العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

عن الماركسية والتاريخ والثورات

والدولة الوطنية والمجتمع المدني والطائفية وأشياء أخرى

طرح عليّ الأخ مصطفى ديب أكثر من ١٥ سؤالًا يدور معظمها مدار نظريات وأفكار من فترة ما بعد الحرب الباردة وقد وصلت إلى المنطقة العربية وباتت فاعلة في الحياة الفكرية والثقافية وبدأ تداولها، حتى لا أقول استهلاكها، وقد حلّت بسرعة محلّ مفاهيم ونظريات سابقة، جرى التخلي عنها، وتبنّي الجديدة قبل أن تتعرّض لما تستحقه من تدقيق ونقاش. قبلت التحدي خصوصًا أن بعض الأسئلة حفزني على التفكير والكتابة في مواضيع لم أكن قد تطرّقت لها من قبل. وغني عن القول أن الإحاطة بهذا العدد من المواضيع استدعى مقدارًا من الضغط والاختصار.

نشأت في زمن الثورات

بدايةً، ثمّة سؤال لا بدّ منه، وهو: نعرف فوّاز طرابلسي كاتبًا وباحثًا ومؤرّخًا ومُفكّرًا أيضًا، ولكنّنا لا نعرف فعليًا ظروف لقائه بالتأريخ والسياسة. هلّا تكرّمت وحدّثتنا عنها؟

نشأت في زمن الثورات وثرت مع الثوار. كنت أرى إلى نفسي مناضلًا في حركة التحرر الوطني والاجتماعي العربية. مارست ذلك النضال بما هو نضال للتحرر الفردي أيضًا. لعب عدوان السويس ١٩٥٦ دورًا كبيرًا في تأسيس وعيي السياسي والوطني.

لم أمارس السياسة، بالمعنى التقليدي، كان إطار عملي السياسي هو دومًا العمل الحزبي الجماعي. وقد مارسته بالتزامن الدائم مع التفكّر بتلك الممارسة، وخدمتها، عن طريق الإنتاج الفكري والثقافي. عملت في الصحافة منذ وقت مبكر وبعد الانتهاء من تفرّغي الحزبي، الذي دام عقد ونصف العقد من الزمن، امتهنت التدريس لكسب العيش.

والسياسة هي أيضًا اختصاصي الأكاديمي. درستها في المرحلة الجامعية ودرّستها في الجامعة. بعد العام ١٩٨٤ قررت استكمال دراستي نحو الدكتوراه التي قطعتها العام ١٩٧٠ وعدت إلى البلاد للمشاركة في تنظيم كنت قد شاركت في تأسيسه هو منظمة العمل الشيوعي. انتقلت إلى باريس، اخترت أن أكمل دراستي بقسم التاريخ وقد بتّ مقتنعًا بأن علم التاريخ هو الأنسب والأشمل بين كافة الاختصاصات للتعبير عن التجارب والحروب التي عشناها وقد قررت أن أتفرّغ للكتابة عنها، بوسائل متعددة، منذ تلك الفترة.

قررت أن أروي تلك التجارب في أعمال سمّيتها «تصنيع التجربة»، وهي مزيج من شهادات عن التجارب ومحاولات إعطاء معنى لها ومراجعتها نقديًا أضعها بتصرّف القراء والثوار من الأجيال الجديدة. وسنتكلم عن ذلك فيما يلي.

بين التاريخ والشعر والدبّاغات

الجدّ شاعر، والأخوال شعراء أيضًا، بمعنى أنّ الظروف كانت مهيأة ربّما لتُصبح شاعرًا أو كاتبًا أو رسّامًا، لكنّك تركت كلّ ذلك جانبًا وانخرطت في السياسة وبعدها كتابة التاريخ. هل تشعر الآن بأنك أديب ضلّ طريقه إلى السياسة؟ أم ترى نفسك اهتديت إليها؟ وعند الكتابة في السياسة أو التاريخ، ألا تُراودك الرغبة في كتابة قطعة أدبية خالصة؟

الجدّ عيسى إسكندر المعلوف مؤرّخ ولغوي. ثلاثة من الأخوال شعراء وثلاثة من أخوال الأخوال شعراء. كنت مصابًا بالربو في الطفولة، وكان منزلنا رطبًا، فسكنت خلال فترات طويلة منزل جدّي وجدتي في بيروت في الشتاء أو في زحلة خلال الصيف. تعلمت من الجدّ الولع بالكتب وباللغة العربية واكتسبت متعة القراءة وفضول التحري والبحث.

لكني أنتمي أيضًا إلى عالم آخر. تتحدّر أسرة الوالد من بلدة مشغرة المختلطة (مسيحية-شيعية) في البقاع الغربي توزَع أفرادها بين العمل في دباغة الجلود والتجارة بالجلود والهجرة. عرفت صناعة الجلود الازدهارَ خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب الطلب العسكري على الجعب والأحزمة والجزمات الجلدية. كان الوالد يعمل موظفًا في «فندق الشرق» (أوريانت پالاس) بدمشق فتزوج وانتقل خلال الحرب إلى بيروت حيث فتح محلًا لبيع الجلود التي تنتجها دباغة أخيه وكانت له حصة متواضعة فيها. انتكست صناعة الجلود انتكاسة كبيرة في نهاية الأربعينيات عندما أقفلت الحدود مع فلسطين، المستورد الأول لجلود البلدة، بسبب الاحتلال الإسرائيلي، كما أقفلت مع سورية بسبب القطيعة الاقتصادية بين لبنان وسورية ١٩٤٨-١٩٥٠. أخذ الوالد يزاوج بين تجارة الجلود واستثمار فندق في بحمدون حتى تفرّغ للأخير.

لم أفكّر كثيرًا بهذا الأثر العائلي المركّب. غير أنه فاعل دون شك، وأحسب أنه أغنى حياتي ونوّعها ووسّع آفاقها. لكنني صنعت حياتي بقدر كبير من الاستقلال عن البيئة العائلية.

مثل أي مراهق عربي، كانت لي محاولات شعرية لم تعمّر بعد المدرسة الثانوية. لكن ولعي الأول منذ أيام الدراسة كان بالفن التشكيلي، ما دفعني، في ختام المرحلة الثانوية، إلى دراسة الفن في معهد فني بمدينة مانشستر نهاية الخمسينيات. ثم اكتشفت الاشتراكية والماركسية وقررت دراسة الاقتصاد والسياسة.

لم تقتصر كتاباتي على السياسة. مع أن كتاباتي السياسية موزّعة على عدة مؤلفات ومجموعات مقالات في السياسة اللبنانية والعربية والدولية مع وفرة من المقالات والأبحاث عن ثورات العام ٢٠١١، إضافة إلى عدة مؤلفات تلامس السياسة دون أن تنحصر بها: نقد الأيديولوجيا اللبنانية، من خلال فكر ميشال شيحا (١٩٩٨). إلى هذا، ألهمتني مشغرة دراسة في الأنثروبولوجيا بعنوان «يا قمر مشغرة: المحسوبية والاقتصاد والتوازن الطائفي» (٢٠٠٤). وفي الاجتماعيات أصدرت «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان» (٢٠١٦) إلخ.

خلال التفكير في أجدى وسيلة للتعبير عن تجارب الحرب والثورات، توصلت إلى أن التعبير الأدبي والفني أقدر على الإحاطة بالصراعات والتحولات الاجتماعية والسياسية من النص السياسي الصرف. وأدركت عكسًا، أنه يمكن قراءة تلك الصراعات العنيفة والتحولات الجذرية من خلال تعبيراتها في الأدب والفن. قرأت تحولات المجتمع والسلطة في لبنان بين حربين أهليتين (١٩٥٨-١٩٧٥) من خلال مسرح الأخوين رحباني وفيروز «مسرح فيروز والرحابنة: الغريب، الكنز، والأعجوبة» (٢٠٠٧)، وفي مقالات وأبحاث في الثقافة الشعبية في «إن كان بدّك تعشق...» (٢٠٠٤). في «غيرنيكا-بيروت: جدارية لبيكاسو/مدينة عربية في الحرب» (١٩٨٧) قرأت جدارية بيكاسو الشهيرة بعيون شاهدتْ حربًا أهلية؛ وختمت بمقارنة بين مقاطع من جدارية عن الحرب ومشاهد من مدينة في الحرب. واصلت الإنتاج عن الحروب الأهلية والعنف في «دم الأخوين. العنف في الحروب الأهلية» (٢٠١٧) من خلال أعمال هاينر موللر ومحمد الماغوط، ولوحات كارافاجيو، وفيلم عن حصار ساراييفو البوسنية، والتعريف بطائفة الكاثار الفرنسية، وملصقات الحروب اللبنانية، وتاريخ القصف الجوي ضد المدنيين، وغيرها. وفي اليوميات، كتبت عن حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت صيف ١٩٨٢ في «عن أمل لا شفاء منه» (١٩٨٤) وعن زياراتي لليمن في «وعود عدن» (٢٠٠٠). ونشرت مختارات من أعمال مجهولة لأحمد فارس الشدياق، مع عزيز العظمة (١٩٩٥) مساهمةً في التعريف بهذا الكبير والمنسي بين شخصيات النهضة العربية في القرن التاسع عشر. وفي كل هذا أدين بالكثير الكثير إلى صديقي وأخي الناشر والصحافي (الراحل) رياض الريّس صاحب الدور الأكبر في تحريضي على التأليف والنشر وملاحقتي في التنفيذ.

لا تراودني كتابة الأدب لذاته. لست أملك الموهبة ولا القدرة على كتابة رواية، مع ثقتي بأن أفضل نوع أدبي للتعبير عن الصراعات والتحولات المجتمعية هو الرواية. أتوسل الأسلوب الأدبي من أجل أفضل أداء في المواضيع التي أكتب عنها. ترجمت الشعر الحديث من العربية وإليها، كما ترجمت أعمالًا ثقافية وأدبية لإدوارد سعيد وإتيل عدنان وجون برجر وآخرين. كتبت في النقدين الأدبي والفني على سبيل الهواية. وحظيت بصداقة شعراء وأدباء وفنانين أقدّر نتاجهم وأشخاصهم وأعتزّ بصداقتهم. وأنا أصدر منذ عقد من الزمن فصلية ثقافية اسمها «بدايات». أتابع ما استطعت في الشعر والرواية والمسرح والفن والنقد. وأنا محاط بأسرة تتعاطى الفن. شقيقتي آمال تدير «غاليري» للأعمال الفنية في بيروت. وزوجتي نوال عبود فنانة ترسم كالأطفال للأطفال وكلانا يتابع بشغف وإعجاب شغل ابنتنا جنى في الرسم والتصميم الغرافيكي.

 

الماركسية لا تزال مرجعي الأول

بما أنّنا نراوح بين الماضي والحاضر، اسمح لنا أن نسألك عن صورة الفتى بالأحمر: ما الذي تبقّى منها؟ لبنان الاشتراكي، منظمة العمل الشيوعي، الحرب الأهلية، ظفار، اليمن، وغيرها. ما الذي تبقّى من صورتك في تلك المرحلة؟ ما الذي ظلّ ثابتًا؟ وما الذي تغيّر أيضًا؟ ولماذا؟

عايشت عدة ثورات مباشرة وشاركت ببعضها. وقد شهدت على تلك التجارب وراجعتها نقديًا في «اليمن الجنوبي في حكم اليسار» (٢٠١٥) بمساعدة الروائية والمناضلة بشرى المقطري؛ وفي «ظفار، شهادة من زمن الثورة» (٢٠٠٣)، وفي كتابات عديدة في القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية وغيرها. لم أكتفِ بالشهادة والمراجعة لتجاربي، حرصت على تحرير ونشر شهادات لتجارب رفاق من المناضلين اليساريين عرب، بينهم جارالله عمر اليمني وجورج بطل اللبناني.

