العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

«ماركس غسان الرفاعي»

هل العودة الى النص الاصلي تجديد أم تجميد؟

أقرب الى لون من الاصولية ترى التجديد في العودة الى النص الاصلي المقدّس، واستلهام مثال السلف الصالح، كرد فعل على الهزائم، أو في مواجهة المنعطفات التاريخية. يشكو الكتاب لذلك مما يشكو منه كل نزوع أصولي: الافتراض بأن اللاحق موجود سلفاً في السابق أو محاولة إرجاع المتغيّر والمتعدد الى الاوحد الثابت.
يوجد منهج مقابل لا يحول دون العودة الى «الأمهات» وانما يشتغل أيضاً وخصوصاً على تأويلات تلك النصوص الأصلية والتفسيرات المختلفة لها. فلو أن النص الماركسي الأصلي واضح وعابر للأزمان، في مفترضاته ومقولاته وطروحاته ومكتشفاته، لما احتاج إلى كل هذا الكم من الشارحين والمفسّرين والمجتهدين على مرّ نحو قرن ونصف قرن من الزمن.
استغربتُ أن يكون الباحث الرئيسي الذي يساجل ضده المؤلف مجهولاً في الكتاب مع أن غسان ليس ينكر عليه الإجلال ولا الاحترام ولا الزمالة الفكرية أو الرفاقية. اقتضى الامر أن أشارك في ندوة لنقاش الكتاب في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي لكي أكتشف عن طريق محمد علي مقلّد أن المعني هو الباحث العراقي فالح عبد الجبار. مع ذلك، سأحصر نقاشي بنص غسان الرفاعي على الرغم من أني قد ألتقي مع هذه الفكرة أو تلك من كتابات عبد الجبار.

بحث في الفلسفة

مهما يكن، فإن هذه المقاربة الأصولية تحكم علينا البحث والسجال في فقه الماركسية أكثر من أي شيء آخر. مع أن الدافع الى الكتابة مشدود الى ما هو آنيّ ومعاصر، أعني الثورات العربية وما كشفته من ثغر في أوضاع اليسار، حسب المؤلف، وما استدعته من ضرورات لتجديده، يتسم الجهد الفكري في الكتاب، منذ البداية، بالنضال على المستوى الفكري/الفلسفي ضد ما يعتبره المؤلف انحرافين متوازيين في الماركسية: الدوغمائية والتجريبية. والإعلان منذ البداية هو أنّ التعاطي مع الرأسمالية سوف يتم بما هي ظاهرة كونية، ما يوجب تناول قضايا «تشوبُها شُبهةُ الفلسفة» (ص٢١). ليس يقتصر الامر على الشبهة، المقاربة الفلسفية هنا، أي إنها جوهرية تجريدية وعلمية لأنها ترى الى رأس المال على أنه جوهر وقوانين لا يغيّر منه الحدثان كثيراً، اي لا يتأثر كبير تأثر بـ«الظاهرات والمسارات الثانوية التي تتالى عليه عبر مساره التاريخي» (ص٨٧)، نستطيع ان نتبيّن سلفاً أن هذه المقاربة الفلسفية ليست مقاربة تاريخية.
يتعاطى غسان الرفاعي مع الماركسية بما هي حلقة عليا في تطور الفكر الفلسفي خلال ٢٥ قرناً. وأول مأخذ للمؤلف على فالح عبد الجبار أنه لا يرى فيها إلّا نظرية لتحليل النظام الرأسمالي ونقده والبحث عن الإمكانات التاريخية لتجاوزه (ص٣٨). فالتهمة الرئيسة الموجهة لفالح أنه يلغي الماركسية بما هي فلسفة حتى لا نقول إنه يلغي الفلسفة ذاتها. ويدور الخلاف هنا بين نظرية المعرفة والنظرية. وتتوالى حلقاته في ثنائيات عدة: المادة/الوعي، الفلسفة/علم الاجتماع، الحتمية/الضرورة، التجريد أو التخصيص، العام/الخاص، فضلاً عن ثنائية رأس المال/العمل بما هي الجوهر الكوني للماركسية.
على سبيل الاختصار وتوفير الوقت، سأتوقف عند مساهمتين للمؤلف. تتعلق الواحدة بالتجربة السوفياتية والثانية بالعولمة.

