صدر هذا الكتاب لسلوى اسماعيل، أستاذة العلوم السياسية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن العام ٢٠٠٦ بناء على بحوث ولقاءات أجرتها الباحثة خلال عامي ٢٠٠٠و٢٠٠١ في بولاق الدكرور، أحد أكبر الأحياء الشعبية الجديدة في حاضرة القاهرة الكبرى وفي أحياء شعبية أخرى.
لم يحظَ الكتاب باهتمام يتناسب مع أهميته العلمية والمعرفية، والسياسية أيضا بالنسبة للقارئ العربي. وهي أهمية تتزايد مع قيام الثورات والانتفاضات العربية والثورة المصرية بشكل خاص، لأنه يعنى بفهم الحياة السياسية ضمن جغرافية المكان والحالة الاجتماعية المحددة في أحياء شعبية يقطنها جمهور شعبي واسع عملت أجهزة الدولة وخطابها الرسمي السائد على تهميشه سياسيا بعدة طرق منها فرض السلطة بالقوة واستخدام مراكز النفوذ الاجتماعي المحلي والتفسير المبهم لمواد القانون وتطبيقه الاعتباطي واعتماد قيم ومعايير نمطية متحيزة، وفوق كل ذلك اهمال الخدمات الاساسية والبنية التحتية وتحويل حاجة السكان وسعيهم للحصول على متطلبات العيش الأساسية إلى وسيلة اضافية للتسلط عليهم.
السيطرة على المكان
وإذ يقدم الكتاب وصفا وتحليلا مفصّلين للحياة السياسية في ذلك الحي الشعبي الواسع الفقير، فإنه يلقي الضوء على العلاقة المركبة بين الدولة والمجتمع المحلي. فالقمع الصارخ والقوة الاعتباطية التي تفرضها الدولة من خلال أجهزتها المتشعبة واستخدامها كامل هيبتها (أو ما تسميه اسماعيل «نزول الدولة إلى الأرض» ) في التعامل مع تفاصيل حياتية يومية بسيطة، ليس هو الشكل الوحيد للعلاقة بين الدولة والمجتمع، إلا أنه ينم عن مشروع لحكم بوليسي كلاسيكي في الأحياء الشعبية في إطار المشروع النيوليبرالي للدولة. وينعكس مشروع الحكم هذا في الكيفية التي تواجه بها الدولة تبعات تفشي البطالة واضمحلال فرص الاستمرار في التعليم وحالة الإحباط العام لدى المواطنين والشباب منهم بشكل خاص عن طريق إحكام السيطرة على المكان واللجوء الى حلول أمنية يجري فرضها وفقا لمعايير طبقية واجتماعية.
ومن الإستراتيجيات الأمنية تهدف إلى سيطرة الدولة على من تعتبرهم خارج نطاقها، ظاهرة تقييد الحركة داخل وخارج الحي ووضع فئات من سكانه تحت طائلة «الاشتباه والتحري» أو تحت طائلة المساءلة عن أوضاع تتعلق بنمط حياتهم ونشاطهم العام. ففي المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، يفتح ضيقُ المكان الحياةَ الخاصة على الحيز العام ويجعلها عرضة للاصطدام الدائم مع التواجد الأمني. وتورد اسماعيل أمثلة من مقابلاتها مع سكان الحي عن مداهمات واعتقالات تجري قرب المقاهي أو لمجرد تواجد الشباب عند مداخل الحارات. وفي ذات الوقت، فإن الحي كما تصفه اسماعيل ينزوي في عزلة جغرافية خلف خط سكة الحديد وترعة مياه وعقبات أخرى تزيد من عزلته السياسية وتبعيته الاقتصادية، وتتحكم بالحركة بينه وبين مراكز المدينة الميسورة والمرتبطة بالاقتصاد المعولم. وهي عزلة تمعن الدولة في تعميقها عن طريق التحكم بمداخله واعتراض الشباب وغيرهم أثناء الانتقال منه إلى الخارج.
