العدد ٣٥ - ٢٠٢٢

أثرياء، حكام، سياسيون، فنانون

الهجرة المشرقية العربية في أميركا اللاتينية ٢/٢

سياسيون نخبويون وشعبويون

يمثّل تفاعل الجالية العربية مع مجتمعها دليلاً حسّيًّا على فاعلية المختبرات الأميركية اللاتينية كأرضية صالحة للاندماج. إلى ذلك، شكّل عددٌ من ميزات الاجتماع العربي دفعًا لهذه الآلية الاندماجية. من بين تلك الميزات الانتشارُ الأفقي للجالية حيث باتت موجودة في كلّ البلدان من دون أن تضغط ديموغرافيًّا، ما قد يولّد ردة فعل عليها. ومن بين تلك العوامل أيضًا، سرعة الصعود الاقتصادي أو المجتمعي أو الثقافي الذي بدا واضحًا منذ الجيل الثاني. يفسّر تمازجُ هاتين الميزتين الصعودَ السياسي داخل الجالية والذي يترافق مع انتقال النخب تدريجيًّا نحو العواصم والمدن الكبيرة كتتويج لمسار مركّب من الصعود الاجتماعي القائم على الاستقرار الاقتصادي والتخصص الدراسي والتزاوج من خارج الجالية.

بعيدًا من «ثقافوية» مفتعلة، يحلو للباحث خوليو بيتانكور أن ينسب هذا الصعود- الذي لا ينحصر في المراكز الوطنية، بل يشمل المواقع المحلية والمهنية والرياضية- إلى «نزعة نحو الريادة باتّجاه الوسط القابل لبلورتها». إن هاتين الميزتين مجتمعتين جعلتا وظيفة التمثيل السياسي مستقلة عن قاعدتها الإثنية، بمعنى أنه لو طُبّق على الأخيرة ما نسمّيه في القاموس اللبناني الطائفي «التمثيل»- والمقصود ما تمثله الحصة نسبةً إلى العدد- لتبيّن بوضوح أن الجاليات عربية الأصل ممثَّلةٌ بما يفوق وزنها العددي بين السكان، (ولا تسبقها، على الأقل في البرازيل- بحسب البروفيسور سيرجيو لامارون- سوى الجالية الإيطالية).

في عدد كبير من دول أميركا اللاتينية، انقسمت المجتمعات حول ثنائية حزبية محافظة/ ليبرالية، وهو ما يشبه القسمة بين الحزبَين «الجمهوري» و«الديموقراطي» في الولايات المتحدة. كان أسهل على السياسيين من أصل عربي الانتساب إلى «الحزب الليبرالي» لأن «الحزب المحافظ» كان عادةً حزب ملّاك الأراضي والبرجوازيات القديمة. تمثل عائلة طربيه في كولومبيا حالة نموذجية عن هذا المنحى. عام ١٩٤٦، ترشح الطبيب غبريال طربيه عن «الحزب الليبرالي» ولم ينجح بسبب تفتّت أصوات الليبراليين بين مرشحَين، بعكس خوليو سيزار طربيه الذي ترشح وفاز عن الحزب نفسه بعد ثلاثين عامًا.

أبعد من الانتساب الحزبي التقليدي الذي تراجع مع مرور السنين أمام أشكال جديدة، يمينًا ويسارًا، يمكن تمييز طريقين للاختراق السياسي. الأول، قريب من الفكر المحافظ ومن الطبقات الحاكمة، وهو، بحسب لامارون، يمرّ عادةً من رئاسة الطامح إلى المنصب مؤسساتٍ اقتصاديةً كجمعية التجار أو الصناعيين، أو من خلال خبرة اكتسبها قبل أن يضع نفسه بخدمة أقارب هم من أغنياء البلد أو أقويائها. والثاني، ناتجٌ ممّا يسمّيه بيتانكور «قدرة الاقتراب من الشعب»، ويمكن وصف تلك القدرة بأنها «شعبية» أو «شعبوية» بالمعنى الأصلي للكلمة، برغم اختلاف نماذجها اليمينية واليسارية.

في الرئاسة والنضال الشيوعي

نستعرض في ما يلي بعض الأمثلة لإلقاء الضوء على هذه الثنائية، وكان يمكن استعراض عشراتٍ غيرها من تلك الدول أو من دول أخرى. نبدأ من الأرجنتين، ومن الرئيس كارلوس منعم، الذي قد يكون أشهر سياسي من أصل عربي في القارة الجنوبية. منعم من أصل سوري، احتلّ سدّة الرئاسة لولايتين خلال أكثر من عقد، وهو رقم قياسي في تاريخ البلد. انتُخب ممثلاً عن «الحزب البيروني» عام ١٩٨٩ للمرة الأولى، و١٩٩٥ للثانية. لكنه سرعان ما صار يمثّل «المِنعمية»، أي صار يخدم مصلحته الشخصية، إلى درجة أنّ عدد خصومه داخل «الحزب البيروني» فاق عدد حلفائه، ما يفسّر نجاحهم في منعه من العودة إلى السلطة لاحقًا. ويمثّل منعم، الذي خصخص الاقتصاد، نموذجًا للشعبوية «اليمينية» القادرة على التواصل والتحالف في الاتجاهات كافة.