المادة والوعي بين الطبيعة والتاريخ

الفصل الاول مخصص للمقاربة النظرية وتحديداً للمادة الديالكتيكية وعلميتها التي تقول بأبدية وأولوية المادة على الوعي ونظرية الانعكاس: الدماغ البشري جزء من المادة والوعي هو الفاعلية الأرقى للدماغ البشري. ومن البراهين الرئيسة على أولوية المادة على الوعي اثنان:

الاول هو انعكاس المادة في الوعي، لا العكس. أي انعكاس الواقع المادي في دماغ الانسان وتحوّله الى أشكال من الفكر؛

والثاني هو تخلف المعرفة، او تباطؤها، قياساً للواقع..

والحال أن هذه النظرية العلموية الجبرية التي سادت في الماركسية المُسَفْيتة والمبنية بالدرجة الأولى على «ديالكتيك الطبيعة» عند انغلز تشكّل الأساس الفلسفي للدوغمائية لكونها تحوّل المادية الدياكتيكية الى قوانين طبيعية حتمية وحيدة الجانب.

وقد تولى العديد من المفكرين والباحثين والاقتصاديين والمؤرخين وعلماء الاجتماع والإناسة الماركسيين نقد هذه الصيغة للمادية الجدلية مؤكدين أنّ البشر لا يعيشون علاقاتهم بالواقع المادي المحيط بهم إلّا من خلال شبكة معقّدة من التمثّلات والأفكار والترسيمات لهذا الواقع. بعبارة أخرى، الفكر لا يعكس الواقع على نحو مستكين وإنما يفسّر هذا الواقع. بل إن الفكر عند البشر ليس يكتفي بتفسير الواقع وإنما هو ينظّم كل الممارسات الاجتماعية الفاعلة في هذا الواقع، ومن هنا مساهمة الفكر في إنتاج وقائع جديدة. بايجاز: الفكر يسهم في تغيير الواقع. هذه هي مقولة ماركس في أطروحته الشهيرة عن فيورباخ. ولاحقتها قوله بأن الأفكار عندما تتجذر في الجماهير تتحول الى قوة مادية. وهذا ما يميّز بين النزعة المادية في الماركسية عن منوعات النزعة المادية الأخرى..

حقيقة الامر أن غسان الرفاعي يقيم التضاد بين المادية الجدلية والمادية التاريخية. أي إنه يخلط بين علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالتاريخ. هكذا يصوغ عالم الاجتماع الماركسي موريس غودلييه العلاقة الجدلية بينهما: «إنّ الطبيعة موجودة، وقد وجدت وسوف تظل موجودة، خارج الإنسان، خارج فكر الإنسان، وبغضّ النظر عن الإنسان، على الأقلّ في ذلك النطاق من الطبيعة الذي لم يروّضه الانسان بعد. بالمقارنة، فالعلاقة الاجتماعية لا يمكن أن توجد إلا في شكلها المزدوج: داخل الفكر وخارجه معاً، أي بما هي واقع مادي وفكري في آن معاً»

في «نقد السوفياتية النظرية»

يقدّم غسان الرفاعي أربع نقاط رئيسة في نقد ما يسمّيه «السوفياتية النظرية».

١ لم تميّز السوفياتية النظرية، بل خلطت، بين طرفي نقيض: قوى الانتاج وعلاقات الانتاج في صياغتهما التجريدية عند ماركس. مع أن المقصود هنا ليس واضحاً تماماً، يمكن الاكتفاء منه بأن التشديد مجدداً هو على التجريد.

٢ استنتجت «السوفياتية النظرية» من التوازن الدولي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي استنتاجاً غلطاً بأن شروط الثورة قد نضجت على الصعيد العالمي. وهي ملاحظة نقدية مستغربة تنطوي على مقدار غير معقول من العدمية، أي أنها توحي أن الغلط غلط وجودي: قامت ثورة اكتوبر الروسية قبل نضج ظروفها. أو أنها قامت على امل تفجير الثورة العالمية وقد اخطأت في الحساب والتقدير. والواضح أن «السوفياتية النظرية » - قيد الممارسة العملية - تخلّت عن فكرة الثورة العالمية منذ سنواتها الاولى وإنها في حقباتها الاخيرة، بُعَيد الحرب العالمية الثانية خصوصاً، باتت قوة محافظة على التوازن الدولي بدلاً من السعي إلى تغييره.

