العدد ٣٤ - ٢٠٢٢

مغتربو المشرق العربي في أميركا اللاتينية

في آليات التثاقف والاندماج

«إلى أين؟» سأل المخرج اللبناني جورج نصر، وهو عنوان فيلمه الأول والأشهر الذي عُرض في الخمسينيات خلال مهرجان «كان» الدولي. «إلى الأمريك»، كما كانوا يسمّون القارة الجديدة، أجابه المهاجرون الفقراء خلال مائة عام، وهم ينتظرون منها أن تغيّر مجرى حياتهم البائسة.

انتقال سكاني ضخم

في أواسط القرن التاسع عشر، بدأت هذه الهجرة. وعشية انتهاء القرن، صار المشرقيون يغادرون بالآلاف سنويًّا، وبعشرات الآلاف قبل الحرب العالمية الأولى. توقفت الهجرة خلال الحرب الكونية الأولى، ثم انتعشت خلال العشرينيات والثلاثينيات، وإنْ بنسب أقلّ. ومع الحرب العالمية الثانية، جفّت مجددًا، وعرفت نزعها الأخير في السنوات التي تلتها.

خرجت هذه الموجات المتتالية من لبنان وسورية وفلسطين وأجزاء من تركيا والعراق. ومن الممكن رصد حركة موازية لها بعد الحرب الإسبانية — المغربية، ولو بنسبة أقلّ بكثير، انطلاقًا من طنجة وتطوان، وقد عنَت اليهود خصوصًا. في المشرق، كانت المناطق المعنية هي بنسبة كبيرة جبل لبنان ومنطقتَي حمص وبيت لحم. ومن بين المهاجرين، يقدَّر أن المسيحيين شكّلوا نسبة تتراوح بين ٧٠ و٨٠٪، بين موارنة وأورثوذكس وكاثوليك. أما الباقي، فيتألف من الأقليات المسلمة كالعلويين والدروز أساسًا وليس حصرًا، من دون أن ننسى الأقلية اليهودية. ومن بين المهن المعنية، كان للفلاحين خصوصًا والحرفيين الحصة الأكبر، ولكنْ كان هناك أيضًا تجار صغار ومدرّسون وغيرهم. كانوا بأكثريتهم من الشبّان، ومن شبه الأميّين في العادة — بالكاد يفكّون الحرف ويجرون عمليات حسابية بسيطة — إلا قلة مدينية مثقفة.

تمثل هذه الظاهرة انتقالاً سكانيًّا ضخمًا بمقاييس المنطقة، إذ خرج ممّا كان يسمى سورية العثمانية ما بين خمسمائة أو ستمائة ألف مهاجر قبل عام ١٩٣٠. من الصعب إعطاء أرقام دقيقة، لكنّ الهجرة شملت ما يمثّل خُمس أو على الأقل سدس السكان، ما أدّى في بعض الأحيان إلى إفراغ ضيَع بأكملها. أما الأسباب لتفسير هذه الموجات الاغترابية، فتتشعب وتختلط وتتقاطع بحسب الحقبات: منها الأسباب الاقتصادية والاجتماعية كازدياد عدد السكان وارتفاع فائدة القروض الزراعية، وطول فترات الجفاف والأوبئة التي قضت على المحاصيل، إضافةً إلى أزمة الحرير نتيجة العلاقات الاقتصادية المستجدّة بين الأوروبيين والصين، وكذلك تغلغل المنتجات المستوردة من الخارج التي قطعت رزق الحرفيين وعمّال النسيج. ومنها الأسباب السياسية أو المجتمعية، كالهروب من التجنيد الإجباري أو من الصراعات الأهلية التي نشبت في المنطقة بدءًا من أربعينيات القرن التاسع عشر. وبالرغم من التفسيرات أو السرديات المعاكسة لدى الكثير من المؤرخين الغربيين ولدى بعض المهاجرين أنفسهم، تبقى المبررات الاقتصادية والاجتماعية هي الطاغية خلال الموجات الأولى، إذ إن أكثرية المهاجرين، حتى لا نقول جميعهم (باستثناء ربما قلّة قليلة مثقفة) لم تقارب السفر سوى من وجهة نظر عملية مؤقتة لاغتناءٍ سريعٍ قبل العودة إلى الوطن الأم. لاحقًا، شكلت حاجات المهاجرين أنفسهم باستجلاب أقارب و/أو آليات الاستقطاب التي تولّدها الهجرة نفسها أسبابًا إضافية كفيلة بتفسير جزء من استمرار الحراك.

هجرة عفوية وفردية

بدءًا من أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر وخلال حوالي قرن، صعد مئات آلاف المهاجرين المشرقيين العرب على متن سفن انطلقت من بيروت قاصدةً مرافئ أوروبية — مرسيليا، جنوة، تريست — وغيرها، بما فيها مرافئ إسبانيّة أو حتى إنكليزيّة، وذلك بحسب جنسية مالك السفينة. وفي طريقها، كانت السفن تعرّج لبضعة أيام على الإسكندرية.

