وما دخل علينا شهر شباط من تلك السنة حتى أخذنا نشعر بشدّة الوطأة وثقلها. وبعد أن كنا نعلّل النفس بقرب انتهاء تلك الحرب الطاحنة دبّ اليأس في كل القلوب وبتنا نتوقع هجوم البلايا بأنواعها على جبلنا التاعس.
غلاء ومصادرة الحبوب
ابتدأت أسعار الحنطة بالارتفاع، وكانت قبل ذلك قد تصاعدت أثمان باقي الحبوب (العدس والحمّص والفاصوليا والشعير والذرة) وكل حاجيات المعيشة (الكاز والأرز والسكر، إلخ). ولزيادة شقاء هذا الجبل كان شتاء تلك السنة قاسياً وكانت أمطاره غزيرة وثلوجه متوالية، الأمر الذي أقام أمام اللبناني السدود والحواجزالبرية فتصعبت من جرّاء ذلك طرق المواصلات بيننا وبين الولايات المجاورة لنا. وكانت دول الحلفاء قد أوصدت بوجهنا أبواب البحار فابتدا الضيق والفقر والحرمان تخيّم على ربوعنا المسكينة.
أما أرباب الحكومة البيروتية الذين كانوا يدأبون طبقاً لرغائب جمال [باشا] بإيجاد الطرق المضرّة بصوالح الجبل، فإنهم أخذوا الحيطة لمنع الغلال من دخول لبنان. وإذا تسنى لأحدنا جلب شيء من الحبوب بنوع من الأنواع كانت المفرزة العسكرية المشتتة في سائر جهات لبنان تضع يدها عليه مدّعية أنها بشديد الحاجة إلى الحبوب لأجل إطعام الجيش الذي يحارب دفاعاً عن الوطن والدولة.. واحسرتاه! كيف يعيش جبل صخري سدّت في وجهه كل أبواب الارتزاق؟ الدولة التي تحكمه أقفلت أمامه أبواب البر والدول التي تحاربها أوصدت أبواب البحر. لا ملجأ له ولا معين. علا صراخنا وعويلنا حتى طبّق الفضاء ولجأنا إلى بعض الرؤساء فتداخلوا في الأمر. وبعد اللتيا
صدرت أوامر الحكومة بتأليف شركة (بيروتية ــ لبنانية) عُهد إليها جلب الحبوب بأسعار متهاودة إلى ذوي الفاقة من أهل بيروت ولبنان، وجُعل مستودع تلك الشركة في قرية حدث بيروت من أعمال لبنان. فتراكضت الأقوام إلى ذاك المستودع من بيروت ومن سائر أنحاء الجبل. وكان جميعهم وقد خلت منازلهم من ذرّة من الحبوب يقتتلون في سبيل الحصول على الكمية القليلة من الحنطة أو من الشعير أو من الذرة.
وكان يجب على من يبغي الحصول على شيء من الحبوب أن يكون مصحوباً بمصادقة من شيخ صلح قريته أو من أحد مختاريها. وتوفيراً لراحة الأهلين الذين كانت شدة المتاعب أثقلت كواهلهم اعتمد شيوخ القرى ومختاروها على طريقة هي في معتقدهم ملائمة للصالح العام، وهي أنهم اختاروا مندوباً أو أكثر كلّف نيابة عن الأهالي باستجلاب الحبوب إليهم من مستودع الحدث. وكثيراً ما كان يصادف أولئك المندوبون أنواع العذاب في سبيل الوصول إلى بغيتهم.
ومن حرم منهم من معرفة أحد المقربين إلى مديري الشركة، كانت تضطره الظروف إلى قضاء أيام بلياليها في أرض الحدث تحت وابل الأمطار وعرضةً لسموم الرياح. وقيل لنا إنه كان من المستحيل مواجهة مدير تلك الشركة الجالس على عرش المجد سيان عند جلالته قضى الناس حاجاتهم أم لا.
مراكز الإعاشة
ثم ما طال الأمر حتى قرّرت الحكومة تسهيلاً للمندوبين أن تجعل مستودعاً خاصاً لتلك الحبوب في كل مركز من مراكز قائم مقاميات الجبل.
فكلفوا بتوزيع الحبوب أناساّ فطروا ويا للأسف على الطمع واللصوصية. ولا تسلْ عن كميات التراب التي كانت تضاف إلى تلك الحبوب الواردة علينا عن طريق أولئك الموزعين الأمناء. ألف راية بيضاء على أرباب مستودع الحدث! كانو على الأقل يبيعوننا حبوبهم خالية من التراب!
وقد أفادنا الواقفون على حقيقة الأمر أن مأمور التوزيع في قضاء المتن (جورج مزهر من بصاليم) ابتطن من وراء وظيفته واستحلّ ازدراد مبلغ من المال لا تقلّ قيمته عن خمسة آلاف ليرة. هل بقي المبلغ بتمامه في جيبه أم أنه أعطى معلّمه (المير فايز شهاب قائمّقام المتن في ذاك العهد) قسماً منه؟
ولم تكن تلك الشركة لتسدّ عوَز الشعب الجائع لا سيما وأن الحكومة لم تكن تسمح إلا بإخراج القليل من مقادير الحبوب من الولايات الداخلية، فضلاً عن أنّ بعض الأغنياء كانوا بكل دناءة يزاحمون الفقراء على كسرة من خبز تلك الحبوب.
