العزيزة رندا،
إني اشاهد صور تماثيلك الاخيرة، وهي مؤثرة ومذهلة قدر ما هي المنحوتات التي شاهدتها بالحجم الطبيعي في رام الله لسنتين خلتا. اتخيّل ان التماثيل الجديدة في حجمها الطبيعي موجودة في قريتك مجدل شمس التي صارت «عاصمة» هضبة الجولان المحتلة بعدما محا الاسرائيليون مدينة القنيطرة.
اني اكرر هذه الواقعة التي تعيشينها ليل نهار لا لسبب الا لأن الشخوص في حجمها الطبيعي، بايديها واقدامها والوجوه، تعبّر ايما تعبير عن اقصى انواع الحرمان. انها تجسّد حيوات حُرِمت من موطئ قدم وجرّدت من عنوان وحكم عليها ان تكون ابدا في اللامكان. السكن الوحيد الذي تملكه هو أجسادها، والطرقات الوحيدة التي لها هي أيديها والأرجل.
تسمّين مجموعة تماثيلك الجديدة «بلا بشارة» وأفترض ان العنوان يشير جزئيا الى سرقة المكان تلك وإبادة السكن. هي شخوص تنتظر ارضا لتقف عليها وتمشي عليها وتستلقي عليها. الا انها اكثر هدوءا من شخوصك السابقة والهدوء يضاعف من استحالة ان تتعرض مأساتها للنسيان.
من اين يأتي هذا الهدوء؟ ليس من الاستسلام. الغضب ضد الظلم الذي يسبب آلامهم حاضر ابدا. ولا الهدوء ناجم عن تعب. انه هدوء مليء بالطاقة المكظومة، انه شكل من اشكال تحمّل المحنة. فمن اين تأتي طاقة الاحتمال هذه؟
شاهدت مؤخرا في مسرح بباريس عرضا قدمه ثلاثة راقصين وثلاثة ممثلين موضوعه ايضا عذاب الشعب الفلسطيني ونضاله. كان المسرح مزدحما والعرض بليغا. عنوان المسرحية «المحسوس». لم يخفِ المشاهدون تأثرهم الواضح وهم يغادرون القاعة. ومع ذلك، فاحتلال اسرائيل غير الشرعي للضفة الغربية، وضمّها القدس الشرقية، يتقدمان دون موانع وسوف يستمران بلا هوادة. وفي كل ليلة تمثل الفرقة مسرحيتها بالزخم ذاته. من اين تأتي طاقة الاحتمال هذه؟
قبل ان احاول جوابا على السؤال، بعض الملاحظات عن ممارسة الفن وممارسة السياسة عندما يكون الاثنان معنيين بالقضايا ذاتها. في كل نضال سياسي، يشتغل الفن بطريقة مواربة اكثر مما يشتغل بطريقة مباشرة. الضغط الذي يمارسه الفن، والدعم الذي يقدمه، من طبيعة اخرى إذا ما قيس بالضغط والدعم اللذين ينتجهما الفعل السياسي المباشر. ان هذه الافعال السياسية اكثر تحديدا ومثلها المجازفات التي تتكبدها. الفن معنيّ بما يسبق الافعال وما يليها. لهذا فنادرا ما يزعم الفنان انتصارا سياسيا او يحتفل بانتصار سياسي.
عندما يكون الهدف من النضال السياسي هو التغيير او شق مسار جديد، تدعم الممارسةُ الفنية هذا النضال وهي على مسافة بعيدة خلف خطوط النضال الامامية. ولكن عندما يكون الهدف السياسي المباشر هو المقاومة يتقدم الفن ويقترب من الخطوط الامامية.
تساعد هذه الملاحظات على تفسير لماذا الفنانون ــ عدا عن مخلوقات «السوق» بينهم وهم كثر ــ يكتسبون شيئا من الصبر تجاه النتائج المباشرة للافعال السياسية. غير أن هذا ليس يكفي لتفسير طاقة الاحتمال التي أتحدث عنها تفسيرا كاملا.
تسكن الاعمال الفنية في الزمن وفي الزمن تعرض تجربة تختلف عن معظم الاحداث اليومية المحيطة بها. قبل العمل الفني وخلاله، ندخل في ترتيب زمني مختلف. هو زمن أسمّيه «وقت اغنية» مع ان التسمية تنطبق بالقدر ذاته على الاعمال المرئية الصامتة.
