...تسبّب اكتساح الثورة الهائل في روسيا، والنتائج العميقة التي غيّرت جميع العلاقات الطبقيّة، بإثارة كلّ المشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، كما أدّى، من خلال بذرة الحتميّة في منطقها الداخليّ، إلى تطوّر الثورة بالنتيجة من المرحلة الأولى الخاصّة بالجمهوريّة البرجوازيّة إلى مراحل أكثر تقدّماً، لتُحيل سقوط القيصريّة في نهاية المطاف إلى مستوى لا يعدو كونه مجرّد حلقة ثانويّة - تبيّن لنا هذه الأشياء كلّها بوضوحٍ كوضوح النّهار أنّ تحرير روسيا لم يكن إنجازاً من إنجازات الحرب والهزيمة العسكريّة للقيصريّة، أو خدمةً من خدمات «الحِراب الألمانيّة في القبضات الألمانيّة»، كما بشّرت بذلك مرّةً جريدة نيو تسايت [الأزمنة الجديدة] في إحدى افتتاحيّاتها حين كان يرأس كاوتسكي تحريرها. بل تبيّن، على العكس من هذا، أنّ تحرير روسيا كان متجذّراً في تربة أرضها هي وبلغ أشدّه داخليّاً.
(...)
كذلك الأمر، وكما يرى كلّ مراقبٍ ذكيّ، فإنّ هذه التطوّرات تفنيدٌ حاسمٌ للنظريّة العقيديّة التي يتشاركها كاوتسكي مع الحكومة الديمقراطيّة - الاشتراكيّة، والتي تقول إنّ روسيا، كأرضٍ متخلّفة اقتصاديّاً تغلب عليها السّمَة الزراعيّة، لم تكن لتنضج بحيث تكون مؤهّلةً للثورة الاشتراكيّة ودكتاتوريّة البروليتاريا. وهذه النظريّة، التي ترى أنّ روسيا ليست مؤهّلة لثورة تتعدّى الثورة البرجوازيّة، هي أيضاً النظريّة التي يعتنقها الجناح الانتهازيّ في الحركة العمّاليّة الروسيّة، التابع لمَنْ يُسمَّون المناشفة، تحت قيادة [بافل] آكسلرود و[فيودور] دان المخضرمة.
(...)
كما أنّ مشكلات الثورة الروسيّة - بما أنّها نتاجٌ للتطوّرات الدوليّة علاوةً على المسألة الزراعيّة - لا يمكن أن تُحلّ ضمن حدود المجتمع البرجوازيّ.
فمن الناحية العمليّة، تمثّل هذه النظريّة ذاتُها محاولةً للتملّص من أدنى مسؤوليّة عن مسار الثورة الروسيّة، طالما أنّ هذه المسؤوليّة تتعلّق بالبروليتاريا العالميّة، والألمانيّة على الأخصّ، ولإنكار الصِّلات العالميّة لهذه الثورة. فما برهنتْ عليه أحداث الحرب والثورة الروسيّة ليس عدم جهوزيّة روسيا، بل عدم جهوزيّة البروليتاريا الألمانيّة للإيفاء بواجباتها التاريخيّة. وإنّ توضيح هذا الأمر هو أوّل مهمّة من مهمّات التقييم النقديّ للثورة الروسيّة.
(...)
عند التعامل، كما نحن الآن، مع أولى التجارب في دكتاتوريّة البروليتاريا في التاريخ العالميّ (وهي تجربة تحدث ضمن أصعب ظروف يمكن تخيُّلها، وسط الحريق والفوضى المستعرة في أنحاء العالم على وقْع المجزرة الإمبرياليّة الشاملة، وفي عقر دار أشدّ القوى العسكريّة رجعيّة في أوروبا، بالترافق مع أكبر إخفاقٍ من جانب الطبقة العاملة العالميّة)، سيكون من الجنون أن نظنّ أنّ كلَّ ما تمّ فعله أو تُرك في تجربة تتعلّق بدكتاتوريّة البروليتاريا ضمن ظروفٍ غير طبيعيّة كهذه يمثّل أقصى درجات الكمال. بل على العكس، فالتصوّرات الأوّليّة للسياسات الاشتراكيّة وتأمّل اشتراطاتها اللازمة تاريخيّاً ستدفعنا إلى إدراك أنّ حتّى أعتى المثاليّات الهائلة وأشدّ الطاقات الثوريّة منعةً ستكون عاجزة، ضمن ظروف فتّاكة كهذه، عن تحقيق الديمقراطيّة والاشتراكيّة، ولن تكون قادرةً إلّا على محاولات مشوّهة في أيٍّ منهما.
