يبدو مشروع السفر من بيروت إلى دمشق برًّا هذه الأيام، أشبه بضرب من الجنون بالنسبة إلى اللبنانيين. تبقى النصائح متشابهة: ثمن الانسان بات أقلّ من بخس في سورية. محاولة تقصّي الحقائق صحافيًا وعلى الأرض مشوبة بمخاطر كبيرة. لا أحد يمكنه توقُّع ما قد يحصل معك عند أحد الحواجز الأمنية المنتشرة كالفطريات منذ أشهر حتى داخل دمشق، وبينها وبين مدن ريف دمشق وباقي المحافظات طبعًا.
كل شيء يبدو هادئًا عند جديدة يابوس، النقطة السورية من الحدود مع البقاع اللبناني. الثورة لم تصل إلى هنا إذًا. تجتاز طريق المنطقة الفاصلة بين البلدين بقليل من الصعوبة بسبب الثلوج المتراكمة في أواخر شهر شباط، لتبدأ لافتات شركة الهاتف المحمول «سيرياتيل» (التي يملك معظم أسهمها الديناصور المالي رامي مخلوف) بالظهور في كلّ مكان. الشركة التي طاولتها عقوبات الاتحاد الأوروبي، على اعتبار أنها أحد المصادر المالية التي تموّل الماكينة الأمنية للنظام السوري وأجهزته وميليشياته، ضاعفت عدد لوحاتها الاعلانية وكأنها تقول: «سيرياتيل» تتحدّى العالم. فجأةً، تدخل إلى سورية ــ الأزمة: حاجز أمني عند مدخل دمشق لم يكن موجودًا عند زيارتك الأخيرة قبل عام. مسلّحون بزيّ زيتي وأذقان مشذّبة يدقّقون بالهويات والوجوه، ويُكثرون من الأسئلة. تتذكّر حواجز ميليشيات الحرب الأهلية اللبنانية. تتفادى إظهار بطاقتك الصحافية، إذ إن الكشف عن هويتك المهنية سيتسبب في طرح الكثير من الاستفسارات والاتصالات والتدقيق. تتذكّر أن جميع الجيوش العربية تفرض على جنودها حلاقة أذقانهم يوميًا، فيأتيك الجواب من السائق السوري: إنه حاجز لأحد الأجهزة الأمنية الـ١٧، التي تضمّ نحو مئة ألف من نخبة المقاتلين ورجال الأمن والاستخبارات، الذين يعتبرون الحاكمين الفعليين للبلاد المدعومين بالآلاف من المخبرين المدنيين، بعكس الجيش النظامي بجنوده وضباطه البالغ عددهم النصف مليون جندي. تصل إلى قلب دمشق، لتبدأ بملاحظة أن المظاهر الجديدة عديدة: منطقة «سوق الهال» في العاصمة مظلمة تمامًا. لا كهرباء في أحد أفقر أحياء دمشق، حالها كحال عدد كبير من المدن السورية التي تصل فترة انقطاع الكهرباء فيها إلى 15 ساعة يوميًا، هذا من دون الكلام عن المدن والمناطق التي تشهد معارك، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا شبكة هاتف أرضي أو محمول منذ أشهر أحيانًا. مع انقطاع الكهرباء، تشعر بأنك لست بعيدًا عن لبنان فعلًا. مهمة العثور على متجر لشراء خط هاتف سوري صعب مساء يوم الجمعة، إلا في حيّ القشلة، أحد الأحياء ذات التواجد السكاني المسيحي الكثيف نسبيًا. هناك، يطول الانتظار عند صاحب المتجر لتفتح صفحة الانترنت بهدف تعبئة الخط. يبرر البائع المسيحي، وفوقه دزّينة من صور الرئيس الأسد الابن، بطء الانترنت بكوننا في يوم الجمعة. وما العلاقة؟ تسأله بسذاجة، فيأتيك الجواب بضحكة خبيثة: تعرف، إنه البرد! يحتاج الأمر إلى مساعدة من صديق سوري لتفهم أن المقصود من هذه النكتة السمجة هو أنّ النظام السوري يلغي أيام الجمعة خدمة الانترنت السريع الـ G3 للتخفيف من التواصل والتنسيق بين المعارضين والمتظاهرين على شبكات التواصل الاجتماعي والهواتف «الذكية».
في حمى «الرمرمة»
تتّجه إلى عاصمة السهر والمطاعم في دمشق، إلى حي «باب توما»، ذي الاكثرية المسيحية. هناك، تجد دمشق التي تعرفها؛ الكهرباء لا تنقطع هنا أكثر من ساعتين يوميًا. زحمة كبيرة في السوق رغم أنها العاشرة ليلًا. المطاعم مزدحمة... وكيفما تلفّتّ، تجد الشعارات الدينية وفوقها وتحتها صور آل الأسد وشعارات «سورية بخير». تستفسر من أصدقاء شيوعيين لتفهم أنّ الأمور «ليست بخير» هنا منذ انطلاق الثورة في ١٥ آذار ٢٠١١، إذ إن الطائفة المسيحية في سورية، التي تشكّل نحو عشرة في المئة من السكان، «محسوبة عمومًا على النظام»، شأنها شأن باقي الأقليات الطائفية، الدرزية والعلوية والاسماعيلية. يشرحون لك أن جزءًا كبيرًا من الأقليات قرر تصديق رواية النظام عن أن مصيره سيكون مشابهًا لمصير مسيحيّي العراق بعد الاحتلال الأميركي في حال سقط نظام «البعث» الذي يدّعي أنه يحميهم من خطر الأصولية الاسلامية.