في المرافئ الأوروبية، كان المهاجرون ينتقلون إلى بواخر جديدة تبحر بهم على ضفاف المحيط الأطلسي. صحيح أنّ قصص الهجرات المأساوية التي تحصل في أيامنا هذه بين أفريقيا وأوروبا مثلاً لا تفيدنا لفهم مقصد الهجرة العالمية نحو الأميركيّتين، ولا طبيعة البواخر التي كانت تحمل المهاجرين، لكنها تعطينا فكرة عن جوانب أخرى عرفها المهاجرون المشرقيون. من تلك الجوانب دور السماسرة في إقناع الشباب بالسفر وكيف كان يرهن هؤلاء وعائلاتُهم الكثير ممّا لديهم لدفع بدل بطاقة السفر (كان يقدّر سعر بطاقة الدرجة الثالثة، أي في قعر السفينة — وهو حال سفر الفقراء — بما يوازي اليوم ألف دولار). ومن الجوانب أيضًا ظروف السفر وسوء المعاملة التي تلقّاها المسافرون من البحّارة.

سُرد الكثير عن الخداع الذي تعرّض له المهاجرون خلال العقد الأول، وأحيانًا الثاني. شكّلت أميركا (أو «الأمريك» كما كان يسمّيها المهاجرون)، والمقصود الولايات المتحدة الأميركية، وجهتهم. كانوا يجهلون حتى وجود دول أخرى في تلك القارة، فتعرّضوا لخداع من قِبل أصحاب البواخر الذين كانوا يرسون بهم في موانئ أخرى على أنّها وجهتُهم أو يقولون لهم إنهم استنفدوا قيمة بطاقاتهم. دفع هذا الواقع البعضَ إلى متابعة سفره نحو مقصده الأخير بعد فترةٍ استغلّها لجمع النقود اللازمة لذلك، والبعضَ الآخر إلى البقاء والاستقرار حيث شاءت الظروف.

وهذا ما يفسر كيف «استوطن» المهاجرون المشرقيون العرب كافة دول أميركا الشمالية والجنوبية والوسطى والبحر الكاريبي، وهي ظاهرة فريدة لا مثيل لها في تاريخ الهجرات (باستثناء ربما هجرة الصينيين خلال العقود الأخيرة ولكن بنسب أقل بكثير). إن أهم الموانئ التي وصل إليها المهاجرون العرب نيويورك وإلّيس آيلاند في الولايات المتحدة، وسانتوس في البرازيل وبوينس آيرس في الأرجنتين، وفيرا كروز في المكسيك.

نقطة إضافية أيضًا مهمة للغاية، أن الهجرة العربية المشرقية، وعلى عكس الهجرات الأخرى — الإيطالية أو الألمانية أو اليابانية — في الحقبة نفسها، لم تكن منظمة رسميًّا، أي لم تكن بين دولة وأخرى، بل كانت هجرة عفوية، فردية، وإنْ كانت محتضنة عائليًّا، وهي في الأساس محتضنة من قِبل الذين بقوا في الوطن. ومع الوقت، ومع استقرار المهاجرين، صارت محتضنة على ضفّتي السفر. وفي كثير من الأحيان، كانت تلك الهجرة غير شرعية وغير مرغوبة، كما كانت ممنوعة في ظل السلطنة العثمانية والانتداب الفرنسي — الإنكليزي. كذلك الأمر، تكاثرت، خصوصًا في ثلاثينيات القرن الماضي، التشريعات في كثير من دول أميركا اللاتينية لتقييد الهجرة على بعض ذوي الجنسيات — ومنها المشرقية — أو لفرض كفالات مالية مرتفعة عليها، أو اعتمدتْ سياسة «الكوتا» كما فعلت الولايات المتحدة عندما لم تعد تسمح سنويًّا إلا بهجرة ٢٪ من مجموع المقيمين على أراضيها من الجنسية المعنيّة (قانون جونسون-ريد عام ١٩٢٤).

«تبييض البلد»

لا يمكن الحديث عن الهجرة من دون التوقف للحظة عند البلاد التي تستقبلها وتتعاطى معها. إن النخب الحاكمة في بلدان أميركا الجنوبية هي التي تتحكم بمسألة الهجرة، وقد كانت رغبتها الأصلية جلب فلاحين أوروبيين بيض ومسيحيين. هكذا، جلبوا الطليان إلى الأرجنتين بحيث تخطّى عددهم عدد الإسبان. وفي الدول التي تضمّ أفارقة مثل البرازيل، كانت الغاية «تبييض» البلد. وبصرف النظر عن الخرافة الرسمية التي تريد أن تتأسس الهوية الوطنية على اندماج الثالوث الهندي — الأبيض والأسود، شكّلت تقوية العرق الأبيض على حساب الأسود الهمَّ الأساس. ولهذه الغاية، يمكن المساومة على المسيحية وحتى على اللون الأبيض كما فعل الأميركيون الجنوبيون عندما أرادوا تشغيل اليابانيين في الزراعة. في هذا الإطار المتحرك، ما يبدو أكيدًا أنه منذ أواسط القرن التاسع عشر، وتحت ضغط الأحداث، صارت تصورات النخب الأميركية أكثر اعتباطيةً وتنوّعًا في نظرتها إلى نفسها وإلى الآخرين. وقد سَمح هذا الهامش النسبي، الناتج من تفتّت خطاب النخب (بين جزء لا يريد بعضَ الجنسيات لأسبابٍ عدة وجزء يعتبرها قابلة للاندماج)، بدخول الوافدين وبأن تشملهم الهوية الوطنية شيئًا فشيئًا ليعدّلوا فيها ويساهموا بالتالي في بناء الأمّة والنظام.