من بين الوجوه السياسية الأخرى المرموقة من أصل عربي التي سبقت منعم، نذكر فيسينتي سعدي، وهو زعيم مناطقي وأحد أركان «الحزب البيروني» خلال الأربعينيات. أما فرناندو ندرا فمثّل نموذجًا آخر، إذ كان محاميًا وصحافيًّا لامعًا، وكان سبّاقًا في كل مواقفه داخل «الحزب الشيوعي»؛ من محاربة الفاشية في الأربعينيات، إلى فتح الحوار مع الكاثوليك في الخمسينيات، وصولاً إلى دعم الثورة الكوبية خلال الستينيات. وكان ندرا من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان خلال فترة الدكتاتوريّتين العسكريتين ومن أهم مهندسي الجبهات الحزبية لاستعادة الديموقراطية. في أواخر حياته، استقال من «الحزب الشيوعي» بعد اعترافه بفشله في «تغيير منحاه الستاليني»، لكنه رفض الترشح على لوائح أخرى بالرغم من الدعوات التي وجهتها له أكبر الأحزاب.

على العكس من ندرا، فضّل فكتور مسّوح أحد ألمع الفلاسفة الأرجنتينيين، قبول المراكز التي عرضتها عليه الدكتاتورية العسكرية الثانية (١٩٧٦-١٩٨٣) والدفاع عنها في المحافل الدولية مثل «الأونيسكو».

بين آل بو كرم وآل معوّض

أمّا في الإكوادور فأشهر شخصية سياسية من أصل لبناني هي أسعد بو كرم، رئيس اللجنة الأولمبية وعمدة مرفأ «غوياكيل»، المدينة الأولى في البلاد. حاربته الدكتاتوريات العسكرية فأجبر على مغادرة البلد أكثر من مرة، ومنعته من الترشح لرئاسة الجمهورية عام ١٩٧٨ لكنه نال أكبر عدد من الأصوات في انتخابات مجلس النواب ونجح في إيصال مرشحه خايمي رولدوس، المتأهل من ابنة أخيه، لرئاسة الجمهورية.

ترأس بو كرم مجلس النواب بعد وفاة الرئيس رولدوس وزوجته في حادث طائرة تحوم حول المخابرات الأميركية شكوك كبيرة بتدبيره. بعد وفاة رولدوس، أسس شقيق زوجته، عبدالله بو كرم، مديرُ الشرطة في غوياكيل، حزبًا سياسيًّا باسم «الحزب الرولدوسي» وسرعان ما سار على خطى عمّه أسعد. شغل بو كرم منصب عمدة غوياكيل عام ١٩٨٤ قبل أن يغادر البلد بسبب انتقاداته للقوات المسلّحة. ووصل إلى سدة الرئاسة بعد محاولته الثالثة عام ١٩٩٦. لم تكن له سمات السياسي «الشعبوي» المتكامل– حافظ على الشكليات التي يسير عليها أبناء النخبة خلال اجتماعات مجلس الوزراء، مع أنه شارك في برامج فكاهية ووضع اسمه على قناني الحليب التي كانت توزّع على الفقراء. لم تدُم رئاسة بو كرم أكثر من خمسة أشهر ونصف، إذ أقاله مجلس النواب بعد «التشكيك بقدراته الذهنية» وبعدما قررت النخب الإيكوادورية إطاحته بالتوافق بين كل الرؤساء السابقين وعمدة العاصمة كيتو جميل معوّض ونزولاً عند ضغط التظاهرات الشعبية.

عام ١٩٩٨ انقلبت الآية: انتُخب جميل معوّض بعد محاولته الثانية اعتلاء المنصب بفارق بسيط ضد مرشح «الحزب الرولدوسي». وجميل ابن مهاجر لبناني وأم ألمانية، ويمثل نموذجًا «نخبويًّا»، بعكس نموذج بو كرم «الشعبوي». متخصص في الإدارة العامّة، أثبت جدارته في العاصمة كيتو التي هي المنافسة الدائمة لغوياكيل. بدأ ولايته بالتوصل إلى حلّ نهائي للخلاف الحدودي التاريخي مع بيرو، لكن سرعان ما نالت من معوض ذيول الأزمة الاقتصادية الناجمة عن إفلاس النظام المصرفي. حاول بدايةً إنقاذ المصارف بتوفير الموارد من احتياط المصرف المركزي، ثم أُجبر على حجز ودائع الناس قبل اللجوء إلى دولرة الاقتصاد، فحلّت العملة الخضراء محل العملة الوطنية، ما زاد التضخم بشكل جنوني. كلّفت السياساتُ المتتالية الإيكوادورَ ستة مليارات دولار، ما سمح لنخب غوياكيل بأن تعود وتنتقم هذه المرة من كيتو ومن ممثلها في السلطة. كما دخلت الشعوب الهندية لاعبًا جديدًا، ما جعل القوات المسلّحة ترفع غطاءها عن معوّض الذي أقيل بدوره بعد سنة ونصف السنة من تولّيه الرئاسة.