٣ «السوفياتية النظرية» دوغمائية والستالينيون متحجّرون لأنهم حوّلوا الحتمية التاريخية في الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية عند ماركس الى «قَدَرية إقتصادية» (٩٦-١٠٢)

٤ عند الانتقال من «السوفياتية النظرية» الى التجربة السوفياتية، يستخدم المؤلف مصطلح «ظاهرة التوجّه الاشتراكي». ولست أفهم لماذا يستخدم المؤلف مفردة «ظاهرة» بدلاً من التوصيف العادي والدقيق لما جرى في الاتحاد السوفياتي: ثورة نجم عنها تجربة ونظام. مهما يكن، يأخذ المؤلف على الظاهرة أنها وُلدت على «قاعدة محلية متخلفة». قد يظن المرء أول الأمر أن المقصود بتخلف القاعدة المحلية هو تخلف القاعدة الاقتصادية لروسيا. غير أن المؤلف يرى التخلّف في «البناء الفوقي» إذا جاز التعبير. ثمّة نظام جديد وُلد قبل أوانه مثل الطفل السبيعي. وهذا التخلف يفسّر عند مؤلفنا، في ما يفسّر، «تخلف التجربة الديمقراطية» حيث لم تنجح «الظاهرة السوفياتية» في تحويل الديمقراطية العفوية المتمثلة بالسوفياتات [أي مجالس العمال والفلاحين والجنود] الى «ديمقراطية من نوع جديد». (ص ١١٢).

ديمقراطية متخلفة أم دكتاتورية؟

هكذا تكاد مقولات «التخلف» و«الظاهرة» «والجمود الستاليني» تستغرق كل التقييم الفعلي للتجربة السوفياتية. وهي لا تسلّمنا أي تقييم للأداء الاقتصادي لـ«ظاهرة التوجه الاشتراكي» لأن الحديث عن «التوجه الاشتراكي» يبدو أنه يجري خارج المسار التاريخي للتجربة بإنجازاتها والنواقص والأزمات وأسباب الانهيار. فعلى صعيد المسارات الفعلية، مثلاً، حاولت التجربة السوفياتية الإجابة على «التخلف المحلي» الاقتصادي-الاجتماعي-الثقافي (على افتراض مقولة لينين أن روسيا متقدمة سياسياً) عن طريق عملية تصنيع وتحديث واسعة النطاق ومتسارعة الوتيرة ومتوحشة الأساليب، وقد تمّت عملية «التراكم الاشتراكي الأوّلي» تلك بالدرجة الاولى على حساب الفلاحين. حتى ليجوز القول مع المؤرخ الماركسي البولوني إسحق دويتشر إن ستالين أخرج روسيا من الهمجية بوسائل كانت هي نفسها همجية.2 اقصد هنا أن بالإمكان النظر الى التجربة، اي تجربة، من منظار ما حققته وليس بالضرورة ما ادّعت تحقيقَه أو سعت إلى تحقيقِه. علماً أن تقييم التجربة السوفياتية، فيما عدا مسألة الديمقراطية، مؤجّل عند غسان الرفاعي، كما سوف نرى.

اما على الصعيد السلطوي والسياسي فلست أجد كبير معنى في القول إن التجربة السوفياتية «تجربة ديمقراطية متخلفة». أفضت ثورة اكتوبر، خصوصاً بعيد وفاة لينين العام ١٩٢٤، وبعد تصفية حقبة الديمقراطية المجالسية، وفكّ التحالف مع «الاشتراكيين الثوريين»، الحزب الاوسع تمثيلاً للفلاحين، الى نظام حكم الحزب الاوحد، ودكتاتورية الزعيم الاوحد، وهو نظام ارتكز على قاعدة عسكرية-امنية، وعلى تحكّم الجهاز البيرقراطي بمقدرات البلاد. والدكتاتورية نقيض الديمقراطية وليست تخلفاً عنها. والمؤلف الذي يأخذ على التجربة أنها فشلت في الاستعاضة عن الديمقراطية «العفوية»، أي الديمقراطية السوفياتية - المجالسية، بصيغة «ديمقراطية جديدة» يتناسى أنّ الصيغة الديمقراطية الجديدة هي تلك الديمقراطية المباشرة ذاتها حيث يفترض أنّ الناس تنتخب فيها مندوبيها بلا وسائط وحيث مركز القرار هو الجمعيات العمومية لكل المندوبين المنتخبين تجري فيها محاسبة المندوبين وتغييرهم إذا أخلّوا بالتفويض الذي أعطاهم
إياه ناخبوهم، بغضّ النظر عن
المهل الزمنية.