يرصد المؤرخ الأرجنتيني إيغناسيو كليش تطور تشريعات الهجرة في دول أميركا اللاتينية وتَبدّل من كان يُعتبر أفريقيًّا وآسيويًّا إلى غير ذلك بين حقبة وأخرى بسبب تبدّل الحاجات! لم يكن هذا النقاش ليعني المهاجرين، أصلاً، ولو كانوا جزءًا منه، لأن هجرتهم كانت في أذهانهم رحلة مؤقتة لسنوات معدودة تليها العودة، وينطبق ذلك تقريبًا عليهم جميعًا من دون استثناء. أما أخبار نجاح البعض وثرائهم بنِسب لم تكن متاحة في دولهم الأصلية فلم تبدّل شيئًا في هذا المجال، صحيح أنها حفّزت على الهجرة، لكنها لم تغيّر في تصور أنها رحلة «مؤقتة»، إلى أنْ كرّس الواقع القناعة العكسية. وحتى بعد عام ١٩٥٠، ترسّخت هذه الجنسيات في محل الإقامة، وانطلقت حركة عامة في الاتجاهين: وصول وعودة. هناك أيضًا من رجعوا إلى المشرق، لكنهم قرروا مغادرته مجددًا عندما واجهتهم أولى الصعوبات. على سبيل المثال، بين عامي ١٨٩٠ و١٩٥٠ دخل الأرجنتين حوالي ١٧٥ ألفًا من الـ«سيريوليبانيز» (وهو اسم المشرقيين العرب) وخرج منها أكثر من ٦٠ ألفًا، ما يعني أن العائدين مثّلوا أكثر من ثلث الوافدين، وهي النسبة الأعلى بين المجموعات المهاجرة الأخرى.

أخيرًا، لا بد من التوقف عند بعض الفوارق التي ميّزت الهجرة إلى الولايات المتحدة عن الهجرة إلى البرازيل أو الأرجنتين، حتى لو شكّلت الأخيرتان في البداية وجهين لهجرة واحدة. من حيث الأرقام المطلقة، قد تكون الهجرة إلى الولايات المتحدة أكبر عددًا، لكنها كانت أشدّ تأثيرًا في الدولتين الأميركيتين الجنوبيتين لأن التركيبة «الدولتية» أقل رسوخًا في البرازيل والأرجنتين مما هي عليه في القسم الشمالي، ما سمح بمساهمات أكثر تأثيرًا في بنيان هذه الدول، ولأن الجالية العربية تمثل عدديًّا الجالية الخامسة أو السادسة في البرازيل أو الأرجنتين، فيما هي السادسة والعشرون في الولايات المتحدة.

الشعب — المهنة أو الشعب — الطبقة

لم يعمل الفلاحون والحرفيون الذين غادروا أوطانهم في مهنهم الأصلية، بل دخلوا بلدهم الجديد من باب وحيد هو التجارة الجوّالة، أو ما عرف بتجارة الكشّة (ينسب الباحث سليمان زغيدور التسمية إلى «الكاشة» التي تعني الصندوق باللغات اللاتينية). وهذه القصة هي التي جعلت مهنًا وشعوبًا مختلفةً لفترة معينة تشكّل «طبقة» واحدة، وبغضّ النظر عن خيارات المهاجرين اللاحقة — بين عودة إلى الشرق، أو توسّع في القطاع أو انتقال إلى آخر — فهي تستحق أن تروى.

إن تفاعل التخطيط للعودة السريعة مع استحالة خرق بُنى ريفية قائمة على «اللاتيفنديو»، أي الملكيات الكبيرة، دفع المهاجرين نحو هذا النوع من التجارة، سواء في المدن أو الأرياف. في الأساس، لم تكن المهنة حكرًا على العرب، وقد مارسها غيرهم من قبل. ما فعله هؤلاء أنهم كثفوا بشكل منهجي (وعفوي في آن) شبكة العلاقات التجارية في الأحياء الفقيرة والأرياف المعزولة والمناطق البعيدة من خلال متابعة دقيقة لحركة سوق تلك التجارة وفي استباق لها، ومن خلال التصاقهم بحركة المواصلات، كسكّة الحديد، وبالدورات الاقتصادية المتنوعة (حسب الباحثة كلود حجار، عرفت البرازيل مثلاً «حقبة المطاط في الشمال والمعادن في الوسط والقهوة في الجنوب»). وفي مسار لا يخلو من المغامرة والشقاء، كانوا ينتقلون على ضفاف الأنهر مشاة، محمّلين بالصناديق على ظهورهم أو في القوارب، يتنقلون على البغال أو في القطارات لاجتياز قمم سلسلة «الأندس». شبابٌ عازبون (مثّلت الشريحة العمرية التي تراوحت أعمارها بين ١٦ و٢٥ عامًا ٤٠٪ من المهاجرين) أو رجالٌ تركوا عائلاتهم في المشرق، لا ينطقون سوى ببعض الكلمات الإسبانية أو البرتغالية تعلّموها بعد وصولهم. يبيعون القماش والمنسوجات والقبّعات والأزرار والمواد الغذائية التي لا تتلف بسرعة. لقد حدّث العرب تقاليد التجارة وحوّلوها إلى تجارة شعبية قائمة على تقسيط الأسعار، وأوصلوها إلى أبعد النقاط. فمثلاً، كان العمّال الزراعيون ينتظرون مجيئهم لأنهم ينافسون مستودعات ملّاكي الأرض ويقسّطون الدفع على زبائنهم، ولا يمانعون، عند الضرورة، مبادلة بضاعتهم بمواد غذائية ويعيدون بيعها في المدن التي يمرّون فيها. يتبضّعون لدى موزعين من أقاربهم أو من أبناء منطقتهم الأصلية؛ يسلّمهم هؤلاء البضاعة والدفع متأخر، بما يسمح لزبائنهم بتقسيط الأثمان.

