توفيق الباشا (١٩٢٤-٢٠٠٥) رائد من رواد الموسيقى العربية وواحد من رجالات لبنان المبدعين الذين تركوا إرثاً غنياً في الموسيقى والغناء. وهو من الذين أسهموا مساهمة فعالة في نهضة الأغنية اللبنانية والعربية وخلّف مدرسة موسيقية كبيرة ومهمّة وعالمية، وتخرجت على يديه مجموعة من الموسيقيين والفنانين.
البدايات
وُلد في بيروت، تفتّحت عيناه على «الفونوغراف» يتصدّر منزول بيتهم في منطقة رأس النبع في بيروت، وبقربه خزانة حافلة بأسطوانات لأم كلثوم وعبد الوهاب والشيخ سيد درويش وسامي الشوّا وأبو العلا محمد ومحمد عثمان وغيرهم من كبار الفنانين المصريين أساطين الغناء والعزف في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. وإلى جانب هؤلاء كان ثمّة أسطوانات للموسيقى البحتة عليها بشارف وتقاسيم ولونغات وسماعيات. ولا شك في أنّ هذه المقطوعات الموسيقية وتعلّق الفتى توفيق بالاستماع إليها شكّلت الإرهاصات الأولى لتوجّهاته الموسيقية في ما بعد. يقول أخوه الفنان التشكيلي أمين: «في طفولته كان يمضي وقته في رصف القناني ثم يعزف عليها بملعقته مستمتعاً بما تُصدره من أصوات. كأن لعبة الأصوات المنبعثة من القناني كانت صلته الأولى بالموسيقى».
كان أبوه «سمّيعاً» ومتذوقاً للفن الغنائي، يشاركه في ذلك نسيبه الرسام والموسيقي خليل مكنيّة الذي حوّل المنزول إلى صالون فني تجتمع فيه نخبة من الفنانين تسمع وتعزف المقطوعات الموسيقية ومن ثم يتجادلون ويتناقشون في ما سمعوا وما عزفوا. شيئاً فشيئاً وجد الفتى توفيق نفسه منساقاً إلى هذا الشيء الجميل الممتع الذي كان يسمعه ويراه. وبعد متابعته لما يدور في السهرات الحميمة صار يحفظ الألحان. في إحدى المناسبات كان يترنّم وهو طفل بمعزوفة موسيقية «بشرف»1، فدعاه خاله إلى إسماع ضيوفه الترنيمة عندما يلتقون مساء، ففعل وكان منسجماً في الأداء، الأمر الذي أقنع الحاضرين بضرورة تعليمه الموسيقى. لكنّ والده لم يكن يريد له أن يسهر الليالي يعزف وراء المغنيات في المرابع الليلية. كان يريد له أن يصبح مهندساً، فأدخله إلى المدرسة الإيطالية في بيروت مبكراً، لكنّ أزمةً اقتصادية حادّة تعرض لها الوالد حملته مرغماً على سحب ولده من المدرسة. توفيق عوّض عن ذلك بمطالعاته الخاصة، فدرس على نفسه معظم القراءات وحصّل علوماً قد لا يتوفر بعضها في الجامعة آنذاك.
باشر توفيق الباشا مسيرته الفنية الموسيقية عازفاً هاوياً على آلة «الفيولنسيل» أو «التشيلو». في تلك الأيام كان العازفون على آلات التخت الشرقي مثل العود والكمان والقانون، نادري الوجود، فما بالك بعازف على آلة الفيولنسيل ويجيد قراءة النوتة الموسيقية وكتابتها. كان الاستمرار في هذه المهنة، مهنة العزف، يمكن أن يحقق له كسباً مادياً مريحاً، لكنه منذ مطلع شبابه، وعى حقيقة موهبته الموسيقية وأدرك أنه خلق ليلعب دوراً أكبر من دور عازف، هو دور المؤلف الموسيقي، وأيقن أن هذا الأمر لا يتحقق إلا بالعلم وبالدراسة، فالتحق بالمعهد الموسيقي في الجامعة الأميركية في بيروت ليعمّق دراسته الموسيقية على يد أستاذ روسي أبيض يدعى «ألكسي كوغل»، كما كان للفرنسي «برتراند روبيار» فضل كبير في تثقيفه موسيقياً وتلقينه دروساً في التأليف، شأنه شأن الأخوين رحباني اللذين تلقّيا الدروس عينها على يديه، وكان قد سبقهم إلى ذلك زكي ناصيف.