هنا نلقى أهمية تأكيد الكتاب على المكان بكونه محدِّدا أساسيا لممارسة السلطة والحياة السياسية. فأحد الاسئلة المركزية التي يواجهها الكتاب هو البحث في «كيفية تأثير الخصائص المادية الملموسة والاجتماعية والاقتصادية والمعاني الرمزية والثقافية للأحياء الجديدة على شبكة العلاقات السلطوية ككل بين سكان الأحياء والدولة» (ص ١٨). وتستخدم سلوى اسماعيل مفهوم «المكان» بمعناه الواسع الذي يشتمل على العلاقات بين الأهالي أنفسهم وعلاقاتهم مع الدولة ومع ما هو خارج المكان، وتؤكد في الوقت نفسه أهمية الجغرافية المادية للمكان كما تتجسد في الحيز الاجتماعي المحدد بحدود مادية وتاريخية وتنظيمية.
هذه المنهجية القائمة على أساس مركزية المكان تعني ان فهم ممارسة الحكم في إطار اجتماعي اقتصادي ثقافي تاريخي محدد لا يتطابق مع الإطار الرسمي للدولة والحكم، وذلك ما ينعكس أيضا على وعي سكان الأحياء المعنية. فعلى حد تعبير إحدى سيدات الحي: «هنا ما فيش دولة، هنا في ناس عايشة في دولة غير الدولة» (ص ١٣٨). ويقابل هذا الوعي الشعبي خطاب سياسي وإعلامي رسمي يسم الأحياء الجديدة بالعشوائيات محملا التعبير معاني الانحراف والجريمة والتخلف ومبررا بذلك الفرض والقمع الخارجيين. وتبحث اسماعيل في الهوة بين الموقف والخطاب الرسميين والموقف والخطاب الشعبيين بالإشارة إلى صعود الحركات الإسلامية المتشددة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات وهيمنتها على أحياء شعبية عديدة كحيّ إمبابا مثلا وثم تعرّضها للقمع السلطوي. وتشير إلى تحركات الأهالي في مواجهتهم القمع الرسمي الملتبسة بين خصائص الفتوة التاريخية والبلطجة الحالية. كذلك يناقش الكتاب كيف ان التشريع والخطاب الرسميّين حول البلطجة رفعاها إلى مصاف الخطر على الأمن القومي في الوقت الذي اتسعت فيه الاستعانة الرسمية بمن يعتبرهم سكان الاحياء «البلطجية» في السياسات والممارسات السلطوية.
تعدد اجهزة الضبط البوليسية
وبحكم تاريخ نشوء الأحياء الجديدة المعنية وتوسعها السريع في إطار عام من النهج النيوليبرالي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية ومن النمو الاقتصادي تابع للمراكز المالية العالمية، تتعارض نظم التخطيط الحضري والإدارة البيئية مع حاجات وأنماط الحياة في المناطق المعنية (وفي الاحياء الشعبية القديمة ولو على نحو مختلف). وهذا ما يضع المؤسسات والأجهزة المعنية مبدئيا بالتطوير والتنظيم الإداريين وبتوفير الخدمات، في موقع الخصومة والتضاد مع المجتمع المحلي. ينعكس ذلك على الدور السياسي للتشكيلات الإدارية المختلفة التي تتخذ طابعا بوليسيا. وتولي اسماعيل أهمية كبيرة لتنوع وتشعب الأجهزة البوليسية العاملة في تلك الاحياء. فبالإضافة إلى البوليس الأمني، هناك البوليس الصحي وبوليس التموين وبوليس الخدمات كالكهرباء وغيرها، وهناك بوليس للطرق وبوليس للأخلاق أيضا، وهذه كلها أجهزة تدخل في نبض الحياة اليومية لأهالي المناطق الشعبية وتطبع المنطق السائد للحكم وطبيعة سلطة الدولة وعلاقتها بالمواطنة. وتقول اسماعيل إن الدولة في تلك المناطق الشعبية الجديدة لا تستطيع ممارسة سلطتها على المكان عن طريق حكم المحكومين لأنفسهم بأنفسهم لأن ذلك لا يتماشى مع افتراضاتها عن طبيعة الأفراد وعن طبيعة المجتمع في تلك الأحياء، ذلك ان عملية نشوء الأحياء تحول دون تلك الإمكانية (المقدمة ص ٣٠).
سلوى اسماعيل, الحياة السياسية في أحياء القاهرة الجديدة ــ وجها لوجه مع الدولة اليومية، ٢٠٠٦.