وشعرت الحكومة البيروتية أن خواطر الشعب قد هاجت من جراء قلّة الحبوب في المدينة، فارتأت أن تشغل الأفران على حساب البلدية وتوزّع الخبز على بيوت المعوزين، فعيّنت في كل من أحياء المدينة أشخاصاً يوزعون جرايات العيش على الأهالي، فكان يصيب كلَّ فرد منهم أوقية خبز في النهار. ولقد كان الشعب يرضى بطيب الخاطر لو صار التوزيع منظماً. غير أن الموزّعين الأنذال كانوا يأكلون نصف المخصص للشعب فضلاً عن أن البلدية كانت توزع الخبز يوماً وتقطعه يومين. وسنعود إلى الكلام عن الأفران والجرايات في فصل آخر من فصول هذا التاريخ.
أوامر جمال باشا
وكانت الخواطر في لبنان وبيروت تزداد اضطراباً من جرّاء ارتفاع الأسعار المتواصل في كل حاجيات المعيشة ولاسيما من جرّاء قلّة ورود الحبوب من الداخلية. ولم يكن من حيلة للأهالي في محاربة ذلك الغلاء وفي دفعهم عنهم شديد ويلاته، فإنّ أكثر المنازل كانت قد فرغت من المؤونة فضلاً عن أن المخزون من الحبوب عند تجار هذا الصنف لم يكن بالشيء الذي يعتدّ، به ولم يكن التجار قد احتاطوا لتلك المسألة التي حدثت مباغتةً.
وفي الحادي عشر من آذار سنة ١٩١٥ أصدر جمال باشا أمراً مشدّداً بوجوب إبعاد المؤن والأغلال والحاصلات والعربات والحيوانات وسائر مسببات النقل الموجودة في القرى الساحلية إلى الداخلية البعيدة، وأكد جمال باشا على مأموري الحكومة أن يلبّوا الأمر بالعجلة الممكنة وأشار إليهم أن يحرقوا ما يتبقى من الحبوب في المخازن فيما لو تسنّى للأعداء أن ينزلوا على الشواطئ لأجل احتلالها. فشمل الخوف سائر القرى الساحلية فابتدأ سكانها بالهرب بمواشيهم وغلالهم. وإننا نذكر أن عدداً كبيراً من اللبنانيين أرباب المواشي ذبحوا معظمها فهبطت إذ ذاك أسعار اللحوم إلى أبخس الأثمان.
وفي اليوم الثالث عشر من آذار، أصدر أوهانس باشا أمراً مبنيّاً على أمر محمد رضا باشا قومندان بيروت ولبنان بفضّ مجلس إدارة الجبل وبوجوب انتخاب أعضاء جدد ينوبون عن الشعب ويخلصون الخدمة (على قول محمد رضا) للدولة التركية. فانفرط عقد ذلك المجلس وكان قد أصبح أكثر أعضائه في المنفى.
وفي تلك الآونة أخذت الحكومة العسكرية من مخازن التجار البيروتيين كل ما رأته لازماً لها من حديد وأخشاب وكلس إفرنجي وترابة إفرنجية وأقمشة متنوعة وأعطت لقاء ذلك أصحاب تلك البضائع وثائق بالثمن الذي رأته ملائماً لها، ودعوا ذلك السلب والنهب «التكاليف الحربية».
ملتزمو الحطب
ولما أوجدت الحكومة البائدة وثائق المحروقات أخذ بضعة أشخاص على عاتقهم مسألة تقديم الحطب اللازم لخدمة الدولة. وقد أطلق على هؤلاء الأشخاص لقب «ملتزمي الحطب».
وأعطى أولو السلطة أولئك الملتزمين أمراً خطياً يمكّنهم من قطع كل ما يرونه موافقاً من الأشجار بدون معارض ولا منازع وبالأثمان البخسة التافهة. فاستلم الملتزمون ذاك الأمر الخطي وفرّق كل منهم عماله في الجهات المخصصة له من لبنان (كانت الحكومة خصصت لكل من الملتزمين ناحية أو أكثر من أقضية جبل لبنان لأجل قطع الأحراج وتقديم الحطب للسكة الحديدية).
وتملصاً من الخدمة العسكرية لجأ إلى الملتزمين عدد عظيم من أبناء بيروت متعهدين لهم بتقديم الكميات الكبيرة من قناطير الحطب. ولقاء مقدار معيّن من الحطب كان الملتزمون يسلّمون أولئك المتعهدين وثيقة إعفاء من الخدمة العسكرية. وهذه هي الوثائق التي سمّوها «وثائق المحروقات».
ومن جرّاء صعوبة النقل كثيراٌ ما كان يتعذّر على بعض المتعهدين القيام بما تعهّدوا به من تقديم الحطب، فكانوا يضطرون ارتضاءً لخواطر أولئك الملتزمين أن يسيروا على الخطة التركية أي خطة الرشوة. وبهذه الواسطة امتلأت من المال جيوب الكثيرين من الملتزمين الأماجد.
وليسمح لنا أولئك الملتزمون (ولنا بينهم أصدقاء) أن نثني الثناء العاطر على أريحية أحدهم جورج بك تابت، فإنه بواسطة التزامه الحطب أنقذ من الخدمة العسكرية وبدون ما بدل مالي لا أقل من خمسين شاباً بيروتياً لجأوا إليه.
ولا يخفى على كل من تنزّه عن الغايات أنّ جورح بك خسر من جيبه الخاص في مسألة الالتزام المشار إليه مبلغاً من المال يزيد على ٥ آلاف ليرة عثمانية.
