمكن اعتباره سلعةً في السّوق التجاري. وحتى لو عاشت المرأة العاملة ألف سنة، فإنّ الأمر لن يتغيّر بالنسبة إليها. ستبقى ثمّة طبقة من الغبار يجب نفضها عن الرّفّ، وسيبقى زوجها يأتي إلى البيت جائعاً عند المساء، ويبقى أطفالها يحملون الوحل على أحذيتهم. وهكذا مع الأيّام يصبح عمل ربّة المنزل أكثر فأكثر تفاهة وأقلّ إنتاجيّة.

ولادة العمل المنزلي الجماعي

إنّ المنزل الإفرادي قد جاوز حدّه. وها إنّ العمل الجماعي يحلّ محلّه تدريجيّاً. وإنّ المرأة العاملة سوف تدرك، عاجلاً أم آجلاً، أنّها ليست بحاجة لأن تعتني بمنزلها بنفسها. ففي مجتمع الغد، في المجتمع الشيوعي، سوف يقوم بهذا العمل فئة متخصّصة من النساء لا يقمن بعمل سواه. إنّ نساء الأغنياء قد تحرّرن منذ سنوات من هذه الأعمال السّقيمة المرهقة. فلماذا يجب على المرأة العاملة أن تستمرّ في أدائها؟ في روسيا السوفياتية يجب أن تحاط حياة المرأة العاملة بنفس الجوّ من الرّاحة والإشراق والصّحة والجمال الذي لا يزال يحيط حتّى الآن بحياة نساء الطّبقات الغنيّة. فلا تضطرّ المرأة في المجتمع الشيوعيّ إلى قضاء ساعات فراغها - النّادرة مع الأسف - في الطّبخ لأنّ المجتمع الشيوعيّ سوف يوفّر المطاعم العامّة والمطابخ المركزيّة التي يحقّ للجميع ارتيادها.

هذه المؤسّسات تتكاثر في كافّة الأقطار، حتّى تلك التي لا يزال يسيطر عليها النّظام الرّأسمالي. والواقع أنّه طوال نصف القرن الأخير كان عدد المقاهي والمطاعم في جميع مدن أوروبا يتزايد يوماً بعد يوم، فإذا بها تنبت وتتكاثر كالفطر بعد مطر الخريف. هناك ظلّ ذوو الجيوب المحشوّة بالمال وحدهم القادرين على ارتياد مثل هذه المطاعم. أمّا في المجتمع الشّيوعيّ فيصبح بمقدور أيّ أحد أن يتناول وجبة الطّعام في المطاعم والمطابخ المركزيّة. وما ينطبق على الأكل ينطبق على الغسيل وغيره من الأعباء. لن تكون المرأة العاملة مضطرّة إلى أن تغرق في مستنقعٍ من القذارة أو أن تفقد بصرها من جرّاء رتق الجوارب أو إصلاح البياضات. لا بل إنّها سوف تحمل هذه الحاجيّات إلى المغاسل المركزيّة كلّ أسبوع، وتخرجها أيضاً كلّ أسبوع مغسولة ومكويّة. هذا عبءٌ إضافيّ سوف يُزاح عن كاهل المرأة العاملة. كذلك فإنّ المحلّات الخاصّة برتق وإصلاح الثياب سوف تسمح للمرأة العاملة بأن تقضي أمسياتها في القراءات المفيدة والاستجمام الصحّي بدلاً من أن تقضيها في الكدح المضني. لذلك فإنّ الأعباء الأربعة المذكورة التي لا تزال ترهق نساءنا سوف تزول في ظلّ النّظام الشيوعي الظّافر، ولا شكّ في أنّ المرأة العاملة لن تذرف دمعةً واحدة على زوالها. وهكذا يكون المجتمع الشيوعي قد حطّم النّير المنزليّ الرّازح على المرأة لكي يجعل حياتها أغنى وأتمّ وأسعد وأكثر امتلاءً بالحريّة.

تربية الأطفال في ظلّ الرّأسماليّة

ما الّذي يبقى من الأسرة بعد زوال أعباء العمل المنزلي الفردي؟ تبقى تربية الأطفال. هنا أيضاً تهبّ دولة الرّفاق الكادحين لنجدة الأسرة، فيحلّ المجتمع تدريجيّاً محلّ الوالدين. إنّ تربية الأطفال في ظلّ الرّأسماليّة لم تعدْ مَهمّة يضطلع بها الوالدان. فالأطفال يتلقّون تعليمهم في المدرسة. وما إن يبلغ الطّفل سنّ الدّراسة حتّى يبدأ أهله يتنفّسون بحريّة أكبر. فنموّ طفلهم الذّهني لم يعد أمراً يعنيهم. إلّا أنّ هذا لا ينهي طبعاً مسؤوليّات الأسرة تجاه الطّفل. تبقى مهمّة إطعامه وتأمين كسوته وتحويله إلى عاملٍ ماهر ونزيهٍ قادر على الاعتماد على نفسه، عندما تدعو الحاجة، وعلى إعالة أهله في شيخوختهم.