على أن ما يبعث على الحيرة حقاً في التجربة السوفياتية، بعد خروجها منتصرة من الحروب الأهلية وحروب التدخل، والتراجع عن «شيوعية الحرب» الى «السياسة الاقتصادية الجديدة» التي أعادت الاعتبار لعدد من أوّليات السوق وللملكية الفردية في الريف خصوصاً، ما يبعث على الحيرة في تلك الانعطافة الاقتصادية هو لماذا لم تترافق مع انعطافة سياسية، أي لماذا لم يتم التراجع من الديمقرطية المجالسية نحو ديمقراطية برلمانية قائمة على المساواة السياسية والقانونية والسيادة الشعبية وتعددية الأحزاب ووسائل الإعلام ومبدأ تداول السلطة (على ما اقترحتْ روزا لوكسمبرغ على لينين ان يفعل). والحال أن هذه النقلة من المجالسية الى الدكتاتورية قد أورثت الشيوعيين وكثيراً من اليساريين تراثاً متراكماً من التوجس من الديمقراطية المسمّاة منذ ذلك الحين «برجوازية »، حتى لا نقول العداء السافر لها، حيث أدّى ويؤدي رفض «برجوزيتها» الى دفع قطاعات واسعة من الشيوعيين واليساريين الى تأييد أنظمة الاستبداد والدكتاتورية العربية.

في مكان آخر، كل ما نحصّله في الكتاب عن أسباب سقوط التجربة السوفياتية، هو تشديد المؤلف على أنها سقطت بسبب أخطائها الداخلية المعيّنة أعلاه. والمقصود أنها لم تسقط لأسباب خارجية هي المنافسة بين «ظاهرة التوجه الاشتراكي» السوفياتية والمعسكر الرأسمالي. ومع أن المؤلف لا يعيّن لنا تلك الأخطاء التي أدّت الى سقوط التجربة - اللهم الا اذا اراد اختزالها بـ «الديمقراطية المتخلفة» - بل يدعونا الى دراستها بعد ربع قرن من سقوطها، إلا أنه لم يشرح لنا لماذا تنجح البرجوازية في تجاوز أزماتها وتفيد منها لكي تبتدع تطويرات تزيدها توسعاً وعنفواناً (على ما يقول فالح عبد الجبار، ص ١٠٠) فيما أزمة «السوفياتية النظرية» و«ظاهرة التوجه الاشتراكي» أدّت الى انهيارها؟

العولمة

يشدّد غسان الرفاعي في ظاهرة العولمة على أنها تعزّز كونية الرأسمالية وتنمّي تبعية البلدان النامية (ص١٨٣) وتزيد من التناقضات والأزمات المستعصية والمتفاقمة وقد باتت أكثر استعصاءً وأشدّ وطأة على ضحاياها. وهذا طبعاً صحيح. إلا أنّه يساجل ضد نقّاد العولمة ممن يريدون إصلاحها على اعتبارهم أصحاب أمنيات يسهمون في تأبيد توحشها. انظر في هذا المجال ردّه الحازم على انتقادات العالم الاقتصادي الاميركي جوزيف ستيغلِتس واقتراحاته الاصلاحية. ولا معنى لهذه الحدّة في رفض أي إصلاح أو أي تدرّج ومرحلية في النضال ضد العولمة الرأسمالية إلا الركون إلى ان الرأسمالية المتعولمة سوف تنهار لا محالة بناء على القدرية الاقتصادية ذاتها التي ينتقدها غسان الرفاعي في الدوغمائية الستالينية.

العولمة بين الجوهر والأعراض

ومع أن المؤلف يعترف ببعض الخصائص الجديدة للعولمة، إلا أنه يصرّ على أنها أقرب الى ظواهر وأعراض لجوهر واحد وتناقض أصلي.

