العدد السابع - شتاء ٢٠١٤

آمال وخيبات تجربة اليمن الديمقراطي

النسخة الورقية

كانون الأول/ديسمبر ١٩٧٥. أؤطر في منظار الكاميرا وجهَ صبّية سمراء تجمع البندورة (الطماطم) في حقل غارق بأشعة الشمس. أوجّه عدستي صوب عينيها الضاحكتين. تلتمع العينان فجأة كأنما تملكتهما نعمة لا توصف فتنتصب الصبيّة وتبدأ بالصراخ: «سالمين... سالمين». تحذو عشرات النساء حذوها وهن يصفقن بالأيدي بالحماسة ذاتها. سالمين، سالم ربيع علي، كان حينها رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

عندما ركبتُ الطائرة إلى عدن، تركتُ ورائي بيروت مشتعلة بالنيران. تجلّى اليمن لي حينها مثل واحة نُور في عالم من الظلمات.عدن! الطرف الأقصى من العالم. والمكان الذي تتقاطع عنده كل أحلامنا الطوباوية، كل حماساتنا الرومنطيقية. فمَن مِنا لم تكن له استيهامات عن «أرض الميعاد» هذه، المسماة «العربية السعيدة»؟ من منا لم يكن مستعداً لتقبّل كل الاضطهادات وكل الخيانات من أجل أن تحيا التجربة الاشتراكية في جنوب اليمن؟

في حقل البندورة، والفلاحات المتحلقات حوله، كان سالمين يتحادث مع مهندس زراعي شاب. سالمين فلاح وابن فلاحين. هذه هي الأرض التي حملته، وهذه هي الأرض التي حمل من أجلها السلاح للنضال ضد الاستعمار البريطاني والسلاطين الإقطاعيين. كثيراً ما يعود سالمين إلى هذه الأرض. إنه اليوم مع فلاحي المحافظة الثالثة، وغداً سيذهب لمساعدة الصيّادين على أن ينظمّوا شبكة التوزيع التابعة لتعاونيتهم. سالمين محبوب وشعبي. الشعب يحبه. أحسسنا بذلك أينما ذهبنا. في الحقول، في المصانع، في التعاونيات، أينما كان.

اليمن الجنوبي شعاع أمل لكل عربي يحلم بمجتمع عادل حر وسعيد. في هذا العالم العربي حيث تحتضر الديمقراطية على أعواد المشانق التي تنتصب بالسرعة التي تختفي فيها، حيث السجون لا تزال ملطخة بدماء الأبرياء الذين يعذّبون بصمت، حيث احترام شخصية الإنسان يغرق في المجازر الجماعية، سمحنا لأنفسنا بأن نظل نمارس الأمل. القليل من الأمل، القليل القليل دون أوهام زائدة. وسمحنا لأنفسنا بأن نحلم.

عدن. صبايا يقلّدن في «باليه» ساذج مراحل تحرر المرأة اليمنية. سالمين يتابع باهتمام كبير. إنه هو الذي أشرف مباشرة على تنظيم احتفالات «العيد العالمي للمرأة». ونحن هنا لنصوّر فيلماً عن الحدث. وهو بحق حدث عندما نفكّر في المسار الذي قطعته المرأة اليمنية. فقد نجحت الثورة في أن تخرجها من أسار القبيلة لتقذف بها في المجتمع الحرّ بعد توفير الوسائل المادية لتحررها: محو الأمية، التعليم المهني، العضوية في التعاونيات الزراعية وفي المعامل بمساواة مع الرجال.

كان اليمن الجنوبي شـــعاع أمل لكل عربي يحلم بمجتمع عادل حر وســعيد

بالنسبة إلى سالمين، كان تحرر المرأة اليمنية عنصراً حيوياً من أجل استمرار التجربة الاشتراكية. وكان يريد فيلماً يتوجه إلى النساء بلغتهن ذاتها، بالصُور الخاصة بهن، فيلماً يبيّن للنساء كم أنهن منخرطات في العملية الثورية، وكم أن مساهمتهن الفعالة في تشييد الاشتراكية ضرورية، بل لا غنى عنها.

حزيران/يونيو ١٩٧٨. في نهاية معارك سياسية مديدة، يتحول سالمين إلى أقلّية [في هيئات الحزب]. الخيانة الصينية التي أسهمت في تصفية الثورة في ظفار، وتعزيز إيران [الشاه] وتشديد حصار العربية السعودية على المنطقة، حرمتْ سالمين الأسس الرئيسة التي بنى عليها سياسته. هي مواجهة بين تيارين، وبين خطين... مع أو ضد. لا يزال النقاش مفتوحاً. وهو سياسي في الجوهر. لكن يبقى سالمين رغم كل شيء هو الذي ناضل من أجل سياسة استقلال وطني حقيقية، هو الذي نافح عن خط مستقل ومميز للثورة اليمنية.