في نظرة مبكرة للواقع الفني، أدرك توفيق الباشا أن مفهوم الفن الموسيقي لدى العامة في لبنان، كما في سائر العالم العربي، مقصور على الأغنية فقط، وهذا مفهوم خاطئ ولا ريب، لأن الموسيقى عالم أرحب من أن يُحصر في إطار ضيّق ومحدّد هو إطار اللحن الغنائي. لذلك كان أول اهتماماته، تبديد هذا المفهوم ومن ثمّ العمل على تأليف ونشر الموسيقى والتبشير بها. وفي الوقت الذي كان فيه التلحين الغنائي هو الطريق الأسهل للكسب المادي والأسرع إلى الشهرة، فضّل هو أن يعمل من أجل الموسيقى العربية أو الشرق عربية، كما يفضّل أن يسمّيها. يريد في نظرة استشرافية أن يطورها ويرتقي بها، أن يُدخل عليها قوالب جديدة لم تعهدها من قبل لتتماشى مع العصر والعصور المقبلة، يريد لها السمو نحو العالمية مع احتفاظها بروحها الشرقية ونكهتها العربية. يريد أن يردّ عملياً على إيحاءات غير بريئة، كما يذكر، تأتي من مصادر غربية تقول: أن ابقوا ضمن دائرة الموروث، فموسيقاكم إذا تطوّرت فسدت، إنها لا تحتمل التطوير. وكان في قوله هذا يستشهد بقول الإمام عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد: «الغربي يعرف كيف يسوس، وكيف يتمتع، وكيف يأسر، وكيف يستأثر. فمتى رأى فيكم استعداداً واندفاعاً لمجاراته أو سبقه ضغط على عقولكم لتبقوا وراءه شوطاً كبيراً». وكثيراً ما كان يردّد أمام صحبه: «يريدون لنا العودة إلى الخيمة والجمل والربابة لينعموا هم بلغة العصر».
فهل كان الباشا زاهداً في الشهرة حتى ركب هذا المركب الصعب؟ إذا جاء الرد بالإيجاب فذلك يعني أننا رفعناه إلى مصاف الملائكة الأطهار، لكننا جميعاً آدميون، والشهرة ثمرة التميّز وغار الطموح. وكلاهما مشروع ومطلوب، فلماذا إذاً لم يلج توفيق الباشا باب الأغنية على حصانه الأبيض ويتفرّغ كلياً لها، وهو سيّد من امتطى الصهوات الموسيقية، وآثر اقتحام باب الموسيقى المرصود الذي نأى عنه الكثيرون من أبناء جيله؟ في اعتقادي أنه بما جبل عليه من علوّ في الهمة وصلابة في العزيمة وإيمان بالنفس، وبما اختزنه من موهبة وعلم، لم يكن ليقنع بما دون النجوم، فقد وضع نصب عينيه التعبير عن القضايا الوطنية الكبرى، والأعمال الإيمانية العميقة وقضايا الإنسان وحقّه في العيش بكرامة وحرية، وهذه المشاعر الجليلة لا يمكن التعبير عنها إلا بالفن الكبير، أي بالموسيقى.
