العدد ٣٢ - ٢٠٢١

صعود الاستهلاك المُقدّس في لبنان ما بعد الحرب

بعد الاستقلال، وخلال الفترة الممتدة من ١٩٤٣ إلى ١٩٥٢، أسّس لبنان دوره الاقتصادي «الوسيط»، حيث أُعطيت مصالح «الأوليغارشية التجارية- المالية» الأولوية في ظل ازدهار اقتصادات النفط العربية في العراق والخليج والمملكة العربية السعودية (Traboulsi، ٢٠٠٧، ص ١١٨). «كانت بيروت تتحول بسرعة إلى مركز للمواصلات الدولية» (حركة المطارات، المناطق الحرة، المصافي، خطوط الأنابيب، إلخ) بينما استوعب عدد متزايد من التجار والوسطاء هذا الدور الانتقالي، وتحوّل تركيزهم من الإنتاج (الصناعي والزراعي) إلى «التجارة والمال والاستيراد الهائل للسلع الاستهلاكية والكمالية». منذ ذلك الوقت، والضرر يلحق بالقطاعات الإنتاجية للاقتصاد اللبناني، برغم تحذير الكثيرين من «التفاؤل السائد»، ومن بينهم نعيم أمينوني، مساعد المدير العام لوزارة الاقتصاد الوطني، الذي حذّر استباقًا من أن «التجارة هي محرّك الاقتصاد لا الاقتصاد نفسه» (Traboulsi، ٢٠٠٧، ص ١١٨-١٢٠). اليوم يبلغ العدد الإجمالي للشركات التجارية والتجّار، بحسب تقارير وزارة الاقتصاد والتجارة: ٣٢٤.٥٠٨. من الأفراد ١١٦.٥٤٤ في بيروت و١١٦.٥٧٩ في جبل لبنان، والغالبية العظمى منهم تجار ١٥٢.٤٨٩ (منهم: ٣٥,١٠٥ في الاستيراد والتصدير، ٣٤,٤٩٨ في التجارة العامة، ١١,١٧٤ في الوكالات، و٧,٥٧٠ في العقارات، إلخ) (مارلين نعمة، تقرير واتصالات شخصية، ٢٨ نيسان/ أبريل ٢٠١٥). ويشكّل قطاع الخدمات أعلى نسبة من الناتج المحلي الإجمالي بين قطاعات الاقتصاد اللبناني، إذ بلغت ٣٣.٥٪ عام ٢٠١٠، تليها التجارة ٢٧.٥٪ والبناء ١٥.٢٪ والصناعة ٧.٢٪ والزراعة والثروة الحيوانية ٤.٧٪ (وزارة المالية، ملف المقاطعة ٢٠١٣، ص ٣٣-٤).

طفرة الاستهلاك

لم يتم تجاهل النصائح الجيدة فحسب، بل تكررت أخطاء الماضي أيضًا التي لا بدّ أن اللبنانيين تعلّموا منها دروسًا معيّنة، تصاحبها دعوات حنين للعودة إلى «الجنّة الضريبية» (حسب تعبير رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري) التي تتحمّل في الواقع جزءًا من المسؤولية عن اندلاع الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٩٠) (Traboulsi، ١٩٩٤، ص ١٥-١٦). بدلاً من الدعوة إلى الكبح وضبط النفس والتأمل الذاتي، ما يقود إلى السيطرة على نزعة التملّك “acquisitiveness” والإسراف التي سادت قبل الحرب، تكمن المفارقة في أن فترة ما بعد الحرب «أطلقت العنان لشهيات، وأيقظت رغبة التملك التي لا تشبع لدى الناس، ومعها الرفاهية المظهرية والنزعة الاستهلاكية والخروج على القوانين من دون أي شعور بالذنب» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١٥).

الواقع، أن البلد المتضرر، كما يرى سمير خلف، يزداد تضرّرًا بسبب «عقلية ما بعد الحرب النهمة» لدى الضحايا الذين عانوا من الدمار والفظائع العنيفة وطويلة الأمد، ويبحثون الآن عن «الملاذ والراحة المؤقتة في الدعوات المغرية للاستهلاك الجماهيري وتأليف الصور وتمثيل الذات» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١٨). نتيجة لذلك، وتماشيًا مع استنتاجات فواز طرابلسي، «تتمثل السمة المميزة لفترة ما بعد الحرب في أنّ المجتمع اللبناني يبدو أكثر فأكثر انقسامًا بين أغنياء وفقراء مع هذا التحوّل الإضافي: الإفقار المتسارع للطبقات المتوسطة» (Traboulsi، ١٩٩٤، ص ١٦). وبعد عشر سنوات من انتهاء الحرب، ما زال أفراد هذه الطبقات «يعيشون فوق إمكاناتهم ويعتمدون بشكل متزايد على قروض القطاع المصرفي أو الأموال التي يرسلها الأقارب الذين يعيشون ويعملون في الخارج» (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ٥٤).