السياسيون الفلسطينيون في أميركا الوسطى

ننتقل إلى أميركا الوسطى حيث السياسيون من أصل عربي فلسطينيون. عام ١٩٩٨، انتُخب مرشح الحزب الليبرالي كارلوس روبيرتو فقّوسة رئيسًا لدولة هوندوراس- وأصل عائلته من بيت لحم. عُرف عن عمّه ميغيل أنه ظل أغنى رجل في هوندوراس خلال عقود، واشتهر بقمعه احتجاجات العمّال الزراعيين على أراضيه. لم يتلطخ كارلوس بهذه القربى وتميّز بإدارة حكيمة للبلد تحت إشراف صندوق النقد الدولي عندما ضربه إعصار «هيتش» الذي خلّف ستة آلاف قتيل واثني عشر ألف مفقود ودمّر ثلث طرق المواصلات. عام ٢٠١٤، انتُخب خوان أورلاندو هرنانديز رئيسًا للجمهورية وتميّزت ولايته بتفشّي الفساد. عام ٢٠١٨، أراد تجديد الولاية مخالفًا الدستور، فترشح ضده سالفادور نصرالله، وهو صحافي رياضي ومذيع تلفزيوني كان قد أسّس عام ٢٠١١ «حزب محاربة الفساد». ويُجمع المراقبون المحليون والدوليون على أن نصرالله هو الذي فاز في الانتخابات عام ٢٠١٨ وأن النتائج التي أعلنت فوز هرنانديز مزوّرة. وفي انتخابات العام ٢٠٢١، انتُخب نصرالله نائبًا للرئيسة شيومارا كاسترو، زوجة الرئيس مانويل زيلايا الذي أقاله انقلاب عسكري مدعوم من الولايات المتحدة في ٢٠٠٩ عندما اقترب من الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز.

بموازاة الحرب الدائرة في نيكاراغوا، عرفت السلفادور، أصغر دولة في أميركا الوسطى، حربًا دامت من عام ١٩٨٠ إلى ١٩٩٢، وكلّفت آلاف القتلى والمفقودين. وقد تحوّلت الأطراف العسكرية بعد انتهائها إلى أحزاب سياسية متنافسة على السلطة. عام ٢٠٠٤، كان أبرز المرشحين إلى الرئاسة أنطونيو سقّا (٣٩ عامًا) عن الحزب اليميني «أرينا»، وشفيق حنظل (٧٤ عامًا) وهو قائد «جبهة فرابندو مارتي» اليسارية. الطريف في الموضوع، أن أصل العائلتين من بيت لحم، وقد وصلتا إلى السلفادور بين عامَي ١٩٠٤ و١٩٠٨. بعد حقبة في التجارة المتجوّلة، صارت عائلة حنظل من العائلات الكبرى وعملت في قطاع مواد البناء وتملّكت ملّاحة. أما عائلة سقّا فكانت تعمل في تجارة النسيج ثم دخلت قطاع زراعة القطن. وبين العائلتين زيجات وصداقات، فأهل شفيق كانا شاهدَي زواج أهل أنطونيو. وبحسب بعض الأقوال، شفيق اليساري هو مَن حمَل الرضيع أنطونيو، اليميني اليوم، بين ذراعيه عند عمادته. وشفيق هو أمين عام «الحزب الشيوعي» منذ عام ١٩٧٤. أما أنطونيو، فبدأ حياته مذيعًا رياضيًّا وقد كسب شعبية مميزة قبل أن يتقرّب من الحزب الحاكم ومن المليشيات اليمينية ليصبح مرشح ذاك وتلك على الرئاسة. فاز سقّا بنسبة ٥٧٪ من الأصوات فيما لم ينَل حنظل إلا ٣٨٪.

بعد أربع ولايات يمينية متتالية، نجح اليسار في الوصول إلى السلطة لمرّتين متتاليتين في السلفادور. تناوب الحزبان على السلطة من دون أن يحلّ أيّهما مشاكل الناس في اقتصادٍ يتحكم به سعر طنّ القهوة فيما تتضخم مشاكل الأمن أمام انسداد الفرص. سمح هذا الواقع لشابّ فلسطيني الأصل يدعى نجيب بوكيلة بأن يشقّ طريقه نحو الرئاسة عام ٢٠١٩ على حساب الحزبَين. ونجيب ابن أرماندو بوكيلة رجل أعمال. وأرماندو ابن مهاجر مقدسي وسيدة من بيت لحم. اعتنق أرماندو الإسلام في السبعينيات وصار إمام الجالية المسلمة في السلفادور إلى جانب أعماله التجارية. وكانت شركة «ألرماندو» تشرف على دعاية جبهة «فرابندو مارتي»، ما ساهم في أن يصبح ابنه نجيب عمدةَ العاصمة باسم الحزب اليساري حيث كان أداؤه مميزًا. لكنّ نجيب ترك الجبهة اليسارية لاحقًا ليؤسس حزبًا جديدًا، وقد تمّ انتخابه رئيسًا للجمهورية من الجولة الأولى، فكان أول رئيس لا ينتمي إلى أيّ من الحزبين.

استثمر نجيب بوكيلة رفضَ الناس للأحزاب ومارس سياسةً متشددةً في محاربة الجريمة تسمح له ببناء نوع من «الشعبوية» الجديدة. فور وصوله إلى السلطة، حلّ بوكيلة الهيئة الموكلة بمحاربة الفساد ودخل في صراع مفتوح مع القضاة. حوّل السلفادور إلى أول بلدٍ في العالم يتبنّى عملة «البيتكوين»، في خطوةٍ يخشى بعضُ الاقتصاديين أن تؤدي إلى كارثة. وقد وضع أشقاءه في مراكز حساسة في الدولة، ويعتقد الكثير من المراقبين أنه سيحاول تجديد الولاية، الأمر الذي يمنعه الدستور. وبالرغم من شعبيته الكبيرة، انقسمت الجالية الفلسطينية حول أداء بوكيلة لأنه زار فلسطين المحتلة كرئيس للسلفادور.