وكانت نتيجة وثائق المحروقات أنّ لبنان تعرّى من أحراشه ومن أشجاره بعد أن كان غاصا بالغابات التي كان الشعب يستخرج منها ما يحتاجه من الأخشاب الصلبة لصنع مراكبه الضخمة التي ألّف منها في سالف الأيام أساطيل كبيرة كانت تحمل تجارة اللبنانيين إلى أطراف المعمورة.
تذاكر نفوس للبيع
وفي أول عهد الحرب كانت الحكومة اللبنانية قد أوجدت في الجبل أوراق تذاكر النفوس فأرسلتها إلى قائمّقامي الأقضية، وهؤلاء وزّعوها على الأهالي بواسطة شيوخ الصلح والمختارين. وأوجبت الحكومة على الشيوخ والمختارين أن يعطوا كل نسمة لبنانية تذكرة ــ (الذكور والإناث من ابن يوم إلى ابن مئة سنة) ــ وعيّنوا ثمن التذكرة الواحدة ستة قروش تركية.
وكانت الغاية من تلك التذاكر على ما قاله مجلسنا النيابي، أن يتمكّن اللبناني الحامل تلك التذكرة من التجول في أراضي الولايات العثمانية بدون منازعة من قبل أولئك المفتشين الذين كانت الحكومة التركية قد وزعتهم في النواحي العديدة ليسوقوا إلى الخدمة العسكرية كل أبناء الولايات الذين كانوا يفرّون من وجه شُعَب أخذ العسكر.
ولا يخفى أنّ الكثيرين من البيروتيين والدمشقيين والحلبيين وغيرهم من باقي السوريين تمكّنوا من النجاة من الخدمة العسكرية بواسطة تلك التذاكر اللبنانية، فإنهم انتحلوا لهم الأسماء الجديدة ولجأوا إلى بعض الشيوخ والمختارين في لبنان واشتروا منهم تلك التذاكر لقاء مبالغ مالية متنوعة: منهم بكثير ومنهم بقليل حسبما كانوا يتفقون مع أولئك الشيوخ والمختارين.
وما قطعنا الأيام الأولى من شهر شباط سنة ١٩١٧ حتى هبطت عملة الورق التركي هبوطاً فاحشاً جداً وكانت نتيجة ذاك السقوط أنّ التجار في كل البلاد السورية رفعوا أثمان بضائعهم وحوائجهم إلى درجة فاحشة للغاية. وأعظم الضربات كانت ضربة غلاء الحنطة وباقي الحبوب التي انقطع عنا واردها أو كاد من جراء العسكرية التركية والعسكرية الألمانية-النمساوية التي كانت قد تفرقت في كل الجهات والنواحي. فبتنا ننتظر الموت يوماً تلو الآخر.
إلى من نرفع الشكوى؟ أإلى ذاك القائد السفاح أم إلى ذاك الحاكم الظالم أم إلى ذاك الزعيم المنافق؟ كان كلّ منهم يجيب بخشونة وفظاظة:
«ليمُت لبنان ولْتمت بيروت في سبيل إحياء الجيش الذي يحارب. إن الجنود في حاجة إلى الحبوب أكثر من اللبنانيين والبيروتيين».
كانوا يقولون ذلك وأكداس الحبوب في مستودعات الجند نخرها السوس فأصبحت قشوراً لا فائدة منها للجنود أو لغيرهم.
الربا أو تجارة الأرواح
علا صراخنا وطبّق عويلنا الفضاء. لا جدوى لنا! بعنا كل مقتنياتنا وهدمنا بيوتنا وبعنا أخشابها وسقوفها وحجارتها، وتشتتنا في المدن وفي السهول وملأنا أرض البقاع وبعلبك وصحراء الشام وجبال حوران وشطّ الفرات، فقتلتنا الأوبئة وأفنانا الجوعُ وملأت جثثُنا الطرقات والآجام والأودية والغابات، وأكلت لحمانَنا طيور السماء ووحوش البرية، وبقيت عظامنا وجماجمنا منتثرة مطروحة هنا وهناك تذكاراً مفجعاً لمن يدوس بعدنا أرض لبنان ويتأمل بشقائنا في إبّان تلك الحرب الضروس.
هذه كانت حالة الشعب البائس من الجوع والتعاسة، بينما كان القسم الأكبر من أغنياء البلاد وزعمائه يتنعّمون بكل الملاذ، يولمون الولائم الفاخرة ويحيون الليالي المطربة ويختلفون إلى المنتديات العمومية ونوادي اللعب حيث يقتلون أوقاتهم وينفقون أموالهم الطائلة غير مفكرين بإغاثة الملهوف ولا مبالين بدموع اليتيم وبكاء الأرملة وعويل العاجز والمُقعد.
وكان من عهد إليهم من الأتراك أمر الاهتمام بالرعية وبتخفيف الضائقة عن الشعب الضعيف المنهوك القوى يبحثون عن الطرائق المهلكة التي من شأنها الإسراع بإبادة الأهالي، فمنعوا بتاتاً جلب الحبوب من الداخلية وأقفلت مؤبداً الأفران التي تشتغل لإطعام الشعب.
من بقي منا في قيد الحياة وكان لم يزل له بيت أو أملاك لجأ في تلك الآونة الشديدة إلى تجارة الرباء. أو إذا شئت قل تجارة الأرواح. فأعطو من شاءوا خمسين ليرة تركية من صنف الورق تساوي قيمتها على الكثير خمسين ريالاً مجيدياً وأخذوا منه لقاء ذلك بيتاً وأملاكاً لا تقل قيمتها عن ألف ليرة ذهباً.