الغلاء أول ما يلفت انتباهك في السوق، حيث الليرة السورية تدنّت قيمتها الشرائية بنسبة مئة في المئة خلال أشهر: قبل عام، كان الدولار الأميركي الواحد يساوي خمسين ليرة سورية، أما اليوم فبات يصرف بمئة. أصلًا، لم تكن سورية تنتظر موجة الغلاء الحالية لتخسر سمعتها بأنها «أمّ الفقير»، لأنّ عهد «الانفتاح» الاقتصادي النيوليبرالي الذي افتتحه الأسد الابن منذ تسلّم الحكم، والخصخصة على طريقة «الرمرمة» مثلما يسمّيها السوريون نسبة إلى رامي مخلوف، لم تخلّفا سوى المزيد من التهميش والإفقار والاستغلال. عاشت «الاشتراكية على الطريقة السورية»!
اليوم، يمارس التجّار هوايتهم المفضّلة في الاحتكار، مستفيدين من غضّ نظر أجهزة الدولة عن كل شيء إلا ما هو أمني ــ سياسي. من هنا، تلاحظ بسهولة، عند تنقُّلك بين مناطق «ريف دمشق»، موجة البناء غير القانوني المشيَّد من دون رخصة، إضافة إلى كثرة مخالفات السير وانتشار الباعة الجوّالين على عربات كانت ممنوعة قبل اندلاع الثورة.
صباح في الصالحية ودماء في كفرسوسا
صباحٌ أوّل في وسط دمشق، تبدو الأوضاع أكثر من جيّدة في حيّ «الصالحية» الراقي. الجولة الاستكشافية ضرورية مع صديق معارِض وناشط في إطار «تنسيقية دمشق»، وهي فرع العاصمة من تجمٌّع يضمّ ناشطي المعارضة السلمية في دمشق، ويقومون بكلّ ما له علاقة بالثورة، من تظاهرات وتغطية إعلامية تصويرًا للتظاهرات وتوثيقًا للاعتقالات وعدد قتلاها، وتأمين التواصل وبثّ المعلومات على شبكة الانترنت ومواقع «فايسبوك» و«يوتيوب» و«تويتر»، وتحديد أمكنة وتوقيت التظاهر بسرية مطلقة، ونقل الصحافيين الأجانب إلى أماكن الحدث، وإقامة المستشفيات الميدانية، وجمع التبرعات، وتأمين أكياس الدم لمدينة حمص. باختصار، إنهم الثورة. معظمهم من متخرّجي ومتخرجات الجامعات ومن ابناء وبنات الطبقات الوسطى والفقيرة وأحيانًا من البرجوازيات الحديثة. تنتقل مع رفيقك إلى منزل في حيّ المزّة، أحد أرقى أحياء العاصمة، الذي يضمّ والحي المجاور له، كفرسوسة، معظم مقار السفارات والمراكز الأمنية ومنازل كبار الضبّاط والوزراء. حتى أنّ البعض يسمّيه «غرفة نوم النظام». وكان حيّ المزّة قد شهد، في ١٨ شباط الماضي، أخطر تطوُّر للثورة السورية بالنسبة إلى النظام، عندما تظاهر نحو ٣٠ ألف معارض فيه أثناء تشييع ثلاثة شبان قتلوا في احتجاجات يوم الجمعة السابق.
وفيما كان الأصدقاء يشيرون إلى المكان الذي جرت فيه تظاهرة المزة الشهيرة، على بعد أمتار من السفارة الايرانية، يصل اتصال عن سقوط خمسة شهداء في حي كفرسوسة، بينما «المزة»، الملاصقة لكفرسوسة، تعيش حياةً طبيعية جدًا. هكذا، فإنّ زائر دمشق هذه الأيام إذا أراد البحث والتدقيق، يجد مظهرًا مختلفًا تمامًا لهذه المدينة التي تشهد، يوميًا، تظاهرات واعتقالات، خصوصًا في حيّ الميدان، أحد أكبر الأحياء الشعبية فيها، وفي برزة وكفرسوسة والمزّة. هذا دون الحديث طبعا عن التظاهرات والاحتجاجات وأحيانًا المعارك العسكرية اليومية في العديد من مناطق ريف دمشق، كدوما وحرستا والقابون وقدسيا وداريا والغوطة. لكن لماذا لا يعرف كثر بما يحصل بعيدًا عنهم مئات الأمتار أحيانًا؟ يأتيك الجواب من الشباب الذين يتولون تنظيم كل تفاصيل هذه الثورة: إنّ أكبر «إنجاز» أمني نجح فيه النظام على صعيد حجب ما يحصل في دمشق وريفها، هو أنه تمكن من عزل المناطق والأحياء بعضها عن بعض بمختلف الوسائل، لكي لا يشعر أحد بالحراك المعارض الجاري في المنطقة التي تجاور مكان سكنه أو عمله أو تواجده، بينما تكون المنطقة مشتعلة قتلًا واعتقالات وملاحقات. فور رصد أي تحرك معارض في أي مكان، يقوم عشرات بل مئات من عناصر الأمن بإقفال مداخل ومخارج الشوارع المؤدية إلى المكان، والقطع الفوري للتيار الكهربائي وخدمة الانترنت وتغطية الهاتف، يحيث يصبح المكان المقصود من المتظاهرين معزولًا تمامًا. بهذه الطريقة، لا يعرف المحيط، حتى القريب، بما حصل إلا بعد ساعات من حصوله، بعد أن يكون قد هرب مَن هرب، وعادت الاتصالات إلى الحي، وعُرف عدد المعتقلين والقتلى والجرحى.
