العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

«كي لا ننسى»

عن تدمير مخيم عين الحلوة وقصص حارتي

في عام ١٩٨٢ كان عمري تسع سنوات. في الـ٨٢، خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. ظنوا أن خروج المنظمة سيحمي لبنان من الحرب لكنه لم يحم أحد أو شيء.

أخذتنا أمي لنودع الفدائيين. رششنا الرز والورد وبكينا أطفالًا وكبارًا. رحل الفدائيون وحملوا معهم ما تبقى من أرشيفنا ليضيع بعدها في البحر وصحراء الجزائر وفي كونتينرات على الحدود. أبحروا مع قصصنا وأبحاثنا وصورنا وكتبنا وذكرياتنا.

هذه كانت أصعب هزائمنا وبداية النهاية.

فلسطيننا الصغيرة

خرج الفدائيون ودخلت الدبابات الإسرائيلية لتجتاح لبنان.

دمر الاحتلال مخيم عين الحلوة. فلسطيننا الصغيرة التي لم نعرف فلسطين غيرها. دمّر المكان الوحيد الذي كنا نشعر فيه بأمان. في مخيمنا كنا نصرخ عاليًا باللهجة الفلسطينية من دون خوف. كنا نركض في الأزقّة. ونغسل القبور أيام العيد. وكنا نشم رائحة الخبز، وقلاية الخبيزة والبصل المحروق والقهوة بالهال وزهر الليمون. أعدنا بناء المخيم ولكن خسرنا شيئًا من روحه.

أما في تلك الصور التي أعيشها اليوم وأنا أكتب، فأشم الموت والحزن. أشم اليأس الذي تلا الدمار، وأشم الخيبة التي تلت الصفقات التي تتالت بعدها حتى وصلنا إلى أسوئها، أوسلو.

سأحاول ألا أنسى. أضغط على ذكرياتي كي تبقى هنا. أحاول ألا أنسى. أعيد الأحداث في رأسي. قررت أن أكتب أكثر عن عين الحلوة وقصص حارتي. علّني أنقذ القليل مما تبقى في ذاكرتي.

بناية البوتاجي

عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي كانت أمي تعمل في شاتيلا.

كانت أول ضربة على المدينة الرياضية. ركضت أمي فورًا إلى البيت لتطمئن علينا وطبعًا لتعقد اجتماعًا هي وأبي وتجري بعض الاتصالات مع الرفاق للتشاور حول ما العمل؛ وين بدنا نروح وكيف بدنا نتحرك.

لا أستطيع أن أتذكر كيف انتقلنا وما هو تسلسل النقل بين البيوت، لكنني أذكر أننا لم نبق طويلًا في مكان واحد، لربما فقط في شقة صديقة أهلي خالتو سعاد سلوم. كان ذلك في بناية البوتاجي وكانت هذه المرحلة هي الجزء الجميل من تلك السنوات القاسية.

كانت الشقة الوحيدة التي وجدنا أنفسنا فيها مع أعضاء العائلة فقط؛ خالتي انتصار وأولادها وعمتي فوزية وأولادها وأنا وأمي وأخوتي وخالتي عبير التي عاشت معنا ودرست في الجامعة العربية.

كانت الأمهات يتهامسن ويتناوبن على العمل داخل البيت وخارجه لتوزيع المؤن واللقاءات وتوصيل الرسائل للرفاق وتهريب الأزواج لأماكن آمنة، وغيرها من المهامّ التي توزعت بطريقة صامتة ومدهشة، وكأنهن تدربن لسنوات لخوض هذه اللحظة. نحن الأطفال، اخترنا أن نجعل من طاولة السفرة، بالأحرى تحت الطاولة، ملجأ لنا. نقوم وننام ونأكل ونلعب تحت تلك الطاولة!

حينها كانت أول مرة أتعرف بها على قدرة الخيال وكيف يتغلب على الخوف، ذاك الخوف المزمن الذي رافقني كل طفولتي. كنت أخاف من العتمة، ومن العلو، ومن القبو، ومن اللبنانيين الكبار منهم والأطفال في مدارس بيروت، ومن المدرسة نفسها. كنت أخاف من غياب أمي، وأخاف من الصمت، وأخاف أن أفقد أخوتي، وألا يعود أبي. كنت أخاف من عدد الرفاق المختبئين بالتناوب في غرفنا. وأخاف من المكتب الثاني الذي كان يدهم بيتنا في طريق الجديدة. وأخاف من التكلم كي لا تخنّي لهجتي الفلسطينية المدبوغة بكلمات بدوية من جدتي وعماتي.