في بوليفيا، لا يمكن تجاهل شخصية سياسية مثل خوان ليشين أوكيندو. والأخير ابن مهاجر لبناني وأم بوليفية، وهو بلا منازع أهمّ شخصية نقابية في القرن العشرين عرفها البلد الذي يشكّل الهنودُ أكثر من ثلثَي سكّانه. في شبابه، كان خوان ليشين لاعب كرة قدم ماهرًا وصار «كابتن» المنتخب الوطني. عُيّن محافظًا في منطقة المناجم، الأمر الذي قرّبه من العمّال. وقف إلى جانبهم في نزاعاتهم مع الشركات فدعوه عام ١٩٤٤ إلى أول مؤتمر لعمّال المناجم، ثم انتخبوه في العام التالي أمينًا تنفيذيًّا للنقابة، وبقي في هذا المركز حتى ١٩٨٧. قاد ثورة عام ١٩٥٢ التي أوصلت «الحركة الوطنية الثورية» إلى السلطة. وكانت الحركة ائتلافًا بين السياسيين والنقابيين، وبين الليبرالييين والشيوعيين. خلالها، كان خوان ليشين على رأس عمّال المناجم الذين احتلوا قيادة أركان الجيش واقتحموا القصر الجمهوري. أسس «الاتحاد العمّالي البوليفي» عام ١٩٥٢ وقاده حتى ١٩٨٧. انتُخب نائبًا للرئيس من ١٩٦٠ إلى ١٩٦٤، ثم اختلف مع سياسيّي الحزب وأسس حزبًا يساريًّا جديدًا. كان خوان ليشين دائمًا في طليعة مقاومي الانقلابات العسكرية المتتالية، وقد عُرف بصانع الرؤساء.

من سيخلف لولّا؟

أخيرًا وليس آخرًا، تأتي البرازيل. يرى لامارون، الذي درس «تأثير أبناء السوريين واللبنانيين في البرلمان البرازيلي بين ١٩٤٥ و١٩٨٨»، أن صعود هؤلاء بدأ خلال الثلاثينيات لكنّه تسارع بعد سقوط نظام «الدولة الجديدة» في نهاية الحرب العالمية الثانية. على الصعيد الشعبي، راوحوا مكانهم خلال النظام العسكري (١٩٦٤- ١٩٨٤) الذي علّق الانتخابات مع أنّ العسكر عيّنوا سعيد فرحات وزيرًا للإعلام في نهاية السبعينيات (قبل أن يقيلوه)، وإبراهيم أبي عقل وزيرًا للعدل. في ظلّ النظام العسكري، كان باولو معلوف أبرز شخصية سياسية عربية. ترأّس جمعية تجّار سان باولو وهي أغنى ولاية برازيلية، قبل أن يعيّن عمدة المدينة نهاية الستينيات وحاكم الولاية نهاية السبعينيات. وكان أول رئيس جمهورية مدني في نهاية الحكم العسكري إلا أنّ شخصيته الحادّة شقّت حزب العسكر ما سمح بانتخاب مرشح المعارضة. وكان يقال عنه إنه «يسرق لكنه يعمل».

ومن الشخصيات التقليدية التي عارضت النظام العسكري تاسو جريصاتي في شمال شرق البرازيل، الذي انتُخب حاكمًا لولاية «سيارا»، وجوزي ريشا في الجنوب، الذي انتُخب حاكمًا لولاية «بارانا». ولا بدّ من ذِكر ميشيل تامر، نائب الرئيسة ديلما روسيف والذي تواطأ مع أعدائها لإقالتها عام ٢٠١٦. على الضفة الأخرى، ساهم جاكو بيطار، ممثّل نقابات عمّال النفط، في تأسيس «حزب الشغّيلة» إلى جانب إيناسيو لولّا دا سيلفا عام ١٩٨٠. ويُعتبر الأستاذ الجامعي فرناندو حدّاد (مواليد ١٩٦٣) من أبرز الشخصيات المقرّبة من لولّا. وقد ترشّح حدّاد إلى رئاسة الجمهورية بعد اعتقال الزعيم العمّالي بهدف منعه من الوصول للرئاسة عام ٢٠١٨، لكن اليميني جايير بولسونارو فاز بالرئاسة في الدورة الثانية. قبل ذلك، شغل حدّاد منصب وزير التعليم من ٢٠٠٥ حتى ٢٠١٢، وهو مصمّم برنامج «الجامعة للجميع» الذي يوزّع منحًا جامعيةً على الطلاب الفقراء. وقد انتُخب عام ٢٠١٣ عمدةً لمدينة سان باولو.

