مع هذا العدد تدخل بدايات عامها السادس.
بدأنا النشر مطلع الانتفاضات الشعبيّة على امتداد العالم العربي. كنّا وما زلنا نعتقد أنّ ما طرحتْه من تحدّيات زاد الحاجة إلى توسيع مساحات التأمّل وتعزيز تبادل الأفكار والتجارب وتعميق جهود البحث والتفكير النّقدي. وكنّا ولا نزال مقتنعين بالردّ على هذه التحدّيات من منظور يساريّ يستلهم قيمتَي الحريّة والمساواة معاً ويلتزم الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة.
تفترض «بدايات» أنّ مثل تلك المهمّات تستدعي إعادة الاعتبار لمجهود ثقافيّ وفكريّ لا يقتصر على الوجبات الثقافيّة والفكريّة السريعة والعجولة التي تقدّمها صفحات الرّأي أو الثقافة أو وسائل الاتّصال المجتمعي، وإنّما يتعدّى ذلك بالقلق والجهد اللازمَين لإنتاج المعارف وتحكيم الخيال في البحث عن مسارات الانتقال وطرائق التعبير وابتكار الحلول حيث تكون مطلوبة.
سعينا ونسعى إلى الجمع بين مثْل هذا التطلّب البحثيّ والنقديّ وبين الاحترافيّة الصحافيّة والمتعة الجماليّة، مع الحرص على التوجّه إلى الجمهور العريض قدر توجّهنا إلى الجمهور المتخصّص.
ندرك أنّنا بين قلّة من الدَّوريّات المستقلّة التي تكافح للبقاء على قيد الحياة في لبنان والعالم العربي، بمعزل عن دعم رسميّ أو حكوميّ أو مؤسّسي. نعتمد بالدرجة الأولى على عناد فريق المجلّة التحريريّ والفنّي والتنفيذيّ – إضافة إلى العشرات من الكتّاب والباحثين والفنّانين آمنوا بهذا الجهد وارتضوا الكتابة فيه تطوّعاً، وإلى تشجيع جمهور، ولو محدوداً من القرّاء والأصدقاء.
لم ولن نفْلت من مفاعيل الأزمة التي تعانيها الدوريّات الورقيّة أسبوعيّة وشهريّة وفصليّة وهي السبّاقة إلى أزمة اليوميّات، من حيث التمويل والترويج ومصاعب الاشتراكات والتّوزيع، عدا عقبات الرّقابة. مع ذلك نسعى إلى الوجود في أكبر عدد ممكن من البلدان العربيّة، بما فيها معارض الكتب، والمكتبات العربيّة في الخارج.
قرار الاستقلال مكْلف. لسنا مقتنعين بأنّ البديل من «التمويل السياسيّ» يأتي من طريق تمويل رجال الأعمال والشركات للصحافة أو من خلال آليّات السّوق وعائدات الإعلانات التجاريّة.
موّلنا كلّ عددٍ بعدده من خلال تبرّعات قلّة من الأفراد لا يتعدّون عدد أصابع اليدين، ومساهماتٍ متفرّقة بين وقت وآخر لتنظيمات مانحة أسهمت في تغطية بعض تكاليف هذا العدد أو ذاك. ولا وهْم لدينا بإمكان تحقيق الاكتفاء الذاتيّ ماليّاً من خلال المبيع والاشتراكات. لكنّنا سوف نظلّ نسعى إلى أكبر قدْر من العائدات من هذا وتلك. يبقى همّنا الأساس هو نشر الموادّ الجديدة المعاكسة للسّائد والحافزة على البحث والتّفكير في «بداياتٍ لكلّ فصول التّغيير» والوصول إلى أكبر عدد من القرّاء وتوسيع وتعزيز علاقات التّفاعل والتّضامن معهم، نتّكل عليهم في تغذية «بدايات» بالكتابة والمؤازرة والنّقاش والنّقد كما في تأمين استقلالنا الماليّ بالتّرويج والاشتراك والتبرّع.
هي مغامرة. ونحن مستمرّون فيها إلى أنْ تستنفد إمكاناتها المادّيّة، لأنّها لن تستنفد الحاجة إليها وإلى أمثالها ولن يشكو عالم الثّقافة والفكر في بلادنا من كتّاب وقرّاء وأصدقاء يُمدّون مثل هذه الصحافة بجمهورها.
هذا العام هو عام المناسبات والأرقام السحريّة محلّيّاً وعربيّاً وعالميّاً: ١٩١٧، ١٩٤٧، ١٩٦٧، ١٩٨٢، إلخ. في ذكرى الخامس من حزيران ١٩٦٧ ننشر رواية تنقيحيّة للمؤرّخ خالد فهمي تُلقي أضواء جديدة على العلاقة بين الجيش، كمركز قرار وقوّة، وبين القيادة السياسيّة في النظام الناصريّ بمصر عشيّة حرب حزيران / يونيو ١٩٦٧ وخلالها. ويتساءل المقال الافتتاحيّ عن مدى صلاحيّة ثنائيّة «النّقد الذاتيّ / إلقاء المسؤوليّة على الغير» في فهم الهزائم والنّكسات ومحاكمتها داعياً إلى التّأمّل والتفكير في الآليّات الجهنّميّة التي تحكّمت وتتحكّم في التحوّل من الحروب الوطنيّة إلى الحروب الأهليّة. وبمناسبة ذكرى اجتياح لبنان صيف ١٩٨٢، نُفرد صفحات «يا عين» لعَين رمزي حيدر، أحد أبرز مصوّري الحروب اللبنانيّة (والعربيّة) يقدّمه زميله زهير هوّاري.
نفتتح في هذا العدد نشر مذكّرات القائد الشيوعيّ اللبناني جورج البطل، في شهادات نادرة وقيّمة تمتدّ على ستة عقود من الزمن وتنهل من تجربة نضاليّة متعدّدة الأوجه تغتني بصراحة جورج المعروفة وحسّه النقديّ، لتشكّل إضافة نوعيّة إلى ذاكرة الحركة الشيوعيّة واليساريّة اللبنانيّة والعربيّة والعالميّة.
تحوي زاوية «فيها نظر» على دراستيْن لمضاوي الرشيد وميسون سكّرية تنتميان إلى النتاج الأكاديميّ والمعرفيّ الجديد الصادر، بغير اللغة العربيّة، عن أبناء الشّتات العربيّ، وعن سواهم من أكاديميّين وباحثين، وقد تعهّدت «بدايات» بالتعريف بهذا النّتاج وتعريبه ووضعه في متناول القرّاء العرب، خصوصاً أنّ القليل منه يجد طريقه إلى النّشر باللغة العربيّة.
أخيراً، سوف نخصّص العدد الآتي (١٨) لمئويّة «ثورة أكتوبر» الروسيّة ١٩١٧ هادفين منه إلى تسجيل الأوجه المختلفة للحظة تاريخيّة فارقة - خلال عقد من الزمن - تزاوجتْ فيها الثورة الاجتماعيّة والسياسيّة مع الثورة في الثقافة والمخيّلة والقيَم.
وهي دعوة مفتوحة لكلّ مَن له اهتمام بتلك الفترة إلى الاقتراح والمساهمة.
«بدايات»
العدد ١٧ - ٢٠١٧
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.