َمن تأخر تدبيره تقدّم تدميره،
ومن طالت غفلته زالت دولته
قول عربي قديم
عندما بدأت الثورة في سورية، تعطّلتْ كليتاي. كان ذلك في الأسبوع الأول من أحداث درعا. أُدخِلتُ إلى المستشفى. وكان تشخيص الحالة بسيطاً من الناحية البيولوجية، أو قل غير فريد طبياً. إنني أعاني من فشل كلوي. فِلتِرا جسمي الإثنان توقّفا عن العمل. باتا تقريباً معطّلين. ما يعني أنني سأحظى من الآن فصاعداً بصديق جديد، وهو ماكينة غسل الكلى. وأنّ الرحلة التي سأقوم بها بصورة منتظمة، لثلاث مرات في الأسبوع، لن تكون صحافية أو سياحية من أي نوع. بل ستكون رحلة إلى المستشفى. وهي بوتيرتها المنتظمة، تشبه إلى حد ما الرحلات التي كنت أقوم بها خلال عملي في الصحافة. لكني الآن لن أحمل دفتراً أو كاميرا. لن أسجل أية ملاحظات ولن أجري أية حوارات، عدا تلك الروتينية والباهتة مع الطبيب المُشرِف على علاجي. لو كنت أصبتُ بمرض آخر، لاختلف الوضع، لكانت حالتي أكثر سهولة لي وللآخرين.
ربما كنتُ توفيتُ بكل بساطة، وانتهى كل شيء. ذلك أن أسوأ ما في هذا المرض هو أنه ضرب صميم حياتي الخاصة والعامة. إذ لم يعد بمقدوري أن أسافر حول العالم. لقد جُمّدت كل المشاريع والمخططات التي أردت بها إقفال بيوغرافيا الأسفار في حياتي. وهي مفارقة نوعاً ما. فأنا لطالما حلمت بأن أعيد زيارة بعض الأماكن التي سبق أن زرتها في رحلاتي الصحافية، كفييتنام وحضرموت. لكن ماكينة غسل الكلى هي الوحيدة التي ستحظى بهذا الشرف، شرف أن تكون الـ«revisited» دون سائر البلاد والأقطار. علماً أنها برتابتها، بثقلها وبلادتها، محجَّةٌ أو وجهةٌ واحدة لأشخاص كثر. وبالتالي فإنني أمامها لا أحظى بأي تمايز سوى أنني مريض كغيري من مرضى الكلى. أنا لست الصحافي هنا، بل مجرد زائر مؤقت يعاني عطباً في جسمه. لست الناشر ولا المغامر أو صاحب المشاريع الثقافية المشاغبة ولا الرجل الذي لم يتعلم قط من خساراته. إن لي تاريخاً، لا علاقة له على الأرجح بتاريخ المرضى الآخرين، لكنه لا يعني شيئاً لتوليفة المعدن والأنابيب التي بات عليّ لزاماً الاتصال بها وإعارتها دمي لبضع ساعات. هذه الماكينة المصمّمة كي تُصغي للدم فقط، ولنسبة الأملاح - تحديداً البوتاسيوم، وضبطها في معدل ما كي لا يتوقف نبض القلب، لا يعنيها دمٌ بعينه. مع ذلك، فهي تُمدِّد حياتي أياماً قليلة أو ربما أسبوعاً في كل مرة. تعينني لكي أبقى على قيد الحياة، لكي أتذكر وأحاور محدّثِيَّ القلائل وأعترض وأرفع صوتي وأسخر وأسترخي وتدمع عيناي وأفكر بخساراتي دون أن يعني ذلك أنني نادم.
ثم أن أضحك بعد هذا كله.
ثلاث مرات في الأسبوع، تستقبلني الآلة بجمودها الذي يهيأ لي بأنه مستمر إلى ما لانهاية. كما لو أنها تجري معي حواراً صامتاً وبحيادية تامة. حوار بالدم. أعود بعدها إلى البيت منهكاً كأن جسدي صُودِر مني، وعليَّ أن أستدعيه بالنوم. أن أعيد جمعه جزءاً جزءاً أو قطعة قطعة.