Salwa Ismail, Political Life in Cairo's New Quarters: Encountering the Everyday State, Minneapolis, 2006
تفرد اسماعيل جزءا مهما من الفصل الأول حول نشوء حي بولاق الدكرور لتحليل أهمية الطبيعة التلقائية غير الرسمية لنشوء الحي على أرض كانت تعتبر زراعية حسب التصنيف الرسمي، جرى تحويل استعمالاتها تجاوزا ودون شمولها بالتخطيط الحضري والبنى التحتية والخدمات الأساسية. وهكذا نجد أن عملية إخضاع المنطقة لقواعد البناء وتنظيم المكان واستعمالاته وإدارة الخدمات فيه قد انطبعت بطابع التضاد بين الأهالي والأجهزة الحكومية. ويبيّن الكتاب كيف أن هذا التضاد يعود أيضا إلى تراجع دور الدولة الاقتصادي ونقضها للعقد الاجتماعي بينها وبين الاهالي الذي كان قائما في فترات سابقة.
فعلى عكس الأحياء الشعبية التي نشأت في حقبات مضت لأجل خدمة مشاريع الدولة الاقتصادية، والأحياء التي نالها نصيب وافر من البنى والخدمات العامة والتي وفرت قاعدة شعبية قوية للنظام السياسي خلال اتساع دور الدولة التنموي والاجتماعي، فإن بولاق الدكرور والأحياء المماثلة التي نشأت مع الحقبة النيوليبرالية بقيت في وضع هامشي تابع في الاقتصاد الرسمي كما هي في السياسة الرسمية. وفي نفس الوقت، تبّين اسماعيل أن تراجع الدولة عن جلّ دورها في تقديم خدمات الرعاية الاجتماعية وتركها إلى تكافل المجتمع الأهلي والنشاط الخيري وثيق الارتباط بطبيعة النظام السياسي وبالمفهوم الليبرالي للمواطنة وحقوقها وبالتكوين الاجتماعي للطبقات والفئات المتنفذة الجديدة. هكذا فإن نقل الرعاية الإجتماعية إلى النشاط الخاص بشقيّه التجاري والخيري يرتبط بعملية تكوين جديدة لمواطنة تستمد نموذجها من ومن «اعتبار المسؤولية الفردية والمبادرة الشخصية والاعمال الحرة أرقى المبادئ والقيم الاقتصادية والتي يفترض أن ترشد ذواتا جديدة مبهورة أشد الانبهار بالنزعة الاستهلاكية العالمية» (المقدمة ص ٢٠).
القروض الصغيرة وتوازن القوى بين الجنسين
ويربط الكتاب بين هذا التكوين الأيديولوجي وبين ترويج البنك الدولي ووكالة التنمية الدولية الأميركية وغيرهما من المؤسسات الدولية لمشاريع القروض الصغيرة وخاصة تشجيع النساء على ولوج هذا الطريق. ولا تختلف استنتاجات البحث الميداني الذي أجرته اسماعيل بين نسوة بولاق الدكرور حول هذا الموضوع عن استنتاجات الكثير من البحوث الجادة الأخرى التي خلصت الى أن تلك القروض لا توفر نقلة إيجابية نوعية في حياة النساء المعنيات وحياة أسرهن. إلا أن ما يضيفه الكتاب في هذا المجال هو الفهم المتكامل لهذا البناء الأيديولوجي ولمغزى تشجيع تلك القروض في المناطق الشعبية ولدورها السياسي وآثارها بما في ذلك ما يخص علاقات النوع الاجتماعي.
ويفرد الكتاب جزءا مهما من فصله الرابع للتفاعل بين الواقع الاجتماعي العام والعلاقات بين الرجال والنساء. فدخول المرأة الحياة العامة بشكل واسع في مجتمع ذي ثقافة ذكورية، قد فرضه كل من الحاجة الاقتصادية للأسر وواقع الذات الذكورية المجروحة بقسوة والمهانة جراء تعامل أجهزة الدولة مع الرجال والشباب منهم خاصة. ويناقش الكتاب بإسهاب التداخل بين الوعي الاجتماعي الذكوري وإعادة تشكيل الموروث الثقافي والديني في ضوء هذا الواقع وفي ضوء إثبات الذات النسوية. ويظهر التوتر في أساليب مراقبة السلوك العام للمرأة من قبل الشباب على شكل معركة مع التحولات الاجتماعية وكتعبير ملتبس عن حال الذكور في دولة بوليسية، تتنهِك هي الأخرى مجال الحياة الخاصة.