الفقاعة المالية: يتعاطى المؤلف مع غلبة رأس المال المالي على الاقتصاديات العالمية على أنه لا يغيّر شيئاً من قانون القيمة ولا من آليات الاستغلال حيث الطبقة العاملة هي آلة لإنتاج فائض القيمة، والبرجوازية آلة لتحويل الفائض الى رأس مال. مع أنّ ثمة آلة جديدة لتوالد رأس المال تستولد المال بواسطة المال (الريع) دون المرور بالاقتصاد الحقيقي، أي إن قانون القمية لم يعد يختزل آليات تراكم رأس المال. وفي حين اكتفى ماركس بالاستدراك أن رأس المال التجاري يسهم في تحقيق فضل القيمة المتضمّن في السلعة مع أنه لا ينتج فضل قيمة بذاته، إلا أن منطق توالد رأس المال المالي، عبر «الفقاعات المالية»، والاتساع المذهل للقطاعات الريعية في عصر العولمة، وخصوصاً في بلادنا العربية، يفترض التوقف قليلاً لإعادة النظر في شمولية وكونية نظرية فضل القيمة.

التفريع الصناعي: وهو أحد أبرز تحولات العولمة الذي تخطّى قسمة العمل الإمبريالية السابقة بين بلدان صناعية تستورد المواد الخام والمنتجات الزراعية وتصدّر السلع المصنعة، وبلدان مصدّرة للمنتجات الزراعية والمواد الأولية ومستوردة للسلع المصنّعة. والدافع الأبرز نحو التفريع الصناعي وانتقال مصانع بلدان الشمال الى بلدان الجنوب هو بحث رأس المال المتعولم عن أيدٍ عاملة رخيصة وحاجته للاقتراب من المواد الأولية والهرب مما فرضته النضالات العمالية والنقابية من قيود على رأس المال ومن مكاسب وتنازلات وانتزعت من ضمانات الثبات في العمل والضمانات الصحية والاجتماعية وتعويض البطالة وتعويضات نهاية الخدمة، وأنظمة التقاعد، الخ.

اقتصاديات المعرفة

يتناسى المؤلف أن هذا التحوّل لا يُختزَل بكونه تكثيفاً لاستثمار رؤوس الأموال في البلدان النامية وأنّه يعلن انتقال الرأسمالية الصناعية ذاتها الى طور التحكّم بالمعرفة واحتكارها، ما بات يسمح بنقل العملية الانتاجية خارج بلدان الشمال ما دامت الارباح والريوع تتحقق خصوصاً من خلال التحكّم المعرفي في قمم العمليات الاقتصادية، أي الانسحاب التدريجي من قطاعات الإنتاج والتوزيع المباشرين والاتكال المتزايد على عائدات احتكار التكنولوجيا المتقدمة، وفي المقدمة منها المعلوماتية، وعلى الريوع المتأتية من براءات الاختراع وما شابه. ويغفل المؤلف أيضاً أن لهذا التحول مترتبات عديدة أبرزها:

١ إضعاف الطبقات العاملة من حيث الحجم والموقع والفاعلية في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة، وتعزيز العنصرية فيها تجاه العمالة الاجنبية. فمع أن التصنيع في البلدان النامية يسمح بزيادة ملحوظة في فرص العمل، إلّا أنه وسّع نطاق الهجرة الى بلدان الشمال وزاد أعدادها؛

٢ اتساع نطاق الفقر المزمن وارتفاع أعداد البشر المهمشين الذين باتوا يعيشون خارج جزر العولمة الرأسمالية؛

٣ اتساع البطالة وتحوّل «العمل» إلى مطلب بذاته، وليس أدلّ على ذلك من الأولوية التي أعطيت لهذا المطلب في الثورات العربية، وهو لم يسبق أن ظهر بوضوح على جدول أعمال المعارضات العربية التقليدية، بما فيها اليسارية، ومطالبها والبرامج؛

٤ تهشيش العمل ذاته=، وفرض الرأسمالية المتعولمة، العودة الى انماط سابقة من العمالة، ومنها العمل الموسمي والمياومة والعمل على القطعة والعمل المنزلي, الخ.

