* من كتابه «حياتي» الترجمة الإنكليزية، ١٩٦٠، ص٣٢٦ - ٣٤١
كانت الحكومة مجتمعة في «قصر الشتاء»، لكنّها تحوّلت إلى مجرّد ظلّ. لقد قضي عليها سياسيّاً. خلال نهار الخامس والعشرين من الشهر كانت قوّاتنا تحاصر «قصر الشتاء» من كلّ الجهات. في الواحدة بعد الظهر، قدّمتُ تقريري إلى سوفيات بتروغراد. وهذا ما نقلتْه الصحافة:
«باسم اللجنة الثوريّة العسكريّة أعلن أنّ الحكومة المؤقّتة لم يعد لها وجود (تصفيق). تمّ اعتقال عدد من الوزراء (برافو). وسوف يعتقل الباقون خلال بضعة أيّام أو بضع ساعات (تصفيق). الحامية الثوريّة الموضوعة بتصرّف «اللجنة العسكريّة الثوريّة» قد فرّقت اجتماع «البرلمان التحضيري» (تصفيق حادّ). كنّا يقظين هنا طوال الليل نتابع مفارز «الجنود الثوريّين» و«الحرس العمّالي» بالهاتف وهم ينفّذون مهمّاتهم بصمت. نام المواطنون ملء جفونهم جاهلين أنّ انتقالاً يحصل بين سلطة وأخرى. محطّات سكّة الحديد، مركز البريد، مركز التلغراف، وكالة بتروغراد للتّلغراف، المصرف الحكوميّ، قد احتُلّت جميعها. (تصفيق حادّ). لم يُحتلّ «قصر الشتاء» بعد لكنّ مصيره سيتقرّر خلال الدقائق القليلة القادمة (تصفيق)».
«إلى مزبلة التاريخ!»
إنّ هذا التقرير المجرّد قد يعطي انطباعاً خاطئاً عن مزاج المجتمعين. توفّر ذاكرتي التفاصيل الآتية. عندما قدّمت التقرير عن انتقال السلطة الذي تمّ خلال الليل، ساد صمت متوتّر لثوانٍ، ثمّ بدأ التصفيق، لم يكن عاصفا جدّاً، بل كان تصفيقاً ملؤه التفكّر. كان الاجتماع يتحسّس الأمر بكثافة وينتظر. عندما جهّزت الطبقة العاملة نفسها للمعركة، تملّكتها حماسة تفوق الوصف، ولكن عندما تجاوزتْ عتبة السلطة، حلّ تأمّل قلق مكان الحماسة الطائشة. هنا تجلّى حسٌّ تاريخيّ حقيقيّ. لعلّ ما سيواجهنا هو مقاومة عاتية من قوى العالم القديم، سيكون صراع ومجاعة وبرد ودمار ودم وموت. «هل سوف نستطيع التغلّب على كلّ هذا؟» تساءل كثيرون. «سوف ننتصر!» كان جوابهم جميعاً. كانت مخاطر جديدة تلوح في البعيد، لكن نشعر الآن بانتصار عظيم، وكان الانتصار يغنّي في دمائنا. وجد ذلك الشعور التعبير عنه في زوبعة الترحيب العاصف التي استقبلت لينين عندما ظهر في الاجتماع بعد غياب أربعة أشهر.
لاحقاً في تلك الليلة، فيما نحن ننتظر افتتاح مؤتمر مجالس السوفيات، كنت أرتاح أنا ولينين في غرفة مجاورة لقاعة الاجتماع، هي غرفة خاوية إلّا من الكراسي وقد بسط لنا أحدهم أغطية على الأرض، فيما آخر، وأظّنه شقيقة لينين، جاءنا بمخدّات. كنّا راقدين الواحد قرب الآخر، يرتاح منّا الجسد والرّوح ترتاح مثل أوتار محكمة الشدّ. هي استراحة مستحقّة. ولكن لم تغمض لنا عين، تجاذبنا أطراف حديث خافت. الآن فقط تصالح لينين مع تأجيل الانتفاضة. تبدّدتْ مخاوفه. ثمّة إخلاص نادر في صوته. كان مهتمّاً أن يعرف كلّ شيء عن الحواجز المشتركة للحرس الأحمر والبحارة والجنود المنتشرين في كلّ مكان. «أيّ منظر رائع: عاملٌ ومعه بندقيّة جنباً إلى جنب مع جنديّ واقفان في الشارع أمام موقد نار!» كان يردّد بشعور عميق. أخيراً التقى الجندي والعامل.