أشدد على الشهادة والمراجعة، أي على تقييم تلك التجارب وتعيين الأخطاء المرتكبة في سياسة معيّنة وأسبابها وتعيين المسؤول أو المسؤولين عنها. لست مقتنعًا بالنقد الذاتي، لأنه طقس تكفيري، لا يفسّر الخطأ وفي العادة لا يتضمن استعداد مَن يمارسه، فردًا أو جماعة، لتحمّل المسؤولية أو التعرّض للمحاسبة. ينتهي مفعول النقد الذاتي عادة بمجرد الإدلاء به. ولا أنا معجب بفعل الندامة فمثله مثل نقيضه الذي يتباهى بتبني التجربة بحرفيتها لو قدّر لها أن تتكرر. أما اعتبار أن عكس الخطأ في الممارسة السياسية والمجتمعية هو الصح فطقس بليد لا يثبت بذاته صحّة الصح.

اليسار بين القومية والليبرالية

خلاصة تجربتي في اليسار الشيوعي و«اليسار الجديد» تقول إنهما ينتميان بالجملة إلى مرحلة انقضت هي مرحلة التحرر الوطني التي لا تزال تهيمن على الوعي والرؤية لديهم. واليسار الآن بقايا أحزاب وتنظيمات معظمها انشقّ تحت وطأة الانهيار السوفييتي بين مكوّنين رئيسين: المكون القومي، والغالب عليه عداء بدائي للاستعمار الكولونيالي، والأحرى لأميركا - أكثر مما هو عداء للإمبريالية الجديدة والرأسمالية النيوليبرالية، من جهة، والمكون الليبرالي، أكثر مما هو ديموقراطي، داعية تعددية، أكثر منه داعية مساواة سياسية وقانونية، شديد التأثر بالثقافوية وسياسات الهوية ومقولات «المجتمع المدني» والرأسمالية النيوليبرالية.

والتشديد هنا على أنه لا وجود ليسار واحد. اليسار متعدد، كما في كل مذهب أو تيار، وقد انتهى عهد احتكار المرجعية على أمل استكمال ذلك بالقضاء على منطق التكفير بين اليساريين. رأيت في ثورات ٢٠١١ فرصة كبيرة لليساريين كي يلتقطوا أسباب وآليات وخصائص تلك المرحلة ويعيدوا تأسيس تنظيماتهم وإنتاج رؤية يتعاقدون عليها وبناء قواهم وتجديد قواعدهم الاجتماعية. فالمؤكد أن الثورات والانتفاضات مناسبات استثنائية لكشف أعماق السلطة والمجتمع وآليات تشغيل هذه وذاك. كانت تلك فرصة ضائعة ولا يزال ثمة دور ينتظر من يضطلع به. ولا أزال مقتنعًا بأن اليسار، واليسار الماركسي خصوصًا، هو الأقدر بين المذاهب والتيارات المعاصرة على فهم عالمنا المعاصر وخصوصًا هذا الطور الأخير من الإمبريالية والرأسمالية. إلا أن ذلك يقتضي الاستعداد للبدء من البداية في إنتاج رؤية للوضع العربي الراهن تستجيب لتحديات المرحلة الجديدة، رؤية لا تقضي على الخاص بحجّة العامّ. أي لا تستسلم للتعميمات على مجمل العالم العربي، الصادرة عن المؤسسات الدولية أو الأكاديميات الأميركية: من تعميم نمط إنتاج كولونيالي على المنطقة، بحجة أن فلسطين لا تزال تحت الاحتلال الاستيطاني، إلى التصنيفات الاختزالية المختلفة للاقتصاد، الريعية والباتريمونيالية وأخواتها، المبنية على تعميم تجربة الدول النفطية، والكل للتغطية على عولمة الرأسمالية وحقبتها النيوليبرالية.

بعبارة أخرى، الصراع الفكري موجود ومحتدم مقدّمةً لبلورة الرؤية الجديدة التي ترقى إلى مستوى مواجهة تحديات العولمة والطور الجديد من الرأسمالية في وقعهما على العالم العربي. ومن أبرز التحديات الإضافية هنا المطلوب التفكّر بها نجاح الولايات المتحدة لأول مرة في عقد علاقات تحالف بين قاعدتيها في المنطقة: الأنظمة النفطية وإسرائيل. وهو منعطف تاريخي لا يختزل بالتطبيع ولا تنحصر آثاره قطعًا بالقضية الفلسطينية.

الصورة باللون الأحمر ونشيد «موطني»

لا أزال أرى إلى صورتي باللون الأحمر. مع أن النشيد الذي أحب وتدمع له عيناي هو نشيد «موطني».

كانت الماركسية ولا تزال مرجعي الفكري الأول. أقصد نقطة الانطلاق الرئيسة في الجهد النظري لا نهاية المطاف. الماركسية نظرة شاملة إلى العالم تنطوي على فلسفة واقتصاد وتاريخ واجتماع وهي تشكل أبرز تراث فكريّ لفهم الرأسمالية في اتجاهاتها وتحولاتها وقوانينها. ليس غريبًا أن رجال الأعمال اليابانيين يقرأون «رأس المال» لماركس ليساعدهم على فهم آليات تشغيل الاقتصاد الذي يترأسونه. ولا عجب أن يكون السيد فرانسيس فوكوياما قد تراجع عن نظرية نهاية التاريخ وأبدية النظام الرأسمالية، في استدارة نقدية ضد النيوليبرالية وأخذ يدافع عن ضرورة تدخّل الدولة في التوزيع الاجتماعي لتعديل الفوارق بين الطبقات. ولعل في ذلك ما يجب أن يشجّعنا نحن أبناء القارات الثلاث على أن لا نهلط كل ما يأتي من فكر أو نقد قبل أن يمتحنه الزمن.

أتصور الرأسمالية والماركسية بطلين تراجيديين مثل أبطال التراجيديات الإغريقية، في مبارزة لا متناهية بينهما لن تنتهي إلا بمصرع الاثنين.

أسترشد بما أسميه «الماركسية العملية» أي ما يمكن استنسابه من التراث الماركسي، بكل موارده ومدارسه وتياراته، من مفاهيم وتجارب لإنتاج معارف عن أوضاعنا العربية. وهذه بعض نقاط الاستدلال.

أبرز ما أنتجه ماركس يتخطى التناقض بين تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. إنه الفكرة التي تقول: بفضل الرأسمالية والتطور العلمي والاقتصادي، بات العالم قادرًا على أن ينتج ما يفي بالحاجات الضرورية لجميع سكانه. ولكنه في ظل سيادة السوق ومبدأ الربح والملكية الفردية، لا يزال يعرف المجاعات، وتنامي الفوارق بين القارات، وبين المداخيل والثروات والموارد. وقد بلغ هذا التناقض ذروته الفاضحة في العصر النيوليبرالي حيث يملك ٦٢ من أثرى الأثرياء ما يزيد على ما يملكه ثلاثة مليارات من البشر.

التناقض بين الفرد والمجتمع مقولة خصبة في الماركسية تقدّم الدليل على كيفية تجاوز قطبي المعادلة السائدة: إما سحق المجتمع للأفراد في المذاهب القومية والشمولية، وإما الفردانية الليبرالية الواهمة بأنه يمكن للأفراد أن يولدوا وينموا خارج العلاقات المجتمعية وأحكامها أو بالضد منها.

الديموقراطية ثورة والدين بحاجة إلى تثوير

الديموقراطية ثورة بذاتها وإنجاز تاريخيّ بذاته تحقق المساواة السياسية والقانونية بين مواطنين في الدولة. لم تأت تاريخيًا على يد البرجوازية، على عكس ما يروّج له ليبراليون وماركسيون معًا. نشأت وتراكمت وهيمنت بواسطة الثورات والحركات الشعبية ضد الرأسمالية وانتهت إلى مساومة تاريخية شرّعت الحرية والمساواة السياسية والقانونية في الدولة، وكرّست وحمَت اللامساواة في المجتمع المنقسم إلى طبقات وأشكال تراتب وتمييز مختلفة. وهذا التناقض بين المساواة في الدولة وعدم المساواة في المجتمع ينخر المساواة في الدولة بتقييد الحرّيات والحقوق السياسية والقانونية وإخضاعها لسلطة المال. وقد تصور ماركس وإنغلز أن يكون حل هذا التناقض هو الانتقال من الديموقراطية السياسية والقانونية إلى الديموقراطية الاجتماعية، التي هي الاسم الآخر للمساواة الاجتماعية، أي الاشتراكية.

في المادية التاريخية، يمكن الانطلاق من الرفيق ابن خلدون «إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش». وقد أضاف ماركس إلى إنتاج المعاش «إنتاج الحياة الحقيقية» أي دور المرأة في التاريخ. وفي أبرز تطويراتها باتت تتخطى التحديد الاقتصادي، أي تفسير الحياة والمجتمع والسلطة وفق مبدأ تفسير وتسيير واحد. بل يزداد الاهتمام لدى الماركسيين بما يسمّى «التحديد المضاعف» الذي يجدل الاجتماعي والسياسي والثقافي في دراسة الرأسمالية. وكم هو معبّر أن نُقاد المادية التاريخية المعاصرين، الذين يرفضون أحادية العامل الاقتصادي في تفسير الحياة والتاريخ وتسييرهما، ينتهون في معظمهم إلى الأخذ بالتحديد السياسي، أي القول بمبدأ تفسير وتسيير أوحد للحياة والتاريخ هو السياسة، وهي نظرية تقع في مجملها في أسر الليبرالية الجديدة.

على عكس ما ينسب إلى الماركسية من تتابع حتمي لأنماط الإنتاج، أبان إنغلز في التأريخ للإمبراطورية الرومانية كيف يمكن لنمط إنتاج أن يدمّر نفسه بنفسه دون أن يفضي إلى نمط إنتاج جديد وتشكيلة اجتماعية أرقى. ومن هنا الخيار التاريخي الفاجع الذي أطلقه ماركس وإنغلز، وتستعيده روزا لوكسمبرغ: «الاشتراكية أو البربرية!» وأحسب أننا نقارب هذه الأخيرة في عهد التوحش النيوليبرالي.

كل المجتمعات منقسمة إلى طبقات تتعايش – ولو بنسب متفاوتة – مع مراتب وتكوينات أخرى مثل القوميات والأعراق والإثنيات والمذاهب الدينية والأقليات المسيّسة وسواها. والصراع بين الطبقات، الخفيّ منه والسافر، ليس يختصر الصراعات السياسية والاجتماعية، لكنه قائم وفاعل ومتفاوت القوة والأثر، يتدخّل فيها جميعًا ويتقاطع معها ويتغذى منها. وغالبًا ما يمارَس الصراع الطبقي من فوق لتحت أكثر مما يمارس من تحت لفوق. صدق الأميركي وارن بوفيت، رابع أغنى أغنياء العالم، إذ قال إنه لا يعترف فقط بوجود «حرب طبقية»، بل يؤكد أن طبقته، طبقة الأغنياء، هم الذين يخوضون تلك الحرب وينتصرون فيها. ومن يُرد مثالًا عينيًا راهنًا عن حرب طبقية تشنّها طبقة حاكمة بمكونيها الاقتصادي والسياسي، فليتابع سطو الأوليغارشية اللبنانية على أموال اللبنانيين وعلى حياتهم ومستوى معيشتهم ومستقبلهم في الأزمة متعددة الأوجه المستمرة منذ العام ٢٠١٩.

في نظرتها إلى الدين والتديّن، تتجاوز الماركسية النظرة العقلانية المجرّدة القائمة على معادلة «ظلمات الجهل يبددها نور العلم». تثير حاجة البشر إلى الدين، حاجة المقهورين إلى العزاء وإلى تحمّل العوز والقهر والألم («لا تهملني لا تنساني، يا شمس المساكين» – تصلّي فيروز). تعترف الماركسية بهذا الوجه من الدين وتؤكد التناقض القائم في كل الديانات: إنها تفرض الإستكانة بل الامتثال، قدر ما تحرّض على الثورة على الظلم والاستغلال. ثم إنها تحوي أقوى وأبلغ تسويغ للعنف والقتل مثلما تحوي أعظم الدوافع للتضحية والغيرية والتضامن الانساني.