الهدف: التأليف الموسيقي
بيد أن توفيق الباشا لم يحرق المراحل. كان يسعى إلى تحقيق هدفه ضمن تخطيط واع ومدروس من دون أن يضع مُدداً محدّدة للتنفيذ، ولم يكن ممكناً بالطبع وضع مثل هذه المدد لأننا في بلد ينمو فيه الوعي الموسيقي ببطء، إذ لا يكفي أن نؤلف أعمالاً موسيقية بل المهم أن ننشر ونعمّم. وحتى ننشر يلزمنا عازف ماهر وأوركسترا متكاملة قادرة على التنفيذ، وبالتالي لا بد من جمهور مثقف موسيقياً أو فلنقل مهيّأ لتذوّق الموسيقى، ليتقبّل ويقوّم ويقدّر. لذلك فقد تعامل مع الواقع، فلحّن في البداية عشرات الأغاني ومئات القصائد للبرامج الغنائية الإذاعية والتلفزيونية، وأعطى اهتماماً خاصاً للموشحات الأندلسية وأشبعها درساً وتدريساً حتى أصبح مرجعاً أساسياً فيها، كل ذلك دون أن يهمل الهدف الرئيسي الذي كان يعمل بجدّ لتحقيقه: التأليف الموسيقي. فكان يؤلّف المقطوعات الموسيقية ويعممها باستمرار. فأعدّ بداية مجموعة من الألحان الشعبية والفولكلورية اللبنانية والعربية نفّذها مع الأوركسترا :عمّي يا بياع الورد، قهوة بلدي، يا مايلة ع الغصون، زوروني كل سنة مرة، يا امّ العباية، طلعت يا محلى نورها، إلخ. ثم كتب مجموعة أعمال موسيقية أخرى أصدرها لاحقاً في أسطوانة تحت عنوان «نزوة شرقية» Fantaisie Orientale وهي مجموعة جمل موسيقية من فاصل «اسق العطاش» تلعب فيها الكمان دور الُمطرب في العمل الأساسي. وأصدر بعد ذلك أسطوانة بعنوان «متتالية أندلسية» Andalouse Suites أتبعها بأسطوانة ثالثة بعنوان «بساط الريح» Le Tapis Magique المستوحاة من أجواء «ألف ليلة وليلة». كل هذه الموسيقى كتبها توفيق الباشا وسجّلها ونشرها ليقرّبها من أذن المستمع وليحببه بالفن الموسيقي الصرف، فنّ اللحن من دون كلام. وكان يصرّ في كل المهرجانات التي شارك فيها، ملحناً وقائداً للأوركسترا، على أن يكتب هو المقدمات والموسيقى التصويرية لكل منها.
وقبل ذلك، في منتصف الخمسينيات، ابتدع الباشا أسلوباً ذكياً لتقريب الموسيقى إلى أذواق العامة، فقد كان يصوغ لوحة فسيفسائية موسيقية ممتعة، من مجموعة ألحان عبد الوهاب في أغانيه المعروفة ينسّقها وينظّمها لتأتي منسجمة من حيث تتابع المقام، أو يربط بينها بجملة موسيقية من عنده ليتم التآلف والانسياق الجمالي، فلا تنزعج أذن ولا يختل توازن. وقد لاقت هذه المقطوعات التي كان يقدمها في حفلات المنوعات في مسرح الفرير لحساب «إذاعة الشرق الأدنى» ولاحقاً في الإذاعة اللبنانية التي ترأس فيها دائرة الموسيقى بقسميها الشرقي والغربي، الكثير من التجاوب والحماسة من جمهور الحضور. وأوجد ما يُعرف بالإخراج الموسيقي في تنفيذ الأعمال الموسيقية والغنائية والذي ساهم أيضاً في الارتقاء بالأغنية اللبنانية شكلاً ومحتوى، وتحقيق السمعة اللائقة لها في العالم العربي. وفي هذا الصرح الفني الرحب وجد مجالاً واسعاً لتنفيذ أعمال ما كان ليحقّقها لولا أنّ إدارة الإذاعة وضعت كل الإمكانات اللازمة في تصرّف الموسيقيين والملحنين اللبنانيين. ولربما، أقول لربما، بقيت العطاءات خزينة حزينة في صدور أصحابها، فقد استفاد من وجود الأوركسترا، وتفهّم صبري الشريف (مراقب الموسيقى) وتشجيعه لتنفيذ ما كان يحلم به باستمرار بغية تعميمه: الموسيقى البحتة، إذا جاز التعبير، فسجّل مجموعة من المقطوعات الموسيقية جمعها لاحقاً في أسطوانات عدة.
من أجل أن يواكب تطور العصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر لا بد له من اعتماد الأوركسترا التي بواسطتها يمكن للملحنين الكبار أن يعصرنوا الغناء العربــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي.