هذا الجسد الذي ألقيتُ به في أمكنة بعيدة وقريبة حول العالم، تارة من طائرة، وتارة من قطار سريع أو ترام أو سيارة، لم أشعر يوماً بأن واقعة ما، أو ذكرى، أو مناسبة أليمة استطاعت أن تجرفه بعيداً عني. وحتى وإن حدث الأمر فإنني لم أكن لأفصح عنه بسهولة. إنني كصحافي عاش متنقلاً، مدين له. مدين لشغفه، طاقته، وعدم اعترافه بكسل أو تعب من أي نوع. لقد كان خلوّه من العيوب شرطاً عندما كانت الصحافة مهنة تتطلب من المرء أن يمدَّ يده إلى داخل فم الذئب ليسحب خبراً ما، أو أن يتقصّى مسار أحداث معيّنة بالمقلوب حتى بلوغ الجُحر الذي وُلدت فيه. لقد كان جسدي ماكينتي الخاصة التي حملتني من مكان إلى آخر وفي يدي شبكة الطفل الكبيرة التي وضعها والدي في يدي لا لأصطاد بها الفراشات، بل الأشباح الأكبر حجماً بكثير. لم تغفل عيناي حدثاً منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي. ولم أعتذر أمام مناسبة كبرى أو حرب أو انقلاب أو غزو. أما الآن، فعليّ أن أكون بطريقة ما غائباً ثلاث مرات في الأسبوع، لا غائباً عن العالم وحسب، بل عن سورية تحديداً. سورية التي تعنيني أكثر من أي وقت الآن. فأنا مجبر في كل مرة على أن آخذ قسطاً طويلاً من الراحة قبل أن أعود إلى وعيي لأراقب سقوط العالم في بلادي. لقد تلقيتُ من مرضي تلميحاً قوياً جداً، بأن حياتي لن تكون كما اعتدتُها في السابق. وأنَّ على الإنسان أن يكون جاهزاً للتكيِّف في نهاية المطاف مع جموده الذي لا يُحتمل. وأنّ مرضي هو الحاجز الذي شطر حياتي قسمين.
يتغير الصحافيون ولا يتغيّر العالم.
أنتبه الآن، وأنا أقول هذه الكلمات، إلى أن الصحافي يمضي حياته دون أن ينجز تحقيقاً واحداً عن نفسه. إنه ممنوع من ذلك. الصحافة التي عرفتُها لم تكن يوماً كتابةً عن الذات. فأنا لست الخبر، والخبر لم يكن يوماً أنا. وإن كنت أجد نفسي الآن أكتب ولأول مرة هذا التقرير الروائي، الشخصي فوق العادة، كمن يعرِّف عن نفسه أخيراً لعائلته، لابنه وابنته وأولادهما، بعد كل تلك العقود. أن يُدلي بما يختزنه من انطباعات ووجوه، حوارات ومفارقات وزلّات وأخطاء. فالصحافي أشبه بالفلاح الذي يحمل مذراة يذرّي بها قمح التاريخ. بحبّاته المسوّسة والسليمة. يُعرِّض الأحداث للهواء ثم ينكفئ. إنه أشبه بخزان صامت. قد لا تتيح له الحياة فرصة أن يفرغ ما في ذاكرته إلى العلن. أو قد يدهمه مثلاً مرض لئيم، يتنافى وطبيعته ويتعارض تماماً مع أسلوب حياته، كما في حالتي هذه. وعليه عندئذ أن يعرف كيف يتعايش معه. تماماً كتعايش نقيضين. خصوصاً عندما يكون مرضه مرضاً لم يفلح في أن يصبح شللاً مكتمل الهيئة ولا يروق له ربما أن يمكث في جسد مكابِر لطالما اعتاد الإحاطة شخصياً بأحداث مصيرية وَسَمتْ النصف الثاني من القرن العشرين، وحدّدت مصائر شعوب ورسّخت نكباتها.