انقلاب عسكري في السودان. حيث يعتقل قائدان شيوعيان بارزان ويحاكمان وينفذ بهما حكم الإعدام. كان عبد الخالق محجوب هو أيضاً رمزاً... تنازل النميري ونظّم له محاكمة.

لن يستطيع أحد أن يؤكد لنا الرواية الصحيحة للأحداث التي وقعت أخيراً في جنوب اليمن. دعونا نستبقي منها الخاتمة. إنها فاجعة. سالم ربيع علي، الرفيق التاريخي للثورة، قد أعدم. على عجل. مثل متآمر مبتذل.

استنكار. خيبة. يأس. قَرَف. بالنسبة إليّ، الأمر لا يعدو كونه عملية اغتيال وضيعة. هذا النمط من المكيافيللية الذي يريد تبرير كل شيء في السياسة لا يمكن القبول به مهما يكن. إنه كريه. لن يجد مغزاه إلا في المنطق الفاشستي وحده. الديمقراطيات البرجوازية قد ارتقت منذ زمن بعيد إلى نمط معين من الحضارة قد نحسده دون ندم. ولكن يبقى مع الأسف نمط من الخطاب هو أكثر أُلفة بالنسبة إلينا ذلك الذي يرتكز على المنطق الستاليني... ولكن خارج هذا المنطق التوتاليتاري كيف يمكن فهم ما الذي جرى في جنوب اليمن الا في اطار التخلف القبلي الخائب؟ ففي القبائل، لا توجد رحمة، اليس كذلك؟ نذبح العدو- الاخ، او العدو- ابن العم، خلال مأدبة او عقب احتفال بعيد ميلاد...

لين بياو بالأمس، ومنذ زمن ليس بالبعيد «عصابة الأربعة» في الصين. بالأمس كانوا ثوريين، اليوم هم فجأة أركان الرجعية وعملاء الإمبريالية. لكن الصين بعيدة. سوف نتضاحك في ما بيننا. عن بُعد.

يبقى سالمين رغم كل شيء هو الذي ناضــل من أجل سياسة اسـتقلال وطني حقيقية، هو الذي نـافح عن خط مستقل ومميز للثورة اليمنيــة

بيروت. سالم ربيع علي، هو أيضاً صار فجأة أيضاً عميلاً للإمبريالية. هو أيضاً، كان رجعياً خدع الشعب، هو أيضاً كان خائناً. «ما لا يطاق» قد أصابنا في الصميم، كما ارتدّ عليه السهم الذي رماه. كنا ملوثين دون أن ندري. وهكذا، كيّفنا خطاباتنا مع الامتثال السياسي، امتثال الولاء غير المشروط والأعمى، الامتثال للتوتاليتارية.

إن دم سالمين يلطّخنا جميعاً... لأننا تواطأنا جميعاً، خلال هذا الأسبوع، بعمانا وصمتنا ومسخرتنا القاتمة. لماذا تلطيخ ذكرى هذا الرجل؟ حتى لو أقررنا بواقعية أن «موته» قد صار جزءاً من التاريخ. أي انضباط حزين هو ذلك المنطق القبلي - الماركسي المعيب، المعيب، المعيب. كان يجدر بنا أن نمتلك المزيد من الخيال لندعم مقولة «انتصار الخط الصحيح للحزب على الفردية البرجوازية الصغيرة المغامرة» ونرفض كل شكل من الممارسة الستالينية. يجب أن نرفض، يجب أن نقول «لا» لكل حملة الأكاذيب هذه. يجب الإقلاع عن هذه المانوية المقرفة. أما الذين يبررون المجزرة الفظيعة باسم خصائص العادات الاجتماعية والسياسية في المنطقة، فالردّ عليهم هو أن الاشتراكية هي نهاية كل أنواع الهمجية.

من الآن فصاعداً، سوف يتمطّى المشهد السياسي العربي في رتابة جنائزية إلى ما لا نهاية. ونحن اللبنانيين، مَن منا لا يزال يحلم، بات لزاماً علينا أن نتعلّم أن نحلم منفردين. وحيدين كلياً.

العدد السابع - شتاء ٢٠١٤

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.