بدأ فجأة «وماذا عن قصر الشتاء؟ ألم يتمّ احتلاله بعد؟ أليس من خطر في ذلك؟». وقفت لكي أستفسر على الهاتف عن مجرى العمليّة لكنّه حاول منعي. «ارقد بلا حراك. سأرسل أحدهم لاستطلاع الأمر». لكنّنا لم نرقد لفترة طويلة. كانت جلسة مؤتمر مجالس السوفيات قد افتتحت في القاعة المجاورة. هرعتْ إلينا أوليانوفا شقيقة لينين لاستدعائي.
«دان يتحدث.١ إنّهم يطلبونك».
صوت متهدّج كان دان يهاجم المتآمرين ويتنبّأ بالانهيار المحتوم للانتفاضة. طالبَنا بأن نعقد تحالفاً مع الاشتراكيّين الثوريّين والمنشفيك، الحزبين اللذين كانا لا يزالان في السلطة حتى يوم أمس، واللذين طاردانا وأودعانا السجون، ها هما، وقد أطحناهما، يريدوننا الآن أن نتفاهم معهما.
أجبتُ على دان وبواسطته على ثورة الأمس: «ما حصل اليوم انتفاضة وليس مؤامرة. هي انتفاضة جماهير شعبيّة لا تحتاج إلى تبرير. لقد كنّا نشدّ من العزيمة الثوريّة للعمّال والجنود. كنّا نعمل على الملأ لصهر إرادة الجماهير من أجل الانتفاضة. ولقد فازت انتفاضتنا. والآن تطالبوننا بأن نتخلّى عن انتصارنا، وأن نعقد الاتّفاقات. ومع من؟ أنتم أفراد مفكّكون بائسون، أنتم مفلِسون، لقد انتهى دوركم. اذهبوا إلى حيث يجدر بكم أن تكونوا فيه من الآن فصاعداً - إلى مزبلة التاريخ!».
هذا كان الجواب الأخير في حوار مديد بدأ يوم الثالث من نيسان / أبريل، اليوم والساعة التي وصل فيهما لينين إلى بتروغراد.
(...)
دوّار السلطة
لقد تمّ الاستيلاء على السلطة في بتروغراد على الأقلّ. لم يكن للينين الوقت ليغيّر ياقته بعد، لكنّ عينيه يقظتان على وسعهما، مع أنّ معالم الإعياء ترتسم على وجهه. نظر إليّ بهدوء بذلك الخفر الأخرق الذي يشير إلى الحميميّة عنده. «تعرف؟» قال بتردّد، «مِن الاضطهاد والعيش في الخفاء، أن نأتي إلى السلطة بفجائيّة كبرى...» توقّف ليجد الكلمة المناسبة «es schwindelt» (الدوّار)، ختم قائلاً، وقد انتقل فجأة إلى الألمانية وهو يرسم حركة دائريّة فوق رأسه. تطلّع واحدنا للآخر وتضاحكنا قليلاً. استغرق ذلك دقيقة أو دقيقتين فقط، ثمّ مجرّد «لننتقل إلى المهمّة التالية».
يجب تشكيل الحكومة. وجدنا بيننا عدداً من أعضاء اللجنة المركزيّة، فعقدنا جلسة سريعة في إحدى زوايا الغرفة.
«ماذا سنسمّيهم؟» سأل لينين وهو يفكّر بصوت مرتفع «أيّ شيء إلّا وزراء - هذا اسم مبتذل جدّاً وحقير جدّاً».
«فلنسمّهم «مفوّضون»» كان اقتراحي، «ولكن يتكاثر جدّاً عدد المفوضين الآن. ربّما «مفوّضون سامون»؟ لا «سامون» لا تبدو مفردة مناسبة هي أيضاً. ماذا إذا سمّيناهم «مفوّضو الشعب»؟».
«مفوّضو الشعب؟ حسناً، إنّه اسم ملائم برأيي»، قال لينين موافقاً، «والحكومة برمّتها؟».
«نسمّيها «مجلس» [سوفيات] طبعاً، «مجلس مفوضي الشعب»، ما رأيكم؟»
«مجلس مفوّضي الشعب؟»، التقط لينين التسمية، «هذا رائع، أشتمّ فيها رائحةَ الثورة!».
لم يكن لينين ميّالاً إلى جماليّات الثورة، ولا هو يستمتع بـ«طابعها الرومنطيقي». لكنّه كان يتحسّس الثورة في عمق أعماقه وبذاك القدر لم يكن ليخطئ في التعرّف إلى «رائحتها».
في تلك الأيّام الأولى، سألني فلاديمير إلييتش فجأة ذات مرّة، «ماذا لو أنّ الحرس الأبيض قتلوني وقتلوك؟ هل سيكون بمقدور سفردلوف ويوخارين أن يتدبّرا الأمر؟»
«لعلّهم لن يقتلونا»، قلت متضاحكاً.
