عندما يلقي المرء نظرة على مؤلفاتك المنشورة، يلاحظ تنوعًا كبيرًا في الاهتمامات، من نظرية القيمة–الشكل («من السلعة إلى رأس المال: جدلية هيغل في كتاب «رأس المال» لماركس»)، إلى النظريات النقدية عن الفاشية («الفاشية: مقالات عن أوروبا والهند») إلى التأريخ الماركسي والنظرية التاريخية («النظرية بما هي تاريخ»). هل يحق للمرء أن يرى في هذه الاهتمامات المتنوعة تدخلات مختلفة من ضمن حقول بحث متغيرة أم أن في نتاجك استمرارية وانتظامًا؟
الاستمرارية هي ببساطة استمرارية النظرية الماركسية ذاتها. المادية التاريخية كما فهمها ماركس كانت مفهومًا مدمجًا أو حقلًا بحثيًا ولم تكن مجزّأة إلى اختصاصات. يستحيل التفكير في الرأسمالية، مثلًا، بواسطة مصطلحات اقتصادية صافية، مجردة عن الدولة؛ أو التفكير بالدولة بمعزل عن الثقافات التي تحدو بجماهير واسعة من الناس إلى القبول المستكين بالسلطة أو بكل القيم التي تقوم عليها وتدعمها (كان سارتر يسمّيها «القبول المتسلسل»). لم يمكن لهتلر أن يوجد لولا وجود بيئة سمحت له بالظهور والنجاح (أيّ أن يتحول إلى «تجسيد» لـ«شعب» مقولب عبر عقود من تعريضه للقومية والنزعة العسكرية وما شابه). إن هذا الفهم للماركسية بما هو اختصاص مدمج بالأساس، إن شئنا تسميتها ذلك، هو ما حاول سارتر أن يحيط به في كتابه «مسألة المنهج». لذا أرى إلى عملي على أنه تدخل موحّد في مستويات مختلفة جدًا، وفي حقوق مختلفة إلى حد بعيد.
في محاولة استخراج بعض المعنى عن حال رأس المال الهندي، أجرينا أنا وصديق يدير الآن اتحادًا من النقابات المستقلة هنا في الهند، قرابة مئتي مقابلة مع أشخاص في القطاعات المالية والاقتصادية (مديري مؤسسات مالية، مراقبي محاسبة، مديري شركات، محللين، إلخ). لكن كان لا بد من تأطير هذا التدخل بطريقة ما، وقد توفر ذلك لسبب فريد هو اضطرار الرأسماليين إلى أن يناقشوا طريقة إدارة أعمالهم، ونظام حوكمة الشركات. فجعلنا من ذلك محور الدراسة ذاتها ولم تعد المقابلات مقتصرة على ذلك، بل شملت مروحة واسعة من المواضيع بما فيها الطريقة التي تدار بها كبريات الشركات (الآليات المستخدمة لتنظيم آليات السيطرة والتحكّم على شركات ضخمة) ومدى استشعار رأس المال الهندي بالخطر جراء تدفق الشركات الأجنبية إلى السوق.
في مقدمة كتابك «النظرية بما هي تاريخ» تميّز بين «علاقات الإنتاج» و«أشكال الاستغلال»، هل لك أن تفصل في هذا التمييز وتشرح لماذا أدى عجز المادية التاريخية عن التمييز بين هذين المفهومين إلى أن يحكم عليها بالشكلانية؟
إن علاقات الإنتاج هي مجموع علاقات نمط إنتاج معيّن، بما في ذلك تلك التي تنتمي إلى قطاع الاستهلاك (في ظل الرأسمالية) وهو موضوع لم يتسنّ لماركس أن يعالجه. يبني ماركس كتاب «رأس المال» على طريقة الشرائح، كل شريحة تقارب «الواقعية» بإدخال تحديدات أهملت أصلًا. الاستغلال هو محور الجزء الأول من الكتاب لأن ماركس أراد منه بيان كيف يولد رأس المال عمومًا، بما هو تجسيد صنمي للعمل وفائض العمل، أي أنه الشكل الموضوعي للعمل الحيّ. لإجراء هذا البيان، كان على ماركس أن يبدأ بالقيمة، وأن يفسّر ما هو المال، وأن ينتقل من ثم ليعالج مسار العمل بما هو موقع إنتاج القيمة وفضل القيمة. إن اختزال كثرة التحديدات التي تنتمي إلى «علاقات الإنتاج» إلى هذا المستوى الأصلي من التجريد يوازي القول إن ماركس لم يكن بحاجة إلى كتابة باقي أجزاء «رأس المال»، والاكتفاء بالجزء الأول.