إلى ذلك، يُعتبر الطبيب النفساني غيليرمي بولس شخصيةً مقربةً من لولّا مع أنه لا ينتمي إلى «حزب الشغّيلة» بل إلى حزب يساري آخر هو «اشتراكية وحرية» منشقٌّ عنه. وبولس هو المنسّق الوطني لـ«حركة الشغّيلة من دون سقف» في الوصول إلى الدورة الثانية في انتخابات عمدة مدينة سان باولو عام ٢٠٢٠. وفيما يمثّل حدّاد، وهو من أقرب المعاونين للولّا، اتجاهًا معتدلاً في «حزب الشغّيلة»، يذكّر غيليرمي بشخصية لولّا في الثمانينيات وقد أضاف إليها النضالات الجديدة مثل البيئة وحقوق الأقليات الجنسية والحق بالسكن وغيرها. ويبقى السؤال الذي ينقسم حوله المراقبون والمناضلون: مَن سيخلف لولّا عندما يحين الوقت؟ فرناندو أم غيليرمي؟

في الأدب والصحافة واللغة والاندماج

تأسّست «الرابطة القلمية» في نيويورك داخل منزل جبران خليل جبران عام ١٩٢٠ وتفككت عام ١٩٣٢ بعد وفاته، وقد أرادت «أن تكون لأدباء المهجر رابطةً تضمّ قواهم وتوحّد مسعاهم في سبيل اللغة العربية وآدابها»، بحسب رواية ميخائيل نعيمة الذي كان أحد مؤسسيها. وكأنّ «العصبة الأندلسية» انتظرت أفول شقيقتها الكبرى في الولايات المتحدة لتنطلق في مطلع كانون الثاني/ يناير ١٩٣٣ في سان باولو بالبرازيل. وفي الحقيقة، قبل «العصبة»، كانت هناك جمعيات أدبية في أميركا الجنوبية، ومنها «رواق المعرّي» التي أسّسها نعوم لبكي عام ١٩٠٠ واستمرت حتى ١٩١٤.

بينما زاد عمر «الرابطة» على العقد بقليل، استمرّت «العصبة» لعقدين من الزمن وكانت اهتماماتها أوسع. أسّسها ميشيل معلوف، وترأسها بعد وفاته الشاعر القروي (رشيد سليم الخوري) ثم الشاعر شفيق المعلوف، وأضاف كلٌّ من هؤلاء إلى ميزاتها ميزات. وبينما تميّزت «الرابطة» بالتجديد، عُرفت «العصبة» بالأصالة الأدبية. كانت تغطي دولاً عدّة، وتطرح نفسها مكمّلةً لعلاقة أدبية بدأت في الأندلس بين الحضارة العربية والحضارات اللاتينية. كما ربطتها بدول المشرق علاقة وثيقة، ولم يتردّد أعضاؤها ومن لفّ لفّهم في التنديد بالعثمانيين ولكن أيضًا بالفرنسيين والإنكليز، والدفاع عن فلسطين، وصولاً إلى تأييد حركة الضبّاط الأحرار في مصر. ومع أن «العصبة»- كما تقول الباحثة كلود حجار- شكّلت «مساحةً من مساحات اللغة في الأمة ولم تكن مجالاً من مجالات الجالية»، إلا أنها ساهمت في إنعاش الصحافة العربية في المهجر، وكانت لها مجلة أنيقة حملت اسمَها واستمرّت بالصدور حتى الخمسينيات.

ويُقدَّر عدد الصحف والمجلات والنشرات العربية في أميركا اللاتينية بحوالي ثمانمئة، نصفها تقريبًا في البرازيل بحسب سليمان زغيدور. وبين الباقي عددٌ لا يستهان به في الأرجنتين وتشيلي، على أنّ القسم الأكبر من تلك المطبوعات لم يعمّر طويلاً، وما استمرّ منه بدأ باللغة العربية ثم صار يصدر باللغتين العربية واللاتينية قبل أن يقتصر على الإسبانية أو البرتغالية. ولهذا التطور منطق داخلي مرتبط بتطور عملية الاندماج في دول أميركا اللاتينية. في البداية، كانت الصحف والنشرات تصدر لجمهورٍ حائرٍ بين البقاء والعودة، وكانت تنطق أحيانًا كثيرةً باسم أفكار سياسية صاعدة في المنطقة؛ من الفكر القومي الاجتماعي إلى الفكر العروبي مرورًا بالعقائد المرتبطة بالدول الناشئة. وقد لعبت الصحافة المهاجرة في أحيان أخرى دور أداة تواصل وتماسك بين أعضاء الجالية لنقل أخبارها، إضافةً إلى دورها في التصدي للفكر العنصري الذي يصرّ على حصر الحضارة بالشعوب الأوروبية ويروّج لاستحالة دمج «الأتراك». ومع تقدّم عملية الاندماج، صارت مهمة إبراز معالم الحضارة العربية ومساهمتها في الحضارة العالمية (لم يعد هناك مجال للخصوصيات المشرقية المناطقية) تفترض إيصالها عبر اللغات اللاتينية.

تبقى مسألة تعلّم اللغة العربية. كان هناك في كل دولة معلّمون وقيّمون على مدارس منحوا كلّ ما يملكون من إرادة وعاطفة للإبقاء على العربية لغةً حيّة. وكانت المسألة حينها لا تزال تتفاعل مع راهنية العودة، لكن كلّما ابتعدت الأخيرة، تراجعت المدارس وذلك منذ عشرينيات القرن الماضي، واستمرّت بالتقلّص في ثلاثينياته حتى انتهت في الأربعينيات لأنها لم تكن متطابقة مع أولويات الاندماج، التي قضتْ بأن يحْسِن المهاجرون التكلم بالإسبانية والبرتغالية. وقد فرض هذا السؤال نفسَه بإلحاح وأدى إلى خيارٍ قاسٍ وقع من دون سابق إنذار على الجيل الثاني. ففي البرازيل مثلاً، عند بداية الحرب العالمية الثانية، وإزاء التخوّف من نشاطات الجاليات الأجنبية، تم رسميًّا منع تعليم اللغات الأجنبية وتغيير أسماء الجمعيات والمدارس والنوادي لتكريس تلك الوجهة. أما اليوم، ومع اكتمال عملية الاندماج، فقد باتت مهامّ تقديم الحضارة العربية أو تعليم لغتها أو دراسة تاريخ الجاليات أو تنشيط حركة الترجمة، تتمحور حول الجامعات ومعاهدها المتخصصة (إلا في حالة المدارس الإسلامية) من دون أن يكون الأساتذة والطلاب بالضرورة من أبناء الجالية.