لا يكفي التنوير في الدين، الحاجة ملحّة للتثوير. وهؤلاء هم بعض الثوار المعاصرين: أصحاب تيار فقه التحرير في أميركا اللاتينية، محمد محمود طه السوداني وعلي شريعتي الإيراني.

المهتمّون الجدّيون بالتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يمكنهم الاستغناء عما تحويه الماركسية من تراث زاخر في نظريات وتجارب الثورة والتحرر الوطني والاجتماعي والتوحيد القومي والتغيير السياسي والاجتماعي والحركات الاجتماعية والتجارب النقابية والتعاونية.

أخيرًا ليس آخرًا تثير الماركسية الإشكالية الوجودية الكبرى للاجتماع البشري، إشكالية العلاقة بين الحرية والمساواة، وإن لم تكن تحمل وحدها وسائل معالجتها أو التعبير عنها.

المرحلة الجديدة والثورات

ذكرنا للتوّ أحداثًا وعناوين مختلفة رسمت فصلًا مُهمًّا من تاريخ المنطقة. والآن، هناك أحداث جديدة تُحاول رسم فصل جديد لتاريخ المنطقة؛ ثورات شعبية وثورات مضادّة واضطرابات لا تعدّ ولا تحصى. كيف ينظر فوّاز طرابلسي إلى هذه الأحداث؟

افتتح العام ٢٠١١ أشكالًا جديدة من الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية مع أنها لم تكن من دون مقدمات وسوابق. كانت ثورات بمعنى أنّ نواياها المعلنة إسقاط الأنظمة بواسطة الضغط الشعبي («الشعب يريد إسقاط النظام»). وقد أدّت في بعض الحالات إلى ما تؤدي إليه الثورات عادة – عسكرة الاحتجاج والاقتتال الأهلي.

١. اندلعت الانتفاضات في سياق ردود الأفعال الشعبية على فرض إعادة الهيكلة الاقتصادية وإطلاق قوى الأسواق على غاربها والخصخصة وسائر الإجراءات النيوليبرالية، خصوصًا بُعيد الأزمة العالمية الكبرى التي ضربت النظام العالمي العام ٢٠٠٨. ومن نتائجها عربيًا: تقلّص التوزيع الاجتماعي، بما فيه دعم المواد الغذائية والمحروقات، وانهيار الخدمات العامة، واقتحام الرأسمالية والخصخصة ميادين التعليم والصحة والسكن، ونموّ البطالة وانسداد آفاق العمل والمستقبل أمام الشباب، واتساع الهجرة الريفية مع ضمور القطاع الزراعي، وارتفاع معدلات الفقر، وانخفاض مستوى المعيشة لدى الطبقات المتوسطة، وتنامي الفوارق الطبقية والمناطقية على نحو غير مسبوق في التاريخ الشباب، وغيرها. وهذه ظواهر لم تأخذ نصيبها من البحث والمراجعة والتقييم واستخلاص الدروس نظراً إلى شحّة ما صدر عن القوى التي خاضت الانتفاضات.

الدور الخارجي في ثورات ٢٠١١
٢. لعبت القوى الإقليمية والدولية دورها في الانتفاضات منذ البداية. وهذا أمر نادرًا ما يؤتى على ذكره اللهم إلّا عن طريق أصحاب نظريات المؤامرة. خلافًا لاتهامات معارضي الانتفاضات بأن الولايات المتحدة طبّقت بواسطتها سياسة «الفوضى الخلّاقة»، كان المبدأ الأول للإدارات الأميركية المتعاقبة هو الحفاظ على الأمر الواقع المحلي والإقليمي: أمن حدود إسرائيل واتفاقات السلام مع إسرائيل وحماية الأنظمة التابعة وخصوصًا تحصين أنظمة حكم الأوليغارشيات النفطية. وحيث وقعت الانتفاضات، في الأنظمة الصادرة عن حركات التحرر الوطني، اعتمدت سياسة التعديل/الإصلاح في الأنظمة، بواسطة تنحّي الرئيس واستبداله بنائبه وتنظيم انتخابات نيابية كان واضحًا أنها ستأتي بالتنظيمات الإسلامية – أي بـ«الإسلام المعتدل» – إلى الحكم. وهي سياسات خضعت بالدرجة الأولى للاستراتيجية الأميركية الشاملة في الحرب الكونية ضد الإرهاب.

طُبّقت هذه السياسة في تونس ومصر والمغرب، وحظيت بدعم من الجيش وبتدخّل إقليمي سعودي وإماراتي. وانتكست الانتفاضات إلى حروب داخلية وإلى تدخلات عسكرية دولية وإقليمية، عندما انكسر الجيش في ليبيا وسورية واليمن. ومع أن الولايات المتحدة دعمت فئات من المعارضة السورية، لم يصل بها الأمر إلى أبعد من البحث عن بديل لبشار الأسد من داخل السلطة. والعامل الحاسم في ذلك هو القبول بأن النظام السوري نجح في أن يقدم حربه ضد قسم كبير من شعبه على أنها «حرب ضد الإرهاب». وقد استدرج النزاع السوري تدخلات إقليمية خليجية وتركية داعمة لقوى المعارضة المسلحة بما فيها التنظيمات الجهادية، ومعها التدخلات الدولية المباشرة من الولايات المتحدة حمايةً للشريط الذي تسيطر عليه التنظيمات الكردية، كما تدخلت القوات الروسية والمليشيات الموالية لجمهورية إيران الإسلامية لإنقاذ نظام بشار الأسد. الأمر نفسه يمكن أن يُقال بالنسبة إلى اليمن، حيث جرى استبدال الرئيس بنائبه، بناءً على مبادرة مجلس التعاون الخليجي، برعاية الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، أعطت صلاحيات استثنائية للرئيس وهمّشت الحكومة الائتلافية التي تضمّ أطراف الأزمة. وأعيد تنظيم المقاطعات اليمنية بتجاهل واضح لأبرز مطالب مكونين مسلّحين في الأزمة: أنصار الله في صعدة والحراك الجنوبي في المحافظات الجنوبية. ومن تداعيات هذا الحل سقوط السلطة في صنعاء ومعظم الشمال بيد الحوثيين وسيطرة الحراك الجنوبي على المقاطعات الجنوبية، واندلاع حرب استدرجت التدخل السعودي والإماراتي والإيراني معاً. وفي السودان، اتخذ التدخل السعودي الإماراتي، المدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، شكل دعم انقلاب عسكري أطاح بالرئيس عمر البشير، ومهّد الطريق أمام شراكة عسكرية–مدنية، تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، لكنه كرّس، في المقابل، حضور الجيش البديل (مليشيا الجنجويد) في رأس السلطة.

أشدد على هذا الدور الخارجي من أجل قياس مبلغ المراهنة الواهمة على القوى الخارجية و«المجتمع الدولي» و«الرأي العام الدولي» التي راجت في الانتفاضات والتحذير من مغبّة التعويل عليهما، ما أفقد الحركات الشعبية استقلاليتها وحرية الحركة. وهي دعوة للاعتماد على الذات وتنمية القوى الذاتية لتيار الحرية والتغيير وقياس قواه الفعلية بناء على ما يستطيع ولا يستطيع تحقيقه.

غلبة السياسة، غياب الاستراتيجية،
النفور من التنظيم ووحدانية التكتيك

٣. الاختلاط بين الردة السلطوية ضد الانتفاضات والردة الجهادية، الأمر الذي اضطر الانتفاضات إلى أن تقاتل على جبهتين ومن نتائج ذلك إضعافها عمومًا وإضعاف وجهها المدني والديموقراطي مع انحياز فصائل متزايدة منها إلى المعسكر الجهادي، كما في الحالة السورية مثلًا.
٤. الانشقاق في الانتماء المجتمعي والأهداف والوجهة في صفوف الانتفاضات بين الطبقات المتوسطة، وقطاعاتها المتعلمة والحداثية من جهة، والقوى العاملة والريفية والطرفية والمفقرة من جهة أخرى. وقد تجسد هذا الانشقاق إلى حد كبير، دون أن يتطابق، في ثنائية «مدني/إسلامي». وبلغ تدهور النزاع بين القطبين إلى حد انحياز قطاعات من الثوار إلى الحكم الاستبدادي العسكري في بعض الأحوال، مصر وتونس مثلًا.
٥. سيادة رؤية وأهداف ووسائل عمل في القسم المدني من الانتفاضات مستمدّة في معظمها من أفكار بعد الحداثة والمفاهيم ووسائل العمل التي راجت إبّان فترة سقوط الأنظمة الأوروبية الشرقية تضاف إليها حملات الترويج للديموقراطية الأميركية وأيديولوجيا منظمات المجتمع المدني. وهذه أبرزها:

أولًا، مع أن الأهداف الأصلية المشتركة بين كافة الساحات العربية المنتفضة – عيش/عمل، حرية، عدالة اجتماعية – حملت بذاتها رؤية عميقة لأسباب الانتفاضة، إلا أنها أهمِلت في مجرى الاحتجاج وغلبت السياسة ووجهها الأبرز، العداء للدولة باسم رفض «السلطوية» والدعوة إلى إسقاط الأنظمة، واختفت معها المطالب الاجتماعية والمعيشية.

ثانيًا، غياب الاستراتيجية. حَل محلّها مطلب التغيير. تغيير ماذا؟ ما الأولويات؟ التغيير بواسطة أي قوى؟ وبأي وسائل؟ في ظل أي ميزان قوى مع السلطة والطبقات الحاكمة؟ وذلك في غياب تشخيص يسمح بتقدير حجم الأزمة، والقوى التي أطلقتها، والوضع الفعلي للسلطة وبالتالي تعيين طبيعة التغيير الممكن: فهل تتيح الأزمة الاستعدادَ لتسّلم الحكم (وبأية وسائل؟) أو تنظيم مقاومة لصد هجوم من الطبقة الحاكمة، أم أن الإمكانات مفتوحة فقط أمام تحقيق إصلاحات (وما هي؟).

ثالثًا، النفور من التنظيم ومن الأحزاب ومن القيادة باسم نزعة فردانية تزداد انتشارًا بين الشباب («بيننا مليون قائد» في مصر؛ أو «أنا القائد» في لبنان؛ ورفض المطالبة والبرامج («ننتزع ولا نطالب» في لبنان). ولعل أبرز المفارقات أن منظمات المجتمع المدني التي تبشرّ بالديموقراطية وتعادي الأحزاب والنقابات في آن نادرًا ما يرد في ورشاتها وتمارينها أنّ منظمات المجتمع المدني في بلدان المنشأ الأوروبية والأميركية ليست هي أدوات التغيير، بل أدوات التغيير هي الأحزاب السياسية ترفدها قوى شعبية ضاغطة منظمة في حركات اجتماعية ونقابات عمالية واتحادات مهنية!

رابعًا، وحدانية التكتيكات: مقولة «احتلال الفضاء العام» (المستعارة من نظرية يورغن هابرماس حول الانتقال إلى الديموقراطية مع أن الرجل أكّد أنها لا تنطبق إلا على أوروبا!!) وقد عبّرت عن نفسها بتكتيك تحرير ساحات من سلطة الدولة – ميدان التحرير بالقاهرة، ساحة الساعة بحمص، ميدان التغيير بصنعاء، شارع بورقيبة بتونس، ساحة الميدان بالخرطوم، ساحة الشهداء ببيروت، إلخ. وملحقها في الحالة اللبنانية: تطويق ساحة البرلمان بدافع من وهم أنه يكفي لفرض استقالة حكومة أو حتى تغيير نظام. وهو تكتيك مبنيّ على ما تروّجه ورشات منظمات المجتمع المدني عن انهيار أنظمة أوروبا الشرقية بواسطة تطويق البرلمانات بالتظاهرات الشعبية. وهي رواية لا تتطابق مع مجريات الأمور. فمثلًا، سقط الرئيس الموالي للروس في «ثورة الميدان» بأوكرانيا عام ٢٠١٤ عندما احتلت كتيبة آزوف اليمينية المتطرفة عدة بنايات حكومية في العاصمة واقتحمت البرلمان بالسلاح واعتقلت أكثرية النواب. وفي الحالات الأخرى، سلّم بيروقراطيون السلطة السياسية لأحزاب معارضة طوعًا بعد انهيار ألمانيا الشرقية وقد احتفظوا بحصص كبيرة من المؤسسات المؤممة.