ولا بد من القول هنا إن هذه التحولات تمسّ توقّعات، بل تنبؤات، رئيسة عند ماركس حول الاستقطاب المتمحور على تناقض رأس المال والعمل. فقد توقع ماركس أنّ تطور الرأسمالية سوف يؤدي الى تقلّص الأقلية التي تملك ولا تنتج، وتوسّع الاكثرية التي تنتج ولا تملك غير قوة عملها، فيما تزول الطبقات الوسطى بين شرائح تنهار الى أوساط الطبقة العاملة وشرائح ترقى الى مصاف البرجوازية. بناءً عليه، تكون الثورة الاشتراكية، عملية بسيطة تجري بموجبها «مصادرة المصادرين/سرقة السرّاق»، حسب تعبير ماركس، وتكوّن دكتاتورية البروليتاريا تحقيقاً للديمقراطية الكاملة حيث الاكثرية تنتزع السلطة من الأقلية تمهيداً لمسارٍ مآلُه الأخير انتهاء الصراعات والانقسامات الطبقية واضمحلال الدولة وانتقال البشرية من عالم الضرورة الى عالم الحرية. إن هذا التوقع هو الذي ينبني عليه تصوّر البروليتاريا بما هي الطبقة الكونية التي بتحررها تتحرر البشرية كلها. يغفل غسان الرفاعي أي إشارة الى انهيار هذه النبوءة وما تستتبعه من خلاصات وأبرزها ضرورة إعادة النظر الجذرية في دور الطبقة العاملة الشمولي الخلاصي.

الهواجس تجاه علم الاجتماع

والخلاصة الأبرز للنص هنا هي الجزم بالانهيار الحتمي لنمط الإنتاج الرأسمالي بحكم تناقضاته الداخلية (ص١٥٢) علماً أن السببية الجدلية تُدخل الإنسان والإرادة في الحتمية (ص١٥٥-١٥٦). حقيقة الأمر أني لم أجد أي فارق بين هذه العودة الى اللازمة التي تتكرر منذ إعلان تأسيس الأممية الشيوعية مطلع القرن العشرين والتي تعرّف «العصر» على أنه عصر انهيار الرأسمالية (وانتصار الاشتراكية) من جهة، وبين «القَدَرية الاقتصادية» التي ينسبها غسان إلى السوفياتية النظرية من جهة أخرى.

الحال أن التجريدية الفلسفية تعطّل على كل ما في الماركسية من حيوية بما هي، بالدرجة الأولى، نظرية لإنتاج المعارف لتفسير العالم من أجل تغيير العالم حيث اكتفى الفلاسفة، والمذاهب الأخرى المختلفة، بتفسيره. وإني أخشى أن يكون غسان الرفاعي قد أحال الماركسية الى اقتصاد سياسي، حسب التعبير السوفياتي، مع أنها نقد للاقتصاد السياسي وليست مذهباً من مذاهبه. ذلك أن الإسهام الرئيس لماركس وانغلز يكمن في نظرية الاقتصاد الاجتماعي، ما يحيل الى دراسة علاقات الإنتاج والطبقات في آليات تكوّنها وتحوّلها ومسالك صراعاتها ودور ذلك في إنتاج التاريخ وصنع البشر لأنفسهم بأنفسهم. والسبب في ذلك هو قراءته البدائية لعلاقة المادة والوعي. هنا يعبّر المؤلف عن تطيّر غريب من علم الاجتماع، الى درجة اتّهام عبد الجبار بأنه يغلّب علم الاجتماع على الفلسفة، وإني أرى في ذلك التطيّر الوسوسةَ السوفياتية النظرية والتطبيقية إياها تجاه علم الاجتماع (السوسيولوجيا) على اعتباره مذهباً برجوازياً. مع أن كارل ماركس هو من أوائل مؤسسي هذا العلم، ومع أن علم الاجتماع، على قولة أحدهم، يمكن النظر إليه على أنه مجموعة من الملاحظات والهوامش على كتابات ماركس وإنغلز. وحقيقة الأمر أن الفلسفة في «السوفياتية النظرية» هي التي ألغت علم الاجتماع لا العكس.

هكذا لا يحضر في الفلسفة الماركسية ــ أو في فقه الماركسية - لا المجتمع ولا الدولة/السلطة السياسية ولا الطبقات. إنْ هي إلا ظواهر لجوهر، أو حدثان لثبوت. تكتفي هذه الاقتصادوية بتوكيد التناقض الرئيسي بين راس المال والعمل (مع ال التعريف للتجريد والتعميم)، وبين امبريالية وبلدان نامية تابعة. ويحل هذا التناقض محل الدراسات العينية للمجتمعات والطبقات والسلطات والسياسة. فلا فارق مثلاً بين رأسمالية ريعية ورأسمالية إنتاجية ورأسمالية اجتماعية (دولة الرعاية، التي فرضتها نضالات عمالية واسعة النطاق ووجود الاتحاد السوفياتي ذاته) ورأسمالية دولة «اشتراكية» عطّلت قسماً كبيراً من آليات عمل الرأسمالية، الخ. ولا فارق بين عمل يدوي وذهني، الخ.