غير أنّه نادراً ما استطاعت أسرة عمّاليّة ظلت تضطلع بهذه المسؤوليّات تجاه أولادها. فأجور الأهل منخفضة لا تسمح بإطعام الأولاد حتّى الشّبَع، وندرة أوقات الفراغ لا تمكن الأهل من بذل الوقت والاهتمام الكافيين لتربية الجيل الطّالع. فكانت الأسرة مضطرّة إلى أن تتولّى تربية أولادها بنفسها. ولكن، هل كانت تربيتهم فعلاً؟ الواقع أنّ الشّارع هو الّذي يربّي أطفال البروليتاريا. وهؤلاء يجهلون راحة الحياة العائليّة وأفراحها، تلك التي كنّا ننعم بها في كنف آبائنا وأمّهاتنا.

ثمّ إنّ انخفاض أجور الأهل وانعدام الضّمانات، لا بل المجاعة، غالباً ما تدفع بابن البروليتاريّ إلى أن يصبح بدوره عاملاً مستقلّاً قبل بلوغه سنّ العاشرة. وما إن يبدأ الولد (سيّان أكان صبيّاً أم بنتاً) بإعالة نفسه حتّى يعتبر أنّه بات سيّد نفسه إلى درجةٍ يبطل معها مفعول كلمات ونصائح أهله عليه، وتتقلّص سلطتهم وتنتهي طاعته لهم.

مع اضمحلال أعباء الأسرة، الواحد تلو الآخر، يحلّ المجتمع محلّ الأهل في تنفيذ واجبات الإعالة والتّربية. والواقع أنّ الأطفال غالباً ما شكّلوا، في ظلّ الرّأسماليّة، عبئاً ثقيلاً لا يطاق على الأسرة البروليتاريّة.

الطّفل والدولة الشيوعية

في هذا المجال أيضاً يهبّ المجتمع الشيوعي لمساعدة الأهل. لقد خطتْ روسيا السوفياتيّة - بفضل جهود مفوّضيتَي التّربية العامّة والشّؤون الاجتماعيّة - خطوات هامّة وحقّقت المنجزات العديدة في مجال التّخفيف من أعباء الأسرة وتربية وإعالة الأطفال. ثمّة بيوت للرّضّع وحضانات نهاريّة ورياض، ومخيّمات للأطفال والأهل ومستوصفات ومنتجعات صحّيّة للأطفال المرضى ومطاعم وطعام مجّاني في المدارس وكتب مدرسيّة مجانيّة وملابس دافئة للشّتاء وأحذية للأطفال في المؤسّسات التّعليمية. ألا تكفي كلّ هذه للتّدليل على أنّ الطّفل لم يعد عبئاً على الأسرة وإنّما بات المجتمع هو الّذي يتولّى رعايته؟

كان اهتمام الأهل بأطفالهم يشمل ثلاثة مجالات:

  • ١ الاعتناء بالرّضيع
  • ٢ تربية الطّفل
  • ٣ التعليم. أمّا بالنسبة إلى تعليم الأطفال في المدارس الابتدائيّة والثانويّة والجامعات، فهذا واجب ملقى على عاتق الدولة، حتّى في المجتمع الرّأسمالي. إنّ تراكم الأعباء على الطّبقة العاملة ونوعيّة ظروف معيشتها قد فرضا على المجتمع الرّأسمالي إنشاء الملاعب والحضانات والرّياض للأطفال. ومع تنامي وعي العمّال لحقوقهم وتوطّد تنظيماتهم في دولةٍ معيّنة، تنامى اهتمام المجتمع بإعفاء الأسرة من أعباء رعاية الأطفال.