(...)
وليس ثمّة أدنى شكّ بأنّ العقلَين الحكيمين اللذين يقودان دفّة الثورة الروسيّة، لينين وتروتسكي، في دربهما الشائك الذي يعجّ بالفخاخ من كلّ نوع، لم يتّخذا الخطوات الحاسمة الكثيرة إلّا وهما يقاسيان أقصى درجات التردّد الداخليّ وأعتى درجات المعارضة العنيفة في الداخل. وبالطبع، فإنّ أبعد ما كان يدور في خلدهما هو الاعتقاد بأنّ كلّ الأشياء التي فعلاها أو أغفلاها ضمن ظروف قسريّة وضروريّة مرّة وسط دوّامات الأحداث الهائجة، ينبغي أن تُؤخَذ من جانب الأمميّة بكونها مثالاً ساطعاً على السياسة الاشتراكيّة التي لم تُلاقِ إلّا تبجيلاً غير نقديّ وتقليداً متحمّساً.
ولن يكون أقلّ خطأً أن نخشى من أن يؤدّي التقييم النقديّ للطريق التي قطعتْها الثورة الروسيّة حتى الآن إلى الانتقاص من احترام مثال الثورة الروسيّة أو قوّتها الجذّابة، التي يمكنها وحدها أن تتغلّب على العطالة القاتلة لدى الجماهير الألمانيّة.
(...)
في بدايات آذار / مارس ١٩١٧، ترأّس الكاديت١، أي البرجوازيّة الليبراليّة، الثورة. وقد اكتسح أوّل فوَران كبير في المدّ الثوريّ معه كلّ شخص وكلّ شيء. أمّا مجلس الدوما الرابع، النتاج الأكثر رجعيّة لحقّ الاقتراع رباعيّ الطبقات الأكثر رجعيّة الذي أقرّ بعد الانقلاب، فقد تحوّل إلى أداةٍ للثورة. وشكّلت جميع الأحزاب البرجوازيّة فجأة، حتى تلك المنتمية إلى اليمين القوميّ، كتيبةً ضدّ الطغيان. وقد سقط الطغيان بعد أوّل هجوم وبلا مقاومة تقريباً، مثل عضو ميت من أعضاء الجسم كان ينتظر مجرّد لمسةٍ لكي يَسقط. وكذلك انهارتْ، خلال ساعات معدودات، المحاولة القصيرة للبرجوازيّة اللبراليّة كي تحافظ على العرش والسلالة الحاكمة على الأقلّ. قفزتْ مسيرة الأحداث الكاسحة، خلال أيّام وساعات، إلى مسافاتٍ استغرقت سابقاً، في فرنسا، عقوداً لقطعها.
(...)
نحو المرحلة الثانية من الثورة
والآن، على أيّة حال، بدأت المهمّة الثانية والأصعب. منذ اللحظة الأولى، كانت قوّة الثورة هي جماهير بروليتاريا المدن. لكنّ مطالبها لم تتقيّد بتحقيق الديمقراطيّة السياسيّة بل كانت معنيّة بالسؤال الحارق المتعلّق بالسياسة الدوليّة - السلام العاجل. وفي الوقت ذاته، احتضنَت الثورة كتلةَ الجيش التي طرحت المطلب ذاته من أجل السلام العاجل، وجماهير الفلّاحين الذين دفعوا بالمسألة الزراعيّة إلى الواجهة، تلك المسألة الزراعيّة التي كانت منذ العام ١٩٠٥ محور الثورة الفعليّ. السلام العاجل والأرض - من هذين الهدفين انبثق الانقسام الداخليّ في الكتيبة الثوريّة بعد فترة وجيزة. كان مطلب السلام العاجل متعارضاً تماماً مع النّزعات الإمبرياليّة للبرجوازيّة اللبراليّة التي كان [بافل] ملياكوف هو الناطق باسمها. ومن الجانب الآخر، كانت مسألة الأرض شبحاً مرعباً بالنسبة إلى الجناح الآخر في البرجوازيّة، أي ملّاك الأرض في الريف. كما أنّها مثّلت أيضاً هجوماً على المبدأ المقدّس للملكيّة الخاصّة عموماً، وهي مسألة حسّاسةٌ للطبقة المالكة بأسرها.