يفتح «وقت اغنية» قوسين ( ) في مجرى الزمن اليومي فيدخل «المغنّي» و«المستمع» داخل القوسين، حيث لا توقعٌ لشيء ولا حاجةٌ لشيء خلا التشارك في أغنية. والاغنية هنا هي اقتراح وهي حصيلة في آن معا وهي ايضا نداء وجواب وألم وعزاء. إن تماثيلك تعيش في ما أسميه «مدة أغنية».
غني عن القول ان هذا لا يزيد شخوص تماثيلك دماثة، ولا ينتقص بشيء من قساوة العذاب الذي تعانيه. لا تزال المرأتان الواقفتان تتشاركان في جذع واحد وثلاث أيد ورجلين وثلاث اقدام وتحتفظان مع ذلك بكرامتهما.
ما الذي يغيّره «وقت اغنية» هو ان احتجاجك وكرامتهما والاعتراف بمحنتهما لم تعد امورا مؤقتة او طارئة، وانما باتت متحققة ومستوعبة الآن في ادراك انساني مشترك. وقصة هذه الشخوص ناقصة ومكتملة في آن معا. وهذا لا يتاح الا في «وقت اغنية».
لنتصور ان كل الاحداث المؤدية الى محنة المرأتين الواقفتين تحصل كما قد حصلت (وكما هي حاصلة الآن) ثم يسدل عليها حجاب يخفيها كليا ويطبق عليها الصمت ويجري استيعابها. سوف نكون إذذاك ازاء انتصار اللامعنى ــ او انتصاره المؤقت اقلا، لأن ما احد يستطيع ان يقطع لسان التاريخ.
لم تغيّر تماثيلُك بأي شكل من الاشكال الظروف التي تعيشها تلك النسوة واولئك الرجال. إن ما تحققينه لا اهمية له ولا عواقب. ومع ذلك فلا انت ولا شخوصك تعانون الآن انتصار اللامعنى.
في «وقت الاغنية» تنوجد العدالة من جديد، ويجري الاعتراف مجددا بالكرامة وتلقى البطولة ما تستحقه من تكريم. يرسم «وقت اغنية» هذين القوسين ( ) اللذين ينتميان الى الحاضر والماضي والمستقبل. ومن ذلك الادراك تنبثق طاقة الفنان على الاحتمال. كما يقول محمود درويش في قصيدته «لاعب النرد»:
«لا اقول: الحياة بعيدا هناك حقيقيةٌ
وخياليةُ الامكنةْ
بل اقول: الحياة، هنا، ممكنةْ»
لعل لطاقة الاحتمال التي اكتشفها فنانون من امثالك، واستلهامهم ما سميته «وقت أغنية»، بعض الدلالات بالنسبة للممارسة السياسية في ايامنا هذه.
في عالم متعولم تهيمن عليه قوى السوق التابعة للرأسمالية المالية، ويسوده التلاعب عبر وسائل الاعلام وتتحكم فيه عبودية التسليف وخرافات النزعة الاستهلاكية، فقدت أحزاب المعارضة السياسية التقليدية وتحالفاتها كل صدقية. وعفا الزمن عن برامجها وإنسدت آفاق رؤيتها السياسية. واحتل المتلاعبون الفراغ الناجم عن ذلك وهم يكيّفون الناس لكي يرتضوا العبودية للآني المباشر. ثم يأتي جنون الارتياب (البارانويا) ليحل محل اي هدف خلاق مشترك او مشروع جمعي. إن الانسان يعيش الان للحظته، لحظة لحظة.
ان سياسات المقاومة والمعارضة الجديدة سوف تكون متنوعة وعفوية ومحلية وكونية في آن معا. لكن المشترك بينها هو المبدأ الاخلاقي الذي يقول إن الاستسلام للاستكانة في وجه ما يتعرّض له العالم يعادل إنكار انسانية الانسان وصَرْم صلات القربى التي تصلنا بالموتى والاحياء والذين لم يولدوا بعد. لن يخلو الامر من هزائم. ولن يكون ثمة انتصارات نهائية. فالنضال هو في صميم البشر. غير ان النصر متضمن سلفا في افعال المعارضة المتشاركة. وهكذا يمكن القول إن النضال الجاري يعني اطاعة «مدة أغنية» في الوقت الذي نواصل فيه اتخاذ قراراتنا ونتدبّر الكيفية التي بها نعيش حيواتنا.
شكراً على الصور،
جون
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.