في كتابه لبنان على غير هدى: من ساحة المعركة إلى ساحة اللعب (٢٠١٢)، يقدّم سمير خلَف تحليلاً مستفيضًا للسمات المحددة للبنان المعاصر، والتي غالبًا ما تكون منحرفة، وهي الطفرة في الاستهلاك والتملّك والاستعراض. يبدأ خلف بالإشارة إلى أن فترات ما بعد الحرب كان لها تأثير معاكس على المجتمع اللبناني، حيث الأشكال المنتظرة من التحكم وضبط النفس أفسحت المجال أمام نزعة قسرية للاستهلاك والاستعراض مفرطة ومبذّرة. علاوة على ذلك، يتم، بشكل متزايد، تحويل النزعة الاستهلاكية إلى تسليع لا رادع له. بعبارات ملموسة، «تحل السلع والخدمات السوقية محل العلاقات الشخصية والتعبيرات الثقافية والفنية وغيرها من مصادر الرفاه والهوية» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ٢٧).

يتجلى تأثير وسائل الإعلام الجديدة وتقنيات المعلومات بوضوح أكبر في حملات التسويق العدوانية والمُعيقة وفي الاستراتيجيات الإعلانية التي تطلَق على هواها في طول البلاد وعرضها. لبنان اليوم مغطى بلوحات إعلانية تقتحم المشهد البصري، ما يدل على أن قطاع الإعلان اللبناني «لا يزال القوة الأكثر إبداعًا وديناميكية في العالم العربي» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١١٦). نتيجة لذلك، لا يسلَم شيء من التسليع، إذ يتحول كل احتفال حميم أو اعتيادي إلى عرض «مبتذل وتلفيقي» للهالة والهوية. تعكس وفرة الاستعراضات «تقاليد الاقتصاد الحرّ في البلاد، ومناخ المنافسة في السوق الحرة، وتراخي قيود الرقابة، وتعكس قبل كل شيء آخر براعة وتطلعات اللبنانيين ليكونوا أحد أكثر مراكز البيع بالتجزئة حيوية في الشرق الأوسط» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١١٦).

ويرى خلف أن تصاعد نزعة الاستهلاك والسعي وراء المتعة الحسّية المفرطين هما انعكاس «لمخاوف وشكوك البرجوازية الصغيرة الجديدة وغيرها من الفئات المستبعدة والمهمّشة» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١١٧). في لبنان، تضم هذه المجموعة أفرادًا من فئات الأجراء الدنيا، وأنصاف المهنيين وأصحاب الأعمال الصغيرة، فضلاً عن الشباب العاطلين من العمل. ومن ثم، يكون السعي وراء التسوق، إلى جانب أشكال الترفيه والثقافة الجماهيرية الأخرى – الذي يتزايد في أوقات الضيق العام وتحت تأثير الإعلان الجماهيري - محاولة لتهدئة الشكوك، وإيجاد معنى للحياة وهوية ذاتية متماسكة. إن اختيارات المستهلك ليست بالضرورة قرارات عقلانية ومعزولة، لكنها بالأحرى مشبعة بالمعنى والهوية والمكانة. ويجري تسليع محاولات تأسيس الهوية في أفعال مستمدّة من نمط الحياة المنشود ومن البضائع الاستهلاكية المشتهاة. باختصار، «يحلّ المظهر محل الجوهر» بينما «تنقلب الليبرالية الجامحة بيسر إلى تسيّب أخلاقي بلا وازع» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١١٨). فتصبح النزعة الاستهلاكية آلية تستخدمها، بشكل مفرط، مجموعات يائسة ومصدومة لتعزيز «رأس مالها الاجتماعي» من خلال «لفت الأنظار» إلى استعراض باذخ للرفاهية المظهرية والسلع باهظة الثمن والتسلية الفارغة والمناسبات «الخاصة» المسرفة والمبذّرة. إلى حد أن خلف يدّعي أن «كل القضايا الحيوية المتعلقة بالهوية الجماعية، والفوارق الاجتماعية والثقافية، وعدم المساواة في نمط الحياة والاستبعاد (على أساس الجنس والعرق والولاءات الجماعية والطائفية والموقع الاجتماعي) تتشكل وتتعزّز إلى حد بعيد من خلال النزعة الاستهلاكية» (ص ١١٩). عندها يصبح استعراض الاستهلاك المسرف علامة على الوضع المالي في «ثقافة استهلاك» حيث يتم استبدال القيمة الإنتاجية بـ«القيمة الاجتماعية» التي تقوم، إشكاليًّا، على الثروة الاستعراضية، و«الطبقة المرفّهة» التي تحتقر العمل اليدوي (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١٢٣ - ٤). «إن الاستهلاك قد طغى فعلاً على الإنتاج باعتباره القوة الدافعة في المجتمع» وأصبح، كما في تعبير بورديو، «جزءًا لا يتجزأ من إعادة إنتاج عدم المساواة» (Khalaf ، ٢٠١٢، ص ١٣٠-١). هكذا يتم دفع الطبقات الدنيا لمحاكاة الطبقات العليا، لا بسبب الرغبة في الحصول على مكانة اجتماعية وحسب، ولكن أيضًا بسبب حاجتها إلى مهرب والى الغرائبية وإغراء الكيتش [الفن الهابط] والمشهدية كمنافذ «لتعزيز هوية مدمرة أو هشّة» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١٢٤).