وبذلك، وفي اليوم الأوّل الذي تلا الانتصارات الأولى للثورة، نشَبَ فيها صراع داخليٌّ حيال مسألتين حارقتين - السلام والأرض. شرعت البرجوازيّة اللبراليّة بتكتيكات تأجيل الأشياء ومراوغتها. أمّا جماهير العمل، والجيش، والفلّاحين، فقد ضاعفوا من عنف ضغوطهم. وليس ثمّة احتمال للشكّ بأنّ مصير الديمقراطيّة السياسيّة للجمهوريّة كان مرتبطاً بمسألتَي السلام والأرض. وسمحت الطبقات البرجوازيّة، التي جُرفت بفعل الموجة العاصفة الأولى للثورة، لنفسها بأن تُجرّ إلى مستوى حكومة جمهوريّة. وبدأت الآن بالبحث عن قاعدة دعم في الصفوف الخلفيّة وبتنظيم ثورة مضادّة في الخفاء. وكانت حملة كاليدين على رأس جيش القوزاق٢ ضدّ بطرسبورغ أوضح تعبير عن ذلك. ولو قدّر لها أن تنجح لآذنت بنهاية لا مصير مسألتي السلام والأرض وحسب، بل مصير الجمهوريّة أيضاً. ولكانت الدكتاتوريّة العسكريّة، أي حُكم الإرهاب ضدّ البروليتاريا، ومن ثمّ العودة إلى النظام الملكيّ، هي النتيجة الحتميّة لذلك النجاح.
(...)
في هذا الوضع، أدّى التيّار البلشفيّ الخدمة التاريخيّة المتعلّقة بتصريحه بتلك التكتيكات التي يمكنها وحدَها صَون الديمقراطيّة ودفع الثورة إلى الأمام، واتّباع تلك التكتيكات بانضباطٍ حديديّ. كلّ السلطة في أيدي جماهير العمّال والفلّاحين على نحو حصريّ، في أيدي السوفيات - كان هذا فعليّاً هو الطريق الوحيد للتخلّص من الوضع الشائك الذي وقعتْ فيه الثورة، وكان ضربة السيف التي قطعوا بها عقدة غوردياس المستعصية٣، حيث حرّروا الثورة من طريق مسدودة وفتحوا لها مساراً هانئاً نحو حقول مفتوحة لا نهاية لها.
وبذلك كان حزب لينين هو الحزب الوحيد في روسيا الذي فهم المصلحة الحقيقيّة للثورة في تلك الفترة الأولى. كان هو العنصر الذي دفع الثورة قُدُماً، وبذلك كان الحزب الوحيد الذي تابع طريقه معتنقاً سياسةً اشتراكيّة.
وهذا ما يوضح، أيضاً، لماذا تمكّن البلاشفة، مع أنّهم كانوا في بداية الثورة أقليّةً مضطهَدة مقموعة مُطاردة تتعرّض لهجومٍ من جميع الأطراف، من الوصول في أقصر وقتٍ ممكن إلى زعامة الثورة وتمكّنوا كذلك من ضمّ جميع جماهير الشعب الأصيلة تحت لوائهم: بروليتاريا المدن، الجيش، الفلاحين، علاوةً على العناصر الثوريّة للديمقراطيّة، أي الجناح اليساريّ من الاشتراكيّين الثوريّين.