تجربة في التظاهر
ظل هذا الكلام نظريًا إلى حين قررتُ، يوم الثلاثاء ٢٨ شباط الماضي، خوض المغامرة مع عدد من الناشطين في محاولة الخروج في تظاهرة في حيّ الميدان، بوسط دمشق، لفهم كيف تجري الأمور عمليًا، تلك التي نعتبرها أحيانًا مهمة سهلة من وراء شاشة التلفزيون. مناسبة التظاهرة تشييع أحد القتلى الخمسة الذين سقطوا في كفرسوسة. كان من المفترض أن ينطلق التشييع من أمام مسجد كفرسوسة، لكنه تعذّر لعدة أسباب.
أولًا، بما أنّ معظم التظاهرات المعارضة تخرج على شكل تشييع، لتتحوّل إلى تظاهرة من بعد، فإنّ عناصر الأمن يفعلون كل شيء لمنع حصول التشييع. يخطفون جثث الضحايا ويصطحبون عددًا محدودًا من ذويهم إلى المسجد بعيدًا عن الأضواء لتقام الصلاة المقتضبة عليه، وبعدها يرغمونهم على دفنه سريعًا. هكذا فذوو الشهداء يحاولون فعل المستحيل للمحافظة على الجثامين ليتمكنوا من تشييعها علنًا.
ثانيًا، تعذّر تشييع أي جثة في ذلك اليوم، فلم يمكن إخراج التشييع الرمزي ليتحول من ثم إلى تظاهرة معارضة تنطلق من كفرسوسة. أحكمت عناصر الامن إقفال المنطقة منذ الفجر، فتمّ نقل التظاهرة سريعًا إلى حيّ الميدان، أحد «قلاع» المعارضة. إلى الميدان إذًا. نركب أول سيارة تاكسي، فيخبرنا السائق السبعيني، المؤيد جدًا للنظام خوفًا أو اقتناعًا، كيف أنّ إيران قرّرت دعم حليفتها سورية... كهربائيًا. كيف ذلك؟ نسأل الرجل ببراءة مصطنعة، فيأتي الجواب على شكل سيناريو جهنّمي مضحك: قررت إيران تسليم سورية كميات من أصابع... اليورانيوم. «أصابع»؟ نسأل، فيجزم مؤكدًا أنها أصابع تولّد الطاقة الكهربائية. لا يعرف الرجل كيف يحصل ذلك، «قد يكون بوضع الأصبع مع زرّ الحائط لتكون كافية لتوليد الكهرباء ٢٤ ساعة من دون انقطاع!». كلام يذكّرك فجأة بمشهد رأيته في أحد شوارع أكبر مدن محافظة ريف دمشق، دوما، وهي من قلاع المعارضة ايضا. كتب معارضون على حائط «يسقط بائع الجولان»، و«يسقط قاتل الأطفال»، فجاء الموالون وكتبوا قبل العبارة كلمة «لن»، لتصبح العبارة «لن يسقط قاتل الأطفال» و«لن يسقط بائع الجولان»!
كيف التمييز بين المخبر والمناضل؟
هكذا، مَن يُكثر في ركوب سيارات التاكسي عليه أن يدرك أنّ أحاديث بعضهم مليئة بالغرائب والبساطة والأمن، لذلك على الراكب عدم المجاهرة بسرعة بمواقفه وقناعاته، والتزام جانب الحيطة والحذر. أكثر من ذلك، فإنّ الناشطين يضطرون أحيانًا إلى تبديل سيارات التاكسي أكثر من مرة، أو النزول من السيارة قبل الوصول إلى مقصدهم، حين يشكّون بأن السائق يتعاون مع الأمن.