من هنا، أتت أهمية العلاقة العائلية التي حضنت الهجرة والدور المحوري لـ«بطريرك» العائلة، الأقدم في الهجرة، الذي حدّد متى يجب استقدام الأخوة والأبناء والأقارب ونظّم الزيجات في المشرق كما في بلدان المهجر، وأشرف كذلك على التحويلات المالية. وتتكامل هذه المركزية العائلية (أو المناطقية) مع لامركزية جغرافية ميّزت جالية انتشرت أفقيًّا — بحكم مهنتها — فلم تتمركز في مناطق دون غيرها كما فعلت جاليات أخرى. وبسبب انتشار التجوال وابتعاده التدريجي والمنهجي من موانئ الوصول (سانتوس في البرازيل، بوينس آيرس في الأرجنتين، فالباريزو في تشيلي، برانكيلا في كولومبيا، فيراكروز في المكسيك إلخ.) نحو مدن الداخل، «مشّط» العرب في أحيان كثيرة الدولَ التي استقروا فيها بطريقة لم يفعلها من قبلهم سوى الإسبان (والبرتغاليين في البرازيل). وقد تحوّل «المالُ على الطريق» إلى بداية طريق، ليستقرّ بعدها التاجرُ الجوّال ويؤسس عمله الخاص، إما في منطقة زبائنه أو في نقطة محورية من مدينة صاعدة، أو في مركز استراتيجي على خط سكة الحديد، على سبيل المثال، شكّل ممرًّا إلزاميًّا للعمّال العائدين إلى منازلهم.

مراحل ترسّخ النخب

شكّل إرسالُ أموال لشراء أراضٍ في البلد الأم غايةَ الهجرة الأساسية، في محاولةٍ لاختصار آليات الصعود بواسطة عمّال المسافة. وسرعان ما شكلت قيمة التحويلات جزءًا أساسيًّا من اقتصاد البلد. في متصرفية جبل لبنان، مثلت قيمة تحويلات المهاجرين، عام ١٩١٧، ثلاثة أضعاف قيمة تجارة الحرير وسبعة أضعاف قيمة المنتجات الزراعية وعشرين ضعف قيمة المنتجات الصناعية، وذلك قبل أن تصبح التحويلات الخارجية ميزة بنيوية مستمرة حتى أيامنا هذه في اقتصاد البلد.

على الضفة الأخرى من الهجرة، يروي الباحث كلارك كنولتون كيف كان «المندوبون» مطلع القرن العشرين ينتظرون الوافدين عند وصول البواخر إلى مرفأ سانتوس في البرازيل وينقلونهم فورًا إلى مدينة سان باولو (المسافة ٧٥ كلم)، وتحديدًا إلى «شارع ٢٣ آذار» الذي أصبح العمود الفقري للجالية العربية. بين عامي ١٨٩٥ و١٩١٠، ارتفع عدد المؤسسات التجارية العربية في ذاك الشارع من ست إلى خمسمائة، وصار العرب يمثلون ٩٠٪ من التجار الجوّالين في المدينة ويستحوذون على ٨٠٪ من تجارة الأقمشة والأزرار. وكانوا في تلك الفترة، يسكنون في الطوابق العليا ويعملون في الطوابق السفلى. وسَمح توقف الاستيراد خلال الحرب العالمية الاولى بنموّ اقتصادي سريع، ومثلت عشرينيات القرن العشرين الفترة الذهبية (مع أنها انتهت بموجة إفلاسات نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية عام ١٩٢٩). ثم مثلت الثلاثينيات والأربعينيات فترة تثبيت وتوسيع أدّت إلى احتكار تجارة الجملة ومعها قطاع الصناعة الصغيرة المرتبط بهذا المجال. تباعًا، احتلّ المهاجرون المشرقيون المواقع الأساسية في قطاع تجارة الجملة والمفرّق إضافةً إلى الصناعة فيه، في صورة نموذجية عن القطاع الاقتصادي المندمج عموديًّا.