أودّ أن أسجل نقطة إضافية هنا. لقد قرن ماركس حتمًا الرأسمالية بالرأسمالية الحديثة التي كانت تنمو وتتطور في أيامه. إلا أن التشكيلات قبل الرأسمالية كانت منتشرة في أجزاء عديدة من العالم من الصين في عهد السونغ الجنوبي إلى أجزاء واسعة من العالم الإسلامي. انظر مثلًا الدراسة الميدانية الرائعة لـ[لوسيت] فالينسي عن صناعة الشاشيات في تونس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي صناعة مبعثرة ومنزلية بحتة، لكنها منظمة بطريقة محكمة ويسيطر عليها رأس المال (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر، ١٩٦٩).
هذا نموذج لنوع الرأسمالية التي ازدهرت في الاقتصاديات المدينية خلال القرون الوسطى بل في العهد العتيق. ولكن طالما أننا واضحون بأن هذه ليست هي الرأسمالية بالمعنى محكم التحديد الذي يعطيها إياه ماركس، فلن ينشأ أيّ خلط إذا ما شخّصنا هذا النوع من العلاقات الاقتصادية على أنها علاقات «رأسمالية». ولا مجال للادّعاء بأن أشكال الإنتاج تلك تدفع سائر قطاعات الاقتصاد. لكن الحصيلة التي نخرج بها هي نظرة تقول إن العمال كانوا يتعرّضون لاستغلال الرأسماليين خلال حقب من التاريخ أطول بكثير مما كنا نتصوّر.
في الفصل الخامس من كتابك «النظرية بما هي تاريخ» («تخييل العمل الحر») تحاجج بأن العمل المأجور لا يمثّل أي «تقدم» إذا ما قورن بالعبودية أو الرق، وتعتمد في ذلك على كتاب سارتر «نقد العمل الجدلي». ما الذي يقدّمه سارتر من حيث النقد الكاشف للغموض بخصوص العمل المأجور ولم يقدمه نقد ماركس في مقولته عن الصنيمة (الفيتيشية) أو نقد [جورج] لوكاش للتشيؤ؟
لا. أنا لا أحاجج بأن العمل المأجور لا يشكل «تقدمًّا ما»، مهما يكن للكلمة من معنى. في الفصل الذي تشير إليه أقول إن العمل المأجور ليس أقلّ تعرضًا للقسر من أشكال سابقة من السيطرة على العمل. يعمل القسر بطريقة مختلفة وتجري معاناته بطريقة مختلفة طبعًا، لكن الذي أعترض عليه هو الطريقة السطحية التي تفهم العمل الحر/المقيّد واستخدام ذلك الفهم سياسيًا. في بلدان مثل الهند، يوجد جمع كبير من العمال الموسميين والمتعاقدين، خصوصًا في الأرياف وهم من أبناء طائفة الداليت [«المنبوذين»]، وهم لا يختلفون كثيرًا عن الأرقّاء ولكن هذا لا يعني أنهم أرقاء فعلًا. التقدم الذي يحققه العمل المأجور، على الأقل في رأي ماركس المتفائل بحذر، هو أنّ الرأسمالية الصناعية الحديثة متمركزة في وحدات إنتاج شاسعة وأن الإنتاج نفسه يعلّم العمال على النضال وعلى أن يعوا تضامنهم الجماعي وقدرتهم بما هي قدرة على معارضة لا رأس المال وحده وإنما معارضة المجتمع الرأسمالي برمّته.