نصل إلى أحد المداخل الضيقة والقديمة جدًا للشارع الكبير في الميدان، فنفاجأ بعدد من الباصات (سعة ٢٤ راكبا للواحدة) تابعة للأمن، مماثلة لتلك التي تظهر في التسجيلات المصوّرة التي يرسلها الناشطون السوريون للقنوات التلفزيونية. فيها يرمى المعتقلون لنقلهم إلى المقار الأمنية للتعذيب والتحقيق. الباصات مركونة في وسط مدخل الحي وبقربها عشرات العناصر من الأمنيين والجيش والمخبرين. ندخل الشارع من مدخل فرعي آخر لم يضبطه الأمن بعد، لنصل الى قلب المنطقة التي يجدر أن تحصل فيها التظاهرة. ساعتها، ينتابك شعور ممزوج بجميع أنواع المشاعر: ريبة وحذر وتوتر وترقّب وخوف وحماسة. على امتداد الشارع الخالي من عناصر الأمن المسلحين، مئات الأشخاص، أكثرهم رجال وشباب، واقفين عابسين، في مجموعات من ثلاثة أو اربعة افراد. يتهامسون بصوت خافت جدًا. لا أحد تقريبًا يتحدث عبر هاتفه. هكذا هم، واقفون فقط كأنهم ينتظرون شيئًا ما. أستسفرُ بصوت خافت من أصدقائي الناشطين، فيشرحون أن هؤلاء هم مزيج من المتظاهرين والمخبرين وعناصر الأمن المدنيين. كلّ طرف ينتظر الآخر. المتظاهرون ينتظرون معلومات من زملائهم حول التوقيت الأنسب لتنطلق التظاهرة بواسطة شخص ما يقفز ويصرخ «اللهُ أكبر» و«الشهيد حبيب الله» و«لشعب يريد إسقط النظام» و«سورية بدها حرية». او يكيل الشتائم ضد الرئيسين الأسد، الأب والابن. لكن هذا الـ»أحد» لن يصرخ إلا عندما تصبح الظروف مناسبة، أي عندما تصل معلومات تؤكد عدّة معطيات ضرورية، ومنها اولا أن عدد المتظاهرين المحتملين بات أكبر من المخبرين الذين ينتظرون خروج التظاهرة لحفظ الهيئات والوجوه ولإعطاء الاشارة لدخول رجال الأمن ليؤدّوا «عملهم». وثانيا، أنّ مخارج الشارع الذي يفترض أن يستضيف التظاهرة آمنة، بمعنى أنّ الهرب ممكن إذا تدخّل الأمن. نواصل الجري ببطء بانتظار اللحظة المناسبة. الوجوه كلها قلق وترقٌّب.
كيف تميّزون المخبرين من المتظاهرين؟ تأتي الاجابة المحيّرة: بسبب من خبرتنا، بتنا قادرين على تمييزهم من خلال النظرات والملبس والنظرات. باختصار، إنها لغة العيون والخوف التي لا يعرفها سوى مَن بات خبيرًا في التظاهر والتعامل مع نظام أمني منذ اربعين عامًا. خلال سيرنا، أسمع همسات «الله محيّي الشباب». يطمئنّ الزملاء إلى أن المتفوّه بهذه «الكلمة السرية» هو متظاهر مثلهم، وينتظر معهم اللحظة المناسبة. وخلال سيرنا أيضًا، يقترح أحد الأصدقاء التمويه بالدخول إلى مطعم للفراريج لإيهام المخبرين بأننا هنا لمجرد تناول الطعام. في الداخل، يطمئنّ صاحب المطعم فورًا إلى أنّنا «لسنا أمن».
نخرج ونجتاز الشارع، لكن التظاهرة لن تنطلق لأن المعلومات الواردة ليست جيدة بعد، لا من حيث عدد الناشطين ولا من جهة وضع مخارج الحي. عندها، يتعدّر إعادة اجتياز الشارع، لأن الأنظار سوف تتركّز علينا حينها. ننتقل إلى حيّ موازٍ من أحياء «الميدان» أيضًا، فنجد وضعًا مشابهًا. الجميع ينتظر الجميع. أقل من ثلاث ساعات على هذه الحال من دون تغيير. حينها، يصبح واجبًا علينا مغادرة المنطقة والتخلي عن مشروع التظاهر، خصوصًا مع وصول دفعة جديدة من سيارات الأمن رباعية الدفع والباصات الكبيرة التي صادفناها عند مدخل الحيّ الرئيسي. نغادر وفي قلب الأصدقاء حسرة ممزوجة باطمئنان إلى أنّ التظاهرة ستخرج في النهاية، لكن أحدًا لا يعرف متى. تنتهي المغامرة ونعود أدراجنا إلى «معقل» الثوار في إحدى الشقق المخصَّصة للعمل الاعلامي حيث إجراء المونتاج على التسجيلات المصورة للتظاهرات ورصد الاعتداءات عليها ووضع تعليقات قصيرة على الشريط تمهيدًا لإرساله إلى القنوات التلفزيونية. بعد نحو خمس ساعات من مغادرتنا حي «الميدان»، يصل الخبر السعيد بالنسبة إلى الناشطين المتجمعين: خرجت التظاهرة بمئات المشاركين «الفدائيين» بعد ساعات من المحاولات، اعتقل منهم من اعتقل وهرب من هرب، لكن من دون سقوط شهداء هذه المرة. جلسة تنتهي بإجماع الحاضرين على أنّ شعبًا مستعدًّا لأن يحاول خلال ثماني ساعات الخروج بتظاهرة، يستحيل أن يخسر.