غير أنّ المجتمع البرجوازيّ كان يخاف التّمادي في تلبية مصالح الطّبقة العاملة كي لا يسهم في تقويض أركان الأسرة نفسها. فالرّأسماليّون أنفسهم يدركون أنّ الأسرة القديمة، حيث المرأة مستعبدة للرّجل المسؤول عن إعالة الأسرة ورفاهها، هي أفضل سلاح لخنق تطلّع البروليتاريا نحو الحرّية وإخماد الرّوح الثوريّة عند العمّال والعاملات على حدٍّ سواء. فالانشغال بأمور الأسرة يُفقد العامل عزيمته ويجعله يساوم مع رأس المال. وأيّ شيءٍ لا يفعله أب أو أمّ عند رؤية أطفالهما يتضوّرون جوعاً؟

المجتمع الرّأسماليّ عاجزٌ عن تحويل تربية الناشئة إلى وظيفة اجتماعيّة فعليّة، إلى وظيفةٍ من الوظائف التي تضطلع بها الدّولة. أمّا المجتمع الشيوعيّ، في المقابل، فإنّه يعتبر أنّ التربية الاجتماعيّة للجيل الطّالع هي أساس قوانينه وأعرافه وحجر الزّاوية في البنيان الجديد. إنّ إنسان مجتمع الغد لن يولد بالتّأكيد من أسرة الأمس، التّافهة الضّيّقة، بما تنطوي عليه من نزاع بين الوالدين واهتمامها الأنانيّ بأولادها دون سائر الأولاد. إنّ إنساننا الجديد، في المجتمع الجديد، يولد في رحم التّنظيمات الاشتراكيّة كالمتنزّهات والحدائق والرّياض والمخيّمات وغيرها من المؤسّسات حيث يقضي الطّفل القسط الأوفر من وقته ويتولّى مربّون أكفّاء تحويله إلى شيوعيّ يعي عظمة الشعارات المقدّسة، شعارات التّضامن والروح الرّفاقيّة والتعاون المتبادل والإخلاص للحياة الجماعيّة.

تأمين معيشة الأمّ

مع زوال أعباء التربية والتّعليم ولاسيّما بعد إعفاء الأسرة من القسط الأوفر من الأعباء الماديّة النّاجمة عن إنجاب الأطفال، لا يبقى من واجبات الأسرة تجاه أطفالها سوى رعاية الطّفل الرضيع عندما يكون بحاجة لعناية الأمّ وهو في طور تعلّم المشي والتّعلّق بثياب أمّه. لن يثقل كاهل الأمّ الصبيّة بعد الآن بعبء رعاية أطفالها! فالدّولة العمّاليّة تعتبر أنّ من واجبها أن تؤمّن المعيشة للأمّ أكانت متزوّجة زواجاً شرعيّاً أم لا، ما دامت هي الّتي ترضع الطّفل. وسوف تنشئ دُور الأمومة في كلّ مكان، وتبني الحضانات النّهاريّة في كلّ المدن والقرى، فتسمح بذلك للمرأة بأن تخدم الدّولة بطريقةٍ مجدية وأن تمارس دورها كأمّ في آنٍ واحد.

لكي لا يكون الزّواج قيداً

لنطمئنّ الأّمّهات العاملات: إنّ المجتمع الشيوعيّ لا يرمي إلى انتزاع الطّفل من حضن أمّه ولا الرّضيع من على ثدييها. ولا هو ينوي تدمير الأسرة بواسطة العنف. ثقوا من أنّنا لسنا نضمر أيّاً من هذه النوايا! ليست هذه أهداف المجتمع الشيوعيّ.

ولكن ما الّذي نشاهده اليوم؟ نشاهد الأسرة القديمة آخذة بالانحلال. وقد أخذت تتحرّر تدريجيّاً من كافّة الأعباء المنزليّة التي كانت بالأمس تشكّل دعائم تماسك الأسرة كوحدةٍ اجتماعيّة. وماذا عن الأطفال؟ إنّ الأهل البروليتاريّين غير قادرين أصلاً على الاعتناء بهم ولا على تأمين معيشتهم وتعليمهم. وهذا وضعٌ يعاني منه الأهل والأبناء على حدٍّ سواء.