نحو الموسيقى المجرّدة
هذا من الناحية التطبيقية، أما من الناحية النظرية ومن أجل تنشيط الموسيقى المجرّدة، فقد ساهم في تطوير مناهج المعهد الموسيقي واحداث الدراسات التطبيقية في المقامات والإيقاعات. وأخذ على عاتقه مهمة تنظيم دروس الموشّحات، وهو النوع الذي أولاه الباشا عناية خاصة في نقله من التخت الشرقي إلى الأوركسترا ومن ثم مزواجته لكتابة أعمال الأوركسترا السمفوني وجماليات الموشح مثل ما جاء في أسطوانة «متتالية أندلسية». ولم يدَع الباشا مؤتمراً موسيقياً إلّا وشارك فيه مبدياً آراءه وتوجيهاته، وكلّها كانت موضع احترام وتقدير، حتى إنه أصبح عضواً دائماً في المجمع العربي للموسيقى. هذا فضلاً عن مؤلفاته في علم الموسيقى الشرقية، وهي: المختار من الموشّحات الأندلسية (تحقيق وتأليف)، الإيقاع في الموسيقى العربية (تحقيق وتأليف)، الكمان والأرباع الصوتية. يضاف إلى ذلك عشرات المقالات المتخصصة في الصحف والدوريات.
بيد أنّ اهتمام الباشا بالموسيقى لم يجعله يتنكّر للفن الغنائي العربي بل بالعكس فقد كرس الوقت الطويل لتطويره، فصبّ جلّ اهتماماته على الأعمال الغنائية الكبرى التي تعتمد على الأوركسترا في تنفيذها. كان يؤمن بعدم صلاحية التخت الشرقي لمواكبة تطوّر الفن الغنائي العربي، فمن أجل أن يواكب تطور العصر لا بد له من اعتماد الأوركسترا التي بواسطتها يمكن للملحنين الكبار أن يعصرنوا الغناء العربي. صبّ الباشا اهتمامه في التأليف على الأعمال الغنائية الكبرى: الأعمال الوطنية والصوفية والدينية والموشحات والمغْناة إلخ ... التي تتطلّب الأوركسترا والتوزيع الموسيقي والبوليفوني والكورال والأصوات الكبرى: وديع الصافي، محمد غازي، سعاد محمد، نجاح سلام، نور الهدى، وداد، فدوى عبيد، فايزة أحمد، نجيب السراج، مهى الجابري، نصري شمس الدين، سعاد هاشم، عايدة شلهوب وغيرهم. فأعطى في قالب المغناة ابن زيدون والطريق الأخضر وبائع العطر... وفي قالب البرامج الغنائية التمثيلية طروب ، ابن جامع، عباقرة الغناء عند العرب مجالس الطرب، شهرزاد وغيرها. وفي قالب الموشحات ابن خفاجة، اسق العطاش... وفي قالب الإنشادية منهل الإيمان، دعاء الحق، الإنشادية النبوية، عظماء الدنيا وعظماء الآخرة.
المسز كوك
أما المحطة الهامة والمفصلية في مسيرة توفق الباشا الموسيقية فهي، ولا شك، تعاقده مع إذاعة القدس عام ١٩٥٠ في رام الله، وبالتالي تعرّفه إلى المسز كوك التي ما فتئ يذْكرها بالخير ويذكر تأثيرها فيه وفي توجّهاته الموسيقية ويعتبرها نقطة تحوّل في حياته. كانت الإذاعة يومها محطة لكبار الفنانين، ومن هؤلاء الشيخ علي الدرويش صاحب الاطلاع الواسع على فن الموشحات وقد أخذ عنه الباشا الكثير من فنون الموشح. وفي إذاعة القدس تعرف إلى المسز كوك، وهي سيدة أميركية على جانب كبير من الثقافة والمعرفة، أحبّت الشرق وروحانيته، وانشغلت بجلال الدين الرومي وبابن عربي وغيرهما من المتصوفين، وهي تعدّ محيي الدين بن عربي قمّة التصوّف.