خامسًا، الدور المتناقض للإعلام ولوسائل الاتصال المجتمعية في الانتفاضات. لا شك في أن هذه لعبت دورًا كبيرًا في تأمين الربط بين الساحات والتواصل والتبليغ والتعبئة. لكنها شكلت في الآن ذاته بيئة تلغي الفواصل بين الافتراضي والواقع، بين المتخيّل والممكن، بين الكلمة والفعل، وتروّج للسائد عالميًا: الفردانية الجامحة والثقافوية وسياسة الهويات.

عن الديموقراطية

هل أصبح تحقيق الديموقراطية اليوم أمرًا مستحيلًا عربيًا في ظل استمرار تصاعد الخطاب الطائفي والشعبوي؟ وكيف ترى إلى مستقبلها في ظل صعودهما واستمرار مآزق الدولة الوطنية ومسألة الأقليات؟ وهل ترى أن تطبيقها قد يكون مخرجًا من هذه الأزمات؟ وما رأيك بربط البعض للديموقراطية وتحقيقها بتيارات سياسية معيّنة؟ هل هناك فعلًا تيار أقرب من آخر إلى الديموقراطية؟

لن تتحقق الديموقراطية بضربة واحدة أو في فترة زمنية معينة. هذا هو الوهم الذي أشاعته وتشيعه حملات الديموقراطية الأميركية ودعوات التبشير الخاصة بمنظمات المجتمع المدني وورشاتها وتمارينها. وهل من مفارقة أشنع من أن حملة الترويج للديموقراطية كانت مترافقة مع غزو العراق واحتلاله؟! الصراع ضد الاستبداد مسارات وقوى ووسائل ومراحل.

كتبتُ أن الديموقراطية ثورة. قصدت أنها سلسلة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ضد الدكتاتورية والاستبداد تُفرض بالقوة الشعبية. وهي مسار يحتمل التقدم والتراجع والهجوم والانتكاس وتحقيق التراكم وتبديده. هذا هو تاريخ المسار الديموقراطي في بلادنا وهذا هو ما يعملنا إياه تاريخ الديموقراطية في البلدان الغربية كما في القارات الثلاث، حيث نجحت بلدان في بناء أنظمة ديموقراطية مثل الهند وجنوب أفريقيا.

لا يوجد نضال من أجل الديموقراطية لا ينطوي على نضال اجتماعي واقتصادي وثقافي ويتقاطع معه ويتأثر به. أو لا يجمع بين مقادير معيّنة من الحرية ومن المساواة. آخر دليل على ما أقول هو الانتفاضة الجديدة في إيران. انطلقت من أجل حقوق النساء ضد بطريركية الملالي التكفيرية، لتشمل حركات الاحتجاج ضد الاستبداد السياسي وضد تدهور مستوى المعيشة وانضمّت إليها حركات المطالبة بالحكم الذاتي والحقوق الثقافية في كردستان والأحواز وبلوشستان.

عقبتان أمام المسار الديموقراطي

في مجرى البحث في مسائل التغيير، لا بدّ من إثارة مسألتين: دور القوى الخارجية ودور العنف.

الأولى: لمّا كانت القوى الإقليمية والدولية متداخلة إلى أبعد حد في السياسات المحلية في المنطقة، ولما كانت الأنظمة العربية تستمدّ شرعيتها من الخارج أكثر مما تستمدّها من شعوبها، كيف يمكن أخذ هذا العامل بعين الاعتبار انطلاقًا وكيف التعامل معه؟

الثانية: تخطّت معظم الأنظمة العربية – العسكرية وغير العسكرية – مرحلة الاعتماد على الجيوش النظامية لفرض سيطرتها على شعوبها. أنشأت جيوشًا خاصة ومليشيات موازية للجيش النظامي. تلك هي حال سورية والعراق واليمن والعربية السعودية (الحرس الوطني)، والسودان (الجنجويد) ولبنان (حزب الله)، وإيران (الحرس الثوري)، إلخ. وهذه مؤسسات تزيد من استعداد الأنظمة للجوء إلى العنف ضد الحركات الشعبية وتضاعف خطر الاقتتال الأهلي. وثمة وجه آخر في ترسيخ وطأة الجيوش في الحياة العامة، واكتسابها مزيدًا من القوة على شعوبها، هو تحوّل القوات المسلحة إلى مؤسسات اقتصادية تستأثر بحصّة لا يستهان بها من النشاط الاقتصادي كما في مصر وإيران.

السؤال: كيف تفادي الانزلاق، أو الاستدراج إلى العسكرة والاقتتال الأهلي؟ كيف الاستمرار في التحركات السلمية وتحقيق المكاسب ضد الأنظمة العسكرية ومن أجل إعادة الجيوش إلى ثكناتها وحصر دور الأجهزة الأمنية في الأمن الخارجي؟ التجربة الوحيدة التي أسقط بها حكم عسكري بواسطة انتفاضاتٍ شعبية هي الحالة السودانية. تستحق الانتفاضة السودانية الأخيرة الدراسة بما هي تجربة نجحت في خرق السلطة العسكرية وتأسيس شراكة عسكرية–مدنية، وإن تكن مختلة، بالحركات الشعبية العارمة والتضحيات الجسيمة والتقدم التدريجي، والمثابرة بالنَفَس الطويل من اجل إعادة العسكر إلى ثكناتهم وحلّ المليشيات. ولكن يمكن الانطلاق بالإجابة عن السؤال من أن الحركة الشعبية السودانية العاملة على التغيير قادرة على ذلك لأنها قائمة على وجود حياة حزبية، بما فيها حزب شيوعي مناضل، ونقابات عمّالية واتحادات مهنية قوية.

«الدولة الوطنية» والعيش في مستويين

يرى عدد كبير من المثقّفين العرب أنّ فشل بناء الدولة الوطنية سببٌ رئيسيٌّ لأزمات الطائفية والأقلّيات وغيرها. وأنّ تحقيقها في المقابل وتحويلها أمرًا واقعًا، قد يكون المخرج الوحيد منها. ولكن بعد بلوغ عملية التكتّلات المذهبية والنزوح نحو الطائفية والتخلّي عن الهوية الوطنية مرحلة مخيفة، هل لا يزال ممكنًا إقناع الشعوب العربية بفكرة الدولة الوطنية؟ ألم تعد الفكرة ضربًا من الخيال؟

هناك مدرسة فكرية في بلادنا اسمّيها «التفكير في الغياب». تفسّر الاستبداد بغياب الديموقراطية؛ والطائفية بغياب الاندماج الوطني؛ والاحتكار بغياب المنافسة؛ والفقر بالحرمان من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ والاقتصاد العادل بغياب «الرأسمالية الحقيقية» التي هي إما رأسمالية الاقتصاد الحر أو الرأسمالية الإنتاجية، إلخ. وقد شكّل هذا النمط من التفكير ولا يزال عائقًا أمام تشخيص ما هو موجود وقائم والتعرّف إلى آليّات تشغيله، وهذا أول شرط للتغيير، وأحلّ محله المرتجى والمشتهى وواجب الوجود، في تكرار لمنطق الثنائيات الذي يخنق التفكير.

أصْل المفهوم هو الدولة القومية، والأدقّ «الأمّة في دولة» Nation State/Etat-Nation، أي وجود أمة تؤطّرها وتحكمها دولة. والتركيز هنا على الأمة أي انتماء السكان، أو أكثريتهم على الأقل، إلى قومية ولغة مشتركة وقدر من التاريخ المشترك والاقتصاد الموحّد.

أما الاستخدام المعاصر للمصطلح في المنطقة العربية فنتاج مقولتين من مرحلة ما بعد الحرب الباردة: ١) الفكرة القائلة إن العولمة تجاوزت الدولة القومية وبات العالم قرية كونية (كأن القرية لا يوجد فيها تراتب وانقسامات ونزاعات!!)؛ ٢) السياسة الأميركية في طور الانفراد الإمبريالي وخلال عهد «المحافظين الجدد» الداعية إلى «تغيير الأنظمة» regime change بل «البناء القومي» nation building.

لم يبدأ المشرق العربي من دولة وطنية–قومية. فرض علينا الاستعمار البريطاني والفرنسي كيانات مقسّمة حسب مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية. ولم تكن المجتمعات المأسورة داخل الحدود نتاج نموٍّ عضوي وتاريخي أو اقتصادي. تولّد وهم، وتبلورت أفكار وسياسات، رأت في تلك الكيانات كأنها أشَباه الدول القومية الأوروبية، لأن السلطات الاستعمارية منحتها المؤسسات الجمهورية التي أنتجتها الدولة القومية الأوروبية عبر النمو والتراكم العضويين التاريخيين. والواقع أن مواطني تلك الكيانات عاشوا، وعاشت السلطات التي حَكمتهم، في مستويين: مستوى الأمر الواقع التقسيمي–القطري ومستوى المرتجى القومي. وهذا مدخل فهم الكثير من الأحداث والمشكلات والتطورات والتقلّبات في المشرق العربي أقلّه.

في التجربة الفعلية لـ«مشروع الدولة الوطنية» ينبغي التمييز بين دولة وأخرى. تشكل مصر كيانًا مستقرًّا منذ آلاف السنين ويمكن الحديث عن مشروع وطني مصري هو مشروع تحرّر وطني اجتماعي تطور في مصر الناصرية نحو تكامل التحرر الوطني والقومي. فمن خلال الصراع العربي الإسرائيلي بالدرجة الأولى انفتح على المدى القومي العربي (الوحدة المصرية–السورية، الدعم العسكري للجمهورية اليمنية، إلخ.) ونحو أفريقيا والعالم الثالث.

منذ نشأته، كان العراق يسعى أصلًا لاستعادة الدولة العربية التي أنشأها فيصل في سورية، وتوحيد المشرق العربي تحت العرش الهاشمي، في منافسة مع مشروع الهاشمي لأخيه عبد الله حاكم الأردن الذي قضم جزءًا من فلسطين. كانت الجمهورية العراقية العام ١٩٥٨ أول محاولة لبناء «دولة وطنية» عراقية وقد قضى عليها النزاع بين القوميين والشيوعيين. في البدء، لم يحمل مشروع البعث العراقي مشروعًا لبناء دولة وطنية، ورث مشكلات انهيار الوحدة السورية المصرية ١٩٦١، ومحاولة إحيائها بالوحدة الثلاثية الفاشلة بين سورية والعراق البعثيين ومصر الناصرية. افتتح صدّام حسين عهده بإعطاء الأولوية لمشروع عراقي يقوم على السيطرة على مركز السلطة في بغداد ومنها التوجه إلى الأطراف. في الشمال، خاض حربه ضد الأكراد وتنازل خلالها عن شط العرب لإيران لقاء تخلي الشاه عن دعم الأكراد. وفي الجنوب، مارس سياسات الضبط والتمييز السياسي والمذهبي ضد الأكثرية الشيعية. وقد أسهمت حرب الثماني سنوات التي أعلنها صدام ضد إيران وخاضها في خدمة السعودية ودول الخليج وبدعم من القوى الغربية قاطبة والولايات المتحدة خصوصًا، في نشوء معارضة شيعية عسكرية بتمويل وتسليح ودعم من الجمهورية الإسلامية. على أن تداعيات تلك الحرب أفضت إلى توسعية «قومية» في احتلال صدام للكويت وانفجار حرب الخليج الأولى.