المراتب الاجتماعية والطبقات

وإذ يخطر لفالح عبد الجبار التذكير بالمراتب الاجتماعية قبل الرأسمالية (مراتب الجاه المختلفة، والجماعات الإثنية، والدينية والطوائفية والمذهبية، والعرقية، والقبائل، والجندرة، الخ.) وتشابكها بالتكوينات الطبقية، وما يتضمنه ذلك من عقبات فعلية في مسارات الصراعات الطبقية وما يُحدثه من تعديلات عليها، لا يولي غسان الرفاعي كبيرَ اهتمام لهذه المراتب كلها على اعتبارها ليست قائمة حصراً على ملكية وسائل الإنتاج، فيحيلها الى البناء الفوقي والايديولوجي (١٤٥) وكأن البناء الفوقي (يعني السياسة والسلطة والعنف ومعها الايديولوجيا) من النوافل قياساً الى جوهرية البناء التحتي. علماً أن ماركس وإنغلز (حتى لا نتحدث عن غرامشي وبوخارين وروزا لوكسمبرغ والعشرات من الماركسيين الحديثين والمعاصرين) أوليا المراتب أهمية في الصعيدين السياسي والسلطوي وفي تبيّن الأصل الريفي والزراعي والرعوي للأجهزة السياسية للبرجوازية ولاحظا التفارق من حيث المصدر الاجتماعي بين الطبقات البرجوازية وبين أجهزة تمثيلها السياسية والايديولوجية.

ولما كان الموضوع هو العودة الى ماركس فلنُلقِ نظرة واحدة على كتاب «١٨ برومير للوي بونابارت » لماركس لنكتشف الفارق بين ماركس الداعية، أبي الطبقتين الجوهريتين في «البيان الشيوعي » للعام ١٨٤٨، وماركس وقد نبّهته الثورات الاوروبية للعام ١٨٤٨ ذاته الى أهمية الصعيد السياسي وأخرجته من الاقتصادوية الشيوعية المبدئية باتجاه التأمل والتفكير في التركيبات والمسارات الطبقية المعقّدة وفي مفارقات التمثيل السياسي للطبقات حيث حزبان ملكيان في فرنسا، مثلاً، تولّيا تمثيل البرجوازيتين المالية والصناعية. وبعد ذلك سوف يتابع ماركس هذا التفارق في المصدر الاجتماعي بين البرجوازية وأجهزتها السياسية، مبيّناً كيف أنّ دولة بروسيا شكلت النواة لتوحيد البرجوازيات الالمانية ولقيادة عملية التوحيد القومي، وكيف أن أرستقراطية الأرض المتوسطة تولّت التمثيل السياسي للرأسمالية البريطانية الصاعدة، الخ. وسوف يغزل أنطونيو غرامشي على المنوال ذاته في دراسته عن الوحدة الايطالية في منتصف القرن التاسع عشر حيث تتولى بييدمونت توحيد النوى البرجوازية الايطالية المتفرقة وقيادتها في عملية التوحيد القومي.

عوامل الاستغلال

وغريب أيضاً أن لا يرى غسان الرفاعي من عوامل استغلال غير مُلكية وسائل الإنتاج والحرمان منها. فلا مكان في هذه الترسيمة العائدة للرأسمالية الصناعية المتقدمة لكل ما يميّز التشكيلات الاجتماعية في بلادنا، أعني ملكية رأس المال المالي، واقتطاع الريوع، والربح التجاري والخدماتي، والاستغلال من خلال السوق (الاحتكار بما هو شكل من أشكال الريع)، والفوارق الناتجة من تباينات المداخيل، وعن التفاوت في رأس المال الاجتماعي والثقافي - فهذه كلها لا يُحسب لها حساب في عالم الاستغلال الرأسمالي مادامت غير منتظمة في الثنائية الجوهرية إياها. للمناسبة: كيف نعيّن التناقضات الطبقية وأواليات الاستغلال في بلد كلبنان إذا بقينا في نطاق تناقض رأس المال/العمل وحده؟