لقد حمل سيرج ماليه مثل هذه النظرة إلى الطبقة العاملة في مؤلفاته ولكنه اضطر في تلك الفترة – أي حوالي مئة سنة على تأليف ماركس كتاب «رأس المال» – إلى التمييز بين مختلف «أنواع» الطبقات العاملة وتخلّى تقريبًا عن تلك القطاعات (في صناعات الإنتاج المكثّف مثل صناعة السيارات) حيث طابعُ العمل غير الماهر لا يسمح إلا بأشكال مؤقتة من التضامن يسهل كسرها، لأن لا أساس لتلك النظرة في فهم أوسع وأكثر عضوية للمصنع ولكيفية انخراطه في المجتمع. وشكل هذا بداية تراجع عن مفهوم ماركس في الستينيات من القرن التاسع عشر لأنه حصر الطاقة الثورية بنوع معيّن ومخصوص من الطبقة العاملة (العمال في الصناعات التي تستخدم الأتمتةautomation ) في تأثر جزئي بأعمال بيير نافيل عن الأتمتة، وبنظريات الآن توران التطورية عن الصناعة وبتأثر أكيد بالظرف الناشئ في فرنسا، الذي أفضى إلى ثورة أيار/مايو ١٩٦٨، خصوصًا ما يتعلق بالاستثمارات الضخمة التي وظّفها الاتحادان النقابيان الأكبران في التدريب.
في الفصل الثاني («أنماط الإنتاج في مفهوم مادي للتاريخ») والرابع («العمال قبل الرأسمالية») من كتابك «النظرية بما هي تاريخ»، تُقدم زعمين قويين يتضادّان مع ما تسمّيه «الماركسية المبتذلة». تحاجج بأن مَزارع الأرقاء في الولايات المتحدة، بعيدًا عن أن تحمل أيًا من مخلفات ما يسمّى «نمط إنتاج العبودية» كانت مزارع رأسمالية أساسًا، بحيث إنه لا يمكن تعريف نمط الإنتاج الرأسمالي بما هو نمط إنتاج يستخدم العمل المأجور حصرًا.
وفي الفصل الرابع، تحاجج موكدًا أن العمل المأجور كان نمطًا من استغلال العمل واسع الانتشار في روما العتيقة وأدى إلى مطالب عمالية مخصوصة تتعلق بالأجور وبالتنظيم. كيف تصنّف نمط الإنتاج الرأسمالي إذًا؟
تتميّز الرأسمالية بالنزعة إلى مراكمة رأس المال بغضّ النظر عن الشكل المخصوص للسيطرة على العمل واستخراج فضل القيمة. لا فرق لدى الرأسمالي الفرد إذا كان العامل حرًا أو غير حر، يعمل في المنزل أو في مصنع، وهلمّ جرًّا. تلك القرارات هي قرارات اقتصادية وتقنية محضة. إنها تتعلق بأمور مثل أكلاف الإنتاج، وتوافُر اليد العاملة، وما إذا كان نوع من أنواع العمل (عمل نساء، عمال منزلي) يناسب أكثر من سواه لنوع معيّن من الإنتاج. على هذا المستوى – مستوى رأس المال الفردي – يكون حتى بناء «المهارة» الفردية مسألة ذاتية إلى أبعد حد. ولكن من منظار رأس المال الاجتماعي الشامل، تصير حركية العمل مهمة طبعًا لأن الرأسماليين يتنافسون على العمال ويتعيّن على السوق أن تجعل مسار التنافس هذا يعمل بطريقة فعّلة. كانت العبودية في العالم الحديث (العبودية الأطلسية) نتاجًا رأسماليًا صرفًا لكن رأس المال المعني كان بالدرجة الأولى ذلك الذي يسمّيه ماركس رأس المال التجاري. ومهما يكن من أمر، كان مالكو المزارع في جنوب الولايات المتحدة مديونين بمبالغ طائلة للمؤسسات المالية الشمالية، مثلما كان أصحاب مزارع العبيد الكوبية مندمجين مع بيوتات هافانا التجارية والمصارف الأميركية والسماسرة الأميركيين الذين كانوا مرتبطين بهم.