فالوضع الفعليّ الذي وجدَت الثورة الروسيّة نفسها فيه، ليصل إلى أحد البديلين خلال أشهر قليلة: إمّا انتصار الثورة المضادّة أو دكتاتوريّة البروليتاريا - كاليدين أو لينين. هذا ما كان عليه الوضع الموضوعيّ، كما ظهر سريعاً في كلّ ثورةٍ بعدما تلاشتْ آثار نشوة الانتصار الأولى، وكما تمثَّل في روسيا كنتيجة للمسألتين الملموستين الحارقتين المتعلّقتين بالسلام والأرض حيث لم تكونا لتجدا حلاً ضمن إطار الثورة البرجوازيّة.
وبهذا لم تقم الثورة الروسيّة إلا بتأكيد الدرس الأوّليّ لكلّ ثورة عظيمة، قانون كينونتها، الذي ينصّ: إمّا على الثورة التقدّم بإيقاعٍ سريعٍ عاصفٍ حازمٍ يحطّم كلّ الحواجز بيَدٍ من حديد ويكبّر من أهدافه أكثر فأكثر، أو سرعان ما ستُرمى خلف نقطة الوصول الهشّة التي حقّقتها وتُهزَم على يد الثورة المضادّة. السكون، المراوحة عند نقطة واحدة، الرضا بأوّل هدفٍ يُتاح لها، ليس ممكناً أبداً في [منطق] الثورة. وكلّ من يحاول تطبيق الحكمة السائدة المُستمدَّة من المعارك البرلمانيّة بين الضفادع والفئران٤ على حقل التكتيكات الثوريّة لن يبيّن إلّا أنّ جوهر سيكولوجيا وقوانين وجود الثورة غريبة عنه، وأنّ كلّ التجربة التاريخيّة بالنسبة إليه ما هي إلا كتابٌ مُغلَق مقفول بسبعة أقفال.
(...)
وحده الحزب الذي يعرف كيف يقود، أي كيف يدفع الأمور قُدُماً، هو الذي ينال الدعم في الأوقات العاصفة. والعزم الذي أبداه لينين ورفاقه، في لحظةٍ حاسمة، في تقديم الحلّ الوحيد الذي يمكن به دفع الأمور قُدُماً («كلّ السلطة بيد البروليتاريا والفلّاحين»)، حوّلهم في عشيٍّة وضُحاها من أقليّةٍ مضطهَدة مُهاجَمة مُطارَدة اضطرّ قائدها إلى الاختباء مثل مارا في الأقبية٥، ليصبحوا السّيد المطلَق في الميدان.
وعلاوة على ذلك، سارع البلاشفة مباشرةً إلى تحديد هدفِ قبضهم على زمام السلطة بكونه برنامجاً ثوريّاً كاملاً بعيد المدى، لا أن يكونوا حرساً للديمقراطيّة البرجوازيّة، بل دكتاتوريّة بروليتاريا تهدف إلى تحقيق الاشتراكيّة. وبذلك فقدْ كسبوا لأنفسهم التميّز التاريخيّ الخالد في كونهم أعلنوا للمرّة الأولى أنّ هدف الاشتراكيّة النهائيّ هو البرنامج المباشر للسياسة العمليّة.
أياً تكن درجة الشجاعة، وبُعد النظر الثوريّ، والاتّساق التي يمكن لحزبٍ أن يبلغها في ساعةٍ تاريخيّة، فإنّ لينين، وتروتسكي، وجميع الرفاق الآخرين قد بلغوها إلى حدّ بعيد. إنّ انتفاضتهم في أكتوبر لم تكن بمثابة الخلاص الفعليّ للثورة الروسيّة وحسب، بل كانت أيضاً الخلاص لشرف الاشتراكيّة الأمميّة.