الى «الزبداني المحتلّة»
حين يكون أمامكَ خمسة أيام فقط لتقضيها في سورية ــ الثورة، تكون بحاجة إلى أن تستفيد من كل لحظة. تبدأ المخطّطات للخروج من دمشق: إلى أين الذهاب في اليوم التالي؟ التوجُّه إلى «عاصمة الثورة»، أي حمص قبل اقتحامها من الجيش النظامي (وهي أكبر المحافظات السورية، تبلغ مساحتها ٤٢ ألف كيلومتر مربع ويزيد عدد سكانها على مليوني نسمة) عبر الاحتيال على الحواجز الأمنية هو الحلم بالنسبة إلى أي صحافي. لكنه قد يتحول إلى كارثة، إذ إن مصيرك قد يحدّده خطف أو اعتقال أو مجرد رصاصة طائشة أو هادفة، لا فرق، هذا إذا افترضنا أنك تمكنتَ من الوصول إلى هناك بمساعدة عناصر من «الجيش السوري الحر» وأصدقاء معارضين. لا يزال يمكن الوصول إلى أحياء بابا عمرو (قبل دخول الجيش إليه في ٢٠ شباط الماضي) والبيّاضة والخالدية والقصير. لكنك هناك، ستكون «مشروع شهيد»، أو على الأقل مشروع معتقل لدى الأجهزة الأمنية، وما أهون الموت أحيانًا برصاصة أو قذيفة أمام الاعتقال لدى هذه الأجهزة!
إلى أين إذًا؟ مدن ريف دمشق تبدو الخيار الأفضل: الزبداني وحرستا ودوما وداريا جميعها معاقل للثورة، رغم أن جميعها «سقطت» في يد الجيش والأمن، بعضها بعد معارك شرسة جدًا لكنها غير متكافئة، مثلما حصل في الزبداني (المحاذية للحدود اللبنانية).
تبدأ التحضيرات للرحلة المفترض أن تحصل في اليوم التالي إلى الزبداني، أي السبت ٢٥ شباط. عليك أن تنسى أمر محاولة الاستفادة من الدعوة الموجهة إليك من وزارة الاعلام السورية لتغطية الاستفتاء المقرّر الأحد ٢٦ شباط على الدستور الجديد في دمشق: ممنوع التجوّل إلا بمرافقة مندوب من الوزارة، حتى في محافظة ريف دمشق. وترخيص تجوّل الصحافيين يبقى بيد هذا المندوب وحده، وهو الذي يعني معظم الأحيان، أنّ ثمة رقيبًا عليك وعلى حركتك. وصلت الرسالة: عليكَ أن تغامر على مسؤوليتك وأن تخفي صفتك الصحافية على الحواجز إذا كنتَ تريد أن تعرف شيئًا في سورية غير ذلك الذي يفيدك به الإعلام الرسمي المضحك في انعدام مهنيته.
تتّجه برفقة صديق إلى شقة سكنية في وسط دمشق يلتقي فيها ناشطون شبّان وشابات يشاركون منذ اليوم الاول للثورة في كل تفاصيل نشاطاتها، السلمية منها واللوجستية الإعلامية والعسكرية. ستكون الرحلة مع خمسة أشخاص، صحافية يونانية خبيرة في تغطية الحروب، أربعة ناشطين سوريين، ثلاثة منهم من الزبداني نفسها، وقد غادروها منذ سيطر عليها الجيش النظامي نهائيًا في ١٠ شباط الماضي بعد قصف مدفعي عنيف بكل أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة لأكثر من أسبوع مع منشقّين عن الجيش وسكان من الزبداني حملوا السلاح.
وللزبداني حساسية كبيرة بالنسبة إلى النظام السوري، فهي: أولًا مدينة (نحو ٣٥ ألف نسمة) حدودية مع لبنان، وعدم السيطرة عليها يفتح مجالًا لتشريع الحدود أمام السلاح والعتاد من الجار المنقسم بين مؤيد ومعارض لنظام الرئيس بشار الأسد، وخصوصًا أن الزبداني تملك تاريخًا حافلًا من حيث إنها «تعيش على التهريب».
ثانيًا، كانت الزبداني من المدن السبّاقة الى طرد أجهزة الأمن وإعلان العصيان المدني الشامل، كونها من المدن المعارضة للنظام بغالبية كبيرة من سكانها.
ثالثًا، إن ترْك الزبداني بيد الثوار كان سيؤدي إلى تشجيع مدن أخرى للاقتداء بها وإعلان نفسها «مدنًا محرّرة»، خصوصًا أن الزبداني كانت من أولى المدن التي شهدت تظاهرات في سورية.
في الشقة الدمشقية الصغيرة، تبدأ التحضيرات: بطاقة هوية سورية مزورة للصحافية اليونانية التي أُلبست منديلا شرعيا للتمويه، ذلك أنّ دخولها كصحافية ممنوع طبعًا، وحجة أنها تنوي التوجه إلى المدينة كسائحة ستبدو أكثر من نكتة، فلا سياحة اليوم في «الزبداني المحتلة»، بل ساحة حرب انتهت قبل أيام، وجيش ينتشر فيها بدباباته وآلاف الجنود في طرقاتها، والمئات من رجال الأمن الذين لا يزالون ينفّذون مداهمات واعتقالات ليلًا ونهارًا بحثًا عن مطلوبين وعقابًا للسكان. أما بالنسبة لي، فكان الأمر مفاجئًا: يبلغني الناشطون بأن لا مشكلة في وضعي على الحواجز الأمنية كوني «مسيحيًا»، بالتالي سيفترض رجال الأمن أنني موال للنظام، مثلما هي حال الجزء الأكبر من مسيحيّي سورية، وقسم ليس قليلًا من مسيحيّي لبنان. هكذا، عدتُ، رغمًا عني، إلى حضن الطائفة فتى مدلَّلا لدى الحواجز الأمنية بمجرد ما يوحيه الاسم من هوية طائفية.