كثيرة هي نماذج التأثير والاندماج والتثاقف. من يعرف أثر النموذج البرازيلي الاندماجي في تكوين الشاب أنطون سعادة وحجم التعديلات التي أدخلها الرجل على فكره خلال إقامته الثانية في الأرجنتين؟ أما نجيب حنكش، الملقّب بـ«ظريف لبنان»، فقد عاش القسم الأكبر من حياته في البرازيل، ولم تكن لديه أي مشكلة في الإقرار بأن قسمًا أساسيًّا من «ظرفه وفكاهته» ومن «مهنيته الإذاعية» استمدّه من بلاد السامبا. ومن أسرار آليات التثاقف أنّ شركة «يازجي»- الأولى في تعليم اللغات بالبرازيل – في ما يشبه معاهد «برليتز» الأوروبية- فلا تدرّس اللغة العربية. القاموس في البرازيل أيضًا يحمل اسم رجل عظيم من أصل عربي- يقولون «هويس» للتدليل على القاموس كما يقول الفرنسيون «لاروس»- لكنّ أنطونيو هويس لم ينطق يومًا كلمةً واحدةً بالعربية.

رضوان نصار هو ابن مهاجرين لبنانيين من إبل السقي في قضاء مرجعيون غادرا لبنان عام ١٩١٩. نصار الذي أوقف تباعًا دروسه في الفلسفة والحقوق ليتخصص في تربية الحمام والأرانب نموذجٌ لافتٌ لما نسمّيه «التثاقف». توقف عن الكتابة بعد صدور روايته «حراثة بالية» (كُتبت وصدرت عام ١٩٧٥) التي تعتبر من روائع الأدب البرازيلي المعاصر. وتحمل روايةٌ سابقةٌ له عنوان «كأس من الغضب» (صدرت عام ١٩٧٨ لكنها كتبت في عام ١٩٧٠)، إضافةً إلى عدد من القصص القصيرة. وبعد اشتهار روايته فضّل رضوان نصار ترك المدينة والاستقرار في الداخل في مسار معاكس لمسار بطل روايته، حيث يغادر شابّ ريفي عائلته الزراعية هربًا من جوّها المحافظ والخانق والمكبَّل بالماضي ليستقرّ في المدينة. يقول الأستاذ الجامعي والشاعر ميشال سليمان إن «نصار نجح في وصف حالة إنسانية عامة يتعرّف إليها الجميع، مهاجرين كانوا أم لا، من أصل عربي أم لا».

هذا هو لبّ المواجهة التثاقفية لأنها بالفعل مواجهة، ولكن لا ينبغي مقاربتها بمقاييس الربح والخسارة، ويصعب تحديد المساهمة فيها إذا بقيت تحصي ما فات المهاجر من حضارته الأصليّة: إن مساهمة المهاجرين العرب في البنيان الثقافي لدولهم أو للثقافة الكونية في العولمة لا تحمل رايات عربية، بمعنى أنهم ليسوا مبدعين في نشاطات «عربية» متخصصة قدر ما هم مبدعون في نشاطات ثقافية. وإنهم ناجحون باعتراف شعوب دولهم ونقّادها (إلا عند العرب) ليس لكونهم عربًا بل بصفتهم مواطنين من هذه الدول ناجحين في مجالاتهم.

في الفنون

تشكّل العيّنة الثقافية الفنية الآتية عيّنة عشوائية، الغاية منها إلقاء الضوء على بعض الوجوه المجهولة في العالم العربي وعلى تنوّع المجالات الفنية والثقافية التي برعَت فيها. في عالم الموسيقى الشعبية في البرازيل، اخترنا من حقبة السبعينيات خوان بوسكو وإغبرتو جيسمونتي. الأول ابن مهاجر لبناني، وهو مؤلف ومغنّ شهير أعطى المغنية إليس رجينا، الغنيّة عن التعريف، بعضَ أجمل أغانيها. والثاني ابنٌ لأبٍ لبناني وأمّ إيطالية من صقلية. أدهش أوروبا بموسيقاه المميزة التي دمجت الجاز بموسيقى الشعوب الأمازونية. يمكننا أيضًا ذكر السينمائي والتر هوغو الخوري، وهو أيضًا ابنٌ لأبٍ لبناني وأمّ إيطالية، وقد أخرج ٢٥ فيلمًا ومثّل البرازيلَ مرّتين في مهرجان «كان».

