العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

تصوير مجزرة صبرا وشاتيلا

النسخة الورقية

«لا أريد ان اكون البطل، فهو يموت دوماً»، يقول المصورّ اللبناني رمزي حيدر، ثم يصمت معلناً انتهاء المقابلة.

لا يحبّ حيدر الحديث كثيراً عن مجزرة صبرا وشاتيلا. مجرزة كان هو الذي التقط اولى صورها، من دون أن يدرك آنذاك، في ١٧ ايلول ١٩٨٢، فداحة ما يحصل.

يتذكر حيدر ما حصل منذ ثلاثين عاماً كأنّه حصل البارحة. كان ليلة الخميس ١٦ أيلول يمضي وقته على شرفة منزله في حي معوّض في الضاحية الجنوبية لبيروت. حوالي الساعة الحادية عشر ليلاً، رأى أضواء القنابل المضيئة من ناحية المطار. ظن المصوّر في جريدة «بيروت المساء» آنذاك أنّ المعركة محتدمة بين اسرائيل والمقاومة، او أنّ الجيش الصهيوني يتقدم، إذ كانت القنابل المضيئة جديدة عليه، ولم يكن استخدامها منتشراً كثيراً.

في اليوم التالي، التقى بصديقه كامل لمعة، المصور في جريدة «النداء»، كما يفعلان في العادة، اذ يقضيان اوقاتهما سوية في صحيفة أحدهما. قررا الذهاب على متن دراجته النارية الى قرب المطار لاستطلاع الامر، علهما يعرفان ما جرى الليلة الماضية، واين سقطت القنابل المضيئة. حين وصلا الى مستديرة المطار كانت هناك مجموعة من الجيش اللبناني. طلبوا من المصورين الرحيل، فعادا ادراجهما الى الغبيري. «هناك التقينا بصبيان مسلحين في سن المراهقة قالوا لنا إنّ جماعة سعد حداد دخلوا الى مخيم شاتيلا»، يتذكر.

وفعلاً على باب مستشفى عكا، شاهدا عناصر من جيش سعد حداد. يتوقف حيدر برهة ليقول «لا اعرف كيف بقينا على قيد الحياة»، ثم يتابع شهادته. توجه هو وصديقه نحو السفارة الكويتية، وربما كان تحركهما في هذا الوقت خطأ، ومع ذلك لم تنتبه العناصر المسلحة لهم.

عادا الى مستديرة المطار، وتوجه حيدر الى احد عناصر الجيش اللبناني المتواجدين هناك: «يقولون إنّ هناك مجزرة في الداخل (المخيم) وعلينا أن ندخل». رد الجندي: «لا انصحكم بالدخول... لكن سأترك موقعي واتمشى وانتم احرار في ان تفعلوا ما تشاؤون». وهذا ما حصل، دخل حيدر وصديقه كامل الى المخيم، لكن لم يبتعدوا كثيراً. لم يجدوا احداً بداية سوى امرأة تحاول الخروج من المخيم، وعلى رأسها صرة. على أحد الجدران شعار لجيش لحد.

ثم ظهرت الجثث. على الأرض كانت مجموعة من الناس التي فارقت الحياة «كنا في فترة حرب لكن لم اشاهد مثل تلك المناظر من قبل»، يقول حيدر. صدمته الجثث المكومة فوق بعضها، لكنّه سرعان ما بدأ وصديقه كامل لمعة التصوير. توغلا اكثر في المخيم. دخلا احد البيوت حيث وجدا عائلة بكاملها، رجل وامراة واولاده قتلى. علم حيدر لاحقاً أنّ احد ابنائهم بقي قيد الحياة، وهو اليوم مصوّر. في زاروب آخر وجد المصوران شباناً وقد قتلوا برصاصات في الظهر. لم يبقيا اكثر من عشر دقائق في المخيّم المنكوب، وغادرا كل الى عمله.

كان حيدر آنذاك يعمل كمصور مستقل مع وكالة «يو بي آي» الى جانب عمله الثابت في جريدة «بيروت المساء». حين وصل الى مكتب الوكالة الكائن في مبنى جريدة «النهار» في الحمرا، لم يكن قد ادرك حجم المجزرة بعد. كان يتحدث مع مدير المكتب وقال له إنّه مر على «شاتيلا» وصوّر جثث في الأرض. «هل انت جاد؟» سأله، واضاف «انت قمت بعمل مهم جداً». تأسّف لماذا لم يصور أكثر. علم رمزي ساعتها أنّ مجزرة كبيرة كانت ترتكب. اخذ يتردد بعد ذلك على المخيم بشكل يومي، ولا يزال حتى يومنا هذا، لم يغيّر عادته، يزور المخيم كلما استطاع. إذ بقي حتى حرب المخيمات يذهب يومياً، ويصوّر الناس والحياة هناك. لكنّه اليوم يرى أنّ المخيم لم يعد ذلك الذي كان يعرفه، وتغيّر كثيراً.

يعرف رمزي حيدر اسماء كل الناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا، وتعرّف على بعضهم اثناء الاعداد لملف عنهم في مجلة «اليوم السابع». ويتذكر بالتحديد فتاة وشابا، نجيا من المجزرة، وألقي القبض عليهما من قبل حزب الكتائب واخذا الى بكفيا، حيث افرج عنهما امين الجميل. وفي كل زيارة الى المخيم، من شبه المستحيل الا يلتقي أحداً يعرفه.

يعتبر حيدر أنّ تجربة صبرا وشاتيلا ادت الى نضوج عمله الصحافي اليوم. كان شاباً حينها وما شاهده غيّر مفاهيمه وصدمه. اصبح منذ ذلك اليوم يفهم اهمية الخبر الصحافي والصورة المرافقة له. فهم كيف يكون الموت رخيصاً في بعض الأحيان.

نسأله عن صحة وجود صور من المجزرة لديه، لكن لم ينشرها حتى اليوم. يجيب «هناك دوماً صورة لا تنشر»، ويؤكد وجود صور لن ينشرها ابداً عن المجزرة، إضافة لصورتين من حرب تموز. «هناك حدود لا ينبغي تجاوزها مهما كان».

في عام ٢٠١٠، ترك حيدر «وكالة الصحافة الفرنسية» التي عمل معها لسنوات طويلة ليتفرّغ لمشاريع خاصة به، من بينها «مهرجان الصورة ــــ ذاكرة» و«دار المصوّر». الفكرة الاولى تدور حول اعطاء الأطفال كاميرا ليعبروا عن أنفسهم. وهو من اجل ذلك اسس جمعية «ذاكرة» التي بدأت عملها من خلال مهرجان «لحظة» الذي عمل من خلاله مع أطفال من المخيمات الفلسطينيّة في لبنان. استخدم لأطفال الكاميرات التي امنتها الجمعية لهم، فصوروا حياتهم اليوميّة، لتكون الصور عفوية كما هم الأطفال. ثم عرضت كل الصور التي جمعت في معرض نظّمته الجمعيّة، ثم نشرت لاحقاً في كتاب عنوانه «لحظة». لاحقاً، نظمت الجمعية مشروع عنوانه «ما بعد اللحظة» وجمع أطفال من المخيمات الفلسطينيّة مع أطفال لبنانيين يأتون من المناطق المهمّشة الموجودة بكثرة على الأراضي اللبنانية.

ويمكن اليوم لقاء حيدر في احد الشوارع المتفرعة من شارع الحمرا، وتحديداً في «دار المصور» الذي كما يشير اسمه هو مكان للمصورين، يقيمون فيه معارض لهم ويعرضون اعمالهم.

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.