فجأة، تتعقّد الحكاية عندما تتلقّى إحدى السوريات في الشقة اتصالًا يؤكد لها أن اسمها ورفيقتها موجودان على حواجز الزبداني كمطلوبتَين على خلفية نشاطهما الميداني المعارض. يتعرقل المشروع، فنقرّر، صديقي السوري وأنا الافتراق عن المجموعة الأخرى والتوجه إلى الزبداني في اليوم التالي وحدنا، أي الأحد ٢٦ شباط. أصلًا، قد يكون التواجد في الزبداني، في يوم الاستفتاء (الشكلي) على الدستور الجديد، أمرا مثيرًا بذاته، وهي التي شهدت قبل أيام فقط إحدى أشرس المعارك العسكرية.
عند التاسعة من صباح الأحد، كل شيء جاهز للتوجه نحو السومرية (محطة نقل الركاب البرية الأساسية في دمشق) إلى الزبداني. الكاميرا الصغيرة مخبّأة جيدًا في الثياب. أصلًا، فهمتُ مسبقًا أنني لن أتمكّن من استخدامها في الزبداني، كون الصورة هي أكثر ما يرعب النظام السوري. حتى الدفتر والقلم مخبّآن، ففي كل باص يحتمل أن يكون أحد الركاب رجل أمن مدنيًا متخفٍّيًا. ينطلق الباص بتعرفته الرمزية (٤٠ ليرة سورية) لنقلك نحو خمسين كيلومترًا غربي دمشق إلى الزبداني.
على الطريق، ظاهرة جديدة أيضًا لم تكن موجودة قبل عام: مقار الأجهزة الأمنية ومساكن ضباط الجيش والأمن ومنازل المسؤولين والمقار الدبلوماسية الحليفة لدمشق، محاطة بسور إسمنتي يذكّرك بصور جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة. أيضًا المربعات الأمنية تعيدك سريعًا إلى صورة الوضع الأمني في لبنان.
تتشابه المشاهد على الطريق. تدلّك لوحات الطرقات إلى الزبداني وبلودان وسرغايا ومضايا، وهي جميعها بلدات جميلة معروفة بكونها مصيفًا مفضَّلًا للسياح العرب. تشعر بأن المغامرة تقترب خصوصًا عندما يطلب السائق هويات الركاب، او بتعبيره، «هويات النساء قبل الرجال»، ليعطيها دفعة واحدة لعناصر الحواجز الأمنية. تحاول استباق الوضع الذي ستجده في الزبداني. هل يشبه الضاحية الشرقية لبيروت عندما دخلتها القوات السورية في تشرين الأول ١٩٩٠؟ ينعطف الباص يمينًا، فتجد أول حاجز أمني. العبوس على وجوه الجميع يليق بالظرف. جميع الركاب من الزبداني، باستثناء صديقي السوري وأنا. مقابَلة أولى وسريعة للهويات مع الوجوه والأسماء قبل أن يتوقف الجندي عندي. جواز سفر فلسطيني صادر عن الجمهورية اللبنانية! يجد عنصر الأمن في الاسم ما يريحه. يصعد العنصر الأمني إلى الباص. نظرة سريعة لكن قلقة ويدعنا نمرّ. أربعة حواجز مماثلة يستغرق عبور كل واحد منها نحو عشر دقائق على الطريق العام قبل دخول المدينة. وعلى هذه الطريق التي يبلغ طولها نحو ثلاثة كيلومترات، آثار المعارك لا تزال ظاهرة. المحال التجارية على حافَّتي الطريق مهجورة بعدما أصابها الرصاص والقذائف. النفايات مكومة منذ فترة طويلة. تشعر بالفعل أن الحرب مرت من هنا في الأمس، وليس قبل أسبوعين.
لا ماء، لا كهرباء، لا مازوت، لا غاز ولا تغطية للهاتف المحمول
دقائق ونصبح في ساحة الزبداني. تبدو أصغر بكثير ممّا تظهره عدسات الكاميرات التي سجّلت تظاهرات واحتفالات المعارضين للنظام قبل دخول الجيش إليها و«تطهيرها». لا مكان للتشدد الديني في الزبداني، بدليل الشجرة العملاقة التي زيّنها الثوار بمناسبة أعياد الميلاد. هي شجرة أول ما فعله الجيش عند دخول الزبداني، كان قطعها. رغم ذلك، ظلّ قسم كبير من أبناء الحارة الأرثوذوكسية معاديًا للثورة على اعتبار أنّ «الاسلام سيقضي علينا». أشهُر عديدة عاشتها الزبداني «محرّرة» قبل اجتياحها في شباط الماضي. طيلة أشهر وأسابيع، عاشت احتفالات موثّقة بالصوت والصورة، أُعلن خلالها عن تشكيل ما يشبه الإدارة الذاتية لتسيير شؤون أهل المدينة.