كانت السيدة كوك تتقن اللغات الفرنسية واليونانية القديمة والفارسية والعربية الفصحى، وعلى معرفة وافية بتراث الشرق الأوسط وفلسفاته ودياناته. وتسعى إلى التوفيق بين الباليه والموضوعات الدينية، ولما كان التعبير بالصوت والجسد أرقى أنواع التعبير، حسب وجهة نظرها، فقد تولّدت عندها فكرة إطلاق لوحة عن مولد الرسول صلى الله عليه وسلّم تكون الذروة في عرض الباليه الذي تنوي أن تجوب به البلاد العربية والإسلامية، وكانت تبحث عن موسيقيّ مسلم يضع لها موسيقى لهذه اللوحة. بالصدفة استمعت من إذاعة القدس إلى عمل غنائي جماعي يشبه الموشح الصوفي لتوفيق الباشا، فصرخت: هذا هو. وطلبت الالتقاء به وتم اللقاء، ومن ثمّ توثق التعاون بينهما من خلال «باليه الشرق الأوسط والبلاد العربية».
في هذا اللقاء تعرف الباشا إلى السيدة التي صارت محطة هامة غيّرت الكثير في مجرى حياته الفنية. وهي عندما التقت به قالت له: أنت الشخص الذي بحثت عنه طويلاً. سيدة لا تُنسى، يقول الباشا، ربطتني بها علاقة أشبه ما تكون بالخرافة. قالت له: أريد أن أقدّم لوحة تعبيرية عن مولد الرسول، وشرحت له ما يدور في خلدها من صور ومشاهد حول الموضوع. وتفرّغ الباشا لكتابة موسيقى اللوحة التي تعشّق أجواءها قبل أن يراها. كان المشهد مميزاً في العمل: نحلة تدور في الطبيعة لتجمع الرحيق من الزهور على وقع كلمات «ولد الهدى» لأحمد شوقي من الكورال، تصاحبها مجموعة من جنود الإيمان يأتون إلى مطرح الحدث ويعبّرون بتشكيلات بديعة عن سموّ الفكرة. وقد رُمز إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم الأخضر الذي كان يحمله صبي ويلوّح به باستمرار.
أمّا مشهد الإسراء والمعراج فقد كان بدوره مشهداً عظيماً، إذ إيقاع مقطع «أسرى بك الله» من قصيدة شوقي والذي يتردد في المشهد، كان يظهر حصان «البُراق» الذي يمر كالشهب، وكانت ترمز فيه إلى أنّ الروح هو من انتقل. هذا المشهد الهام في سياق العرض كان يُناقش دائماً من قبل رجال الدين قبل أن يعرض على المسرح. كانت مسز كوك تلتقي مع رجال الدين في كل مدينة قُدّم فيها العرض لتقدّم تفسيرها لمشهد الرقص التعبيري ولروحانية ما جاء في شعر أحمد شوقي. ولم يتحفّظ علماء الدين في دمشق وبغداد والقدس. أما في القاهرة فقد تحفّظ علماءُ الأزهر، ورفضوا السماح بعرض المشهد، فعمد الشاعر عبد الرحمن صدقي إلى إنقاذ الموقف، وكتب شعراً جديداً على إيقاع شعر أحمد شوقي وأُطلق على المشهد اسم «الراية الخضراء» لأن الراية كانت تبرز خفّاقة طوال المشهد.
التحق توفيق الباشا بفرقة باليه «الشرق الأوسط والبلاد العربية» بوصفه مؤلفاً موسيقياً وقائداً للأوركسترا، وجاب البلاد مع الفرقة محققاً النجاح تلو النجاح. استمرت التمارين على العمل الذي بلغ ذروته بلوحة المولد النبوي الشريف ستة أشهر في بيروت، وكان العرض الأول عام ١٩٥٢ في دمشق، ثم انتقلت الفرقة بعدها إلى بغداد، ومنها إلى القدس ورام الله، فدار الأوبرا في القاهرة. ثم انتقل العمل إلى الهند بدعوة من وزير المعارف آنذاك أبو الكلام أزاد، الرفيق الحميم للزعيم غاندي، فقدمت الفرقة عرضها في بومباي وكالكوتا ونيو دلهي. وممّا تجدر الإشارة إليه أن الفرقة، في كل المدن التي زارتها لم يكن في صحبتها من الموسيقيين إلا عازف واحد نمساوي مع آلة «الهارب»، أما باقي العازفين فقد كان توفيق الباشا يختارهم من أبناء البلد الذين هم فيه، فيعمد إلى كتابة النوتة للموسيقيين ثم التدريب وإجراء التجارب من بداية العمل إلى نهايته.