بالتأكيد، تشكل سان باولو المثال الأوضح والنموذج الأفضل لفهم كيفية الانتقال من التجارة الجوّالة إلى تجارة المفرّق وصولاً إلى تجارة الجملة (هناك حالات شبيهة لشارع ٢٣ آذار في ريو دي جانيرو وبوينس آيرس). يصنف البروفيسور أوسفالدو تروزي التمايز الطبقي والنخبوي الذي أخذ يترسخ في صفوف الجالية العربية ضمن ثلاث حقبات هي: عقد التأسيس وعقد مراكمة رأس المال وعقد التحول إلى رجال أعمال. مع هذه النقلة الطبقية، يغادر الأغنياء أحياء الجالية للاقتراب من أحياء النخب على صعيد السكن، حتى لو بقي جزءٌ من مستودعاتهم في مراكزه الأصلية. يصبح هنا التمايز السكاني تكريسًا للتمايز الطبقي. في سان باولو، يمكن تحديد فترة التمايز الطبقي خلال الحرب العالمية الأولى وما تلاها. صار التمايز السكني ينذر بدخول نخبة السيرو-ليبانيز في النخبة الوطنية البرازيلية، وتكتمل معالمه بالاستثمار في المؤسسات الخيرية (التي لا تتردد بالتدخّل لمواساة معذبي الحرب العالمية الأولى أو ضحايا كوارث اجتماعية محلية) وأيضًا في تأسيس النوادي الاجتماعية. مثّلت هذه النوادي مرحلة انتقالية مهمة في عملية اندماج نخب الجالية، فهي، من جهة، مراكز انتظمت على قاعدة مناطقية (نوادي جبل لبنان، زحلة، حمص، بيت لحم...) والغرض منها تكريس الوجاهة الموجهة أساسًا نحو داخل الجالية، ويُراد منها التعويض عن شقاء الحياة الماضية. وقد التقت في تلك النوادي نخب الجيل الأول التي تعرف أنها حتى لو نجحت ستبقى غير مرغوبة من قِبل النخب الأوروبية الأقدم منها. والنوادي، من جهة أخرى، مراكز اجتماعية — رياضية لأولاد النخبة، أي لجيلٍ ثانٍ تسلّم فيها الابنُ البكر الأعمال أو درس المحاسبة، فيما استثمر الأهل في تعليم أشقائه الأصغر سنًّا ضمن مدارس النخبة ليمارسوا المهن الحرة كالطب والمحاماة، وليكتشفوا متعة الترفيه ويطرقوا ربما أبواب السياسة.

الاندماج في النخب الوطنية

عام ١٩٢٨، دعا بازيليو يافد (يافث — العائد من زيارة أخيرة إلى زحلة) رئيسَ جمهورية البرازيل إلى حفل ضخم ولافت في سان باولو لتدشين نصب تذكاري تقدّمه الجالية للبلد. بدا الحفل كأنه لقاء «ديبلوماسي» بين مسؤولَيْن وشعبين، لكنه كان في الواقع مناسبة كرّست رمزيًّا دمجَ النخبة العربية في النخبة البرازيلية، وبناءً عليه الجالية العربية في الشعب البرازيلي. ومع أنها لم تأخذ بالضرورة تلك المظاهر الاحتفالية، حصلت حالات من الاندماج النخبوي نفسه خلال الفترة نفسها في كلّ الدول التي قصدتها الجاليات العربية: البرازيل والأرجنتين وكولومبيـــــــــــــــــــــــــــا — الإكوادور والمكسيك للبنانيين، الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا للسوريين، تشيلي ودول أميركا الوسطى للفلسطينيين. وللحقيقة، تتوزّع جميع الجنسيات المشرقية على كل تلك الدول، حتى وإن كانت هناك جالية أكبر عددًا من سواها في هذه الدولة أو تلك.

عندما وصلوا، كانوا كلهم «توركوس» (أتراكًا) يحملون جوازات سفر عثمانية. ثم عُرفوا بـ«سيريوس» (أي سوريين) في الفترة التي تلت وقبل أن تلحق بهم التغيّرات الحاصلة في المشرق فصاروا «سيروليبانيز» (سوريين — لبنانيين) بكلمة واحدة، ثم بكلمتَين بعد تكوّن الكيانات وترسّخها. كي يتمايزوا، استوردوا حججًا وصراعات من المشرق، وأسّسوا نوادي مميزة، كما أسلفنا الذكر، في كل الدول التي تكاثر فيها السوريون واللبنانيون أوّلها البرازيل والأرجنتين. ومن القصص الطريفة حول هذه المنافسة أن أكبر مستشفى تم تأسيسه في أميركا اللاتينية حتى يومنا هذا بقي مقفلاً لسنوات بسبب خلاف على تسميته بين الجاليتين، قبل أن تحسم السلطات البرازيلية الجدل وتسمّيه «أوسبيتال سيرو ليبانيز».

أما في الدول حيث الغلبة للفلسطينيين، مثل تشيلي أو دول أميركا الوسطى، فكان الخيار سهلاً: إنهم فلسطينيون. قبل التقسيم، تشارك العرب واليهود النوادي نفسها حسب انتماءاتهم المناطقية. أما المشرقيون العرب، فعادوا بعد الحرب العالمية الثانية وقد اندمجوا فباتوا يسمَّون ببساطة «عربًا». هناك حادثة أخرى ذات مغزى وقعت عام ١٩٣٣ في البرازيل: عرضت «عصبة الأمم»، بالتعاون مع شركة عقارية من جنوب البرازيل، جلبَ ثلاثين ألف أشوري من العراق كي يعملوا في الحقول الزراعية. انقسم البلد حول هذا الاقتراح لأسباب وحجج واعتبارات شتى قبل أن يرفضه. أما الجالية العربية فلم تنقسم، عارضته معارضة رجل واحد لأنه روى قصةً لا تعكس، بل تعاكس، قصتها الفردية والتجارية، وخوفًا من أن يعاد خلطها بالوافدين الجدد بعدما حققت اندماجها.