لذا يخاطب المجتمع الشيوعيّ العمّال والعاملات ويقول لهم: «ما زلتم في ربيع العمر، وأنتم تحبّون بعضكم بعضاً. إنّ السعادة حقٌّ للجميع. فعيشوا حياتكم ولا تنفروا من السّعادة. ولا تخشوا الزّواج مع أنّه كان قيداً على العامل والعاملة في المجتمع الرّأسماليّ. والأهمّ من كلّ ذلك ألّا تتردّدوا وأنتم شبّانٌ ممتلئون صحّة وعافية، في أن تمنحوا الوطن عمّالاً وأطفالاً مواطنين جدداً. فإنّ مجتمع العمّال بحاجة إلى قوى عاملة جديدة، وهو يرحّب بمجيء كلّ طفل جديدٍ إلى العالم. ولا حاجة إلى أن تقلقوا على مستقبل أطفالكم، فإنّهم لن يعرفوا البرد والجوع ولا البؤس والإهمال، كما كان الحال في المجتمع الرّأسمالي. فما إن يولد الطّفل، حتّى يؤمّن المجتمع الشّيوعي، حتّى تؤمّن الدّولة العمّاليّة للأم وطفلها ما يحتاجان إليه من غذاءٍ وعناية. إنّ الوطن الشيوعيّ سوف يتولّى إطعام الطّفل وتربيته وتعليمه. لكنّه لن ينتزع الطّفل من كنف أهله، بأيّ حالٍ من الأحوال، إذا كانوا يريدون الإسهام بتربية أولادهم بأنفسهم. إنّ المجتمع الشيوعيّ سوف يضطلع بكامل واجباته في مجال تربية الأطفال. إلا أنّه لن يحرم أحداً من أفراح الأبوّة أو حنان الأمومة إذا ثبت أنّه قادرٌ على فهمها وتقديرها قدرها الصّحيح». فهل يمكن اعتبار ذلك تدميراً للأسرة بواسطة العنف؟ وهل يمكن اعتباره انتزاعاً قسريّاً للطّفل من حضن أمّه؟

الأسرة: اتّحاد عاطفي - رفاقي

مهما يكن من أمر فلا مفرّ من الاعتراف بالحقيقة القائلة إنّ الأسرة من النّمط القديم قد تجاوزها الزّمن. والمسؤول عن ذلك ليس المجتمع الشيوعيّ وإنّما هو تغيّر ظروف الحياة.

لم تعد الأسرة ضروريّة للدّولة كما كانت بالأمس. لا بل إنّها أسوأ من مجرّد مؤسّسة عديمة الجدوى لأنّها تمنع النساء العاملات من القيام بعملهنّ بمزيدٍ من الإنتاجيّة والجدّ. ولم تعد الأسرة ضروريّة لأفرادها أنفسهم لأنّ مهامّ تربية الأطفال، وقد كانت بالأمس ملقاة على عاتق الأسرة، أخذت تنتقل الآن إلى عاتق المجموعة. ولكن على أنقاض الأسرة السّابقة سوف يُبنى شكلٌ للعلاقات بين الرّجل والمرأة جديد كلّيّاً: اتّحاد عاطفيّ - رفاقيّ يقوم على المساواة بين مواطنين من أبناء المجتمع الشّيوعي في ممارسة حرّيتهما واستقلالهما وعملهما.

bid1819_malaf_image016_bw.jpg


كولونتاي تتوسط المندوبات إلى مؤتمر النساء الشيوعيات لشعوب الشرق في العام ١٩٢٠

لقد انتهى عهد عبوديّة المرأة المنزليّة! انتهى عهد انعدام المساواة داخل الأسرة! وانقضى زمنٌ كانت المرأة يتهدّدها الخوف فيه من أن تبقى بدون معيل، هي وأطفالها، إذا ما هجرها زوجها، فالمرأة في المجتمع الشيوعيّ لن تعتمد بعد الآن على زوجها، وإنّما سوف تعتمد على عملها. ولن يعيلها زوجها وإنّما ساعداها القويّان، ويزول القلق على مصير الأطفال لأنّ الدولة العمّاليّة ستكون مسؤولة عنهم. ثمّ إنّ الزواج سوف يطهَّر من كافّة مقوّماته الماديّة وأثقاله الماليّة التي كانت تشكّل لطخة عار في الحياة العائليّة حتّى الآن. فمن الآن وصاعداً سوف يتحوّل الزّواج إلى اتّحادٍ سام بين نفسَي شخصين متحابّين، كلٌّ منهما يثق بالآخر - اتّحاد يوفّر لكلّ عاملٍ وعاملة الحدَّ الأقصى من السعادة والرّضى. هذا ما يستحقّه مواطنون يعرفون أنفسهم ويعون البيئة المحيطة بهم. وهذا الاتّحاد الحرّ، المتين بفضل الرّوح الرّفاقيّة الّتي تسوده، هو البديل عن العبوديّة العائليّة الماضية الّذي يقدّمه مجتمع الغد الشيوعيّ إلى الرّجال والنّساء على حدٍّ سواء.