وقد تنوّعت في تلك الأيام قروض أولئك المتمولين، فمنهم من اشترى جنينة طويلة عريضة ببضع أذرع من الشيت أو الخام أو الكتّان، ومنهم من تملّك بستاناً من الزيتون لا تقلّ مساحته عن فدّانين او ثلاثة لقاء ذراع من الصوف أو الجوخ المخزون في محلّه التجاري، ومنهم من صارت له كروم العنب وأراضي التين الواسعة لقاء كم شمسية وكم منشفة وجه وكم فوطة سفرة. ومنهم من تملّك المروج الغنّاء والسهول الخصيبة لقاء عشرين أو ثلاثين ورقة تركية.
هكذا أقرضَنا المرابون أموالهم، واليوم بعد أن وضعت الحرب أوزارها يريدون أن يتقاضوا ليرتهم التركية التي كانت تساوي عشرين غرشاً تركياً ثلاثمائة وأربعمائة وخمسمائة غرش مصري. وهذا ما يجيزه لهم وجدانهم ويسوّغه ضميرهم ويأمر به دينهم. ولسنا ندري كيف يكون مصير تلك الديون بعد نهاية الموراتوريوم وكيف تحكم الحكومة التي نلفت أنظارها إلى هذا الأمر الهام طالبين من عدالتها أن ترأف بحالة الضعيف الذي أراد الغنيّ أن يبتلعه في عهد الحكومة البائدة الظالمة.
مشاهد الجوع
سرّح يا أخي طرْف مقلتك في رياض جبلك العزيز، في تلك السهول الفسيحة الأطراف الخصيبة الأكتاف وابكِ ذاك الجبل الأشمّ موطن المردة ومربض الأسود وبلاد الأنبياء ومَهبط الشرائع والإديان.
ابك ما استطعت بكاء ما وجدت في العين دمعاً فقد زرئت الأرض بمن كانوا أعظم سكانها وفاءً وأكرمهم خلقاً. ابكِ وطناً تفشّت فيه المجاعة وعمّت الفاقة وسرَت الأوبئة ومشى موكب الموت تتقدمه المخاوف والرعبات، فاشتدّ الضيق بالأهلين ونفدتْ أقواتهم وخلت منازلهم بعد أن سدّ الظلام طرقَ الفرج في وجوههم وغزا الجراد حقولهم ومروجهم فالتهم الأخضر واليابس.
من ذروة لبنان وقاع وديانه، من سهوله وحزونه، من مراتعه الحضرية ومسارحه البدوية من كل قرية من قراه ومن كل بيت من بيوته ومن كل كوخ من أكواخه يسير موكب الموت يسوق أمامه بسياط الخوف والجوع والشقاء الألوفَ المؤلّفة من أبنائه التاعسين.
انزل إلى المدينة تبصّرْهناك شيوخ لبنان وأطفاله ورجاله ونساءه يسارعون من أعلى الجبال إلى الشوارع والأسواق جاثين يئنّون من ألم البرد القارس والجوع المهلك. يقفون بين الآونة والأخرى وينظرون إلى الجهات الأربع وليس من يناولهم كسرة من الخبز ولا حفنة من الدقيق ولا فلذة من فضلات الطعام.
هناك في الأسواق عويل الصغار الجائعين، هناك في الأزقّة أنين الشيوخ المدنفين، هناك على الطرقات دموع الأمهات يعلّلن بها أطفالهن، هناك في الشوارع ومنعطفاتها الشبّان منطرحون وهم غائبون عن الصواب لشدة جوعهم، هناك في أقنية الماء الشيوخ راقدون على الوحول وقد أغمضوا عيونهم وعلَت صفرة الموت وجوهَهم.
هناك في الساحات الأولاد يبحثون في الزبالة علّهم يعثرون على قشور الفاكهة وعلى العظام القذرة، هناك في أسواق الخضر النساء يلتقطن فضلات الأعشاب والأوراق الذابلة العفنة، هناك تحت منازل الأغنياء الزفرات والأنّات، هناك أشباح المساكين تتكلم بلسان الحزن والتوجع. هناك تحت قصور الحكام الظالمين النابذين ظهرياً سنن العدل ونواميس الحق أصوات المظلومين تنادي وتستغيث.
هناك تحت دور المرابين والمحتكرين من ضاقت خزائنهم بالذهب والجواهر ومن ادّخروا لنفوسهم ولذويهم الحبوب وكل لوازم الحياة، هناك العذارى النادبات والأرامل الثاكلات واليتامى المتضورون جوعاً والفقراء المستَعطون الملتمسون فتاتاً من الخبز متساقطاً عن موائد أولئك الطمّاعين المستكلِبين.
هناك تحت دور هؤلاء القوم الذين باعوا ضمائرهم ففقدوا الشعور الرقيق وماتت فيهم العواطف الشريفة ونسوا معنى الأخاء والمحبة، هناك هناك المئات لا بل الألوف من الرازحين الواهنين الساقطين، هناك الأيادي الممدودة، هناك الأرواح المناجية، هناك الأعين الباكية، هناك الأصوات المنادية بأصوات الأنين والاستغاثة: «جوعان! عريان! بردان! ألا من يتصدق على هذا الشحاذ بكسرة من الخبز؟ ألا من يناوله قليلاً من فضلات طعام خدمِه! ألا من يرحمه ويحسن إليه بعظم من العظام التي ترمى للكلاب والهررة! ألا من يستر جسمه بقطعة من القماش البالي؟ ألا من يتكرّم بإدخاله إلى كوخ من أكواخ عبيده ويوقد له ناراً تدفئ برده؟». واحسرتاه ما أقلّ السامعين!