«المولات» والشعور بالارتقاء الاجتماعي

أبرز مثال على ذلك «مولات» بيروت حيث يتسكّع الشباب المحرومون في هذه المساحات من دون نية للشراء، بل لمجرّد الرغبة بالظهور بين أصحاب القوة الشرائية ومزوّري الهويات. وتحاجج منى أباظة (٢٠٠٦) أن «النزعة الاستهلاكية، وكذلك التنزّه في مساحات نظيفة وحديثة ومكيّفة الهواء، توفر إحساسًا بالارتقاء الاجتماعي» (ص ٥٢). ومع ذلك، وتماشيًا مع دوركهايم، يحذّرنا خلف (٢٠١٢) من العواقب المقلقة لــ«غياب المعيارية الاجتماعية» في مجتمع يفشل في كبح أو ترويض رغبات الناس المفرطة بشكل كافٍ «فيحبس الإنسان في حالة من السعي الدائم دون تحقق» (ص ١٦٤). تنبع الرغبة في المحاكاة من البعد العلائقي للبنية الطبقية، حيث تكون الطبقات الاجتماعية أكثر بكثير من مجرّد فئات مكدّسة الواحدة فوق الأخرى في شكل هرمي. بدلاً من ذلك، تمثّل الطبقات الاجتماعية في واقع الأمر علاقات اجتماعية والصلات بين أفراد في المجتمع، و«هي المفتاح لفهم عدم المساواة الموجودة بينهم» (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ١١). يشرح طرابلسي هذا الجانب العلائقي من خلال اقتباس منسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب الذي يشير بشدّة إلى أنه: «ما مُتّع غنيّ إلا بما حُرم منه فقير» (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ١١). وبالتالي، لا تكون السلع الاستهلاكية والكماليات نافعة إلا بقدْر ما تخدم في تجسيد وعرض هذا التفاعل الرمزي من خلال تزييفها للهويات في العلاقات الاجتماعية. في مقابلة مع خلف (مقابلة شخصية، ٢٧ نيسان/ أبريل، ٢٠١٥) عدّد لنا أعراض «الاستهلاك السلبي» الذي ينقل رسائل الأمل الزائف و«السحر»، ومشاعر الرفاهية «المخادعة وسهلة المنال». من خلال «شحذ الشهية» وفي حالة من غياب القيود، يصبح حتى ذوو الموارد المتواضعة والشحيحة محاصَرين في الاستهلاك المسرف وغير المنتج، عالقين في الاغتراب واليأس جرّاء «السعي الدائم دون تحقق». إن الهوَس بالاستهلاك المظهري واختلاق الصور والمظاهر أمور تروق للجماهير المصابة بصدمات نفسية، وتصبح منافذ «إلهاء عام» و«وعي زائف». يجسّد خلَف الواقع الراكد جيدًا بقوله: «الجماهير المملوءة بالمرارة والمقتلعة جذورها، والمدفوعة بالرغبة في تعويض الوقت الضائع، يتم إغراؤها بسهولة عبر محاكاة زائفة وكليشيهات مبتذلة وعواطف رخيصة» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١٥). ولكن، يأتي هذا بتكلفة عالية للغاية، إذ نشهد تدهور الرفاهية الشخصية والاهتمامات والتدابير البيئية، فضلاً عن الثقافة الشعبية والسياسية الحالية. يتعامل طرابلسي (٢٠١٤) بذكاء مع هذه النقطة بقوله: «ربما نجحت النقاشات والصراعات في أواخر التسعينيات حول تقليص/ انهيار الطبقات الوسطى في إخفاء ظاهرة أطلق عليها اقتصاديون مصريون اسم «الصَرَع الطبقي» (عبد الفضيل، ٢٠١١)، وهي بعبارة أخرى، نوع من الجنون الاستهلاكي أصاب الطبقة الوسطى على مدى العشرين عامًا الماضية واستنزف الكثير من دخلها» (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ٥٢). في الواقع، «تعيش الطبقات الوسطى اللبنانية بما يتجاوز إمكاناتها وتعتمد بشكل متزايد على قروض القطاع المصرفي أو الأموال التي يرسلها الأقارب الذين يعيشون ويعملون في الخارج» (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ٥٤). علاوة على ذلك، فإن البرجوازية الصغيرة، التي تتألف في الغالب من فئات الأجراء الدنيا، تظهر وتحقق ذاتها من خلال الاستهلاك المظهري، وأسلوب الحياة المتحرر والمُسرف في كثير من الأحيان (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١٣٣). وهكذا يصبح الاستهلاك وسيلة متكاملة ورمزية أكثر من كونها وظيفية، يعبّر بها الأفراد والجماعات عن هوياتهم: أنت ما تستهلكه (بدلاً مما تنتجه). «لم يُعرض على الناس ما يحتاجون إليه فقط، ولكن أيضًا ما يرغبون فيه، بينما أصبحت «الرغبات»، في الوقت نفسه، «حاجات» فاعلة (Abaza، ٢٠٠٦، ص ٤٤). أخيرًا، يسود الشعور بعدم المساواة بين المستهلكين حسب تعبير باومان (Khalaf، ١٩٩٠، ص ١٣٢).