في سورية، وضع حافظ الأسد حدًّا للانقلابات العسكرية وقلَب الآية من سورية بما هي موضع تنافس عربي، إقليمي ودولي للسيطرة عليها (المطامع الهاشمية والسعودية–المصرية، والتوسعية التركية، إلخ.) إلى سورية التي تمدّ نفوذها والسيطرة على مداها الحيوي: بلدان الجبهة الشرقية ضد إسرائيل، لبنان، الأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، دون التخلي عن الطموح للتدخل في العراق، إلخ.

هكذا، خرّبت الدعوة القومية العربية مشاريع بناء «دول وطنية» بدلًا من أن تمهد لأهدافها القومية بالتوحيد الوطني. وقد تحوّلت تلك المشاريع إلى أدوات سيطرة داخلية أكثر ما كانت وسيلة دمج ديموقراطي لمكوّنات البلد، قدْر ما تحولت في المدى العربي من مشاريع اتحادية ووحدوية إلى مشاريع توسّع عسكري على حساب الجوار العربي أو محاولات ضم بالقوة.

ولعل الخلاصة التي تستحق التفكير فيها هي أنه لا يمكن تطبيق مشروع من هذين المشروعين ضد الآخر أو بمعزل عنه: الاتحاد العربي المبنيّ على المصالح المشتركة، على غرار الاتحاد الأوروبي، يمكن أن يتكامل ويتعزز من خلال بناء ديموقراطية تحقق المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين في إطار من الاعتراف بالتنوع اللغوي والإثنيّ ومن العلمنة المتزايدة للدولة.

المسألة الطائفية من منظار مخالف

كتبت كثيرًا عن المسألة الطائفية وبحثت ولا أزال أبحث فيها. وساجلتُ في شتى التفسيرات ومنها: إنكار وجود الطائفية؛ وتلخيصها بالتعصّب والنكوص عن الولاء الوطني؛ ونَسب الطائفية إلى الخارج؛ واعتبارها أداة بيد السلطات لتقسيم الشعب والسيطرة عليه؛ وتنزيهها عن أي صلة بالدين، وعن الاقتصاد والطبقات والتفاوت المناطقي، في حين هي متداخلة مع هذه كلها. في ضوء أحداث نصف القرن الأخير، لم يعد البحث في المسألة الطائفية والإنتاج عنها محصورًا بلبنان، مع أن التجربة اللبنانية توفّر بعض المفاتيح لفهمها في تعبيراتها العربية.

أدعو للاعتراف بوجود مسألة طائفية هي نتاج أشكال متنوعة من التفاوت – أي التمييز والحرمان – في مواقع الجماعات المعرّفة دينيًا ومذهبيًا من السلطة والدولة؛ ومن القوة العسكرية والأمنية؛ وتوزيع الموارد والثروات وخدمات الدولة؛ وفروع الاقتصاد المميزة؛ والنصيب من النمو الاقتصادي؛ وفرص العمل والحياة والتعليم؛ ومن تسييس الفروقات العددية بين الجماعات.

من هنا نبدأ. من دون التفاوت في تلك المواقع أو في عدد منها، يصعب الحديث عن مسألة طائفية ونزاعات طائفية. وبالتالي، فإن معالجة المسألة يفترض معالجة تلك الأشكال من التمييز والحرمان. لذا أرى إلى مسار تجاوز الطائفية على أنه يتضمّن وتيرتين على الأقلّ.

الوتيرة الأولى، التجاوز بالوسائل المباشرة. هنا يجري تجاوز الطائفية السياسية – وهي نظام يميّز في الحقوق والواجبات السياسية بين الجماعات، أكان علنيًا أم مضمرًا – بتحقيق المساواة السياسية والقانونية بين أبناء الشعب الواحد، وتثبيت المواطنة كانتماء وطني. وهذا إجراء ديموقراطي وليس إجراءً علمانيًا. أما الإجراء العلماني – أي إعلان الحياد الديني للدولة – فيتعلّق بالأحوال الشخصية التي تُخضع الأهالي كلٌّ حسب شريعة دينه أو مذهبه. هنا يفيد التفكر بمسارات تأخذ بالتدرّج والواقعية باعتماد قانون مدنيّ اختياريّ للأحوال الشخصية تعرض بنوده المتعارضة مع هذه الشريعة أو تلك للبتّ عن طريق الاستفتاءات الشعبية. وهو الأسلوب الذي اعتُمد في بلدان مثل إيطاليا للبتّ بالتحريم المسيحي الكاثوليكي ضد الإجهاض ومنع الحمل.

لكن اقتراح الحلول ليس بسهولة تبيّن مسار الحل وقواه وأساليبه. لدينا على الأقل بعض التجارب في تسوية نزاعات أهلية اكتسبت طابعًا طائفيًا ومذهبيًا في العراق ولبنان تؤكد أن السعي إلى عدالة طائفية ضرب من العبث وأن التسويات التي تسعى إلى تعديل موازين القوى بين الطوائف والمذاهب المسيّسة لا تلبث أن تستدعي ردود أفعال من الطوائف ذات الامتياز أو الحرمان سرعان ما تخرّب التسوية.

الوتيرة الثانية. مع الوقت، وبناء على تطورات المسألة الطائفية اللبنانية ومحاولات حلّها وانتكاس تلك الحلول، صرت ميّالًا إلى التفكير بالاتكال في تجاوز الطائفية على الوسائل غير المباشرة وهو ما اسمّيه «التجويف الاجتماعي للطائفية» وهذه محاجّتي:

إذا تأمّن التوظيف والترقّي بناء على معيار الكفاءة،
إذا اعتُمد نظام تعليمي رسمي ومجاني في كل مراحله،
إذا تحققت تنمية حقيقية وعادلة بين المناطق واعتمد توزيعٌ متكافئ لخدمات الدولة عليها،
إذا تقلّصت الفوارق في فرص العمل وفي المداخيل والثروات،
إذا اعتمد نظام للتقاعد ونظام للضمان الصحّي الشامل.

وإذا قطِعتْ أشواط في السيطرة على الانتفاع من المال العام (الفساد)، هل يبقى الكثير من أسباب التظلّم الطائفي، أم تتناقص حاجات الناس للجوء إلى جماعاتهم وقياداتهم وأحزابهم الطائفية والمذهبية والمرجعيات الدينية لتدبير أمور معاشهم؟

ألن تضمحلّ بذلك مكوّنات النظام الطائفي فتتحول الطوائف والمذاهب، مع الوقت، إلى تنوّع إيماني وتعدّد ثقافي ويبقى لها من تواريخها ونزاعاتها ما شاءت من ذكريات؟ هي ذكريات مميزة ومتعددة طبعًا لكنها أكثر قابلية لأن تنضوي داخل تاريخ مشترك.

أعتقد أنّ ثمة فرقًا كبيرًا بين هذه المقاربة وتلك التي تلخّص الأمر بأن «الحل» للطائفية هو «إلغاء الطائفية».

«سايكس بيكو» وعد بدولة عربية مستقلة

يقول البعض إن الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) حطمت حدود سايكس - بيكو التاريخية بربطها سورية بالعراق، الأمر الذي دفع ببعض الأشخاص الذين حمّلوا فيما مضى هذه الحدود مسؤولية المصائب العربية، للمطالبة بالحفاظ عليها، معتبرين أنّ بقاءها ضرورة. برأيك، لماذا هذا التحوّل في الموقف من حدود سايكس - بيكو؟ أي المطالبة بكسرها سابقًا، والدعوة إلى الحفاظ عليها فيما بعد؟ ما الجديد الذي قدّمته في كتابك «سايكس - بيكو - بلفور: ما وراء الخرائط» حول هذه المسألة؟

لم تكسر الدولة الإسلامية في العراق والشام حدود سايكس بيكو لسبب بسيط، هو أن الحدود بين دول المشرق العربي لا صلة لها بالحدود المعيّنة على خريطة الاتفاقية الشهيرة.

لنبدأ بالوقائع:
- اسم الاتفاقية «اتفاقية آسيا الغربية».
- هي اتفاقية بين ثلاث دول لا دولتين.
- فاوض عليها مارك سايكس وجورج بيكو ووقّعا الخريطة. أما الاتفاقية فوقّعها وزيرا خارجية بريطانيا وروسيا وسفير فرنسا في لندن.
- أبرز بنودها: تعهّد بريطانيا وفرنسا دعم «قيام دولة مستقلة بقيادة رئيس عربي» تشمل معظم بلاد الشام والحجاز.
- ما يسمّي تجزئة المنطقة هو أقرب إلى عملية ضم وفرز بين ألوية وسناجق في الولايات العربية في السلطنة العثمانية.
- لم تكن الاتفاقية سرّية على المعنيين بها. تبلّغها الشريف حسين بعد أسابيع من توقيعها ونشرت الثورة البلشفية نصّها الكامل بعد سنة وبضعة أشهر على توقيعها.
- العمليات العسكرية للجيش العربي بقيادة فيصل ولورنس، الموضوع تحت إمرة الجنرال أللنبي، قائد جبهة الشرق في جيوش الحلفاء، لا تستحق لقب «الثورة العربية الكبرى». الأحرى أن تطلق التسمية على ثلاث دورات من الانتفاضات ضد الانتداب البريطاني والفرنسي في العراق وفلسطين وسورية ولبنان في ١٩٢٠– ١٩٢١ و ١٩٢٥–١٩٢٧؛ و١٩٣٦–١٩٣٩.

القصة بإيجاز:
- عام ١٩١٥، دعت بريطانيا فرنسا لتوقيع اتفاقية تكرّس ما وعدت به شريف مكة، حسين بن علي، في تبادل رسائل سرّي مع المقيم البريطاني في مصر هنري ماكماهون، أي دعم الدولتين «قيام دولة عربية مستقلة يحكمها زعيم عربي»، تمهيدًا لإعلان شريف مكة الثورة العربية ضد العثمانيين.
- تبلّغ الشريف حسين الاتفاقية خلال زيارة مشتركة لسايكس وبيكو. أجاب على السيطرة البريطانية على العراق – أي ولايتي البصرة وبغداد – بالقول إنه يؤجّر العراق لبريطانيا لمدة ٢٥ سنة. ورحّب بهجرة «أبناء عمّنا اليهود» لكنه تذمّر من أن الدولة العربية العتيدة لا تملك منفذًا إلى البحر. وبعد أقل من سنة ونصف السنة، نشرت الثورة البلشفية النص الحرفي للاتفاقية في تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩١٧.

إعلان بلفور نقض اتفاقية سايكس-بيكو

نُقِضت اتفاقية سايكس بيكو مرّتين: المرة الأولى، مع إعلان بلفور الذي قضى على الإدارة الدولية في فلسطين. والمرة الثانية، عند القضاء على الدولة العربية، بعدما انعقدت تسوية بين الدولتين انسحبت القوات البريطانية بموجبها من سورية واحتلتها القوات الفرنسية، مقابل اعتراف فرنسا بالاحتلال البريطاني لفلسطين وتخليها عن لواء الموصل لصالح بريطانيا لقاء حصة في نفط المنطقة.

أبرز ما في إعلان بلفور زمن إصداره هو ١) التمهيد للاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد صدر في ٢ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩١٧ وقوات الجنرال أللنبي على حدود غزة للهجوم الذي سوف ينتهي باحتلال القدس في كانون الأول/ديسمبر؛ ٢) إلغاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وهو المقياس المعتمد في مؤتمر الصلح بباريس ١٩١٩ للتعاطي مع البلدان المحرّرة من الإمبراطوريات المهزومة. لم يتم ذلك بالاعتراف لليهود بما هم «شعب» بـ«وطن قومي» فقط بل أيضًا بتعريف عرب فلسطين على أنهم «غير اليهود» واقتصار حقوقهم على الحقوق المدنية والدينية، أي حرمانهم من حقوقهم السياسية في تقرير المصير وتأسيس دولة وحتى في المشاركة السياسية.