الديمقراطيّة والدكتاتوريّة
الخطأ الأساسيّ في نظريّة لينين - تروتسكي هو أنّهما عمَدَا، كما فعل كاوتسكي، إلى اعتبار الدكتاتوريّة والديمقراطيّة متعارضتين. «الدكتاتوريّة أو الديمقراطيّة» تلك كانت صيغة المسألة كما طرحها البلاشفة وكاوتسكي على السواء. من الطبيعيّ أنّ هذا الأخير كان يفضّل «الديمقراطيّة»، أي الديمقراطيّة البرجوازيّة، وذلك تحديداً لأنّه كان يضعها بمواجهة البديل المتمثّل بالثورة الاشتراكيّة.أمّا لينين وتروتسكي، من الجهة المقابلة، فكانا يفضّلان الدكتاتوريّة مميّزين إياها بالتضاد مع الديمقراطيّة، وبذلك فهما كاما يفضّلان دكتاتوريّة حفنةٍ من الأشخاص، أي الدكتاتوريّة على الطراز البرجوازيّ. وهذان قطبان متضادّان، وكلاهما على السواء بعيدان من سياسةٍ اشتراكيّة أصيلة. فلا يمكن للبروليتاريا، حين تستولي على السلطة، أن تأخذ بنصيحة كاوتسكي الجيّدة، إذ بما أنّها قُدّمت على أساس فرضيّة «عدم نضوج البلاد»، فإنّ تلك النصيحة تشجب الثورة الاشتراكيّة وتكرّس نفسها للديمقراطيّة. لا يمكنها الأخذ بهذه النصيحة من دون خيانة نفسها، والأمميّة، والثورة بالنتيجة. ينبغي لها بل ويجب عليها أن تضطلع فوراً بمعايير اشتراكيّة بأقصى حدٍّ من الطاقة والعناد والصلابة، أي بمعنى آخر عليها ممارسة دكتاتوريّة، ولكنْ دكتاتوريّة الطبقة، لا دكتاتوريّة حزب أو طغمة - دكتاتوريّة الطبقة، وتعني أوسع شكل ممكن من الديمقراطيّة اللامحدودة على أساس أعظم مشاركة فعّالة لامحدودة للجماهير.
«كماركسيّين،» يكتب تروتسكي، «لم نكن يوماً عبَدة أصنام الديمقراطيّة التقليديّة». ومن المؤكّد أنّنا لم نكن يوماً عبدَة أصنام الاشتراكيّة أو الماركسيّة أيضاً. وهل يستتبع من هذا أن نرمي الاشتراكيّة في كومة المهملات، كما فعل كونو ولنش وپارفوس٦، لو لم تعدْ مناسبةً لنا؟ تروتسكي ولينين هما التفنيد الحيّ لهذه الإجابة.
«لم نكن يوماً عبدَة أصنام الديمقراطيّة التقليديّة»، وكلّ ما يعنيه هذا: لطالما كنّا نميّز الجوهر الاشتراكيّ عن الشكل السياسيّ للديمقراطيّة البرجوازيّة، لطالما كشفْنا النّواة الصّلبة للتفاوت الاجتماعيّ والافتقار إلى الحريّة المتخفّيين تحت القشرة الجميلة للمساواة والحريّة التقليديّتين - لا من أجل أن نرفض الأخيرة بل كي نحرّض الطبقة العاملة كيلا ترضى بالقشرة، بل أن تعمل، عبر هزيمة السلطة السياسيّة، على خلق ديمقراطيّة اشتراكيّة تحلّ محلّ الديمقراطيّة البرجوازيّة - لا أن نمحو الديمقراطيّة كليّاً.
لكنّ الديمقراطيّة الاشتراكيّة ليست شيئاً لا يبدأ إلّا في أرض الميعاد بعد وضع أساسات الاقتصاد الاشتراكيّ، ولا تأتي كنوعٍ من هديّةِ عيد الميلاد لمن هم جديرون بها الذين دعموا بإخلاص، في غضون هذا الوقت، حفنةً من الدكتاتوريّين الاشتراكيّين. تبدأ الديمقراطيّة الاشتراكيّة بالتزامن مع بداية دمار الحكم الطبقيّ وبداية تشييد الاشتراكيّة. تبدأ في جوهر لحظة استيلاء الحزب الاشتراكيّ على السلطة. وإنّها هي دكتاتوريّة البروليتاريا.