إن شروط المشاركة في المجتمع الاستهلاكي غير متكافئة بشكل عميق، كما يرى خلف (٢٠١٢)، ليس فقط لأسباب اقتصادية، ولكن نظرًا إلى الوقائع الثقافية التي تجسد عدم المساواة من خلال المثَل القائل «أنا أملك إذًا أنا موجود» (ص ١٣٢ - ٣). في كتابها تغيير ثقافات المستهلكين في مصر الحديثة، تعيدنا منى أباظة (٢٠٠٦) إلى تعريف «المولات»: تشير «المولات» بمعناها الأصلي إلى مسارات للنزهة. الآن وقد تحوّلت معظم مسارات النزهة إلى مولات تسوّق، صارت «المولات» مسارات للتنزّه أثناء التسوّق وللتسوق أثناء التنزه... إن «المولات» تجعل العالم (أو ذلك الجزء منه المسوّر بعناية والمراقَب إلكترونيًّا والمحروس عن كثب) آمنًا للحياة بما هي حياة للتنزه (Bauman، ١٩٩٦، أباظة، ص ٨١). وتماشي أباظة (٢٠٠٦) تحليل باومان (١٩٩٦) لتقول إنه يمكن اعتبار التسوق شكلاً آخر من أشكال التسكّع flâneurie (فالتر بنيامين). ولكن، في حالة التسوق المسوّر، لم يعُد موضوع المدينة يقتصر على الذكور، فبدلاً من ذلك، صارت «النظرة المتنقلة» ترتبط في الغالب بالنساء (Abaza، ٢٠٠٦، ص ٨١-٢). وعلى الرغم من هذا، بدلاً من أن يسهما في التمكين، يعمل التسليع والاستهلاك غير المقيّدين على فرض النسيان داخل مجتمع مصاب بالصدمة يسعى إلى التماسك أو غالبًا ما يهرب نحو تملّك زائف ومسرف.