وأنا بقيتُ أطاردُ ظِلَّ التاريخ من بلد إلى آخر. غير أنني لم أصل إلى سورية. لم أصل قط إلى الحدث السوري. بلادي القريبة، والتي بت اليوم بعيداً عنها، شأن أي لاجئ. في أشد لحظات بلادي وحدة ومرارة، أُبقيتُ في مكاني. لقد عُطِّل الجسد وأنا في أمسّ الحاجة إليه، ولم يتطلب الأمر سوى عطب قريب من رئتين اغتسلتا بهواء ثقافات الأرض. غير أن هذا لم يكن كل شيء، إذ وقعتُ بعدها وكُسرتُ ذراعاي معاً، الأمر الذي فاقم من عزلتي فلم يعد بإمكاني من بعدها أن أكتب أو أن أقوى حتى على حمل قلم، أو أن ألوّح لسورية وهي تبتعد. سورية التي كان لعائلتي دور أساسي في استقلالها، ما يزيد من شعوري بأنها توأمي، كما لو أن مصاباً واحداً ضرب جسدينا معاً.
لقد استُبعدتُ عن الناس بدنياً وفكرياً. لكني لا أملك الآن إلا أن أكون مطيعاً. عالمي تقلّص في حدود خارطة ضيقة من النقاط ضمن بيروت، بين بيتي والمستشفى والمقهى بعض الأحيان، لتصبح القراءة وسيلة احتكاكي الوحيدة تقريباً بعالم السياسة. أما المطارات التي أمضيتُ فيها مئات الساعات، فقد بات دخولها اليوم محرماً أو خارج خياراتي. قبل إصابتي بالمرض، كنتُ أذهب في كل ويك إند إلى الشام. ألتقي في مقاهيها بأصدقاء طفولة ومعارف قدامى. أما الآن ففقدت الاتصال بمن بقي حياً من أصدقائي على وجه العموم. إنني بالنسبة لهم مريض ولا أحد منهم مستعدّ لإزعاجي. المرض يخلّف في المرء ندوباً سيكولوجية. وهو نكبتي الشخصية.
لقد طاردتني الصحافة وطردتني. وأنا بدوري لم أكفّ عن مطاردتها. إلى أن كان سلامٌ بيني وبينها، عندما غادرتها عام ٢٠٠٠ غير نادم، ولم أكن الكاتب الذي ينظر بعين الحسرة إلى مهنة في أوج تألقها. لقد تركت الجسم الصحافي عندما كان مريضاً فيما أنا بصحة جيدة. أما الآن فأشعر بأنني بحاجة لأن أكون صحافياً دون أن أستطيع. أشعر بأن سورية، كل سورية، تمر في النهر من أمامي. وليس بمقدوري أن أعايش راهنها كصحافي، وليس أمامي إلا أن أكتفي بما حفِظَتْه ذاكرتي. لقد أزيلت أماكن وهدمت معالم وتوارى عن المشهد أناس عرفتهم ملياً. باتت سورية مختزلة. كما لو أن ما يحدث في بلادي أتى ليكمّل مشهد الموت الطويل الذي خبرته منذ كنت طفلاً، «موت الآخرين» فيّ.
في الأسبوع الذي خرج فيه أطفال درعا ليكتبوا - الأرجح بدافع التسلية - شعارات على حيطان مدرستهم، مرضتُ. هُم سرعان ما اعتُقِلوا ونُكِّل بهم، وأنا سرعان ما استدعيتُ إلى العناية الفائقة. حياة سورية ستتغيّر بعد تلك اللحظة كما حياة السوريين. وأكاد أجزم، جميع السوريين. سواء من هم في داخل البلاد أو من هم خارجها. وستدخل البلاد في مرحلة «احتضار طويلة»، فيما سيفعل الأطباء، في الأيام الأولى للأزمة، كل ما في وسعهم لإبقاء جسمي متوازناً. لقد أُدين أطفال درعا بواقع سياسي لم يكن له أي أثر عندما كنتُ طفلاً حموياً في الشام. هم ممنوعون من أن يحولوا الأخبار إلى مادة للهو أو أن يكتبوا ما سمعوه تواً وبطريقة محض أوتوماتيكية، على الجدران. وربما، لو صنعوا على سبيل اللهو قارباً ورقياً من أية جريدة، على مرأى من الضابط الذي قام باعتقالهم وتعذيبهم، للاقوا أيضاً المصير نفسه.