نعم، دكتاتوريّة! لكنّ هذه الدكتاتوريّة تتشكّل في تطبيق الديمقراطيّة، لا في إلغائها، ولكن من خلال الهجمات القويّة الحازمة على حقوق المجتمع البرجوازيّ وعلاقاته الاقتصاديّة المتجذّرة، إذ من دون تلك الهجمات لا يمكن لأيّ تحول اشتراكيّ أن يتحقّق. ولكن لا بدّ لهذه الدكتاتوريّة من أن تكون بيَد الطبقة لا بيَد أقليّة صغيرة تحكم باسم الطبقة - أي، لا بدّ أن تتولّد خطوة إثر أخرى من المشاركة الفاعلة للجماهير، لا بدّ أن تكون تحت تأثيرهم المباشر، وخاضعة لسيطرة النشاط الشعبيّ التامّ، لا بدّ من أن تنبع من الخبرة السياسيّة المتنامية لجماهير الشعب.
ضغوط الحرب والاحتلال
ولا شكّ في أنّ البلاشفة كانوا سيعملون وفق هذا النّهج لو لم يعانوا الضغوط الرهيبة التي فرضتْها الحرب العالميّة، والاحتلال الألمانيّ وجميع الصعوبات الهائلة المرتبطة بهما، وهي أشياء كان من المحتّم بالضرورة أن تحرف أيّة سياسة اشتراكيّة، بصرف النظر عن مدى تشبّع [هذه السياسة] بأحسن النوايا وأسمى المبادئ.
ونجد برهاناً صارخاً على هذا الأمر من خلال استخدام القوّة إلى درجة مفرطة جدّاً من جانب الحكومة السوفياتيّة، وخصوصاً في الفترة الوجيزة التي سبقت انهيار الإمبرياليّة الألمانيّة، وبُعيد محاولة اغتيال السفير الألمانيّ. وحتى المفهوم السائد بقوّة بأنّ الثورات ليست حفلة شاي لبقة لن يؤدّي الغرض تماماً.
كلُّ ما يحدث في روسيا مفهوم، ويمثّل سلسلةً محتومةً من الأسباب والنتائج، وإنّ منطلقها ونهايتها هما: إخفاق البروليتاريا الألمانيّة واحتلال روسيا على يد الإمبرياليّة الألمانيّة. وسنكون كمن يطلب ما هو فوق طاقة البشر من لينين ورفاقه لو كنّا نتوقّع منهم ابتكار أفضل صيغة ديمقراطيّة، وأعظم مثال يُحتذى لدكتاتوريّة البروليتاريا واقتصاداً اشتراكيّاً مزدهراً، وهُم يقاسون تلك الظروف. إذ من خلال موقفهم الثوريّ الحازم، وقوّة أفعالهم النموذجيّة، وإخلاصهم الصارم للاشتراكيّة الأمميّة، ساهموا بكلّ ما يمكن المساهمة به ضمن تلك الظروف مفرطة القسوة. ولن تبدأ الخطورة إلّا إذا تذرّعوا بذلك الاضطرار وأرادوا تجميد كّل التكتيكات التي فرضتْها عليهم هذه الظروف المرهقة في منظومةٍ نظريّة كاملة، بحيث يصدّرونها إلى البروليتاريا الأمميّة كأنموذجٍ للتكتيكات الاشتراكيّة. فحين سيدمّرون إنجازاتهم على هذا النّحو، ويقزّمون خدمتهم التاريخيّة التي لا ريب في أصالتها ضمن خطوات زائفة فرضتْها عليهم الضرورة، سيقدّمون خدمةً بائسةً للاشتراكيّة الأمميّة التي قاتلوا وعانوا من أجلها، إذ يودّون أن يضعوا في مخزون تجاربها، كاكتشافات جديدة، كلّ الانحرافات التي شهدتْها روسيا بفعل الضرورة والاضطرار - والتي ليست سوى نتاجاتٍ لإفلاس الاشتراكيّة الأمميّة في الحرب العالميّة الحاليّة في نهاية المطاف.