مثّلت هذه الحادثة النهاية الرمزية للهجرة العربية، ذلك أن أزمة ١٩٢٩ الاقتصادية العالمية والحرب الداهمة جعلتا الهجرة تجفّ تدريجيًّا. ما حرّك الهجرة من جديد أحداثٌ كبيرة في الدول العربية نفسها: حرب فلسطين ثم التأميمات في مصر وسورية، حرب ١٩٦٧، الحرب اللبنانية، وأخيرًا أحداث سورية. لكنّ قدَر هجرة المهاجرين الجدد هذه كان الاندماج التام أيضًا، أسوةً بغيرها، إلا أنها اختلفت عن سابقاتها بأنماطها وأساليبها، لأنها مُسلمة بأكثريتها، وأدركت وجهتها، ووصلت إلى أرض جاهزة لاستقبالها. لكن ما ميّزها حقيقة أمرٌ أهم، كما يذكر الباحث الأرجنتيني فرناندو رابوزي: «أنّ المشردين الجدد يشبهون مهاجري العولمة، إذ صار من الممكن أن يبقوا قريبين من النزاعات في بلادهم الأصلية حتى لو كانوا بعيدين عن البيت». يروى عن المهاجرين الأوائل أنهم كانوا يستقبلون الوافدين بعبارة «إقطع وإنسى» لمساعدتهم على تقبل الواقع الجديد. الواقع الآن مختلف، حتى لو أراد مهاجر القرن الواحد والعشرين أن يقطع أو ينسى، فلن يترك له الـ«واتساب» وتلفزيونات الأقمار الاصطناعية العربية هذه الحرية.

الأسماء والمعتقدات والزيجات

في الهجــــــــــــــــــــــــــــرة، حسب الباحث جيفري ليسير الذي كرّس أكثر من كتاب لهذه المسألة خصوصًا بين الجاليات اليابانية، يتم التفاوض الصامت بين الثقافي والاقتصادي، أي بين الهوية الأصلية وتلك المكتسبة، بحسب ثلاث استراتيجيات كبيرة: تعطيل الهوية الأصلية، تحييد الهوية الأصلية واستبدالها بهوية طبقية عند النخب، ورفض الاندماج. تقليديًّا، كان الخيار الثالث يعني مغادرة بلد المهجر. أما اليوم، فتؤمّن وسائل التواصل الاجتماعي إمكانية لرفض «ذهني» للاندماج مع واقع اندماجي «معيش»، ولو لفترة محددة زمنيًّا. أما لمن لا ينوي العودة أو لا ينتمي إلى النخبة ما يعني كل الناس في البداية وأكثريتهم في ما بعد — فلا يبقى أمامه سوى الاستراتيجية الأولى. من دون أن تنجم عن قرار إرادوي بالضرورة، تبدأ رحلة التثاقف لتطبيع المشرقيين لحظة وصولهم إلى بلد المهجر. إنهم يدرون بشكل طبيعي أن عددهم المحدود يضع المعادلة فورًا في خانة الاندماج، ويكتشفون أن النخبة الأوروبية لا تحبّهم فيما بقية الشعب تنظر إليهم بأعين حائرة: مهنتهم تقرّبهم من الناس، بشرتهم لا تخيفهم، ولهجتهم المكتسبة مادة للسخرية. أما لغتهم الأصلية فمدعاة للاستغراب.

على قاعدة نظرة الباقين إليهم، يعيّن المهاجرون العرب محطات تثاقفهم، ويبدأون بتعديل أسمائهم: تسقط أسماء العائلات أحيانًا ويبقى اسم الشخص وأبيه، وأحيانًا يترجَم اسم العائلة إلى الإسبانية أو البرتغالية عندما يعني صفة أو مهنة (حنّا الديب صار خوان لوبو، أي الذئب)، أو يحرَّف قليلاً لتحاشي معانٍ غير مرغوبة (أَزار تعني نحس بالبرتغالية فصار اسم عازار «إِزار»)، أو لإكسابه نغمة لاتينية (فوزي صار فَوستو)، أو لمعالجة صعوبة لفظ بعض الأحرف العربية كالحاء والعين. هكذا تحوّل محمد إلى مانويل، وأحمد إلى أرمندو، وكل من يبدأ اسمه بـ«عبد» صار ألبرتو. عيسى زيدان أمسك المجد من طرفيه، صار سالفادور أوليفيرا: أليس عيسى هو المخلّص، أيْ سالفادور؟ أما أوليفيرا فهي شجرة الزيتون (وهي على وزن زيدان!). وبالرغم من وجود كلمات عربية بالجملة في اللغتين الإسبانية والبرتغالية نتيجة طول الحقبة الأندلسية، لم تكن مواجهة هؤلاء الريفيين المشرقيين مع اللغة بسيطة، فلهجاتهم غليظة وهي العقبة الأصعب لاندماجهم الطبيعي. لذلك تخلّى الجيل الثاني بسرعة عن تعلّم العربية وانكبّ بكل قدراته على اللغات اللاتينية، وبقي التعاطي بالعربية محصورًا بعلاقتهم مع أفراد الجيل الأول ومخصصًا لبعض الفروض الدينية لدى المسلمين. لم تنشأ الجوامع في أميركا اللاتينية إلا في نهاية العشرينيات، ما جعل عددًا لا يستهان به من المسلمين يتبنّون الدين المسيحي بشكل فردي. أما الموارنة والروم الكاثوليك فحاولوا الاستثمار في قرابتهم اللاهوتية مع الدين الكاثوليكي المسيطر، من دون أن يخفف ذلك من الحساسية بينهم وبين المذاهب الأرثوذكسية الشرقية.