رُسمت مسوّدة الحدود الحالية في المشرق العربي ابتداء من مؤتمر سان ريمو، نيسان/أبريل ١٩٢٠، وعدّلت العام ١٩٢١ بإنشاء إمارة شرق الأردن، وفي العام ١٩٢٣ باتفاقية نيوكومب– پوليه التي رسمت الحدود بين منطقتي الانتداب الفرنسي والبريطاني، وبالتالي الحدود بين سورية ولبنان وفلسطين، ولم تثبت في وضعها الحالي إلا عام ١٩٢٧ عندما سلّم أتاتورك أخيرًا بضم الموصل إلى مملكة العراق. بل تعدلت العام ١٩٣٣ عندما تخلى الانتداب الفرنسي لتركيا عن لواء إسكندرون، إلخ. أدى تطبيق مقررات تلك المؤتمرات إلى القضاء على آمال جمهور واسع من أبناء الولايات العربية في السلطنة العثمانية في الاستقلال والعيش في دولة واحدة ورفض المشروع الصهيوني في فلسطين. وهذا ما عبّروا عنه في شهاداتهم أمام لجنة كينغ–كراين عام ١٩١٩.

١٩٢٠ أسّس نمطًا جديدًا من الاستعمار

ما وراء الخرائط؟

وراءها التاريخ الفعلي لولادة نمط جديد من الاستعمار تقاسمت فيه بريطانيا وفرنسا السيطرة على المشرق العربي، يرتكز على نخب حاكمة عربية، تسيطر على السكان نيابة عن القوّات الأجنبية. وهو نظام تحكمت فيه المصالح الإستراتيجية: تقاسم المرافئ وخطوط سكك الحديد، وحماية الضفة الشرقية من قناة السويس (السبب الرئيس لاحتلال بريطانيا فلسطين ومنع وصول فرنسا إليها)، والدفاع عن طريق الهند من خلال مرفأ البصرة الذي هو في الآن منفذ مصفاة عبادان للنفط الفارسي الذي تسيطر عليه بريطانيا؛ وإنشاء إمارة شرق الأردن لتكون صلة وصل بين فلسطين والعراق تصل هذا الأخير بالبحر الأبيض المتوسط. ومن حيث المصالح الاقتصادية: احتكار التجارة الخارجية، والوكالات الأجنبية، وتثبيت التبادل غير المتكافئ بين منتجات أولية (النفط، القطن، الحرير، الحبوب، إلخ.) ومنتوجات صناعية، والسيطرة على مالية البلدان واقتصادها بواسطة المصارف الأجنبية، والسيطرة على مؤسسات الخدمة العامة، واستغلال اليد العاملة، إلخ.

ما وراء الخرائط؟

وراء الخرائط أن «سايكس-بيكو» بات الاسم الرمزي لأسطورة تأسيسية عن نشأة كيانات المشرق العربي وشيفرة تفسّر المؤامرة المستمرة على المنطقة تمارسها قوى غربية سيطرت عليها لتقسيمها (لا العكس) وقد تبلورت مع قيام دولة إسرائيل إلى «مشروع» متكامل ومتواصل لتفتيت المنطقة وشعوبها ودولها إلى دويلات وكيانات عرقية دينية مذهبية وطائفية تكون «على صورة إسرائيل مثالها» وتبرّر وجودها.

هكذا غطت رواية الانتهاك لوحدة الجماعة المقدسة على أي مسؤولية تتحمّلها القوى المحلية في خدمة الاستعمار الجديد وعلى دورها في الحفاظ على التجزئة بل وفي الإسهام في التجزئة الداخلية لكل بلد على حدة. إضافة إلى أن هذه الوحدانية في التأويل والنظرة أسهمت إلى حد كبير في التغطية على الأوجه الأخرى للسيطرة والاستغلال الاستعماريين وعلى مراحلهما المختلفة.

وحتى لو اكتفينا من تلك الرواية التأسيسية بثنائية وحدة/تقسيم، وراجعنا مشاريع الوحدة والتقسيم، منذ تلك الفترة التأسيسية، لاكتشفنا أن القوى الغربية تعاطت مع المسألة حسب مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، في كل حالة بحالها، تارة تحافظ على التجزئة وتسهم في إسقاط محاولات التوحيد وتارة أخرى تسهم بذاتها في عملية التوحيد.

مقولة الدولة/المجتمع المدني مقولة نيوليبرالية

في حوارنا كما تُلاحظ يولد السؤال من آخرَ سبقه. وبالتالي، نودّ أن نسألك هنا عن الأُسس التي وضعت الدولة في تناقض مستمر مع المجتمع المدني. بالإضافة إلى الأسس التي أدّت إلى التسلّط الراهن للدولة على المجتمع؟ وكيف يقرأ فوّاز طرابلسي مستقبل العلاقة بين الدولة والشعب في ظلّ هذا الفشل المستمر في إحداث عملية التحوّل الديموقراطي؟ لا سيما في ظلّ النزوح المستمر نحو الطائفة والبنى الاجتماعية ما دون الوطنية؟

يوجد فارق بين ثنائية الدولة/الشعب والدولة/المجتمع وثنائية الدولة/المجتمع المدني.

سأركز على ثنائية دولة/مجتمع مدني. والمقصود هنا بالمدني ما هو غير السياسي.

أرى أن مقولة الدولة/المجتمع المدني على قدر من التبسيط والسطحية من الناحية المعرفية، مثلها مثل جميع الثنائيات. تفترض وجود كتلتين متضادّتين: من جهة، الدولة التي هي تعريفًا مستبدّة تقمع الحريات الفردية بل الأفراد وتخنق القطاع الخاص والحرية الاقتصادية في آن. ومن جهة ثانية، «المجتمع المدني»– وهو القطاع الاقتصادي الخاص والمؤسسات الأهلية غير السياسية وقد طردت منها الأحزاب السياسية والنقابات. في الدولة يتجسّد الاستبداد وغلبة القطاع العام على القطاع الخاص. فترتبط الحرية الفردية بالحرية الاقتصادية في وجه عدوّ واحد: الدولة.

وهذه الترسيمة في شيطنة الدولة من مخلفات الحركات المناهضة للشيوعية زمن سقوط الأنظمة السوفييتية في أوروبا الشرقية، مارستها قوى اجتماعية وسياسية معادية للاستبداد وما لبثت أن سلّمت السلطة والاقتصاد إلى النيوليبرالية وأثرياء الأثرياء المتداخلين مع الأطقم السياسية إلى حد التماهي بينهما (الأوليغارش).

صودرت مقولة «المجتمع المدني» من أبرز تعبير لها عند أنطونيو غرامشي وقلِب مضمونها ودلالتها رأسًا على عقب. كل سلطة طبقية عند غرامشي تحافظ على نفسها وتمارس دورها كسلطة، أي كسلطة أقلية على أكثرية، بمزيج من وسيلتي القسر والطواعية. تقع «الخنادق الأمامية» للدولة في المجتمع المدني حسب غرامشي وهذا قوامه المدرسة، والعائلة والمؤسسات الدينية، ويمكن أن نضيف إليها الإعلام ووسائل التواصل المجتمعي. هنا ميدان الهيمنة، أي النفوذ الثقافي أو الدور القيادي الذي تمارسه الطبقة الحاكمة على المحكومين وتضمن طواعية القبول بسلطتها وفكرها. وهنا ميدان الصراع الثقافي للمعارضة ضد هيمنة فكر وثقافة وأيديولوجية الطبقة المسيطرة. ويرى غرامشي إلى هذا الصراع لكسب الهيمنة على الهيمنة على أنه مقدمة لتسلّم السلطة – بالثورة – في المجتمع السياسي، أي في الدولة، وليس بديلًا منها. وتسلّم السلطة يتم بواسطة أحزاب ونقابات عمالية ومهنية بالدرجة الأولى.

«المنظمات غير الحكومية»، وتاليًا «منظمات المجتمع المدني» هي أبرز مكوّنات هذا «المجتمع». ومع أنه يصعب إيجاز البحث فيها وفي تجربتها، أودّ أن أجازف بطرح مضبطة انتقادات في موضوع إما يلفّه الصمت وإما الاتهامات وهواجس التآمر.

نقد منظمات المجتمع المدني

١. المجتمع المدني يعادل إلى حد كبير بيئة الطبقات المتوسطة والأفكار السائدة فيها، وهو يعبّر عن التباعد المتزايد بينها وبين سائر الطبقات الشعبية.
٢. تتوزع منظمات المجتمع المدني على اختصاصات تجزّئ قضايا المجتمع والدولة إلى دزينة من المطالب: بيئة، حقوق إنسان؛ عدالة انتقالية، فضّ نزاعات، ريادة أعمال، تسليف ميكروي، عناية بالفئات المهمشة، نسوية، خيارات جنسية، شباب، حماية اجتماعية، إلخ. ويمكن بيان كيف أن كل واحدة من هذه الحقول هي بديل عن مشاريع أو برامج سابقة خلال فترة حركات التحرر الوطني والاجتماعي في ظل النزاع بين المعسكرين. وهي عاجزة عن أن تؤدّي الدور الذي تلعبه الأحزاب من حيث تقديم التصورات الشاملة لقضايا الدولة والمجتمع، وعن القدرة على الجمع والحشد والتعبئة لتحقيق التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.
٣. في ظل النيوليبرالية، تسلب المؤسسات المالية والتنموية أدوارَ الدولة في التخطيط والاستثمار الاقتصادي والخدمات العامة والتوزيع الاجتماعي. ثم تأتي منظمات المجتمع المدني لتبرر وجودها وأدوارها وخدماتها بأنها تعويض عن دولة غائبة أو مقصّرة، علمًا أن كل ما تستطيع تحقيقه لا يعوّض إلا بالقليل القليل عما تستطيع الدولة.
٤. تقدم منظمات المجتمع المدني نفسها، ضمنًا أو علنًا، على أنها بديل عن الأحزاب السياسية، بحجّة أن الأخيرة «فاشلة» أو سلطوية أو متّهمة بالمشاركة في الحروب. وتجدر الإشارة إلى أنها تستميل بل تستوعب الكثير الكثير من الحزبيين الذين ناضلوا سابقًا في حركات التحرر الوطني والاجتماعي ومن أجل التغيير الاجتماعي والسياسي. والمعروف أن منظمات المجتمع المدني نفسها، الدولية منها («أوكسفام» مثلًا) أو الوطنية (المنظمات الألمانية مثلًا) ممولة من حكومات وأحزاب.
٥. تروّج منظمات المجتمع المدني للديموقراطية والمساءلة والمحاسبة علمًا أنها في معظمها غير منتخبة إلا من أعضائها محدودي العدد، إنها لا تضع نفسها موضع مساءلة أو محاسبة إلا لمموليها، ونادرًا ما تعقد المؤتمرات أو الندوات لمراجعة تجاربها على الملأ، وقد انتهت المرحلة التي كانت فيها منظمات عمل طوعية وباتت مدفوعة الأجر وبالعملات الصعبة.