دعوا اشتراكيّي الحكومة الألمانيّة يصرخون بأنّ حُكم البلاشفة في روسيا هو تمثيلٌ مشوَّهٌ لدكتاتوريّة البروليتاريا. وإنْ كانت كذلك حقاً، فهذا ليس إلّا لأنّها نتاج لسلوك البروليتاريا الألمانيّة، والتي هي بحدّ ذاتها تعبيرٌ مشوَّه عن الصراع الطبقيّ الاشتراكيّ. كلّنا خاضعون لقوانين التاريخ، ولا يمكن للنظام الاشتراكيّ أن يتحقّق في المجتمع إلّا أمميّاً. وقد أظهر البلاشفة أنّهم قادرون على كلّ ما يمكن لحزبٍ ثوريٍّ أصيلٍ أن يساهم به ضمن حدود الإمكانات التاريخيّة. لا يُفترَض بهم تحقيق معجزات. إذ ستكون معجزة لو تحقّقت ثورة بروليتاريّة أنموذجيّة لا شائبة فيها، في أرضٍ معزولة، أرهقتْها الحرب العالميّة، وخنقتْها الإمبرياليّة، وخانتْها البروليتاريا الأمميّة.
وما يُفترَض بنا فعله هو تمييز الجوهريّ من غير الجوهريّ، اللبّ من التشوّهات الطارئة في سياسة البلاشفة. ففي الفترة الحاليّة، حين نواجه صراعاتٍ نهائيّة حاسمة في كلّ أرجاء العالم، كانت المسألة الملحّةُ في زمننا ولا تزال هي مسألة الاشتراكيّة ذات الأهميّة القصوى. مسألة التكتيكات الثانويّة هذه أو تلك ليست مهمّة، بل المهمّ هو قابليّة الفعل لدى البروليتاريا، قوّة الفعل، وإرادة القوة لدى الاشتراكيّة. في هذا الجانب، كان لينين وتروتسكي ورفاقهما هم الأوائل، هم من تقدّموا كمثال لبروليتاريا العالم، ولا يزالون الوحيدين حتى الآن ممّن يحقّ لهم أن يصرخوا مع هوتن: «لقد تجرّأتُ!»٧.
هذا هو الجوهريّ والثابت في السياسة البولشفيّة. وبهذا المعنى فإنّ خدمتهم هي الخدمة التاريخيّة الخالدة حين تقدّموا على رأس البروليتاريا الأمميّة ونجحوا في اكتساب السلطة السياسيّة وفي التناول العمليّ لمسألة تحقيق الاشتراكيّة، وفي تقدّمهم القويّ في تصفية الحساب بين رأس المال والقوّة العاملة في العالم بأسره. في روسيا، كلّ ما أمكنَ هو طرح المشكلة. لم يكن بالإمكان حلّها في روسيا. وبهذا المعنى، فإنّ المستقبل في كلّ مكان ينتمي إلى «البولشفيّة».
- ١. كاديت (Cadets أو Kadets) اختصار لأول حرفين (K-D) من الكلمتين الروسيتين كونستيتوتسونو وديموكراتشيسكا (أي: الحزب الديمقراطي الدستوري).
- ٢. كاليدين القوزاق: نسبة إلى الجنرال الروسيّ ألكسي كاليدين (١٨٦١ - ١٩١٨)، قائد «الحركة البيضاء»، وهي تحالف مبعثر من القوى المناهضة للشيوعيّة يضمّ خليطاً متبايناً من القوى البرجوازيّة والاشتراكيّة والجمهوريّة على اختلاف أطيافهم، كان الطرف الأضعف في الحرب الأهليّة الروسيّة (١٩١٧ - ١٩٢٢) ضدّ قوى ثورة أكتوبر من البلاشفة الشيوعيّين «الحمر». أمّا القوزاق فقد كانوا من أكبر داعمي الحركة البيضاء، لذا تعرّضوا لاضطهاد كبير مع انتهاء الحرب على يد قوى الثورة المنتصرة.