كنت أخاف أن أصبح كافرة، ومن عقلي الذي كان يكفر نكاية بي حتى أفحش بالبكاء وأستغفر ربي مئة مرة دون توقف. كنت أخاف من انعكاس ظل السيارات ليلًا على السقف والجدران، وأخاف من القطط والكلاب والسكارى والأسلحة. كنت أيضًا أخاف ألا أحب فلسطين كما يجب، إذ لم أفهم أي شيء حينها غير أننا كنا لاجئين وعدم وجود أهلي معنا هو لأنهم يناضلون من أجل فلسطين. كنت أخاف من صوت الرعد وصوت الأذان والرصاص والقنابل والطيران وجدار الصوت وصريخ الجرحى ورعب الأطفال الهستيري.

خفت من كل شيء... حتى اكتشفت أنني إذا أغمضت عيني! وتخيلت فأنا أستطيع التغلب على الخوف وأتخيل أن صوت الصفارات والقنابل ما هو إلا مهرجان في ملعب كرة قدم، وأنا جالسة مع المشجعين نصرخ ونطبل ونرقص فرحًا.

كنت أجعل من العتمة ورائحة الشمع كل أعياد الميلاد التي لم أُدع لها. بدأ خيالي يتطور لأصبح راقصة باليه ولاعبة تنس وعازفة بيانو وبطلة الكلل والبلياردو ورئيسة عصابة كلها فتيان وعندي دراجة نارية أتسابق بها مع أخي ربيع. كنت أتكلم لغات كثيرة منها الروسية واليابانية. وكنت تلميذة بروسلي وحتى أنني نظّمت لقاءً معه لأخي الذي كان يعبده مثلي.

لكنني في يوم من الأيام، بعد صوت انفجار مرعب لم يحرك لي جفنًا عند دويّه، خفت بعدها ألا أعود من أحد خيالاتي. فتوقفت.

bid36_p115.jpg

امرأة فلسطينية في مخيّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، ١٩٨٢.

امرأة فلسطينية في مخيّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، ١٩٨٢.

لقاء الجنود الإسرائيليين

جاءت جدتي أم صلاح لتطمئن علينا في بيروت ولنعود معها إلى عين الحلوة. استأجرنا سيارة كاملة يقودها أبو سمير. كانت جدتي تجلس في المقدمة، وفي الخلف عمتي فوزية وولداها لمى ووسيم، وابنة عمتي أم وائل، بثينة ذات العينين الخضراوين، وأختي رولا، بطلة هذا الوفد (إذ هي الوحيدة التي تطوعت لحمل رسالة إلى أحد الرفاق في صيدا) وأنا التي كنت ملتصقة بأختي ومختبئة خلف كتف عمتي.

وصلنا إلى حاجز إسرائيلي، حذرنا أبو سمير من أن الجنود يتكلمون العربية بطلاقة كي ننتبه لما سنقوله خلال التفتيش.

قلبي بدأ يتنطنط بين ضلعيّ حتى ظننت أنني سأفقد وعيي. أيّ نوع من الوحوش ستكون أشكال هؤلاء الجنود؟ كيف هي أصواتهم؟ هل يصرخون أم يشخرون؟ ما هي اللغة التي يتكلمونها؟ هل هم نصف بشر ونصف وحوش، أم وحوش من رؤوسهم إلى أقدامهم؟ بدأت أتنفس بسرعة رهيبة بالكاد يحتملها قلبي. وبدت عمتي فجأة خائفة أكثر مني، فنشلت رأسي من خلفها وخبّأته خلف ظهر أختي الشجاعة التي لم يتأثر حتى تنفسها الهادئ. توقفت السيارة. فتحت أول عين ونظرت بخشية من خلف رولا، لأرى بشريًا يقف ومعه سلاح يبتسم بتعالٍ ويمضغ علكة في فمه بشكل عصبي ومستفز. بحثت عن زملائه حوله. «كلهم بشر!» صرخت عاليًا من صدمتي. قرصتني عمتي في فخدي لتسكتني. ونظرت أختي إليّ وقالت: شو عم بتقولي؟ «كلهم بشر» أجبتها مصدومة. لم تفهم وقتها لماذا كنت مصدومة. ولم يفهم أحد غيري حينها أنني كنت من كثرة خوفي متأكدة أن الإسرائيليين هم ليسوا بشرًا مثلنا بل وحوش بأجسام غريبة مثل الوحوش التي تظهر لسندباد في كل حلقة. لماذا لم يخبرني أحد بهذا التفصيل المهم؟

أعطى السائق هويات عمتي وجدتي وبثينة للجنود. تمعن الجندي في كل واحدة ودقق في كل وجه من الوجوه الموجودة في السيارة. لن أنسى بحياتي عندما جاء دور وجهي للتدقيق ونظرت بعينيه كيف في هذه اللحظة لم أخف. بل وكأن اكتشافي الصادم أغضبني لدرجة أن خوفي أخذ مكانه الغضب والرغبة في اقتلاع عينَي هذا الجندي البشري! لماذا لم يخبرني أحد بهذا التفصيل المهم؟ تخيل لو لم ألتق بهؤلاء الجنود لظننت حتى عمر كبير أنهم ليسوا بشرًا! غضبت من أهلي لعدم إخبارنا أنهم فقط بشر وممكن هزمهم لو قررنا ذلك.