عكف على كتابة مؤلفاته الموسيقية الكلاسيكية، ومنها القصيدة السيمفونية «بيروت ٨٢» التي صوّر فيها معاناته وأحاسيسه عندما غزا الجيش الإسرائيلي لبنان سنة ١٩٨٢.
بلغ التفاهم والاحترام المتبادل مداه بين توفيق الباشا والمسز كوك. التقت السيدة الغارقة في سحر الشرق والتراث الروحي الإسلامي، الذي جهدت لتصويره بالحركة والإيقاع، والموسيقي سعياً إلى تحقيق الروحانية الصوفية في اللحن، ووجد كل منهما في فن الآخر المساحة الواسعة للتعبير. «لقد عثرت على شوپان»، تقول المسز كوك لسعيد عقل عندما التقيا. ووجد الباشا في أجواء المسز كوك متنفساً لما يجول في خاطره من صوّر بقيت حبيسة يبحث لها عن مجال الانطلاق. وفي يقيني أن الأعمال التي قدّمها في فرقة المسز كوك كانت الإرهاصات الأوَل لما أتحف به الباشا الفن العربي من موسيقى كبرى تجلّت في الأنشودة النبوية وما تبعها من أعمال مماثلة وبالذات «عظماء الدنيا وعظماء الآخرة».
فاصل «اسق العطاش»
يًحكى أنه في سنة ١١٩٠ هجرية انحبس الغيث طويلاً عن حلب واشتدّ العطش فيها، وتعرّضت لجفاف وقحط شديدين، وضاق الناس ذرعاً بعدما تضرّر الزرع وجفّ الضرع وتشقّقت الأرض. فلما انقطع الأمل والرجاء في النفوس اتجه أهالي حلب بالمئات إلى ظاهر المدينة لصلاة الاستسقاء، وهناك توجّهت القلوب إلى السماء، تطلب الرحمة والتوبة وزوال المحنة الشديدة. وبينما كانت أصوات الألوف تردّد: «ياذا العطا، ياذا الوفا، ياذا الرضا، ياذا السخا، اســـق العطـاش تكرّمــــا»، استجاب الله لتضرّعات المحتشدين ودعواتهم، فانهمرت الأمطار، وروت ظمأ الناس والحيوان والزرع، ففرح الناس وصدحوا بأناشيد الشكر والابتهالات أياماً عدّة.
هذه الابتهالات في جوها الصوفي أوجدت تراثاً شرقياً صميماً أُطلق عليه في ما بعد اسم «اسق العطاش» استمر يتردد في المناسبات الدينية أكثر من مئة عام. غير أن هذا اللحن أخذ يعتريه التشتت مع الأيام، فجاء عمر البطش الموسيقي الأشهر، وجمع هذا التراث حفاظاً على أصالته. ومع ذلك، أثّرت مع دورة الأيام بعض التعديلات في اللحن والشعر سلباً على الجو الصوفي بين بداية العمل ونهايته. وخدمةً لموسيقانا العربية قرّر القسم الموسيقي في إذاعة الشرق الأدنى أن يعاد النظر بفاصل «اسق العطاش» بشكل يحفظ له جوه الصوفي من أوله إلى آخره.
كتب توفيق الباشا فاصل «اسق العطاش» بطلب من إذاعة الشرق الأدنى. أحضروا له الأسطوانات من مشايخ حلب، فعكف على دراسة اللحن وتحليله وأعدّه بشكل علمي حديث، وقدّمه برؤية موسيقية جديدة، مطبّقاً عليه أساليب الموسيقى السمفونية وخصوصاً التآلف الموسيقي (البوليفينية). وتولّى الشاعر مصطفى محمود، بإشراف توفيق الباشا، إعادة صياغة لوحات هذا الفاصل في إطار صوفي وجداني عامر بالتقوى.