- ٣. عقدة غوردياس: نسبة إلى القصة الميثولوجيّة التي تروي قصة اختيار غوردياس حاكماً في تلميسوس على يد الكهنة، ومكافأة الآلهة لابنه ميداس بربط عقدة حبل لا يمكن حلّها، والتي لم تُحل أبداً إلا بعد أن قطعها الإسكندر الأكبر بسيفه. وبذا صارت رمزاً لكلّ وضعٍ مستعصٍ لا فكاك منه إلا بحلٍّ حاسم.
- ٤. إشارة إلى باتراخوميوماخيا أو معركة الضفادع والفئران، وهي ملحمة شعريّة هزليّة تُنسَب إلى هوميروس، تصوّر المعركة التي اندلعت بين الضفادع والفئران إثر غرق أحد الفئران بعد تخلّي ملك الضفادع عنه حين هاجمتهما أفعى مائيّة. تقف الآلهة متفرّجة على المعركة المحتدمة التي كادت تنتهي بفوز الفئران، قبل أن يرسل زيوس جيشاً من السرطانات لنصرة الضفادع، فتنقلب النتيجة لصالح الضفادع.
- ٥. الإشارة إلى جان - پول مارا (١٧٤٣ - ١٧٩٣): طبيب وثوريّ راديكاليّ فرنسيّ، وأحد أعمدة الثورة الفرنسيّة. اشتُهر بدايةً من خلال عمله كطبيب، ثم نوّع كتاباته بين الكتب العلميّة والفلسفيّة. كان فكره إصلاحياً مع شيءٍ من الراديكاليّة أحياناً، ولكنّه انتقل إلى الراديكاليّة كلياً بعد تأسيسه لجريدة لامي دو پوپل [صديق الشعب] قبيل اندلاع الثورة الفرنسيّة، حيث هاجم فيها جميع القوى المؤثّرة في فرنسا، بخاصة الجيرونديين الذين اعتبرهم أعداء للجمهوريّة، قبل أن يضطر إلى التخفّي بين عامي ١٧٩٠ - ١٧٩٢ في الأقبية والمجاري، ولم يعاود الظهور إلا بعد أحداث ١٠ آب / أغسطس ١٧٩٢ التي أنهت الحكم الملكيّ فعلياً. يعتبره كثيرون أحد المحرّضين على مجازر أيلول / سبتمبر ١٧٩٢ التي راح ضحيّتها أكثر من ألف سجين ممّن كان «يُخشى من عدم ولائهم للثورة»، قبل أن يُنتخَب عضواً في المؤتمر الوطنيّ الفرنسيّ، ثم يُرغَم على التقاعد بعد سقوط حكم الجيرونديين وإعدام لويس السادس عشر بالمقصلة بسبب تغيّر القوى في الثورة، إضافة إلى استفحال مرضه الجلديّ الذي قيل إنّه أصيب به أثناء فترة تخفّيه. اغتيل مارا في ١٣ تموز / يوليو ١٧٩٣ بطعنة خنجر في بيته على يد شارلوت كورديه التي كانت مناصرة للجيرونديّين.
- ٦. هاينرش كونو (١٨٦٢ - ١٩٣٦)، پاول لنش (١٨٧٣ - ١٩٢٦)، ألكساندر پارفوس (١٨٦٧ - ١٩٢٤): اشتراكيّون ألمان كانوا أقرب إلى الماركسيّة الأرثوذكسيّة قبل الحرب العالميّة الأولى، ثم تحوّلوا إلى الشوفينيّة أثناء الحرب وبعدها.
- ٧. الإشارة إلى الشاعر والهجّاء الألمانيّ أولرش فون هوتن (١٤٨٨ - ١٥٢٣) الذي كان من أشدّ منتقدي البابويّة قبل مارتن لوثر، ثم انضم إليه في حركة الإصلاح الدينيّ. كان شعاره «Alea iacta est. Ich hab's gewagt»، وهي جملتان الأولى باللاتينيّة تُنسب إلى يوليوس قيصر ومعناها «لقد أُلقي الزَّهر» [بمعنى: لا مجال للتراجع]، والثانية بالألمانيّة وتعني «لقد تجرأت».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.