أغرب ما في الأمر أن هذه الخلاصات الفلسفية التي يريدها غسان الرفاعي تجريدية وكونية، تهبط بنا فجأة الى مضامير لا مقدمات لها في النص: الدعوة الى استظهار الجوهر الاقتصادي-السياسي (الطبقى) لرأسمالية العولمة (٢٣٧)؛ التحذير من التفاؤل بالأهداف الحقيقية لتدخّل الإمبرالية وتبرير تدخلها باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا يفترض تصديق القول الامبريالي لا الفعل. أليس من تجارب تثبت كذب هذه الادعاءات، حتى لا نضطر للاستمرار في التحذير وإقناع الناس بأن الامبريالية تنوي فرض الديمقراطية علينا؟ وهي تقوم منذ أن كانت في المنطقة، على الدكتاتوريات العسكرية منها والملكية وحكم السلالات والاوليغارشيات النفطية؟

أمّا لائحة القضايا المطلوب التفكير فيها فطويلة وعظيمة الشأن والأهمية: القومية، الدولة، الدين، الخ. بعد كل هذا العمر؟ وإليها يضاف الآتي على الصعيد العملي:

Bidayat_Footer_Dots.psd المطالبة بمقاربة نوعية واستراتيجية جديدة شمولية هجومية-دفاعية ضد العولمة على كل الجبهات، هكذا دون أي جهد لتعيين القوى المطلوب أن تقوم بهذه المهمة، وبغض النظر عن نوعية الهيئات المنوط بها هذه المهمة المتفارقة في تعريفها (هجومية-دفاعية) المطالبة بأن تخوض تلك الستراتيجية: هل هي الاحزاب الشيوعية؟ الاحزاب من النمط الطليعي الجديد؟ جبهات وطنية ديمقراطية واسعة على الطريقة إياها؟ منظمات غير حكومية وهيئات أهلية؟ وما العلاقة بين هذه الأخيرة والعولمة؟ وإلى أي مدى حلّت محل الأحزاب وعرقلت نشوءها أو إعادة تكوينها أو حتى تجديدها وإعادة تأسيسها؟ فضلاً عن سؤال ساذج: أي منطق للقول بوجود استراتيجية أصلاً، إذا كانت تخلط بين الدفاع والهجوم؟

Bidayat_Footer_Dots.psd تنويع وتدريج أشكال النضال وأساليبه وعدم الاقتصار على الكفاح المسلح تحديداً فقط (٢٤٠-٢٤٢) والتحذير من وحدانية الكفاح المسلّح رجع صدى لأيام الستينيات والسبعينيات عندما كان لتلك الوحدانية رواج وحضور عملي. وهذه مهمات، يمكن قراءتها، متوّجةً بإعلان العصر عصرَ انهيار الرأسمالية وانتصار الاشتراكية، في أي تقرير حزبي أو خطاب في مؤتمر أو بيان عن اجتماع مكتب سياسي أو لجنة مركزية منذ الستينيات من القرن الماضي، بما فيها استعادة صيغة تعدد أشكال النضال وعدم الاقتصار على العمل المسلّح، فترجع أصداء سجالات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مع مقولة «حرب الشعب طويلة المدى» التي طرحتها تنظيمات اليسار الجديد من وحي العمل الفدائي الفلسطيني.

في الخلاصة، كنت ولا أزال أتوقع من غسان الرفاعي، القائد والمفكّر والمناضل في الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الشيوعية العربية والعالمية على امتداد ٦٧ عاماً من حياته، وأتمنى له طول العمر، مثلما أتمنى عليه أن يقدّم لنا سرداً وتقييماً لتجربته الحياتية والفكرية الغنية يسهم بهما في نقل دروس تجارب جيله الى الأجيال الشابة الجديدة على أمل اجتذابها الى يسار حيوي عميق التجذّر في شعبه، خلّاق نظرياً، أي منتج للمعارف عن مجتمعه وأنظمته الاقتصادية والسياسية والثقافية، مساهمةً منه في التغيير-الشامل، يسار يرقى الى مستوى تحديات العولمة ويستخدم المخيّلة لالتقاط كل جديد وابتكار اشكال جديدة من التنظيم الشعبي ومن أساليب التواصل والتعبئة والنضال، في مجرى النضال من أجل تجاوز الرأسمالية الى حياة جديدة ونظام جديد يحقق أخيراً مصالحة الحرية مع المساواة والمساواة مع الحرية.

العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤
هل العودة الى النص الاصلي تجديد أم تجميد؟

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.