واأسفاه انظر إلى أولئك المساكين! إنهم يتساقطون هنا وهناك كورق الخريف! واويلاه! تتلاشى أجسامهم عضواً عضواً فيموت جميعهم تباعاً عراةً حفاةً يساعد البرد الجوع في اختطاف أرواحهم الطاهرة وتتراكم جثثهم في كل الأماكن والزوايا. وأسفاه!
هكذا مات أهل لبنان وسراة القوم ورؤساؤه يتناولون المآكل الشهية والمشارب الطيّبة ويرقدون على الأسرّة الناعمة، لم يكسوا عارياً ولم يطعموا جائعاً ولم يداووا مريضاً.
هكذا مات شعب لبنان وأغنياؤه المفاخرون بزينة نسائهم ورياش منازلهم لم يجودوا حتى بفلس الأرملة في سبيل مساعدة أبناء وطنهم التاعسين.
هكذا مات قوم لبنان وبيع قسم كبير من بناته في سوق الإمآء تملصاً من الموت والزعماء والقواد يرتعون في أحسن الراحة وبحبوحة الهناء. فلم يمدّوا يدَ الرحمة لطرد النقمة عن أولئك المساكين.
أما سمعوا بآذانهم العويل والأنين! أما بصروا بأعينهم الأيادي الممدودة! اما دروا أن قومهم أكلو التراب! أغنياءنا! قولوا لنا: أتغسلون أيديكم تبرؤاً من دماء تلك الضحايا التي لا تعداد لها!
المحتكرون بالأسماء
ومخصصات مستخدمي الحكومة الذين كانوا يقدمون كل يوم اسماً جديداً (لا وجود لصاحبه) يأخذون بموجبه وثيقة بكمية وافرة من الحبوب. ومبادلة الحبوب ــ على قلة كميتها ــ بالزيت والصابون والدبس والأقمشة كل ذلك كان من أكبر مسبّبات الشقاء والموت جوعاً في لبنان إذ إنه لا يخفى أن الذين تولجوا مسألة تبديل الحبوب بالمواد المشار إليها وفي مقدمتهم الياس عبد جدعون صهر نجيب الأصفر ــ باعوا ثلاثة أرباع الحبوب بأفحش الأثمان ــ ووضعوا تلك الأثمان في جيوبهم الواسعة ــ وصرفوا الربع الأخير في سبيل المبادلة بتلك الموادّ.
والخلاصة أن أكبر المجرمين بحق جبل لبنان الذين سبّبوا المجاعة في ربوعه وخنقوا أبناءه خنقاً وأكلوا الحبوب المخصصة لإعاشته هم: علي منيف بك متصرف الجبل في ذلك العهد، والمحتكرون وفي مقدمتهم ميشال إبراهيم سرسق (مات) والحاج رئيف المشنوق، والسادات محيي الدين وعبد الحميد الغندور وعبد الغني وعبد القادر الغندور، ومحمد حليم بك محاسبجي المتصرفية في ذاك الحين، وأحمد وفيق أميرالي الجند الللبناني يومذاك، وكمال اليافي (مات) ترجمان علي منيف، والطبيب نجيب الأصفر مدير شركة الحبوب اللبنانية، وإسكندر بك الخوري وزخور العازار من أعضاء المجلس الإداري اللبناني في ذلك العهد، والياس عيد جدعون، وأكثر مديري مستودعات شركة الإعاشة وملتزمو نقل الحبوب إلى القرى، ومأمورو القبان في مستودعات الإعاشة وفي مقدمتهم يوسف الدقاق من بيروت مأمور قبّان مستودع بطرّام.
والي بيروت زعيم المحتكرين
ولما بلغ الغلاء هذه الدرجة الفاحشة، كنا نطوي الأيام الأولى من شهر أيار. وفي تلك الأزمنة الهائلة ملأت جثث قتلى الجوع الشوارع والطرقات واستأصل الله من كل القلوب شواعر الحنان والشفقة فلم يعد أحد يبالي بإطعام الجائع كسرة من الخبز بها يسد رمقه. ومن جرّاء ذلك الاحتكار، وذلك الغلاء رفعنا الشكوى إلى عزمي وكان أكبر اللصوص وزعيم المحتكرين، فأظهر أنه يبذل الجهد في سبيل فضّ ذلك المشكل الهام وأمر بإمساك ستة من أولئك المحتكرين وأذاع في كل بيروت أنه عازم على نفيهم إلى أقصى الداخلية إن لم يبادروا إلى إسقاط أسعار الحبوب بالحال والسرعة. وقد أعطاهم على ما نذكر مهلة ثمانٍ وأربعين ساعة فقط.
ومضت تلك المهلة فأطلق سبيل أولئك المحتكرين ولم نعلم كيف ولماذا. وظلت أسعار حبوبهم غالية غلاءها الأول. أنّ الشعب وعلا صراخه من تلك الحالة، لكن الظُلّام لم يبالوا بذلك ولا همَّهم أنينُ الجياع وصراخ المساكين وعويل اليتامى.