في نظرة سريعة إلى بعض المعطيات التي تغيّرت في القرن الواحد والعشرين، نلاحظ أن عودة تعليم العربية داخل الجاليات لها علاقة بالصحوة الإسلامية المتجددة. أما التنافس، وأحيانًا الخلافات، فانتقلت عند المسلمين، وصارت حكرًا على السنّة والشيعة في منطقة الحدود المثلثة بين البرازيل والأرجنتين وباراغواي. أخيرًا، كان التزاوج من داخل الجالية سياسةً منهجيةً خلال سنوات الهجرة الأولى حيث كان السفر إلى البلد للزواج تقليدًا مكرسًا. مع الوقت، توسعت الزيجات من خارج الجالية حتى صارت مقبولة من الطرفين، كدليل إضافي على اكتمال عملية الاندماج.

تراجع الهوية المميّزة

لكلّ الجاليات المهاجرة رغبة أصيلة في الحفاظ على هوية مميزة، لكنها تتراجع تلقائيًّا أمام رغبة أعمق لدى المهاجر: ضرورة الاندماج بهدف النجاح. يقول الدكتور فريدريك بارث في نص شهير نُشر في الستينيات، إن «إشكالية الحدود في المجموعات الإثنية داخل المجتمعات الحديثة ليست إلا معطى نسبيًّا ومتحركًا ومتغيّرًا». ويتابع الباحث ذو الأصل السوري بولو حلو بينتو «وخصوصًا إذا توافرت لها ظروف الاندماج لأن الهويات الإثنية في المهجر ليست هويات أساسية ثابتة بقدْر ما هي هويات محمولة أو هويات بنَتها ظروف الهجرة نفسها، والحدود التي تبنيها أو تفكّكها لا تمتّ بصلة إلى المضمون الثقافي بقدر ما هي اعتباطية ومتحركة، يتفاوض عليها الفرد باستمرار في صفوف الجالية ومع المجتمع الأكبر». عناصر هذه المواجهة التثاقفية القائمة على المفاوضة الصامتة أو حتى الكباش النفسي عندما نسقطها على الفرد تكون، في أكثر الأحوال، خاصة ومتنوعة يصعب تشريحها والجزم بآلياتها.

ما يمكن تأكيده أنّ حيرة الثقافات اللاتينية في صقل شعوبها في بوتقة واحدة وتأخُّر عملية إنجاز الدولة الحديثة (والتأخر في إلغاء العبودية في البرازيل)، تركا للمهاجرين مجالاً نسبيًّا واسعًا للمساهمة في البناء الوطني والتأثير في مضمون ما يسميه جوفري ليسير «معنى أن تكون من هذا البلد وأن يتم الاعتراف بك على هذا الأساس». عندما يتحدث البرازيلي جورجي أمادو أو الكولومبي غبريال غارسيا ماركيز عن التجار العرب الجوالين، يركزان على خصائصهم، لكنهما يشملانهم في شعبَيهما، لأنهما تعرّفا عليهم في حياتهما اليومية، الأول في ولاية باهيا والثاني في ولاية ماغدلينا قرب البحر الكاريبي. ويشكّل تصوير المهاجرين في بيئتهم الحقيقية وفي اندماجهم الناجح مقاربةً أدقّ من تلك الرائجة في السفارات العربية والتي تزايد بتعدادهم (بمجرد أن يكون لك جد عربي من أصل الأربعة!)، ما يؤدي إلى سوء تفاهم دائم كما يدل مثلاً العدد الهزيل للناخبين الذين تسجلوا في أميركا الجنوبية للمشاركة في الانتخابات اللبنانية. إذا كان صعبًا تعداد الذين تركوا المشرق العربي متوجهين إلى «الأمريك»، فإنّ من الاستحالة اليوم تحديد ماهيّتهم أو هويتهم. إنهم بعشرات الملايين، لكن ليسوا عربًا، بل مواطنون من أميركا اللاتينية من أصل عربي. بعضهم نجح في حياته اليومية وبعضهم لم ينجح. بعضهم نجح في السياسة أو الأعمال، وآخرون نجحوا في العلوم أو الفنون، لكنهم لم ينجحوا بصفتهم «عربًا» بل لكونهم مواطنين. مَن نجح، كما يلخص أوسفالدو تروزي في مقاربة واقعية محضة، هو من «تواجد في الوقت المناسب في المكان المناسب». يعبّر عن نجاحهم أحسن تعبير الرئيس البرازيلي لولا — الطفل الذي كاد يموت من الجوع وعامل الميكانيك الذي عاند القدَر وتعدّى على «مهنة» كانت محصورة بأولاد الأغنياء — عندما يخاطب سفراءه في العالم قائلاً: «كونوا مثل أهل الكشّة، احملوا البرازيل على ظهوركم».