صحوت من أفكاري عندما صرخ الجندي بوجه ابنة عمتي بثينة. «انزلي من السياغة!» أمرها بغضب. نزلت بثينة من السيارة بخوف ولكن رغم خوفها سألته بعناد: «ليش؟ شو بدّك؟». أصرّ أن عليها أن تنزل لأنه يريدها أن تتذوق عنبًا من إسغائيل، على حسب لفظه.

أصرّت بثينة على رفض عنقود العنب. بعد محاولات عديدة من الجندي، منها أنه قال إن عليها تذوق عنب بلادها، وبرضو رفضت. فقَد بعدها الجندي أعصابه فبدأ بدفع حبة العنب في فمها. أصرت على عدم إدخالها، بصقتْها، فصفعها، ثم أمر سائق السيارة بالذهاب دونها.

بدأت عمتي تهمس بالفاتحة، وخفنا نحن من فقدان بثينة فبكينا. ولكن جدتي قررت أننا لن نتحرك من دون حفيدتها. فطلع الشرش [الأصل] البدوي وأخرجت جدتي رأسها من شباك السيارة لتقول وبصوت عال وحازم «مش متحرتشين [لن نتحرك] من هين غير والبنت معنا!» وشدت على يد أبو سمير آمرة إياه ألا يتحرك. بقينا على هذا الحال حتى استسلم الجندي لجدتي وعناد بثينة وتحركنا أخيرًا نحو عين الحلوة منتصرات.

عين الحلوة

وصلنا إلى عين الحلوة، من دون أن ندرك أو نتعرف إلى عين الحلوة. لم يعد هناك فرق بين الزاروب والأرض والسطح والحارة والبيت والحاكورة أو الدكان. كان كل شيء مبسوطًا على الأرض كجرّة فخّار مكسورة «مِيّت شقفة» على حسب تعبير جدتي أم صلاح.

توقفنا أكثر من أربع مرات نسأل عن حارة عرب الغوير، التي نأتي منها. حارتنا، زواريبنا، شجر الليمون وبائعة الحليب حليمة، السكة التي كانت العاشقات تتمشين على طولها مع الحبيب السري، سطح بيت جدي والحاكورة وشجرة التين ودجاجات جدي وحتى الملجأ العتن لم يعد لها أي أثر.

كان المنظر صادمًا، وكان الصمت في السيارة مرعبًا. وجه جدتي كان يقسو ويشتد أسى مع كل مارٍّ لم تتعرف إليه أو إليها. ثم ظهرت إحدى جاراتنا فصرخت جدتي «إقَف إقَف هين! هاي أم يوسف!».

تنفسنا الصعداء جميعًا وتوقفت السيـارة عند دمار لا وجه له ولا مَعلم ولكن حسب الحاجة أم يوسف فهذه النقطة هي ما كان مدخل بيت جدي حيث الحاكورة الصغيرة وبيت جدي إلى الشمال وبيت عمي أبو وائل إلى يمينها.

نزلنا من السيارة. وبعد التدقيق بدأنا نتعرف إلى بعض الحيطان المهدّمة والأشياء المختبئة تحت هذا الدمار والغبار. تأكدنا أننا في البيت الصح.

لست قادرة اليوم على استرجاع أي تفصيل ممّا حدث بعد ذلك، رغم كل محاولاتي. ولكن ما يأتي إلى ذاكرتي هو سلسلة من الأحداث وكأنني أتفرج داخل رأسي على ألبوم صور وأتحزر أي صورة في أي تاريخ وأي تسلسل.