شارك في التنفيذ موسيقيون من إذاعة دمشق وإذاعة الشرق الأدنى، وأساتذة الموسيقى في المعهد الموسيقي، أما ما كتبه الباشا لآلة العود فلم يستطع أن يؤدّيه إلا فنان قدير هو عبد الغني شعبان. وعهد بالأداء الغنائي إلى مطرب متمكن هو محمد غازي، وشاركه في الأداء «الكورال» الذي لعب دوراً أساسياً في العمل، إذ لم يقتصر دوره على ترديد ما يؤديه المطرب كما هو متّبع عادة في أعمالنا الغنائية بل أصبح دوره هنا أساسياً، وهذه خطوة تطويرية تحسب للمؤلف. استمر التدريب والتحفيظ مدة شهرين، وتم التنفيذ في ٢٢ دقيقة فقط هي مدة المغناة.
وفاصل «اسق العطاش» مدماك أساسي في البنية الموسيقية لدى توفيق الباشا، وهو عدا كونه خطوة متقدمة في نتاجه الموسيقيّ، من اللبنات الأولى التي بدأت تتفاعل في ذائقته وخرج من رحمها، في ما بعد، ما قدّمه من أعمال غنائية دينية صوفية أوركسترالية كبرى. ولاحقاً أضاف الباشا إليها موسيقى «المولد» أو الراية الخضراء التي أعدّها لفرقة باليه الشرق الأوسط، بما فيها من روحانية صوفية آسرة. و مما لا شك فيه أن هذه الأعمال التي تراكمت أخذت تنمو وتتطور وصولاً إلى الإنشادية النبوية، فاتحة أعماله الدينية ذات القالب الكلاسيكي.
الأعمال الكبرى
عندما استراح من هموم الوظيفة ومتاعبها، أصبح بإمكان توفيق الباشا أن يتفرّغ لتأليف الموسيقى التي كان يحلم بها وتنفيذها. فالأوركسترا الآن طيّعة بين يديه، وهو الذي قادها بمهارة طوال أكثر من نصف قرن، كما أن موهبته وعلمه يمكّنانه من التعبير، بوعي واقتدار، عما يجول في خلده من أفكار وما يحوّم حول نفسه من الهام. فعكف على كتابة مؤلفاته الموسيقية الكلاسيكية، ومنها القصيدة السيمفونية «بيروت ٨٢» التي صوّر فيها معاناته وأحاسيسه عندما غزا الجيش الإسرائيلي لبنان سنة ١٩٨٢، وضربت طائراته ودباباته المخيمات الفلسطينية والبيوت الآمنة في بيروت، كما مجّد فيها المقاومة البطلة التي تصدّت للجيش المعتدي وأرغمته على الانسحاب. وفي تحليله لهذه القصيدة السيمفونية يقول الدكتور كفاح فاخوري: «الأستاذ توفيق أراد أن يستخدم وسيلة الأوركسترا الكبيرة حتى يعبّر عن قضية كبيرة». ثم كتب «سيمفونية السلام» التي لعبتها أوركسترا لياج الفيلهرمونية في بلجيكا بقيادة المايسترو «بارتولومي» والتي وصفها بقوله بأنها لقاء بين عطر الشرق وفنون الغرب. وقد ثمّن بيير بارتولومي، وهو الخبير، هذا العملَ، بعد اطلاعه على المخطوطة، وقرّر تقديمها إلى جانب أعمال شوبان وباخ في حفلة واحدة. وقد نالت السيمفونية نجاحاً لافتاً في لياج، ودام التصفيق عند نهايتها لدقائق عديدة كما هي الحال مع الأعمال السيمفونية الكبرى. عندما سئل الناقد المثقف نزار مروة عن الجديد الذي يراه في هذا العمل قال: «أرى في سيمفونية توفيق الباشا الجديدة عملاً كتبه موسيقيّ ناضج وراءه تجربة فنية يزيد عمرها على خمسة وثلاثين عاماً، موسيقي لم يعد راغباً في الزخارف والادّعاء واستعراض المهارات، استعاض عن النزوات والمزاج المتقلب بالاهتمام بالتعبير الموسيقي الجاد وبالحكمة والخطوة الواثقة. الأوركسترا أصبحت الآن طيّعة بين يديه، حاضرة لتلبية إلهامه وصوَره وأفكاره. وفي الأساس، ومنذ الأعمال الأولى، يتميّز توفيق الباشا بالتعامل الماهر العارف مع الأوركسترا، وفي هذه السيمفونية الجديدة يتعاظم نضج هذا التعامل. إننا أمام فنّان أدرك أنّ دوره يتجاوز الانصياع لرغبات الجمهور وميوله واختار الطريق الصعب المثير للجدل».