لقد ركّزتَ مؤخرًا على تحليل أمْولة الرأسمالية. ولذلك نظرت في مصدرين نظريين متمايزين: الأول هو كتابات ماركس عن «حروب الأفيون» في الصين؛ والثاني، هو نظرية سارتر عن التسلسل. ما الذي تقدّمه هاتان المقاربتان من إيجابي وجديد لتحليل ظاهرة معاصرة؟
أردت من محاضرتي عن الأزمة المالية الأخيرة تصحيح التركيز المتضخم والمبالَغ فيه في كتابات ماركسية أخيرة على رأس المال «المنتج» كأنه منوّع من منوّعات «الرأسمالية الصافية». حاولتْ المحاضرة أن تستعيد التوازن بين التمويل والإنتاج. وتم ذلك جزئيًا بجعل رأس المال الافتراضي مقولة تحليل مركزية. فما أن نصل إلى الجزء الثالث من «رأس المال» حتى ندرك أن الرأسمالية لا يمكنها أن تشتغل دون تسليف، التسليف هو قاعدتها الشاملة، كما يعلمنا ماركس.
ما أن نقرّ بذلك، نتمكن من أن ندمج بالتسليف سائر أجزاء التحليل بدلًا من أن نهملها. فإذا كان التسليف أساس الاقتصاديات الرأسمالية الحديثة، فإن الأسواق المالية إذًا هي مركزية لعملية التراكم فيتعيّن علينا أن نتفهم كيفية تشغيلها. أما عن فكرة سارتر، فيبدو لي أنها تحمل طاقة كبيرة جدًا لإغناء النظرية الماركسية عن الدولة وعن الكيفية التي يُحكِم به رأس المال سيطرته على المجتمع ككل.
كيف يمكن في أيامنا هذه عزل رأس المال عن الدولة والدولة عن أجهزة الإعلام وأجهزة الإعلام عن رأس المال؟ ما أن نعترف بأشكال الاتّكال المتبادلة بينها، يصير التحليل بمجمله أكثر تعقيدًا فنجدنا في حاجة إلى مقولات جديدة لتنظيمه. وبالتأكيد يثور السؤال: هل لدينا نظرية ماركسية عن الدولة الرأسمالية الحديثة؟ لقد ولدت أقوى دولتين رأسماليتين في العالم المعاصر (الصين والولايات المتحدة الأميركية) من خلال مسارات تاريخية متباينة جذريًا. على أن هذا لا يحول دون أن تكونا تجسيدًا لمادية رأس المال المخصوصة. وأعني بـ«مخصوصة» ببساطة أن السيطرة تمارَس بطرائق مختلفة، بحيث إن العلاقة بين السياسة والإيديولوجيا والثقافة ورأس المال ليست تسير بالتأكيد وفق ترسيمة موحّدة ووحيدة.
لما كنتَ تركّز على تنوّع أشكال الاستغلال وعلاقات الإنتاج التي يمكن للرأسمالية أن تتخذها، وتنكر أي جدوى تاريخية للنموذج الكلاسيكي لتتابع أنماط الإنتاج (شيوعية بدائية، رقيق، إقطاع، رأسمالية، اشتراكية) كيف يمكن التنظير للانقطاعات والقفزات النوعية في التاريخ؟ بعبارة أخرى، كيف يمكن التفكير في الانتقال عندما يتخلى المرء عن أي نوع من أنواع التاريخانية؟ وأي خلاصات استراتيجية يمكن للمرء أن يخلص إليها من هذه النظرة متعددة المسارات الى المادية التاريخية؟
ما أنكره هو أي تتابع جامد في أنماط الإنتاج. حتى ضمن الإطار المحدود لتاريخ أوروبا، «الانتقال» بين العالم العتيق والقرون الوسطى أكثر تعقيدًا بكثير من أي انتقال مبسّط من الرقيق إلى القنانة. كان ثمّة قرون بحالها في الأجزاء الغربية من الإمبراطورية الرومانية عندما ضمّت قوة العمل الريفية عمالًا لا يمكن تصنيفهم بما هم أرقّاء أو أقنان، لكنهم كانوا عرضة لأشكال جديدة من السيطرة تتضمن قدرًا لا بأس به من القسر. إن تصنيف هؤلاء العمال على أنهم «انتقاليون» يعني أن نحقن شحنة ثقيلة من الغائية في قراءتنا للتاريخ. وهذا ما قاله ماركس في ردّه على ميخايلوفسكي.