وفي تلك الأزمنة الهائلة أمر عزمي بحفر الحفائر في رمل بيروت لدفن الموتى بالمئات والألوف. في تلك الأزمنة الهائلة أمر ذلك الدموي بجمع كل المتسولين في بيروت من صغار الأولاد فالتقطهم البوليس من على الطرقات والساحات وحشروهم بالمئات بين أوساخ الحيوانات في الخانات الكائنة على جانبي طريق الشام حذاء ساحة البرج، فمات أولئك المساكين جوعاً في خلال أسبوع واحد وكانوا نحو ألف ولد.
في تلك الأزمنة الهائلة اتصلت القساوة البربرية ببعض متولجي نقل الموتى إلى المقابر أن يدفنوا الأحياء جنب الأموات.
يا اللهّ أين عدلك! هناك في بيروت في النقطة المعروفة بطلعة بسترس بالقرب من ساحة البرج وحذا طريق النهر، هناك في منعطف الطلعة على الزيتونة بجنب ملك (نجيب التيان)، هناك نظرت رجلاً ضعيفاً ملقى في قناة الطريق وقد سمعته يئّن من الجوع وكادت روحه أن تفارق الحياة.
هناك وقفت العجلة المعدّة لنقل جثث الأموات إلى مدفنها في الرمل. وبعد أن التقط السائق ومعاونه عدداً من جثث الأموات المطروحين هنا وهناك أمرهما البوليس بشحن ذاك الرجل وكان لم يزل حياً كما قلنا. فقال السائق للبوليس: يا أفندي إنه لم يمت بعد.
«وما الفائدة من إبقائه هنا؟ إنه يزعج المارة بأنينه. الأوفق أن تأخذه الآن فإني أرى أنه سيموت قبل بلوغك الرمل». وبعد أن وضعوا ذلك المسكين على ضهر العجلة، قال لهم: أتأخذوني إلى المقبرة حياً؟ فانتهره البوليس قائلاً: اصمت! أنت نصف مائت وستفارق روحُك جسدك قبل أن تصل إلى المدفن. ذلك المشهد رأيناه بأمّ العين فقلنا في نفسنا: ألا تنتقم العدالة من أولئك الظلّام!
واشتدّ الخلاف بين عزمي بك وبعض أرباب الأمر والنهي في الآستانة فعمدوا إلى كسر شوكته وعزلوه من منصبه وأجروا عليه أن يترك بيروت بكل سرعة. فغادرها مرغماً حزيناً كسير القلب تنهال عليه اللعنات من كل فجّ وقد ملأ سماء تلك المدينة وأرضها في فظائعه التي يعجز عن وصفها أفصح لسان.
أكل لحوم البشر
وفي إبان ذاك الغلاء الفاحش تعدّدت الحوادث المفجعة التي ترتجف لذكرها الصخور الصمّاء، ولم نكن لنصدّقها لولا أننا رأينا بعضها بأم عيننا وسمعنا بعضها من فم الثقات اللذين يزنون كلامهم بميزان الصدق والتروّي قبل أن ينطقوا به لتتناقله الألسنة. وإننا كنا نودّ أن نورد هنا شيئاً قليلاً جداً من تلك الحوادث على سبيل الذكرى لتلك الأيام السوداء:
شاهد الكثيرون في حي رأس بيروت بالقرب من مدرسة الصنائع ولدين يلتقطان حَب السمسم من بين أكداس الوسخ بينما كان جماعة غيرهما حائمين حول كتلة من عظام الحيوانات المائتة يمتصّونها بنهم الوحوش.
وأخبرنا ثقة أنه بصر (في حارة حريك) بنفر من الناس رجالاً ونساء وصغاراً يتسابقون على أوكار النمل لالتقاط الحبوب من فم تلك الطائفة.
ونحن بأم عيننا شاهدنا (في بيت شباب) الولد المسمى نصري سعيد مراد غبريل يلتقط الحَب من فم النمل بالقرب من كنيسة سيدة الأخوية في القرية المشار إليها وقد شاهد معنا هذا الحادث المعلم أمين نفاع (من القرية المذكورة). ولا يزال المعلم أمين يذكّرنا بتلك الحادثة كلما التقينا. والولد نصري ما برح حياً يروي تلك الحادثة وصحّته جيّدة وهو يناهز الحادية عشرة من عمره.
شاهدنا وشاهد الكثيرون مراراً متعدّدة جماعة الفقراء أمام مطحنة الطويل ومطحنة البراج (في بيروت) ينقّبون في براز الخيل والبغال والحمير لالتقاط بعض الحبوب التي كانوا يتناولونها حاسبين ذلك أفخر طعام لهم.
وكم من مرة التقينا بالبعض يتزاحمون على قشور الفاكهة وحسك السمك! وفي أحد الأيام عثروا عن طريق الحدث على جثة شاب لبناني مطروحة بالقرب من شجرة زيتون. أعلَموا بذلك مدير الساحل فاستدعى هذا طبيباً فحص الجثة فقرر أن ذلك الشاب مات متأثراً من كثرة أكله قشر الليمون الحامض.
وفي سهول البقاع حيث تشتت من بقي حيّاً من اللبنانيين، عثروا على جثث عديدة من جثث الجمال التي قتلتها الأمراض فاجتمع حولها الآدميون والكلاب يقتتلون في سبيل الحصول على بعض لحمانها وعظامها.