ننزل عند ساحة العارة لنفهم لماذا بات أهل المدينة يسمّونها «الزبداني المحتلة»: آلاف الجنود منتشرون في الطرقات وبين الأزقّة. الدبابات وناقلات الجند والشاحنات العسكرية السوفياتية المتهالكة تملأ المكان. عشرة أمتار تفصل تجمّعًا للجنود ولعناصر الأمن عن تجمّع آخر. لكنّ جولة طويلة في المدينة على الأقدام لا تكشف أثرًا لدمار مدينة أخبرك أهلها أنها تلقّت تسعة آلاف قذيفة مدفعية في غضون ما يقارب الأسبوع. أكبر خطيئة قد يرتكبها «الغريب» في حق المدينة في مثل تلك الظروف، هي محاولة الاستفسار عن منزل أحد سكان البلدة أعطانا ابنه في دمشق عنوانه لنقصده، ولا مجال للوصول إليه إلا بالاستفسار، بما أنه لا تغطية لشبكة الهاتف المحمول منذ شهر ونصف. يصعب أن تلقى إجابة من أحد، سيظنون أنك «من الأمن». و«الأمن» أيضًا سيتوقع أنك من الثوار تسأل عن أحدهم لايصال رسالة أو مساعدة. لذلك، عليك أن تبدأ سؤالك بما يشبه القسَم بأنك لستَ رجل استخبارات ولا «شبّيحًا» ينوي التسبب بالأذى لأبو محمد. بصعوبة، يدلّنا أحد الشيوخ إلى منزل أبو محمد. نصل أخيرًا بعد إحصاء عشرات دبابات الجيش المنتشرة في كل أرجاء البلدة، وآثار دبابتين محروقتين للجيش النظامي إحداهما على طريق سرغايا. وبعد تردُّد قصير، يثق أبو محمد بأننا لسنا من «الأمن» بل مجرد صحافي وناشط نحاول رصد أحوال مدينته عن قرب، علمًا أن مضيفنا عرف من أبناء البلدة أننا نسأل عن عنوان منزله قبل أن نصل. ملامح وجه الرجل السبعيني تشير إلى إرهاقه، وهو الذي لم يفارق بلدته لحظة منذ بدأت الثورة، ومنذ بدأ القصف على مدينته. والرجل، شأنه شأن جميع سكان الزبداني، يعيش منذ نحو شهرين بلا ماء ولا كهرباء ولا مازوت ولا غاز ولا تغطية لشبكة الهاتف المحمول، في ظل ما يسميه أهل البلدة «نظام عقوبات بحق الزبداني بسبب مقاومتها». واليوم الذي وصلنا فيه إلى الزبداني في ٢٦ شباط، كان اليوم الأول لدخول اللحوم إلى البلدة، ليكون «الاحتفال» على شكل طبخة ملوخيّة في منزل أبو محمد.
في غرفة الجلوس، كانت الحرارة تدنو من درجة الصفر، كونه لا وجود للكهرباء ولا للمازوت للتدفئة. ورغم تعبه الظاهر، لا يكلّ أبو محمد، ومعه زوجته، عن سرد كيف أمضيا أكثر من أسبوع لا يفعلان سوى إحصاء أصوات القذائف التي تسقط من دبابات جيش بلادهما، ومحاولة تأمين الطعام للمستشفيات الميدانية لمعالجة المصابين. يشرح مضيفنا، بشيء من التفصيل، كيف أنّ الجميع حملوا السلاح ضد النظام وأجهزته الأمنية، بعدما أمعن اعتقالًا وقتلًا حتى بات المئات من أبناء البلدة قابعين في سجونه، وبعدما سقط أكثر من مئة قتيل على أيدي قوات حفظ النظام. لكنه، وبشيء من عزة النفس، يستعيد الروح حين يدلّك من شرفة منزله كيف «اصطاد» رجال «الجيش الحر» دبابة للجيش النظامي هنا، وفرقة من أجهزة الأمن كانت تحاول التسلُّل هناك. تشعر بالفخر في عيونه وهو يخبرك أنّ قتلى الجيش كانوا أكثر عددًا من قتلى «الجيش الحر». تسأل أبو محمد فلا تفاجأ حين يخبرك بأن المدارس مقفلة في المدينة منذ ثلاثة أشهر والموظفين لا يتجهون إلى أعمالهم. يروي بحسرة كيف أنه رافق عناصر الأمن وهم يدهمون المنازل الفارغة من أهلها بحجة البحث عن مطلوبين، وكيف نُهبَت تلك المنازل بالكامل على أيدي رجال الأمن. يزوّدنا أبو محمد بخريطة شفهية لنتمكن من رؤية الدمار في الحي الغربي من المدينة. نترجّل ونسير نحو اربعة كيلومترات. ومع اقترابنا من الحيّ الغربي المهدَّم الذي يمنع الجيش الاقتراب منه حتى، نلاحظ اربعة مبانٍ على الأقل وقد أصابتها القذائف، إضافة إلى ألواح الزجاج المحطم في أرجاء منازل البلدة وآثار الرصاص على الجدران في كل مكان.