أحبَّ توفيق الباشا المظاهر الشعبية في بيروت ولفتته طريقة الاحتفال بها، وكان يؤلمه أن نلجأ إلى الاحتفال بأعيادنا الكبرى بطرق بدائية غير حضارية. كان يريد لهذه الاحتفالات أن تتخذ الطابع الموسيقي الحضاري. وبقيت هذه الأفكار تراوده إلى أن استطاع، في وقت تفرغه للتأليف الموسيقي، التوصل إلى ابتداع الإنشادية النبوية في العام ١٩٩٥ من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي مع مختارات من شعر محيي الدين بن عربي والحسن بن هانئ، وهو ما يعتبر فتحاً في الموسيقى العربية. وهي بدأت في ذهنه منذ وضع موسيقى «المولد» لباليه الشرق الأوسط، إلا أن العمل في الإنشادية المحمدية اتخذ قالب «لأوتاتوريو» الكلاسيكي المعروف في الموسيقى الدينية الكلاسيكية. هنا أخذ الباشا القالب، أو الفورم، الغربي وحافظ على الروحية الصوفية الإسلامية، فقدّم عملاً رائداً وفريداً، وهو من أجل تحقيق ذلك عانى كثيراً في سبيل تنفيذه، لجهة ضعف الإمكانات الفنية، لكنه حاول التغلب عليها بعناده وإصراره على تحقيق ما كان يؤمن به. ويمكن اعتباره أول «أوراتوريو» في تاريخ التأليف الموسيقي العربي، وقد نجح العمل ولاقى استحسان الطبقة المثقفة والنقاد عندما قُدّم في أوبرا القاهرة مع أوركسترا القاهرة السيمفوني بالاشتراك مع كورال أوبرا القاهرة، الأمر الذي زاد في حماسته وقوّى إيمانه وتصيمه على إنجاز عمل آخر قدّمه أيضاً في أوبرا القاهرة، هو إنشادية «عظماء الدنيا وعظماء الآخرة» في العام ١٩٩٦، عن تراث محيي الدين بن عربي، وقد أعدّ النص الأدبي الدكتور مصطفى محمود.
أما آخر أعماله فهو أوبرا «قدموس وأوروبا» من شعر سعيد عقل، وقد انتهى من إعدادها قبل وفاته بفترة قصيرة.
مغامر موسيقي
في الختام، وبعد الإضاءة على مسيرة توفيق الباشا في التأليف الموسيقي، التي كلما استعدتها في خاطري، أتمثل بيت المتنبي القائل: «إذا غامرت في شرف مروم/ فلا تقنع بما دون النجوم»، وهو منذ بداياته، غامر وتصدّى وتحدّى. وأي مغامرة أشقّ على المرء من أن يدخل الحياة الفنية في لبنان يوم كانت من المحرّمات على أبناء البيوتات المحافظة. فالسائر على هذا الدرب كان كالسائر على الجمر، تتناوله الألسنة بالنقد، ويتصدى له المجتمع بالرفض وتتبرأ منه العائلة، ومع ذلك تصدّى وتحدّى. وتوفيق الباشا غامر مرتين: مرة يوم قرر السير في طريق الفن ومرة يوم اختار التفرغ للموسيقى التجريدية البحتة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.