وماذا بشأن تلك المناطق من الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط التي احتلتها جيوش الإسلام بين منتصف القرن السابع ونهايته وفي مطلع القرن الثامن في إسبانيا؟ هنا يقدم مانويل آسيين المنسى نموذجًا للمؤرّخين الماركسيين بالطريقة التي رفض بها التصنيفات التقليدية وسعى إلى إعادة التفكير بالتشكيلات الإسلامية الاجتماعية بطريقة مبتكرة كليًا، بتأثير جزئي من أعمال [بيار] غيشار. أما الضحية الرئيسة للجزء الأكبر من هذه المراجعات فهي فكرة مبسّطة ترى إلى «الإقطاع» على أنه مقولة تاريخية كلية الشمول ذات مدى كونيّ يصل مداه إلى مدى شمولية الرأسمالية. ليست هذه هي الحال ونسيج التاريخ أغنى بكثير حتى من منظار مادي صرف يعطي الأولوية للتأريخ الاجتماعي والاقتصادي.
توجد «مراحل انتقال» بالتأكيد لكنها ليست محكومة بقوانين كتلك التي حلل بها ماركس الرأسمالية، وهي بالتأكيد لن توفر وجهة غائية للطريقة التي نفهم بها التاريخ أو المادية التاريخية. لنأخذ مثلًا بديهيًا: كيف نصنّف التغيّرات الضخمة التي حولت النظامين الاقتصاديين السوفييتي والصيني في العقود القليلة الأخيرة؟ إذا كان «الانتقال» هو المقولة الأساسية للتحليل، فعن أي نوع من الانتقال نتحدث في هاتين الحالتين؟
إذا أخذت بالاعتبار تنوّع مسارات الانتقال، ما الذي يميّز مقاربتك عن فكرة «تمفصل أنماط الإنتاج» الآلتوسّيرية، وهي فكرة يبدو لي أنك ترفضها؟ وبالتأكيد، ماذا عن الاتحاد السوفييتي والصين، كيف تصنّف هذين المجتمعين؟ هل فكرة رأسمالية الدولة مجدية في تصنيفهما؟
في التشديد على تنوع مسارات «الانتقال» التي تميّز كل حقبة تاريخية شاملة (مثلًا، نشوء الرأسمالية التي تتخذ مثل تلك الأشكال المختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة) أشير ببساطة إلى مسارات لا يمكن إخضاعها إلى منظومة من «القوانين». الأكيد أنني لا أعتقد أنّ لهذا أي صلة بـ«التمفصل» بالمعنى البنيوي. [لوي] آلتوسّير يجيد أكثر في موضوع «أجهزة الدولة الأيديولوجية» مما في مضمار «أنماط الإنتاج». حول هذه الأخيرة، بالكاد يتجاوز التمتمة بنوع من العاديات من مِثل «وحدة قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج» التي كانت شائعة في الأوساط الشيوعية فترة ما بعد الستالينية. ومن المدهش أن معظم ما يقوله عن علاقات الإنتاج الرأسمالية هو أنها في الآن ذاته علاقات إنتاج استغلالية. لم يتأمل آلتوسّير بعمق بمعنى هذه العبارة – عبارة «التزامن» – أبعد من ذلك. الواضح أنه كان يشعر بأن التفكير بواسطة «تحديدات» رأس المال يعني الانزلاق إلى شمولية تعبيرية تتنازل للهيغليين أكثر مما يجب.