هنا صورة لمخيم بلا رجال... كلهم في معتقل أنصار. وهنا صورة لجثة منفوخة على الطريق لم يجرؤ أحد على انتشالها. وهناك نساء وأطفال، وأنا منهم، يعملون كالنحل لإعادة بناء ما هدمه الطيران والقصف الإسرائيلي. وهنا عمتي أم وائل وجاراتها يخبزن ويوزّعن الأرغفة والمناقيش على كل من يعمل في حارتنا. وهنا صورة لملجأ عتم ومقرف لدرجة أنني أستطيع أن أشم رائحة العفن بمجرد تخيّل المكان. وهنا أنا وأولاد عماتي نطارد أسلاك النحاس الرفيعة التي تسقط مع كل قذيفة لنبيعها أو نداكشها [نقايضها] بسكاكر أو بمشاهدة أفلام بوليوود وبروسلي.

تذكرت الآن أن بوستر بروسلي الوحيد الذي اشتراه لي ابن عمتي قد اختفى في الدمار أيضًا.

العودة إلى بيتنا

لا أدري كم من الوقت مضى قبل أن أكون أنا وإخوتي في بيروت مع أمي وأحيانا أبي عندما لا يكون فارًّا أو متنكّرًا.

عدنا أخيرًا إلى بيتنا في طريق الجديدة. بمساعدة شاب اسمه وسام، توفي بعدها، استطعنا ترميم ما يمكن ترميمه في الشقة، والتخلص من كل العفش المحطم بالصاروخ الذي استهدف الشقة وبالتحديد شقّة أبي.

لم يعد هناك إلا خزانة واحدة وهي خزانة أهلي، فكنا سعداء أن شيئًا واحدًا على الأقل قاوم الصاروخ. وكانت هناك رصاصة قد اخترقت هذه الخزانة وجاكيت علّق داخلها حيث دخلت الرصاصة من جهة وخرجت من الجهة الأخرى.

لم يبق أي سرير في غرفتنا، فتخلصنا من الخشب المكسور واحتفظنا بالفرشات التي وضعناها فرحين على الأرض.

لم نأبه لأي من الخسارات، لا العفش ولا الثياب ولا حتى الألعاب. كانت سعادتنا بالعودة إلى البيت والخصوصية بعد أن عشنا مع عوائل مختلفة وتنقلنا من بيت إلى آخر حتى نسينا أين نمنا وأين استيقظنا.

البيت كان فيه ضوء جميل. وخالتو أم سعيد جارتنا البيروتية الحبيبة كانت أيضًا سعيدة بعودتنا أحياءً رغم خوفها من الاستهداف الدائم للمبنى بسبب أبي.

طبعاً ذكريات هذه المرحلة لا تقف هنا، وهناك الكثير من القصص والأحداث التي لم أستطع أن أجد لها تاريخًا أو عنوانًا أو حتى في بعض الأحيان أن أتأكد إذا ما كانت حقيقية أو من نسج خيالي. ولكن هذا بحد ذاته مأساة. ليس لنا روايات شخصية مدوّنة. نعيش بذاكرة جماعية ننسى حتى التأكد من مصادرها وحقائقها فنصبح مقيدين بما هو مكتوب هنا وهناك.

عندما بدأت الكتابة عن الـ٨٢، اتصلت بأمي وأختي وزرت عماتي في عين الحلوة. سألت بثينة أن تؤكد لي حادثة الجندي، ضحكت وقالت لي «لا أذكر أي شيء عن هذه القصة. أعرف أنني عايشتها ولكن لا أذكر أي تفصيل». استغربت. كيف لأحد عاش حادثة كهذه أن ينسى؟ اضطررت أن ألجأ لعمتي فوزية لتخبرني التفاصيل.

وحين سألت أمي وأختي عن تسلسل النقل والبيوت في بيروت، أيضاً وجدت أننا نسينا. أمور اشتبكت ببعضها. أي مصيبة أتت قبل أي مجزرة في أي مخيم أو حي، وفي أي بيت؟ كيف للعقل أن يتذكر؟ متى تتوقف الأحداث لتعطي الناس الوقت للملمة أشلائها وذكرياتها والبكاء والعزاء على ما فقدته؟ متى نفهم بأن السيرة الشخصية لا تهدد الِسيَر الجماعية ولا تشكل خطرًا على الرواية الملزمين بها كمجموعات، بل هي تضيف وتوثّق أحداثًا عشناها جماعيًا ولكنْ كل منا بخصوصية وسردية مختلفتين.

كيف نروي لأولادنا ما عشناه بحميمية ولكن أيضًا بدقة؟

كيف نطبق شعار «كي لا ننسى» ونحن أصلًا ننسى. تناسينا فنسينا. ظننا أننا لن ننسى ولكننا نسينا. أحيانًا عن قصد وأحيانًا أخرى بغدر من الذاكرة والتاريخ واليوميات الممتلئة بقصص كثيرة جديدة علينا ألا ننساها.

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣
عن تدمير مخيم عين الحلوة وقصص حارتي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.