وهكذا نجد أن الحضور المتواصل للشرطة بأشكالها المختلفة المذكورة اعلاه والتوتر وإنعدام الثقة بين التشكيلات الأمنية وبين المجتمع المحلي، أمر مرتبط بكل من الاقتصاد السياسي للبلاد وبالحياة الاجتماعية المحلية في الأحياء الشعبية. وتستنتج اسماعيل أن حضور الشرطة المتواصل في الحي يهدف السيطرة على الناس عن طريق التأثير الرمزي والسياسي وأساليب التأديب والمراقبة. وتخلص الكاتبة الى ان السلطة السائدة في الأحياء الشعبية الجديدة لا تقوم على فهم ليبرالي للمواطنة، بل على ثنائية المشروعين البوليسي والليبرالي للحكم حسب التصنيف التاريخي للفيلسوف الفرنسي فوكو وما يتطلبه من استكشاف لفهم لمغاير لما يحمله كل من المشروعين حول الفرد والمجتمع. وتدعو الكاتبة الى ان «الإنتباه إلى منطق كل من اهتمامات ومفاهيم وأساليب الحكم يشجعنا على طرح أسئلة من نوع مختلف حول طبيعة سلطة الدولة» (المقدمة ص ٢٦).
دور الوجهاء
وتبين الباحثة أن الدولة البوليسية تمارس سيطرتها أيضا من خلال العلاقة بين أجهزتها وبين الفئات المتنفذة في المجتمع المحلي والتي تستمد بدورها بعض نفوذها عند طريق علاقتها بأجهزة الدولة نفسها وقدرتها على التوسط بينها وبين الاهالي. إلا أن لهؤلاء الوجهاء دور أكبر في تنظيم جوانب من الحياة الاجتماعية للحي وفي التوسط بين الأهالي أنفسهم. وغالبا ما يكون الوجهاء هم أنفسهم من المتنفذين في الحياة الاقتصادية للحي يشكلون ركنا أساسيا من التشكيلة الطبقية فيه. ونادرا ما يمنع وجودهم وتدخلهم العنف والصراع بين الشرطة وقطاعات واسعة من الأهالي، والشباب منهم خصوصا. وبالتالي فإن العلاقة ملتبسة وغير مستقرة في ظل فشل نمط النمو الاقتصادي العام في معالجة أوضاع الأحياء الشعبية، بحيث ان إمكانية الانفجار واردة دائما بالرغم من أساليب الضبط المركبة والمتداخلة مع المجتمع. وتتأمل الباحثة في أكثر من مكان في الكتاب وبشكل خاص في خاتمته في إمكانية أو احتمال قيام مقاومة، بل وثورة، مصرية في ظل اتساع الأحياء الشعبية المهمشة وممارسة الحكم عن طريق التدخل الشمولي للشرطة. تثير الثورات ضد الاستبداد في العالم العربي السؤال حول إمكانية ومتطلبات بناء نوع جديد من السلطات. ويمكن الاستنتاج من كتاب سلوى اسماعيل أن الثورة ضد طغيان الأجهزة الأمنية تشكل بذاتها مشروع تغيير اجتماعي سياسي جذري، وهو اهم بكثير من الإصلاح الإداري والمؤسسي ومن قيام نظام انتخابي جديد.
وثمة ملاحظة حول منهجية البحث حيث إن جهد الباحثة في هذا المجال يستحق التنويه والتقدير. فهي قد جمعت بين الإطار الفكري الرصين والاهتمام بدراسة الدولة والحكم في علاقتهما المباشرة مع الأهالي في الأحياء الشعبية من خلال الربط في ما بين الواقع السياسي المعاش على الأرض والتغيرات والظواهر والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الكلية. واتبّعت الباحثة منهجية البحث الميداني من خلال زيارات متكررة لمنطقة البحث وإجراء عدد كبير من المقابلات مع فئات مختلفة من سكان الحي واستقاء معلومات واسعة من مصادر أخرى متنوعة، بما في ذلك محاضر تحقيقات البوليس والقوانين ذات الصلة ومرافعات المحاكم والتقارير الصحفية. ويستند الكتاب أيضا إلى فيض من الدراسات الحضرية التي تمكّن من المقارنات والاستنتاجات حول تطور المدينة تغذّت كلها من معرفة الباحثة العميقة بتاريخ المدينة وواقعها الاجتماعي والسياسي.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.