ولكن عندما يقول إنها علاقات استغلال «متزامنة» فهو يفسح في المجال أمام عمارة رأس المال المعقّدة التي تخترق الأجزاء الثلاثة من كتاب «رأس المال» برمتها. المظهر الأساسي لضعف آلتوسّير النظري حول هذه النقطة هو أنه لا يأتي على ذكر التراكم، فهو عاجز عن رؤية الرأسمالية بطريقة دينامية (بما هي قوانين تراكم وتزاحم). وهذه مفارقة لأنه حين يتصدى لمعالجة مسألة الدولة، يتخذ من إعادة الإنتاج مقولة رئيسة. وكما قلت سابقًا، آلتوسّير جيد جدًا عن الدولة وأجهزتها ولدينا الكثير أن نتعلمه من تلك الأجزاء من مؤلفاته.
أما بصدد الاتحاد السوفييتي والصين، فقد كنت ولا أزال أرى إليهما على أنهما من أنظمة «رأسمالية الدولة» لكني أصفهما بهذا الوصف لغياب بديل. ما الذي أعنيه بذلك هو أنهما لم يكونا في الظاهر مجتمعات لاحقة على الرأسمالية بأي معنى من المعاني، ناهيك عن مجتمعات انتقالية نحو الشيوعية (أي مجتمعات «المنتجين المتشاركين») بحيث استقرّ المرء على رأسمالية الدولة بما هي الوصف الأقل تبريرًا. مع أن هذا التشخيص صحيح بمعنى بدائي جدًا، فالمؤكد أنه غير كافٍ.
إذا كانت الدولة هي الرأسمالي، فردًا أو جماعة، فالرأسمالي هو أيضا دولة. هذا هو الوجه الثاني الذي يجب أن يحدونا إلى بلورة اقتصاديات سياسية من نوع الاقتصاديات السياسية الرأسمالية التي نجمت عما سمّيت الثورات «الفاشلة». والصين حالة معقدة بنوع خاص، لكن روسيا والصين عرفتا حقبًا تاريخية مديدة من سيطرة الدولة. ما يحدث عالميًا هذه الأيام، على ما يبدو، هو الاتجاه الكارثي الأخير الذي يخوضه رأس المال لاستيعاب الأرياف وإخضاعها، ليس فقط بإبادة الفلاحين (القرى تتفكك بسرعة على امتداد معظم بلدان العالم، والهند مثال جيّد على ذلك) وإنما أيضًا بتحويل الأرياف ذاتها إلى مرحلة من مراحل تاريخ رأس المال. في الصين تجري هذه العملية بشكل صاعق لأن الدولة هي الفاعل الأساسي فيها باسم رأس المال في هجوم، سمّاه بازوليني «اختفاء ذبابات النار». وتصوّر لنا أفلام جيا زانغكي («طبيعة صامتة»، «لطخة خطيئة»، إلخ.) الاكتشاف الصاعق حقًا لحركة «التراكم الأولي» الضخمة تلك، ليس أقلّ لأن المخرج يلتقطها بأسلوب شبه توثيقي.
أنت تستطيع استيعاب طبيعة الرأسمالية في الصين حاليًا، بطريقة أفضل، في نهاية عدة عقود من التراكم والقمع، أكثر من أي عدد من النصوص التي تكرر العاديات النظرية الأكثر بدائية. فلنعترف ببساطة أننا لسنا نملك المقولات اللازمة لمواجهة رأسمالية بذلك الحجم.