(...)
في اليوم التالي، خلال اجتماع اللجنة المركزيّة للحزب، اقترح لينين انتخابي رئيساً لـ«مجلس مفوّضي الشعب». انتصبت معترضاً - بدا الاقتراح لي غير متوقّع وغير ملائم. «لماذا لا؟» أصرّ لينين. «كنتَ رئيساً لسوفيات بتروغراد الذي استولى على السلطة»، اقترحتُ رفض الاقتراح دون نقاش. وفاز الاقتراح.
في الأول من تشرين الثاني / نوفمبر، خلال النقاشات الحامية في اجتماع لجنة بتروغراد في الحزب، أعلن لينين «ليس من بلشفيّ أفضل من تروتسكيّ». عنت الكلمات الكثير الكثير بالنسبة لي وهي الصادرة عنه. ولا عجب أنّ مَحاضر الجلسة التي دُوّنت فيها تلك الكلمات لا تزال محجوبة عن الجمهور.
أيّ منصب لتروتسكي؟
أثار الاستيلاء على السلطة مسألة مشاركتي في العمل الحكومي. الغريب في الأمر، أنّي لم أعر الأمر أيّ تفكير، فيما تجربة العام ١٩٠٥، لم تكن مناسبة ربطت فيها مسألة مستقبلي بمسألة السلطة. منذ شبابي، والأدقّ منذ طفولتي، كنت أحلم بأن أكون كاتباً. بعد ذلك، أخضعتُ عملي الكتابيّ، مثله مثل كلّ شيء آخر، للثورة. كانت تتراءى لي مسألة استيلاء الحزب على السلطة. ولمرّات غير معدودة، كتبت وتحدّثت عن الحكومة الثوريّة، على أنّ مسألة عملي الشخصيّ فيها بعد الاستيلاء على السلطة لم يطرأ لي على بال. لذا واجهتْني المسألة على حين غفلة.
بُعيد الاستيلاء على السلطة، حاولت الابتعاد عن الحكومة، وعرضت أن أتولّى الإشراف على الصحافة. يجوز أنّ ردّ الفعل العصبيّ عقب الانتصار كان له يد في ذلك، فالأشهر التي سبقت كانت وثيقة الارتباط بالعمل التحضيري للثورة. وكل عصبٌ من أعصاب كياني كان مشدوداً إلى أقسى طاقته. كتب لوناتشارسكي في مكان ما أنّ تروتسكي كان يسير وكأنّه بطاريّة كهربائيّة وأيّ اتّصال به تلسعك شحنة كهربائيّة. حمل يوم ٢٥ تشرين الأوّل / أكتوبر الانفراج فشعرت وكأنّي جرّاح ينجز جراحة صعبة وخطيرة - وما عليّ إلّا أن أغسل يديّ وأن أخلع المئزر وأرتاح.
كان لينين في وضعٍ مختلف. لقد وصل للتوّ من مخبئه، بعدما أمضى ثلاثة أشهر ونصف الشهر معزولاً عن القيادة العمليّة المباشرة. تصادف الأمران ولكنّ ذلك زاد من رغبتي في أن أغادر المسرح لبعض الوقت. على أنّ لينين لم يكن يريد حتى سماع ذلك. أصرّ على أن أتولّى مفوضيّة الداخليّة، قائلاً إنّ المهمّة الأهمّ في اللحظة الحالية هي قتال الثورة المضادّة. اعترضتُ، وأثرت، بين اعتبارات أخرى، المسألة القوميّة. هل يجدر أن نضع بين أيدي أعدائنا سلاحاً جديداً هو أصلي اليهودي؟
كاد لينين يفقد أعصابه. «إنّنا نصنع ثورة أمميّة عظيمة. ما أهميّة تلك الترّهات؟».
بدأ شجار ودّيّ. أجبته «لا شكّ في أنّ الثورة عظيمة، ولكن لا يزال يوجد عدد لا بأس به من المجانين».
«ولكن لسنا مضطرّين بالتأكيد أن نماشي المجانين؟».
«لعلنا لسنا في حاجة إلى ذلك، ولكن يجب على المرء أن يحسب أحياناً حساب الحماقة، فلماذا نزيد التعقيدات منذ البداية؟».
[يجرى التصويت فيجد لينين نفسه في الأقلّيّة. أخيراً يقترح سفردلوف أن يوضع تروتسكي في مواجهة أوروبا ليتولّى مهمّة الشؤون الخارجيّة. فيوافق لينين بعد تردّد وكذلك يفعل تروتسكي.]
- ١. فيودور دان (١٨٧١ - ١٩٤٧) أحد أبرز قادة المنشفيك.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.