وقد روى لنا أسعد يوسف درويش الحائك (كان يشتغل مع جماعة الألمان في رياق) أنّ الألمانيين رموا في رياق جثة حصان مائت بالمرض الذي يسميه العرب ــ بالجمرة الفارسية ــ قال لنا إنّ الذئاب وبنات آوى أبت أن تاكل لحم تلك الجثة.
عرف بذلك إخواننا اللبنانيون التاعسون فتزاحموا هنالك وأكلوا تلك الجثة من الرأس إلى القدم. غير أنه لم يمض عليهم الليل القادم حتى ماتوا عن آخرهم وكان عددهم لا يقل عن الأربعين. فدفنهم الألمان في حفرة عميقة كانوا قد أعدّوها لدفن جثث الخيل التي كانت تموت بذاك المرض حتى لا تسري العدوى إلى بقية الناس.
وأخبرنا جمهور من أهالي معلّقة الدامور أن المدعو خطار شهدان السلفاني (كان قاطناً الدامور) من سلفايا مديرية الشحار قضاء الشوف أكل لشدة جوعه ثلاثاً من جثث الآدميين.
ولم نزل نذكر ويذكر معنا كل من بقي حياً من أهالي مزرعة القنيطري (مديرية القاطع – قضاء المتن) أنّ المدعوّة هيلانة ابنة صليبي عبد أكلت جثة ابنة أخيها نجيب صليبي عبد.
وقد أفادنا أحدهم أن ثلاثة من ضواحي المتين أدى بهم الجوع الفضاح إلى أكل جثث الآدميين.
وقد اتصل اليأس بالمدعو بطرس نصر من عمارة شلهوب (من أعمال ساحل بيروت) أن يأخذ ابنه وابنته حيّين إلى نهر الموت حيث دفنهما في إحدى الحفائر، وكان الصبي ابن سنتين وأخته ابنة أربع سنوات. غير أنّه لم يطل الأمر على بطرس هذا حتى تضعضع رأسه ونحل جسمه وقضى من الجوع.
وإننا ننقل عن فيليب أفندي فارس (قوميسيير محافظة الجمرك في بيروت في الآونة الحاضرة) حادثة طرابلس التي اشتهر أمرها في كل بلادنا وهي: أن أربع نساء من حردين (لبنان) نزلن إلى ميناء طرابلس وأقمن في النقطة المعروفة باسم محلة (فوق الريح) فذبحن بأوقات مختلفة أربعة أطفال الآدميين وأكلنهم ورمين عظامهم في بئر محفورة في تلك النقطة. وقد أجرى تحقيقات تلك الحادثة الفظيعة أرسلان بك الشركسي أحد قوميسييرية بوليس طرابلس في ذاك العهد فزجّوا النساء الأربع في سجن مظلم حيث قضين نحبهن في الأسبوع الأول.
وأفادنا البعض من إخوتنا اللبنانيين الذين كانوا في سهول البقاع في إبان ذاك الغلاء الفاحش أن عدداً وافراً من فقرائنا كانو يأكلون كل ما تصل إليه يدهم من ورق الحور وورق العنب وورق التين وثمره الفجً. وكانوا كلما عثروا على جثة حيوان اجتمعوا حولها مغتذين بلحمانها تشاركهم بذلك طيور السماء.
«الأغنياء مع الترك آفة البلاد»
لا نجهل ما وراء كتاباتنا بحق الأغنياء من ثوران خواطرهم وقيامها ضدنا، لكنها هي الحقيقة أبت علينا إلّا أن نخدمها ثابتين في موقف الدفاع عن مبادئنا الحرة نافين عن نفسنا كل خوف وحذر. ولسنا من الذين فقدوا كل شعور وتعرّوا من كل وجدان فنقول: «قضي الأمر وجف القلم».
ولعمري كيف نسكت ونكسر القلم ونختنق الأفكار كأننا ما رأينا شيئاً وقد رأينا في تلك الأيام العصيبة من المشاهد المخيفة الممثلة على مراسح هذه البلاد التاعسة ما يفتت الأكباد ويذيب الجماد. رأينا وماذا رأينا؟
يا ليت أغنياءنا الذين كانوا يرقصون على قبور قتلى الجوع في تلك الأيام المشؤومة هبّوا لمساعدة المنكوبين أسوة باللبنانيين المهاجرين الذين جمعوا الإحسان وتبرعوا بالمبالغ الطائلة لتخفيف الويلات عن البقية الباقية من إخواننا في لبنان.
رأينا ذلك المتموّل المتكبّر يمثّل الإنسانية القوية بكل مظاهر الغنى والجاه من شمم الأنف ونعومة اللباس والتحلي بأثمن الجواهر وأنفس المعادن، ورأينا ذلك الضعيف المعدم صريعاً في حومة الجهاد البشري يقاسي عذاب المسكنة معفّر الجبين في تراب المذلّة تبدو عليه آثار الشقاء من ثيابه الرثة.
رأينا ذلك الغنيّ القويّ تائهاً في سبل القساوة تستعر نيرانها في جنانه فخلا جنانه من شواعر الرحمة والحنان، ورأينا ذلك المسكين المستعطي منطرحاً على فراش الضنى يعتنق الشقاء ويجرع كأس التعاسة.