وما أن تتغيّر ظروف العمل وتتزايد الضّمانات المادّية المتوفّرة للعاملات، وبعد أن يزول الزّواج الدّيني - الّذي كان يُسمّى «زواجاً لا ينفصم» ليتّضح أنّه خدعة لا غير - ويحلّ محلّه اتّحادٌ حرّ نزيه بين الرّجال والنساء، بوصفهم عشّاقاً ورفاقاً في آنٍ معاً، فإنّ كارثة إضافيّة مخزية تبدأ بالاضمحلال ويزول شرّ مخيف كان يشكّل لطخة عارٍ على جبين الإنسانيّة جمعاء، غير أنّه يُرخي بكلّ ثقله على المرأة الكادحة الجائعة على نحو خاصّ - عنينا به البغاء.

إلغاء البغاء

إنّ البغاء هو ابن النّظام الاقتصاديّ السّائد وابن مؤسّسة الملكيّة الفرديّة. وما إن تلغى هذه المؤسّسة حتّى تزول تجارة النساء تلقائيّاً.

من هنا، لا يخيفنّ المرأة العاملة أنّ الأسرة، في شكلها الراهن سائرة إلى زوال، لا محالة. فالأحرى بها أن تحيّي انبلاج فجر مجتمعٍ جديد يحرّر المرأة من العبوديّة المنزليّة ويخفّف عنها أعباء الأمومة ويمهّد السّبيل أخيراً أمام إلغاء البغاء - أبشع النّكبات التي بُليت بها النّساء.

إنّ المرأة المدعوّة للنّضال من أجل القضيّة الكبرى - قضيّة تحرير البروليتاريا - ينبغي أن تدرك أنّ الدولة الجديدة لن تقبل بالانقسامات السّخيفة من النّمط الّذي كان سائداً من قبل: «هؤلاء أطفالي أنا وأولئك أطفالك أنت أو أطفال الجيران وأنا لست معنيّة بهم، تكفيني مصائبي». إنّ الأمّ العاملة، الواعية لدورها الاجتماعي، سوف ترتفع من الآن فصاعداً إلى مستوى لا فارق فيه بين ما هو لها وما هو ليس لها، فتدرك أنّ الأطفال هم أطفالنا نحن، أطفال الدّولة الشيوعيّة، وأنّهم ملكٌ مشتركٌ لجميع الكادحين.

تحقيق المساواة الاجتماعيّة بين الرّجال والنساء

لا بدّ للدولة العمّالية من أن توفّر شكلاً جديداً للعلاقات بين الجنسين. إنّ العاطفة الأنانيّة الضّيّقة التي تكنّها الأمّ لأطفالها يجب أن تتّسع لتشمل جميع أطفال الأسرة البروليتاريّة الواسعة. وعلى أنقاض «الزّواج الّذي لا ينفصم»، القائم على استعباد المرأة، سوف يقوم الاتّحاد الحرّ بين الرجل والمرأة، يعزّزه الحبّ والاحترام المتبادل بين مواطنين من مواطني الدّولة العماليّة، متساوييْن في الحقوق والواجبات. ومكان الأسرة الفرديّة الأنانيّة سوف تقوم أسرة العمّال الكبيرة الشّاملة حيث الشّغّيلة، رجالاً ونساءً، هم فوق كلّ شيء إخوة ورفاق.

هكذا ستكون العلاقة بين الرّجل والمرأة في مجتمع الغد الشيوعيّ. وهي علاقة ستضمن للإنسانيّة كافّة المباهج التي يوفّرها ما يسمّى «الحبّ الحرّ» عبر تحقيق المساواة الاجتماعيّة الحقيقيّة بين المرأة والرّجل، وهي مباهج يعجز عن توفيرها المجتمع التّجاريّ في ظلّ الرّأسماليّة.

أفسحوا المجال أمام الأطفال المترعرعين، المتفجّرين صحّةً وعافية!

أفسحوا المجال أمام شبيبة ممتلئة حيويّةً ونشاطاً، متعلّقة بالحياة ومباهجها، حرّة في مشاعرها وعواطفها!

تلك هي شعارات المجتمع الشّيوعي. فباسم المساواة والحريّة والحبّ نهيب بكافّة العاملات والعمّال والفلّاحات والفلّاحين أن يضطلعوا، بجرأةٍ وإيمان، بمهمّة إعادة بناء المجتمع البشريّ باتّجاه مزيدٍ من الكمال والعدالة وزيادة قدرته على أن يؤمّن للأفراد السّعادة التي يستحقّون. إنّ راية الثورة الاجتماعيّة الحمراء، الّتي تنطلق من روسيا لَترفرفُ على بلدان أخرى في العالم، إيذاناً لنا باقتراب «الجنّة على الأرض» التي تحلم بها البشريّة منذ قرون.

العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨
رائدة تحرّر المرأة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.