من عالم الموسيقى أيضًا في الأرجنتين ثلاثةُ وجوه من الهجرة السورية: خورخي أنطونيو كفرون الملقّب بـ«ال تركو»، وهو من أشهر المغنّين والباحثين في الفولكلور. يعتبر أيقونة موسيقية في إسبانيا التي نُفي إليها، وهناك شكوك تحوم حول ظروف وفاته في حادث سيارة عام ١٩٧٨ لأنه اشتهر بمعارضته للدكتاتورية العسكرية. والثاني هو إدواردو جميل فالو، مؤلف أكثر من ٢٠٠ لحن، خصوصًا الفولكلورية. عمل على تعريف الجمهور بالألحان التقليدية، عازفًا على الغيتار في حفلات مرسيديس سوسا، وأسهم في الوقت نفسه مع «حركة الأغنية الجديدة» الملتزمة سياسيًّا. والوجه الثالث هو ميغيل أنجيل إستريا (وهي ترجمة إسبانية لاسم عائلة «نجم»)، ابن فلّاح هاجر إلى بوليفيا ومن ثمّ إلى الأرجنتين. أمه هندية من شعوب بوليفيا الأصلية. وأنجيل إستريا عازف بيانو كلاسيكي بارع خُطف وعذّب من قبل المليشيات اليمينية خلال الدكتاتورية العسكرية لقربه من مجموعة «المونتونيروس» البيرونية اليسارية. سجن لثلاث سنوات، حيث كان يعزف على «بيانو أخرس» كما كان يقول، قبل أن تفرج عنه حملة تضامن دولية عام ١٩٨٠. عُيّن سفيرًا لبلده في الأونيسكو بعد سقوط النظام العسكري، وكان عضوًا في محكمة راسل عن فلسطين عام ٢٠٠٩.

تنتمي الوجوه الآتية إلى دولٍ ثلاث: في تشيلي المخرج ميغيل ليتين (والاسم الأصلي «اليتيم»). ابن مهاجر فلسطيني من بيت ساحور وأم مهاجرة يونانية. بدأ ليتين مخرجًا وثائقيًّا في التلفزيون التشيلي وعُرف في فيلم «ضبع» عن الفلاحين الفقراء في الريف، وسلّمه الرئيس ألليندي إدارة الشركة الرسمية للأفلام. هرب إلى المكسيك بعد الانقلاب العسكري ومنها إلى إسبانيا حيث صوّر أهم أفلامه، وهو القائل «السينما التي لا تبحث عن الحقيقة ليست سينما»؛ «السينما هي كاميرا باليد وأخرى بالرأس». عام ١٩٨٥ عاد ليتين إلى تشيلي سرًّا ونتج من هذه المخاطرة فيلمٌ وثائقي حول ظروف الحياة تحت الدكتاتورية خلال الثمانينيات وقد نجح في التسلل إلى قصر بينوشيه! اشتهر بعدما روى غابريال غارسيا ماركيز مغامرته في رواية. شارك ليتين خلال التسعينيات في لجنة تحكيم بدمشق، والتقى بأشخاص من بيت ساحور. لم يتوقف عن التردّد إلى بلدة أهله حيث صوّر «وقائع فلسطينية» (٢٠٠١) و«القمر الأخير» (٢٠٠٥)، وكانت آخر زيارة له الى فلسطين في كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٢.

والآن، حديثٌ أقلّ في السياسة. في المكسيك، الممثلة سلمى حايك، ابنة رجل أعمال من أصل لبناني وأم من أصل إسباني، اكتشفها العالم خارج المكسيك عندما أدّت دور الرسامة فريدا كاهلو (٢٠٠٢). بصفتها منتجة، أنتجت حايك عام ٢٠١٥ فيلم «النبي» لجبران خليل جيران بالصور المتحركة، وتجري أحداث الفيلم في لبنان خلال فترة الإمبراطورية العثمانية.

أخيرًا وليس آخرًا نعرّج على كولومبيا حيث ابنة رجل أعمال لبناني وأم من كاتالونيا. هاجر والدها إلى الولايات المتحدة ثم إلى «برانكييا» الساحلية خلال السبعينيات. إنها المطربة إيزابيل مبارك ريبول، المعروفة فنيًّا باسم شاكيرا. الفنانة اللاتينية التي نالت عددًا كبيرًا من الجوائز الموسيقية وحقق مبيع أسطواناتها أرقامًا قياسية على الصعيد العالمي. في إجابةٍ عن سؤال حول هويتها تقول شاكيرا: «أنا التحام fusion، هذه شخصيتي. التحام بين الأبيض والأسود، بين موسيقى الپوپ والروك، بين الثقافات، بين أبي اللبناني وأمي الإسبانية، بين الفولكلور الكولومبي والرقص الشرقي والأغنية الأميركية».


ماذا تعلّم كارلوس سْلِيم من جَدّه؟

وصل جدّ كارلوس سْلِيم إلى المكسيك عام ١٩٠٢ آتيًا من جبل لبنان الماروني رفقةَ أولاده الثلاثة، ونزلوا من الباخرة في مرفأ «تمبيكو». عام ١٩١١ انتقلوا إلى مدينة المكسيك حيث أسّسوا متجرًا لبيع حاجيات منزلية أطلقوا عليه اسم «نجمة الشرق». وُلد كارلوس في بداية العام ١٩٤٠، خامسًا في عائلة من ستة أولاد. أبوه جوليان سليم حداد- وهو أصغر الأشقاء- وأمه ليندا حلو، فصار اسم كارلوس، حسب التقليد الإسباني الذي يحفظ اسم الوالدين، كارلوس سْليم حلو. في ذاك المتجر، تلقّى كارلوس، الذي عشق التجارة منذ صغره، دروسَه الأولى في عالم الأعمال. ينقل كارلوس عن لسان أبيه الذي توفي عام ١٩٥٢ أن جدّه كان يشتري الأراضي والشقق في مدينة المكسيك في عزّ الثورة التي بدأت خلال العقد الثاني من القرن العشرين، فأخذ أبناء الجالية يحذّرونه من تبذير أمواله في هذا الظرف الدقيق. وكان يجيبهم: «بالعكس، أنتم المخطئون: هذا هو الظرف الأفضل. المهم اغتنام الفرص. اليوم الأسعار منخفضة، أما الأراضي والشقق فباقية في المكسيك، لن تغادرها».