ما مساهمة الماركسية الأوروبية ([هربرت] ماركوزه، [فيلهلم] رايش، [جان بول] سارتر) في فهم التحدي المعاصر للفاشية؟
هذا تحدٍ أساسي تمامًا. لا يملك اليسار نظرية متماسكة وقوية عن الفاشية، فضلًا عن وسائل النضال ضدّها سياسيًا. لفتت مؤلفات رايش الأنظار إلى الطاقات المتضافرة بين السلطوية وتأييد الحركات الفاشية، إذ وضعهما معًا في صعيد نفساني وثقافي ونظر إليهما بما هما بنى جامدة أصلًا (أي أشكال يسمّيها سارتر «عملية-هامدة»). يستطيع المرء أن يرى في الهند حاليًا لماذا جموع من الشباب الذكور المقتلعين من الجذور، وقد تجاهلتهم الأحزاب اليسارية كليًا وأهملت مخاطبتهم، أخذوا ينجذبون نحو اليمين المتطرف بأعداد كبيرة. فالثقافة السائدة بينهم تعجّ بأكثر الأفكار وأنماط السلوك سلطوية وعنفًا (عنصرية ضد الداليت [طائفة المنبوذين]، تمييز جنسي ضد النساء، وعصبية طائفية) كما هي مشحونة بشحنة قوية من الكبت الجنسي تشوّه حياة الشباب، ذكورًا وإناثًا. تقدمّ لنا مؤلفات سارتر أدوات تحليل لطرائق السيطرة في العمل مع صعود الفاشية وإحكام قبضتها القوية على «الجماهير». إنّ السيطرة على الجموع هي أساس كل نظام فاشي لكن النظرية الماركسية بالكاد بدأت النظر في كيفية تشغيل تلك السيطرة وكيف يمكن كسرها.
ما هو الدور الاستراتيجي للنظرية اليوم في اليسار، في الهند وربما في سائر أوروبا أيضًا؟
النظرية أساسية ولا غنى عنها، لكنها لن تنمو في فراغ، إنها سوف تشبّ وتُزهر عندما تولد ثقافة جديدة وحركة جديدة في اليسار توفر لها ظروفًا تحرّرها (من النزعة المدرسية والتراتب الأكاديمي والإفقار الدوغمائي، إلخ.) لتستأنف تطورها اللاحق. ثم إن يسارًا لا يأخذ الأفكار جديًا، ولا يتعمق في النظرية، ولا يوسّع مفهومه للنظرية، لن يكون قادرًا على إنتاج ثقافة ثورية ولا حركة ثورية. لذلك فكل حقبة تعتمد على أخرى، وبينهما تقع كل مشكلة «الاستراتيجية».
أودّ أن أوضّح أيضًا أن اليسار لن يستطيع أن يستجمع قواه بواسطة أشرطة حذائه. أعني أنّ الشرط المسبق لنموّه الذاتي كقوة سياسية أساسية في عالم اليوم هو في نشوء طبقات عاملة جديدة أو شرائح جديدة من الطبقة العاملة تسترجع بعض الحس بالمبادرة الذاتية الجمعية والقوة وبما يعنيه أن تكون طبقةً تطمح إلى إعادة صياغة المجتمع. لقد بذل رأس المال قصارى جهود لخنق نشوء تلك الظروف، وقد تعلّم بسرعة من تحديات فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى الستينيات، إن المالثوسية [خفض نسبة تزايد السكان بالوسائل القسرية] التي احتجّ عليها سارتر في حالة فرنسا وحالة البرجوازية الفرنسية كانت في الواقع أفضل خيار حتى لو عنى ذلك تفكيك دول الرعاية، والتنكر للعقود الاجتماعية، وتشظية الإنتاج إلى مستويات ومقادير من البعثرة بحيث يجري التخلي عن وفورات القياس. الطبقة العاملة التي تناولها ماركس في «رأس المال» موجودة اليوم للأسف بحالة أقل قوة وتمركزًا. التفاؤل الذي يخترق «البيان الشيوعي» يقوم على أنه لا يوجد إمكانية لأن تقدر قوة رأس المال على أن تواجه جماهير العمال المتمركزة في وحدات إنتاج كبيرة. لذلك فإذا ظل الإنتاج مركزيًا بالنسبة لاستراتيجيات اليسار، يتعيّن علينا أن نبدأ من هنا. أيَّ شكل سوف تتخذ الحركة النقابية؟ كيف يمكن لجموع المتعطلين من العمل أن يصيروا جزءًا من حركة منظمة؟ وكيف يمكن أن يبنى تضامن حقيقي عندما تكون جموع العمال المأجورين مجزّأة ومبعثرة إلى هذا الحد؟
نشرت هذه المقابلة في مجلة «المادية التاريخية» البريطانية، ٢٠١٦
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.