قصة أطفال درعا تعزّز فيّ الشعور بأنني عشت طفولة سورية مترفة، على قلَّتِها وعاداتها البسيطة. أنا أيضاً لطالما كانت الأخبار ووسيطها الورقي تسليتي المفضّلة وأنا طفل. أرى نفسي في بيتنا الأول في «حي بستان الرئيس» بالشام، أنشر الصحف على حبال الغسيل في القبو الذي تسللتُ إليه عبر المطبخ، وألعبُ بيّاع جرائد. أو أخرج إلى الشوارع التي لم ليكن لحزب البعث أثرٌ فيها أو سلطة، وأخطُّ شعارات على جدرانها رفقة أولاد آخرين، قبل أن نذهب إلى البساتين المحيطة ببيتنا في حي «بستان الرئيس»، نطارد الخضروات التي لا يمكنها الركض إلى أي مكان، نقتلعها وندسُّها في أفواهنا، بلمعان أوراقها أو صفرتها، وسواء كانت ناضجة أو لا. نبتلع معها بعض الأتربة والجراثيم، ولا أعلم ماذا أيضاً. كما لو أننا مستعجلون لتخبئة الأرض في أجسامنا.
بأية حال، فإن المشهد يثير فيّ، حين أربطه بوضعي الآن، تساؤلاً فيه من الرمزية ما يفوق واقعيتي بطبيعة الحال: هل يعقل أن يكون تراب الأرض السورية قد أُبقي في كليتيَّ طوال تلك السنوات؟ إنه سؤال شعري، أدرك ذلك، والطبّ يستطيع أن يدحضه بجملة واحدة. لكنني أعرف أن لا إجابات مُطلقة في الشعر. وأفضّل الآن أن ألقي بالسؤال جانباً، أو أتركه لقارئي. وأن أعود إلى ذلك الاتصال المبكر والخافت بالتراب السوري، والذي ستظل صورته قائمة لعقود في ذهني. صورة انحنائي إلى الأرض، المشهد الذي كنت أراه كلما اشتقت إلى سورية أو ابتعدتُ عنها. كأنني دأبت على القيام بذلك لمعرفتي المسبقة بأنني سأظل بحاجة إلى ما يعوّضني عن المسافة التي ستُنصب بيني وبين موطني سورية. كما لو أن يداً خفية في تلك اللحظة كانت تدفعني لأنحني إلى الأرض وأقترب بهذا الشكل منها. إنه المشهد الذي يحفظ تماسي الأول بيني وبين ترابها، والذي سيكون نيغاتيفاً لتماس أكبر، بين صحافي جوّال وبين بلاده التي ستُمحى معالمها لاحقاً. فتلك البساتين، المنخفضة والهادئة، لم تعد موجودة اليوم إلا في رأسي. لقد اقتلعتها الحفارات والبلدوزر معبّدة الطريق في الهواء أمام عمارات شاهقة. إنها من علامات دمشق القديمة التي يحفظها الطفل رياض فيّ. رياض الذي كان فرداً في عصابة أطفال أطلقنا عليها اسماً لا يخلو من البلاغة والمبالغة في آن: «الأسد الكاسر». الأسد الذي كان بعد أن يغزو الحيطان والبساتين، يلقى توبيخ أمهات الأطفال وآبائهم في آخر النهار.
تلك هي سورية التي غادرتها، أو ربما سورية التي لم أغادرها قط.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.