صبي ودبابة وسيجارة
المشهد العام في الزبداني أقرب إلى فيلم سينمائي. نصف المحال التجارية تفتح أبوابها، ويكاد جميع سكانها يقفون في الشوارع وعيونهم محصورة بعيون عناصر الجيش والأمن. مقدار التحدّي مخيف. يومًا كاملًا قضيناه في الزبداني، ولم نلحظ مواطنًا يتحدّث إلى جندي أو عنصر أمن. الجنود وعناصر الأمن لا ينظرون أيضًا في عيون المواطنين المصطفّين على جوانب الطرقات. يسيّر الجيش بنحو مستمر، دوريات عسكرية، من ضمنها دبابات، في أزقة المدينة. وفي كل مرة تستعدّ الدبابات للانطلاق في دوريتها الاستعراضية، تفاجأ بتجمهُر الأطفال والنساء والشيوخ حول المكان الذي تنطلق منه. ينبّهني صديقي الى ضرورة التوقف لأنّ «شيئًا ما سيحصل الآن». كان أبو محمد قد أخبرنا أصلًا أنه في الأيام الأولى لاقتحام الجيش البلدة، كانت تظاهرة عفوية تنظَّم ضد النظام في كل مرة تتحرك فيها الدبابات من مكانها لتسيير دورية. وللحؤول دون مواصلة تظاهرات التحدّي تلك، ثبّت الجيش نقاطًا عسكرية مكان الدبابات التي تنطلق في دوريتها. ونحن نتفرّج على هذا المشهد وغبار الدبابات يكاد يخنقنا، ظهر طفل كأنه خارج من أحد أفلام سينما واقع الحروب؛ فتى لا تتجاوز سنه العشر سنوات، وبيده سيجارة مشتعلة. ينتظر أول دبابة لتنطلق ببطء. يصفّر للجندي المدجَّج بكل أنواع السلاح علّها تهدّئ من توتره وخوفه على ظهر الدبابة. وما أن ينظر الجندي إلى الفتى، حتى يرميه الأخير بالسيجارة. يبقى الطفل واقفًا مكانه محدِّقًا بعيني هدفه. تحدٍّ ورجولة مبكرة جدًا من جهة، ورعب ينتاب الجنود على ظهر الدبابة من جهة أخرى.
في الجولة الراجلة، تلاحظ قلة وجود فئة عمرية كاملة في المدينة، وهي فئة الشباب والرجال الذين هرب كل من حمل منهم السلاح إلى دمشق والجبال البيضاء المحيطة بالزبداني. الوضع النفسي والعصبي الصعب لعناصر الجيش النظامي وأفراد الأمن، يكاد يثير شفقة أهل الزبداني حتى. وبحسب مضيفنا الآخر في البلدة، الرجل الخمسيني أحمد، لا يجرؤ الجنود على المبيت ليلًا في المقار الأمنية والمنازل المهجورة خوفًا من هجوم مباغت عليهم، فيقضون ليلهم في صقيع الطرقات مع درجات تدنو من الصفر، وهم يقطعون أشجار التفاح والإجاص لإشعالها للتدفئة.
ذاك الأحد كان موعد الاستفتاء على الدستور الجديد ــ القديم. ولأنه يصعب على النظام إنزال ناخبين كثُر في الزبداني للمشاركة في الاستحقاق الفارغ من أي مضمون، فقد أتى بناخبين في باصات من المدينة المجاورة للزبداني، بلودان، التي يُنظَر إليها على أنها موالية للنظام.
ينتهي اليوم الطويل في الزبداني مع هبوط الليل، وهنا تبدأ معاناة الاياب بالباص. سبعة حواجز في طريق العودة تتشدّد اكثر من حواجز الوصول إلى الزبداني. نفهم الأسباب لاحقًا. يرجح أن مقاتلين لا يزالون مختبئين في البلدة، ويخشى هروبهم منها. نصل إلى دمشق ليلًا، ونتجه مباشرةً إلى منزل أبناء أبو محمد في العاصمة، بعدما خبّؤوا سلاحهم «في مكان آمن لن يصل الجيش إليه أبدًا». هناك تبدأ الأخبار العسكرية التي لا تنتهي: هكذا صنّعنا ألغامًا بدائية بمواد أولية لإعاقة دخول دبابات الجيش. هكذا كنا نشتري الذخيرة من... عناصر الجيش النظامي بمئة ليرة سورية (نحو دولار وربع الدولار) للطلقة الواحدة من رصاص الكلاشنيكوف. هكذا قاتلنا باللحم الحي والعالم يتفرّج على عذاباتنا... الأهم أنهم يختمون بـ«لن يتمكن الجيش من البقاء طويلًا في الزبداني في بيئة معادية له. في النهاية سينسحب، وسنعود مع الجيش الحرّ لنحرر مدينتنا... تمهيدًا لتحرير سورية».
كتبت في شباط 2012 قبل التطورات الحالية في سورية
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.