بقيت نصيحة جده ترنّ في أذنَي سْليم. تخرّج مهندسًا، وبدأ يؤسس الشركات، أو بالأحرى يشتريها على اعتبار أنّ «في المكسيك- كما يقول- كثرة من الباعة وقلّة من الشراة». عرفت حياة كارلوس نقلة نوعية عندما نجح عام ١٩٩١- خلال موجة خصخصة الاقتصاد أيام رئاسة كارلوس ساليناس- في الحصول على شركة التليفون الثابت «تيلميكس» التي ما زالت تتحكم حتى اليوم بـ ٩٠٪ من الخطوط الثابتة في المكسيك، وتشغّل أكثر من ٢٥٠ ألف موظف وتمثل وحدها ٤٠ ٪ من رأسمال بورصة العاصمة مكسيكو. ثم انتقل كارلوس لتملّك شركة «أميركا موفيل»، أكبر شركة للخلوي في أميركا اللاتينية والتي تشغّل ٨٠٪ من الخطوط المكسيكية النقّالة. بعد العام ٢٠٠٠، صار سليم يبحث عن الفرص في الولايات المتحدة بقطاع المواصلات حيث تحوّل إلى أكبر مالك لأسهم «إم. سي. آي»، كما أنه شريك عملاق الدخان «فيليب موريس». يمكن القول إن كارلوس سْليم لم يتوقف يومًا عن تطبيق نصائح جده، ما سمح له عام ٢٠٠٧ بأن يتربّع على عرش أغنى أغنياء العالم. وقد قدّرت مجلة «فوربس» ثروته في شهر نيسان/ أبريل ٢٠٢٢ بـ٨١,٢ مليار دولار، بزيادة ١٨.٤ مليار دولار عن نيسان/ أبريل من العام السابق.


كيف شرح كارلوس منعم علاقته بالإسلام؟

في عزّ المعركة الانتخابية في الأرجنتين عام ١٩٨٩، صارت النخب الأرجنتينية المحافظة التي لا تريد وصوله إلى سدّة الرئاسة تروّج أنه مسلم، وهو ينفي المعلومة. اغتنم مروره على برنامج تلفزيوني شهير ليشرح المعادلة للصحافية التي سألته متى تخلّى عن الدين الإسلامي، فأجاب: «كان والدَاي مسلمَين يصومان رمضان، لكنّهما لم يطلبا من أولادهما قطّ اعتناق الدين الإسلامي، إنما تركا لنا الحرية المطلقة لاختيار الديانة التي نريد. لم أتخلّ عن الإسلام لأنه لم يسبق لي أن كنت مسلمًا».


پالستينو: أكثر من نادٍ، شعب بأكمله

«أكثر من نادٍ»، هو شعار فريق برشلونة في كرة القدم للتدليل على أهمية الهوية الكتالونية لدى النادي. في تشيلي، أسس شباب من الجالية الفلسطينية عام ١٩٢٠ «كلوب ديبورتيوفو پالستينو» النادي الرياضي الفلسطيني، الذي صار يتبنى شعار «أكثر من نادٍ، شعبٌ بأكمله». والنادي الذي يحمل في شعاره وعلى قمصانه الألوان الفلسطينية هو من الأندية التشيلية العريقة في كرة القدم. لم يغادر الدرجة الأولى منذ أن دخلها عام ١٩٥٣ وفاز مرتين بالدوري (عامَي ١٩٥٥ و١٩٧٨) وثلاث مرات بالكأس (١٩٧٥ و١٩٧٧ و٢٠١٨). وعام ٢٠١٤، منع الاتحاد التشيلي قمصان الفريق لأن الرقم «١» في ترقيم القمصان كان يحمل شكل خارطة فلسطين قبل التقسيم، وأجبر على تبديلها. وفي ٢٠١٦، زار الفريق فلسطين ولعب مباراتين، واحدة ضد المنتخب الوطني وأخرى ضد مشاهير فلسطينيين في الخليل. بعد الهجوم الإسرائيلي على غزة في العام ٢٠٢١، دخل لاعبو الفريق في المباراة ضد أشهر فريق تشيلي «كولو كولو»، وهم يرتدون الكوفية الفلسطينية تضامنًا مع النضال الفلسطيني. كذلك موّل الفريق أول أكاديمية كرة للأولاد في رام الله وسيدشن في القسم الثاني من هذا العام أكاديمية مماثلة في غزة. ويضمّ المنتخب الوطني الفلسطيني حاليًّا أربعة لاعبين تشيليين من أصل فلسطيني، وصل عددهم إلى سبعة، في تصفيات كأس آسيا الأخيرة.

 

العدد ٣٥ - ٢٠٢٢
الهجرة المشرقية العربية في أميركا اللاتينية ٢/٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.