والأخطر في ثنائية دولة/مجتمع مدني هو مساهمتها في حجب دور الدولة في الوحدة الوطنية وتماسك النسيج المجتمعي، في الدول حديثة النشأة خصوصًا. فباسم الديموقراطية و«البناء القومي» احتلّت الولايات المتحدة العراق ودمّرت أبرز مؤسسات الدولة فيه – قسمًا كبيرًا من الإدارة، وجرى حلّ الجيش والأجهزة الأمنية، وحل حزب البعث، واستصدار قانون «اجتثاث البعث»، إلخ. حمل الاحتلال إلى السلطة المليشيات الموالية لإيران وبنى السلطة الجديدة على تحالف كردي-شيعي، في نظام سياسي فيدرالي (من ثلاث محافظات كردية من أصل ١٨ محافظة) تتوزع السلطة فيه على أساس طائفي–مذهبي–إثني. فماذا كانت النتيجة؟ استدعى الاحتلال معارضة قوامها الجهادية السنية (بقيادة ضباط بعثيين سابقين، مدعومين من النظامين السوري والسعودي أول الأمر) وتفككت أوصال الوطن العراقي فوصل الفساد إلى حد الإسهام في انحلال الجيش العراقي، فحلّت محله مليشيات «الحشد الشعبي» ذات الغالبية الشيعية والموالية لإيران التي دخلت إلى المعركة لتحرير الموصل من حكم «داعش»، وقد فاقم ذلك من النزاعات المناطقية والإثنية والدينية والمذهبية والعشائرية، وصولًا إلى ما نشهده الآن من انفجار النزاعات داخل المذهب الواحد.

التأريخ، السرد، الأدب

أطلنا الحديث في السياسة وأمورها. اسمح لنا بالانتقال باتّجاه التاريخ، وطرح السؤال التالي: في جميع مؤلّفاتك نجد نبرة تاريخية تُجاورها نبرة سردية. وعليه، كيف تنظر إلى الماضي؟ كيف تتعامل مع منتوجه التاريخي؟ هل تراه نصًّا إبداعيًا مبنيًا على تراكيب سردية وبلاغية تصوغ التفسير التاريخي؟ وفقًا لرؤية هايدن وايت. أم لديك رؤيتك الخاصّة؟
نودّ سؤالك أيضًا عن رأيك في فكرة أنّ ما يجرّد التاريخ من مكانته كأساس وطيد للحقيقة الوثيقة، ويعلي من شأن السرد بوصفه جوهر التاريخية، هو وصف الكتابة التاريخية على أنّها «كتابة» والتعامل معها على هذا الأساس. إلى أي حدّ تتطابق مقولة كهذه مع كتابك «حديد وحرير» تحديدًا؟ وإلى أي حد تختلف أو تتفق معها؟ ولماذا؟

التاريخ هو علم الإنسان في زمانه. هذا هو التعريف الرائع للتاريخ عند ابن خلدون: «الناس بزمانهم أكثر منه بآبائهم». في وجه تاريخ القبيلة الذي يبحث عن جذور، ينهض التأريخ الخلدوني ليروي ما يفعله الزمن في البشر. بهذا المعنى ليس التاريخ هو علم الماضي فقط بقدر ما هو علم دينامي عن الاستمرارية والانقطاع. ولأنه علم عن فعل الزمن، فما نعرفه عن الماضي متطوّر بتطور مكتشفاتنا عنه ووسائلنا المعرفية والتعبيرية. وبناء على هذه المقدّمات، لست أعتقد أن التاريخ يطمح إلى تثبيت حقيقة أو حقائق.

لست معنيًا في أعمالي بفلسفة التاريخ وبنظريات في تأويل الوقائع التاريخية عمومًا. همّي أكثر تواضعًا بكثير، وهو الشغل على تبديد عدد كبير من الأساطير والخرافات السائدة والمقاربات الجزئية من أجل المساهمة في ملء ثغرات فاغرة في مداركنا التاريخية، علمًا أن جهدي لا يتعدّى تاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين في لبنان والمشرق العربي.

هل حقًا انقضى زمن السرديات الكبرى؟

لدي هذه الملاحظات على سؤالك.

أنا شديد الفضول بشأن الطريقة التي بها تتأسس وتستبدل المناهج الأكاديمية الغربية، الأميركية خصوصًا، ثم تشيع في العالم في الأكاديميا والإعلام ووسائل التواصل المجتمعية والنتاج الفكري والرأي العام في العالم وفي بلادنا خصوصًا. هذا موضوع نادرًا ما يجري التطرّق إليه. يؤخذ على علّاته. ويغلب الفكر النقلي. تنتقل دَرْجة (موضة، تقليعة) أكاديمية-ثقافية الى أخرى فنجهد للّحاق بالجديدة بلا تساؤل عن كيف تمت النقلة ولماذا، يحدونا افتراض بأن التقدم يساوي اللحاق بآخر دَرْجَة. لكن من قال إن آخر تقليعة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية هي بالضرورة أجدى منهج لمقاربة أوضاعنا؟ ومن قال إنه يتعيّن علينا أن نعيد تعريف أنفسنا ومجتمعاتنا بناء عليها؟ هذا عدا عن أن تلك الدَرجات ملغومة دومًا بالسلطة وبالمصالح.

هذا مثال. تبشّرنا جماعة ما بعد الحداثة بأن عصر السرديات الكبرى قد انتهى– ويا للصدفة! يبدو أنه انتهى مع نهاية الحرب الباردة! وماذا عن لاهوت السوق السحرية؟ وأحادية تفسير العالم بواسطة الثقافة والهويات؟ أليست هذه وتلك سرديات كبرى وشاملة، حتى لا أقول شمولية؟

يوجد فرق بين إنكار وجود حقيقة أو حقائق عامة وبين اعتبار الصراع الفكري صراع سرديات بلا أي مقياس للمفاضلة بينها، أي بدون القواعد التي يوفّرها علم التاريخ، فيغلب فيها الرأي أي «الهوى» كما يسمّيه علماء العرب الأقدمون، أو تصير أي سردية تعادل أي سردية أخرى. بل تتفوّق سردية بسبب قوة الطرف الذي يحملها أكثر من تفوّقها بسبب متانة الإسناد والبحث والحجة والبراهين فضلًا عن المقدرة البلاغية.

يوجد فرق كبير بين اللجوء إلى الأدب في سرد التأريخ، واختزال التأريخ بالأدوات اللغوية المستخدمة لإعطاء معنى للوقائع التاريخية.

إن اختصار التأريخ بإعطاء معنى للأحداث والوقائع، يفترض أن تعيين الأحداث والوقائع قد تم أولًا بأوّل، أي أن التحقق من وقوعها قد تأكد وحظي بدعم أكثرية من المراجع الثقات. المهمة الأولى في التأريخ هي السرد، سرد الوقائع والأحداث. ونقطة البداية فيه هي التأكد من أن الوقائع قد حصلت فعلًا وتعيين الطريقة التي حصلت بها. توجد وقائع حصلت في التاريخ ووقائع لم تحصل أي وقائع متخيّلة بقصد أو دون قصد. هنا الشغل: التحقق والإسناد والمرجعية.

المؤرّخ البلجيكي لامنس، هو صاحب رواية «لبنان ملجأ الأقليات الدينية» وبينهم الموارنة. يروي أن تلك الأقليات لجأت إلى جبال لبنان هربًا من الاضطهاد الإسلامي في القرن العاشر. الواقعة مخترعة. دحضها المؤرخ كمال صليبي بالتذكير، في حالة الموارنة، بأن هؤلاء عاشوا ثلاثة قرون في ظل الخلافة الأموية في منطقة حمص، وأنهم هُجّروا منها لا على يد الحكم الإسلامي، وإنما على يد البيزنطيين الذين سيطروا على الشمال السوري ووادي نهر العاصي خلال القسم الكبير من القرنين العاشر والحادي عشر لاتهامهم الموارنة بالهرطقة.

السرد التاريخي عملية سجالية

هذا من حيث الوقائع. الأهم أن بناء السرد التاريخي يجري عادة بالسجال مع أساطير وخرافات، أو بملء الثغرات في روايات ناقصة، أو يتولى تحيين روايات قائمة بعد العثور على أدلة ومكتشفات جديدة بصددها. تكتسب هذه العملية أهمية خاصة في بلداننا حيث القسم الكبير من تاريخنا مكتوب من خارجها، ما يعني أنه يحتمل، بل يستوجب، المراجعة النقدية والتدقيق والتفكيك وبناء سرد بديل. الاستشراق الموضوع في خدمة السياسات الاستعمارية غالب في تاريخ المنطقة. توجد روايات فاضحة في قصدها الاستعماري ورواية لامنس واحدة من مئات من أمثالها. وكثير منها معتمد عربيًا على أنه متحقق ومرجعي.

أسلوبي في رواية التاريخ يقرره الموضوع ذاته. في «تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف» (٢٠٠٨) أردت كتابة تاريخ يشبك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في سعيي إلى التأريخ الشامل. تتبّعت نشأة النواة في إمارة جبل لبنان والمتصرّفية، وصولًا إلى نشأة الكيان بعيد الحرب العالمية الأولى وتابعت أبرز محطات تطوره. أفردت حوالي نصف الكتاب للتأريخ للحرب الأهلية ومقدماتها خلال عقدٍ صاخب تميّز بالحركات والنزاعات الاجتماعية الكثيفة. عالجت الحرب كصيرورة، قسّمتها إلى ثلاث حقب بناء على ثلاثة مقاييس: طبيعة القوى المتحاربة في كل حقبة، والموضوع الرئيس الذي يجري عليه النزاع المسلّح، وتدخل القوى الخارجية وأثره في مجريات النزاع. وأفردت عدة صفحات لما سمّيته «الاقتصاد السياسي للمليشيات» لبيان دور العنف والسلطة السياسية في إنتاج مصالح اقتصادية والإثراء على حساب دماء اللبنانيين، وهو ما يؤسس لفهم الاقتصاد السياسي والاجتماعي لما بعد الحرب وتنامي الظاهرة المافياوية.

في كتاب «حرير وحديد. من جبل لبنان الى قناة السويس» (٢٠١٣) اعتمدت أسلوب التدوين المستوحى من الحوليات، وعرضته على شكل مشاهد ولقطات، ما قد يصلح لسيناريو فيلم وثائقي يشبك شخصيات وأحداثًا بعضها ببعض. ستلقى فيه: نساء جبل لبنان واقتصاد الحرير؛ الاحتلال الفرنسي للجزائر، حلم نابليون الثالث بإنشاء «المملكة العربية» في السلطنة العثمانية، أو على أنقاضها، برئاسة الأمير عبد القادر الجزائري؛ أتباع الاشتراكي سان سيمون لدى محمد علي باشا لتلقيح مصر بالحداثة الصناعية؛ الليدي هستر ستانهوب البريطانية، تعلن نفسها ملكة على اليهود في تدمر وتنتظر عودة المسيح في القدس من منزلها بقرية جون في جبل لبنان؛ النهضوي اللبناني فارس الشدياق يجوب المتوسط في دورة كاملة تنتهي في إسطنبول، يدرس في الأزهر ويترجم الكتاب المقدس في بريطانيا، ويشهر إسلامه في تونس، ويتأثر بالاشتراكية، ومغامرات أخرى. تتقاطع هذا المسارات، تنعقد ثم تتفكك، لتصل إلى ذروتها في الاقتتال الأهلي العام ١٨٦٠والتدخل العسكري الفرنسي الذي يمهّد لتسوية فرنسية–عثمانية ولدت بموجبها متصرفية جيل لبنان، وأفسحت المجال للمهندس الفرنسي دُ لسبس (نسيب زوجة نابليون الثالث) لافتتاح أعمال شَقّ قناة السويس في أكبر صفقة اقتصادية استعمارية في القرن التاسع عشر.

أما «سايكس-بيكو-بلفور»، فالتأريخ فيه أقرب إلى تحقيق بوليسي، يكشف أن «الثلاثي» ليس بريئًا من ارتكاب «الجريمة» التاريخية. لكنهم ليسوا المتهمين الوحيدين، وأن «الجريمة» ليست مطابقة تمامًا لما أظهره التحقيق الذي تلاعب بالوقائع والأدلّة والشهادات، وسوف يتبيّن في نهاية التحقيق المضاد أن «الجريمة» تخفي «جرائم»!