 


«المال على الطريق»

يروي إميل فرحات في كتابه «المال على الطريق» أنّ قومًا من قدامى المهاجرين شاهدوا في مرفأ بيليم، أيْ بيت لحم، ميخائيل جريس يتوجه إليهم، فحمّلوه البضاعة، وعلّموه أسعارها ولقّنوه بعض الكلمات باللغة البرتغالية، ثم أعادوه إلى القارب وقالوا له: «اذهب من هنا، دائمًا نحو عاليّة النهر، ادخل من أول فرع حتى تصل إلى النهر الآخر (وهو نهر الأمازون) وراقب الضفة باستمرار. إذا رأيت بني آدمين ولم يكونوا عراة فهم بالتأكيد زبائن... وإن لم يكن لديهم مال فلا مانع من التبادل معهم... أما إذا كانت بضاعتهم مطاطًا، فقسِّمها على الفور لئلا تكون محشوّة بنشارة الخشب... وعندما تستطيع، مرّ من هنا مجددًا لدفع ثمن البضاعة التي أخذْتها».

المسلمون أتوا قبل العرب

عام ١٤٩٢، سقطت مملكة غرناطة وانتهت قصة الأندلس المسلمة لصالح الممالك المسيحية. خلال القرن السادس عشر، فُرضت على المسلمين كافةُ أنواع الضغوط والتشريعات — منها إجبارهم على التخلّي عن معتقدهم الديني والتنكيل بهم أو التهجير، مع وجود حالات أرحم في بعض المدن. ووجهت تلك السياسات أحيانًا بانتفاضات قام بها «الموريون»، أي مسلمو إسبانيا انتهت بتهجيرهم. وفي العام نفسه، اكتشف كريستوفر كولومبوس أميركا لصالح إحدى الممالك الإسبانية. وكان في رحلات المستكشفين الإسبان والبرتغاليين الكثيرُ من البحارة والجنود «الموريين»، بعضهم ضباط تبوّأوا مراكز مرموقة في المدن التي أسسها المستعمرون. ويتحدث التاريخ عن أمَة بيضاء من «المورو» اعتُقلت في جبال غرناطة بعدما قُتل أهلها وأشقاؤها، وقد أتت مع دييغو دي سالسيدو، أحد معاوني الفاتح بيزارو. اسمها المسيحي «بياتريس»، وسرعان ما حرّرها دييغو وتزوجها، ويقال إنها من أدخل القمح إلى البيرو وإنها كانت تواسي شقيقات وزوجات إمبراطور الإنكا المعتقل «أتاهوالبا» قبل إعدامه.

العربية لغة الثورة

تقطن في مدينة سالفادور بولاية باهيا النسبةُ الأكبر من الزنوج البرازيليين. خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، اندلعت أكثر من ثلاثين انتفاضة للعبيد، أكثر من نصفها في سالفادور. بلغ تعداد سكان المدينة ٦٥ ألف نسمة، منهم ٢٢٪ من البيض الأحرار و٤٠٪ من العبيد والباقون من المولّدين. اتفق الزنوج على القيام بالثورة ليلة ٢٣ كانون الثاني/ يناير عام ١٨٣٥ التي كانت تصادف ليلة القدر من شهر رمضان. وقد انحصرت الثورة في المدينة بسبب حرية التنقل فيها، ولم تشمل عبيدَ الأرياف، وعُرفت بـ«انتفاضة الماليه»، وهو الاسم الذي كان الأفارقةُ يعطونه للمسلمين. كما شارك فيها حوالي ٦٠٠ من العبيد من مختلف الإثنيات الزنجية المتواجدة في الولاية، وكان للمسلمين من بينهم دور أساسي في التنظيم، وقد شاركهم أيضًا الكثير من معتنقي الديانات الأفريقية. والواقع أن العبيد انتشروا في شوارع المدينة، إلا أنّ السلطات كانت على بيّنة ممّا كان يُحضّر ففاجأتهم وقمعت الانتفاضة خلال ساعات ومن دون رحمة: قُتل ٧٠ من الثوار وأعدم أربعة من زعمائهم، كما تم اعتقال العشرات وجلدهم في الساحات العامة ونفي العشرات بعدما اكتشف الأسياد مذهولين ومذعورين أنّ زعماء الانتفاضة كانوا يتواصلون مع بعضهم باللغة العربية!

الشاعر والكولونيل

مسعود سماحة (١٨٨٢–١٩٤٦) شاعر مهجري من دير القمر. غادر البلاد عام ١٩٠٠، وكان يبحث عن الذهب في الولايات المتحدة لكنه لم يعثر عليه، فتحول إلى تاجر كشّة ثم عاد إلى لبنان وأسس جريدة «دير القمر» (١٩١٢) مع نعوم البستاني. وبعدما سئم من فشل المطبوعة، ذهب مجددًا إلى مهجره حيث انخرط هذه المرة في الجيش الأميركي ووصل إلى رتبة كولونيل وشارك في الحرب العالمية الثانية، وقد توفّي بعد انتهائها بعام. كتب هذه الأبيات الشعرية:

كم طويتُ القفرَ مشيًا وحِملي فوق ظهري يكاد يقصم ظهري
كم قرعتُ الأبواب غير مبالٍ بكلال أو قرّ فصلٍ وحرّ
كم ولجت الغابات والليل داجٍ ووميض البروق شمسي وبدري
كم توسدتُ صخرة وذراعي تحت رأسي وخنجري فوق صدري
كم توغلت في البراري وقلبي سابحٌ مثل زورق في نهر
كم تعرضت للعواصف حتى خِلتُ أن الثلوج في القفر قبري

العدد ٣٤ - ٢٠٢٢
في آليات التثاقف والاندماج

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.