رأينا ذلك الغني النافذ الكلمة يواليه الحظُ فيجمع الأموال الطائلة ويرقد خالي البال ويأكل خبز الهناء ويشرب كأس الصفاء ويلذّذ نفسه بكل ما يشتهي قلبه. ورأينا أخاه ذلك الفقير السيئ البخت يئنّ ويشتكي من أنياب الفقر المدقع يواصل صراخه مستغيثاً إلى أن يبح صوته وينقطع نفَسه فلا يجد ضالّته، فيتوسّد التراب ويفتت فؤاده ويقتات به ويفرغ كؤوساً من دموعه ويشربها.
بحقكم أيها الأغنياء الذين تراميتم أيام نكبة البلاد على أقدام الترك الظلَمة فنثرتم عليهم أزهار المديح والثناء وأهديتموهم أنفس الهدايا وأعددتم لهم أفخر الولائم وأطربتم مسامعهم بأشجى الأغاني وهلمّ جراً.
بحقكم أيها الأغنياء من سليم علي سلام إلى آل سرسق إلى آل طراد إلى آل الأصفر إلى آل بيهم إلى آل غندور إلى آل مخيش إلى كل غني في بيروت وفي الجبل من أطرافه إلى أطرافه.
حقكم قولوا لنا: بماذا جدتم على المعدمين من إخوانكم في الإنسانية أيام كنتم تُشبعون شهواتكم في الملاذ وتطربون مع جمال السفاح وعلي منيف المراوغ وعزمي الدموي؟ كانت موائدكم تحاكي موائد الملوك في داخل قصوركم الغنية وكان تحت تلك القصور صدى الأنين والتوجّع يشق الماء والسماء.. جدران منازلكم كانت ترقص طربا بينما تحت نوافذها الملعونة أصوات الثكالى واليتامى تناديكم قائلة:
«سلام لمن يمرّ في الديار، نحن إخوانكم في الإنسانية، احتكرتم أنواع لوازم الحياة وسابقتمونا على الأقل من القليل من سائر أنواع الحبوب فهلّا تتكرمون الآن علينا بما يفضل عن كلابكم؟ لقد أصبحنا أشباحاً كسيري القلب كلمتنا عوالي الدهر ورضّتنا كرات الشقاء فهلّا ترقّ جوارحكم لنا أم ترفق عواطفكم بنا؟.»
واحسرتاه! ضربت غشاوة على عيون الأغنياء فما أبصروا وصمّت آذانهم فما سمعوا وشُلّت أيديهم فما جادوا بشيء على المستغيثين. فأصبحت بذلك ــ كما قال أديب إسحق ــ رؤوس الفقراء صوامع تصلّي عليها رهبان الغربان وأجسامهم مطاعم للعقبان.
أبهذا قضت شرائع الإنسانية؟ أم بذا ترضى الشواعر الأخوية؟ أم يسوّغ ذلك دينياً أم أدبياً أم كيفما أردت قل؟.
يا للجناية الهائلة!
كأني بتلك الدماء تطلب دماء منكم أيها الأغنياء السفاحون.
كأني بتلك الأمواج، أمواج من الدماء اللبنانية تتدفق عند أسرتكم أيها البرابرة ويخيل لي أن فرشكم تعوم على تلك الأمواج فتمدّون أيديكم مستغيثين فتلتقي بأشلاء القتلى والضحايا ضحايا ظلمكم طافية على وجه تلك الدماء...
لو أنّ أغنياءنا أنفقوا فلساً واحداً في سبيل النفع العام أو بذلوا درهماً في سبيل الإحسان، لو أن أفئدتهم الصخرية لانت لمرأى تلك الفواجع التي تدمي القلوب حرقةً وتقطع الأكباد حسرة لكسرنا القلم وخنقنا بعض الأفكار وخفّفنا اللوم والتثريب.
كتبنا ما كتبنا ونحن شاعرون جيداً بحراجة موقفنا ومشاهدون جلياً عيونأ ترشقنا بأحدّ من السهام وقلوباً تغلي على المراجل علينا حقداً وحنقاً. ولكن عفواً أيها الأغنياء المستكبرون اللئام، قلنا إننا لا نخاف ولن نخاف ما زلنا نجاهر بالحق «والحق يعلو ولا يُعلى عليه».
وهنا مجال لأن نذكر حادثة (الريال المزيف) التي وقعت في السنة الثانية من الحرب وقد تداولتها الألسنة فأفرغها بشارة الخوري صاحب «البرق» في القالب الشعري الذي تراه:
ويح الفقير فما تُراه يلاقي
سُدّت عليه منافذُ الأرزاق
عصفتْ به وبسربه ريحُ الشقا
فتساقطوا كتَساقط الأوراق
فإذا بصرتَ به عجبت لشمعةٍ
كالزعفران تَجول في الأسواق
عَلَقُ المجاعة مَصّ بعضَ دمائه
وتعسّف الحكام مصّ الباقي
أخذَ الشقا يدَها فسارتْ خلفَه
والليلُ ممدودٌ على الآفاق
سارت فمالَ الخيزرانُ بقَدّها
ورَنَت فذاب السحرُ في الأحداق
وتلوحُ آثار النعيم بخدّها
كالفجر قبل تكامُل الإشراق
أخَذ الشقا يدَها فإنْ هي فكّرتْ
بمصيرها صعقتْ من الإشفاق
ووهتْ عزيمتُها فألقتْ نفسَها
فوق الثرى وشكتْ إلى الخلّاق
تشكو بدمعها وذلّ فؤادها
وبما تحْي به من الإحراق
يا رَبّ! قالت وهي جاثيةٌ له
إنْ شئتَ حِلّ من الحياة وثاقي
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.