التاريخ، الذاكرة، النسيان

كيف ترى النزعات التي بدأت تنتشر مؤخّرًا والتي تدعو إلى المساواة بين التاريخ والذاكرة؟ بل إنّ بعضها ذهبت نحو تفضيل الذاكرة على التاريخ معتبرةً أنّها أكثر أصالة وصحّة ووضوحًا من التاريخ الذي تراه مصطنعًا؟

أفترض أن الحديث هو عن الذاكرة الجمعية. الاهتمام بالذاكرة دائم لكنّ الراهن منه من نتاج ما بعد الحداثة وإجمال التأريخ بما هو من قبيل السرديات الكبرى. النظرة التي تؤْثر الذاكرة على التاريخ من مخلفات أيديولوجيا الحرب الباردة: تتهم الأنظمة الشيوعية بطمس الذاكرة بحيث يصير التذكّر فعل معارضة وهو ما تعبّر عنه معادلة ميلان كونديرا «النضال ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان».

ليست الذاكرة والنسيان على طرفي نقيض كما سنرى بعد قليل. وقد تبدو معادلة كونديرا جذّابة أدبيًا لكنها خاوية من حيث المضمون. من الوسائل البديهية التي تملكها السلطات للسيطرة أو الهيمنة أو اكتساب الشرعية إنتاج ذاكرات شعبية أو جمعية، وتغذيتها والتحكّم بها، من خلال الاحتفال بأحداث معينة، وإحياء ذكرى حكام سابقين يبرّرون حكم اللاحقين، والتذكير بمواقع عسكرية معينة، وتكريم أبطال وطنيين، والتباهي بانتصارات، بل حتى التباكي على هزائم وويلات وكوارث، إلخ. هذه كلها تغذية لذاكرة وليست فرضًا لنسيان.

أما العلاج بالذاكرة فوصفة من الوصفات التي يوصى بها للمجتمعات التي عانت من الكوارث والحروب، بما فيها الحروب الأهلية. والافتراض السائد أن التذكير بأعمال العنف والكوارث قابل بذاته لضمان عدم تكرارها، جريًا على المثل الشعبي الدارج «تنذكر وما تنعاد». هذا في الحد الأدنى. ومن منوّعاته، التبشير بالسلمية، وتنظيم ورشات «الحقيقة والمصالحة» أو «الحقيقة والكرامة» في صيغتها العربية؛ والتربية ضد الكراهية، ما شابه. ويقوم العلاج هنا على الافتراض بأن إعادة بناء وحدة الشعب وتماسكه وتوازنه، يتم عن طريق بناء «ذاكرة جمعية» مشتركة للأحداث وصولًا إلى رواية مشتركة للتاريخ. لم ينجح هذا العلاج بمفرده في منع تكرار الحروب، في أي حالة من الحالات، لأنه يعوّض بذاكرة العنف والأهوال عن دراسة الأسباب والنتائج والدروس. مثلًا، وقع اقتتال أهلي ذو طابع طائفي في جبل لبنان خلال فترة ١٨٤٥-١٨٦٠ لا يزال في الذاكرة إلى الآن، مع أن ذكراه لم تمنع من اندلاع حرب أهلية صغيرة عام ١٩٥٨، ولا ذاكرة الحربين السابقتين حالت دون اندلاع حروب الأعوام ١٩٧٥-١٩٨٩.

الذاكرة الجمعية لا وجود لها

الحقيقة أنه لا توجد ذاكرة جمعية قدر ما توجد رواية تقدّم نفسها على أنها الرواية الشائعة أو الرسمية لحادثة معينة أو حقبة معينة. وهي رواية تغلب فيها الوظيفة الأيديولوجية النفسانية على الوظيفة المعرفية. خذ مثلًا ذاكرة المجاعة في لبنان خلال الحرب العالمية الأولى. إنها مظلومية جمعية تتهم السلطات العثمانية بمشروع إبادة مسيحيي جبل لبنان. تروي أن العثمانيين «أقفلوا البحر» لمنع وصول المؤن والمساعدات لأهالي جبل لبنان، علماً أن الذي «أقفل البحر» هو الحصار البحري الإنكليزي كفعل حربي ضد السلطنة العثمانية. صحيح أنّ وقْع المجاعة كان الأقسى على جبل لبنان قياسًا إلى سائر بلاد الشام. لكن «الذاكرة» لا تذكر الأسباب: البعد عن حوران وصعوبة وصول القمح والحبوب وارتفاع كلفة النقل والسعر وجشع التجار؛ والندرة الإضافية للمواد الغذائية بسبب انتقال جبل لبنان إلى اقتصاد الحرير وتخلي الأهالي عن زراعة القمح والحبوب واستبدالها بملايين أشجار التوت لإطعام دود القز؛ فساد موظفي الإعاشة العثمانيين، والأهم دور التجار والمرابين المحليين في تخزين الموادّ الغذائية واحتكارها، وسلب الأهالي ممتلكاتهم المتواضعة لقاء توفير القوت لهم بل إفقارهم والإثراء على نكبات المجاعة ومآسيها. وهي ممارسات موثّقة من شهود عيان أشهرهم رجل الدين الماروني الخوري أنطون يمّين («لبنان بعد الحرب ١٩١٤-١٩١٩»، ١٩١٩). يبقى «الدليل الإحصائي» أن عدد الضحايا المسيحيين أكبر من عدد الضحايا الدروز. والرد عليه بسيط: عدد المسيحيين أكبر أصلًا من عدد الدروز في جبل لبنان، وقد نزحت أعداد كبيرة من الدروز إلى حوران هربًا من المجاعة.

وهذا مثال آخر معاصر على «الذاكرة الجمعية» بما هي رواية لمظلومية: قصة البوارج الحربية الأميركية التي تحركت نحو ساحل لبنان، خلال الفترة الأولى من الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٧٦) لنقل المسيحيين إلى الولايات المتحدة الأميركية وتوطين الفلسطينيين مكانهم. بالفعل، حركت الإدارة الأميركية قطعًا من أسطولها في خريف ١٩٧٦ لحظة دخول القوات السورية إلى لبنان، وقد توسطت الدبلوماسية الأميركية بين سورية وإسرائيل لإجازة دخولها لوقف الحرب ومنع طرف من الانتصار على الطرف الآخر، على ما أعلن حافظ الأسد. كان الإجراء البحري من قبيل الاحتياط من إمكان تدخل سوفييتي إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية؛ أو من احتمال صدام بين القوات السورية المتقدّمة والقوات الإسرائيلية. لم يقع أي صدام وكان رئيس الوزراء السوفييتي كوسيغِن في زيارة رسمية لدمشق عندما أعلن الأسد دخول قواته إلى لبنان. هذه الوقائع موثقة من المصدر في وثائق مجلس الأمن القومي والخارجية في حكومة الولايات المتحدة الاميركية وهي مترجمة ومنشورة باللغة العربية في العدد الأول من فصلية «بدايات» العام ٢٠١٢. والطريف أن النائب جميل السيّد كرر الرواية ذاتها عن مجيء دين براون إلى لبنان لنقل المسيحيين على البوارج الأميركية في حديث له مع الإعلامي جاد غصن خلال كتابة هذه السطور (٤/١١/٢٠٢٢).

ليست الذاكرة والنسيان على طرفَي نقيض

نأتي إلى الأهم: إن وضع الذاكرة مقابل النسيان وبالتضاد معها يحجب ما بينهما من علاقات وتأثيرات متبادلة. لا يمكن للإنسان أن ينسى كل شيء ولا يمكنه أن يتذكّر كل شيء. كلاهما عملية انتقاء. كل عملية تذكّر تتضمن إهمال ما لا يراد تذكره، إهمالًا إراديًا أو غير إرادي. واعيًا أم من غير وعي. ثم إننا لا ننسى إلا ما نعرفه أو ما نتذكره.

تحدث حالات فقدان الذاكرة في الحالات الفردية وغالبًا نتيجة كبت لواقعة مؤلمة أو حادثة رضّية. لكن لا يوجد فقدان ذاكرة أو محو ذاكرة في الحالات الجمعية.

ومثلما لا يوجد ذاكرة جمعية لا يوجد نسيان جمعي. ما يسقط من الذاكرة تحلّ محله ذاكرة أخرى. و«النسيان» إن هو إلا عملية استبدال ذاكرة بأخرى. ويمكن القول بالتالي إن «التذكر» الفعلي هو نقد الذاكرة الشائعة.

خذ تصوير الحرب الأهلية اللبنانية ١٩٧٥-١٩٩٠ بأنها «حرب الآخرين» حسب مقولة الصحافي غسان تويني الشهيرة، ولها منوّعان «حرب الآخرين على لبنان» و«الحرب في لبنان من أجل الآخرين». هذا ليس ضربًا من النسيان. هذه رواية مفروضة، مشغولة، ومعممة بواسطة الإعلام، والأبحاث ووسائل الاتصال المجتمعية وغيرها، تحظى بنسبة عالية من الانتشار. ولها وظائف متعددة: تبرّئ السلطات التي لم تعمل لمنع اندلاع الحرب كما تبرّئ المليشيات التي خاضت الحرب وقد بات قادتها في السلطة؛ وتطمئن اللبنانيات واللبنانيين عمومًا أن لا مسؤولية تقع عليهم على القتل ودمار الذي ألحقوه ببلادهم (من دون أن ينفردوا في ذلك)؛ وتغيّب البحث في أسباب الحرب وتعيين المسؤوليات والمحاسبة بإلقائها اللوم على الآخرين. وأخيرًا، تقدم هذه «الذاكرة» التسويغ لإعادة بناء النظام الاقتصادي والسياسي الذي كان قائمًا قبل الحرب مع تضخيم أبرز معالمه، أي الانتقال من الليبرالية إلى النيوليبرالية، وبناء مجتمع الاستهلاك، وإعادة بناء موسّعة لنظام الطائفية السياسية مع تعميق طابعها الديني، وإن بتعديل في توازناته الداخلية. وكل ذلك باسم العودة إلى لبنان كما كان، أو حتى العودة إلى عصر ذهبي سبق الحرب. وشرط ذلك ألّا يخطر ببال أحدٌ أن يسأل: إذا كان ذاك العصر الذهبي عصرًا ذهبيًا كما تصفونه، لماذا أدى إلى الحرب؟ فتعود قصة إبريق الزيت: كانت الحرب حرب الآخرين على أرض لبنان. ويكون الرد: إذا كانت حرب الآخرين لماذا ارتضى نحو ٨٠ ألف لبناني أن يموتوا فيها؟

في المقابل، دعوت وأدعو إلى واجب التذكّر وضرورة النسيان. واجب تذكّر أسباب الحرب ومساراتها وكيفية انتهائها والدروس المستخلصة منها. ودعوت وأكرر الدعوة إلى ضرورة تناسي أعمال العنف والمجازر التي تبادلها اللبنانيون خلالها. نتذكر تلك الأعمال لكي ننساها. وإننا نستطيع أن ننساها لأننا نعرفها، ولأننا نتذكرها. ويمكن لعملية التذكر والنسيان المتبادلة هذه أن تشكل الأساس لتسوية تاريخية تصفّي بقايا الحرب. وهو ما لم يحصل في اتفاق الطائف وتوابعه. لذا أتحدث عن تناسٍ، بما هو فعلٌ إرادي. حتى أنه يمكن إجمال كل هذه المحاجّة بالعنوان الذي أعطاه محمود درويش ليومياته عن الحصار الإسرائيلي لبيروت صيف ١٩٨٢ – وما تضمّنه من مراجعة الشاعر النقدية لما تحمّله لبنان واللبنانيون من وجود المقاومة الفلسطينية المسلّحة على أرضه – «ذاكرة للنسيان».

أخيرًا، ما هي مشاريعك المقبلة؟

أنا في طور إنجاز الجزء الثاني من «صورة الفتى بالأحمر» وهي شهادة عن تجربة «لبنان الاشتراكي» و«منظمة العمل الشيوعي في لبنان» وعنوانه «زمن اليسار الجديد».

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣
والدولة الوطنية والمجتمع المدني والطائفية وأشياء أخرى

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.