تحالف رأس المال والسياسة

عند الدخول إلى متاجر ABC الشهيرة في بيروت، يلاحظ المرء عددًا كبيرًا من نساءٍ في منتصف العمر، أنيقات الملبس، مسرّحات الشعر، مدلّلات، ويتردّدن على المتاجر والمقاهي الراقية. تأسست «متاجر حقبة الانتداب» التابعة لعائلة فاضل (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ٥٢) عام ١٩٣٦، وتتباهى بكونها أول متاجر من هذا النوع في لبنان تاريخيًّا (حواء، محمد، مقابلة شخصية، ١٧ نيسان/ أبريل، ٢٠١٥). اليوم توسّع مجمّع ABC العريق (المصنف بدرجة «ممتاز» في الغرفة التجارية) ليشمل ستة فروع تحت إشراف روبير فاضل، أكبرها المتجر متعدّد الأقسام في ضبيّه (١٩٧٩)، والمتوقع أن يستقبل ٥ ملايين زبون سنويًّا بعد التجديدات الأخيرة (رحال، ٢٠١٣)، ومركز ABC الأشرفية (٢٠٠٣) بمساحة تبلغ (٣٧,٠٠٠ متر مربع) في قلب ساحة ساسين المزدحمة والأحياء المكتظة بالسكان. وتستهدف متاجر ABC، بحسب تانيا عز الدين، رئيسة قسم البيع بالتجزئة والتسويق، العائلات التي يتراوح عمر آبائها بين ٣٥ و٤٥ سنة، والنساء المتسوّقات من ذوات الدخل المتوسط والمتوسط المرتفع. «يتّضح هذا من اختيار العلامات التجاريــــــــــــــــــــــــــــــة المتوافرة في المتجر، بما فيها Sandro وMage للسيّدات، وRalph Lauren وTommy Hilfiger للرجال، وTartine Au Chocolat وKenzo للأطفال» (رحال، مارس ٢٠١٣). «على مستوى العمليات، يُعتبر متجر ABC بائع تجزئة، لكونه اشترى علامات تجارية في أقسامٍ عدة، وهو أيضًا مالك عقاري، كونه يؤجّر أجزاء من المتجر متعدّد الأقسام لقاء نسبة مئوية من المبيعات أو رسوم شهرية ثابتة». في الواقع، «تُعتبر رسوم الإيجار في ABC ضمن الأعلى كلفة، لكن عز الدين تؤكد أنها تتماشى مع الإقبال الذي توفره ABC والأرباح التي يولّدها اسمها» (رحال، مارس ٢٠١٣). لذلك تستهدف ABC كبار السنّ والأثرياء في المجتمع (فئة - A) من خلال العلامات التجارية الفخمة التي تلبّي تطلعات الأثرياء الجدد والطبقات العليا، والتي شجّع ولاؤها للشركة على تصميم «بطاقات ولاء» لتوفّر المزيد من التشجيع ومن امتيازات التسوّق بنسبة تراكم عدد نقاط الشراء.

ABC، مجموعة متاجر كبرى أسسها موريس فاضل عام ١٩٣٦، تملك عائلة فاضل ٨٠ في المائة من أسهمها. كان موريس أيضًا النائب الأرثوذكسي عن طرابلس في عدد من المجالس النيابية، «وقد أورث ابنه روبير البزنس كما المقعد البرلماني» (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ١٠٧). يشير طرابلسي (٢٠١٤) إلى أنّ لبنان ما بعد الحرب شهد «توثّق التحالف بين السياسة ورأس المال وتشكيل طبقة حاكمة تتحالف فيها الأوليغارشية مع السلطة السياسية التنفيذية» (ص ٧٧). تلتقي القوة السياسية والقوة الاقتصادية باستمرار وتعزّز الواحدة منهما الأخرى، بينما تتولى الطبقة الحاكمة السيطرة على الدولة وتُخضع سياساتها وقوانينها لمصالحها المالية- التجارية الخاصة، وتتدحرج على طول الطريق مصالح غالبية السكان الذين يمثلونهم ظاهريًّا. والمحزن، أن السلطة السياسية والمشاركة السياسية تنفصلان بشكل متزايد عن الاهتمام بتمثيل احتياجات الناس وأصواتهم. بدلاً من ذلك، غالبًا ما يكون السعي وراء المناصب الوزارية والبرلمانية (وكذلك الرئاسية) من أجل الحصول على السلطة والحصانة التي توفرها لرجال الأعمال السياسيين المتزايدين الذين يسعون إلى «حماية أو تطوير المصالح الاقتصادية القائمة، وإنشاء مصالح اقتصادية جديدة، والاستفادة من النفوذ السياسي لغرض الاستثمار الاقتصادي في القطاعين العام والخاص» (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ٨٨). أخيرًا، في مواجهة الزيادة الهائلة في المنافسة مع ظهور «المولات» الضخمة الجديدة، لا يمكن لـABC أن «تنام على أمجادها»، يلوح في الأفق مشروع بقيمة ٢٠٠ مليون دولار لافتتاح «مول» ABC جديد بمساحة ١٧٠ ألف متر مربّع في فردان بحلول عام ٢٠١٧، في تطوير مشترك مع شركة «فردان ١٥٤٤» القابضة (Rahhal، مارس ٢٠١٣).

بعد هذا النشاط الصاخب الأوّلي، تزايدت مراكز التسوق بإنشاء أكبر مركز تسوق إلى حين كتابة النص، «سيتي مول» على طريق الدورة السريع، عام ٢٠٠٦ (التصنيف: ممتاز في الغرفة التجارية). تدير المركز التجاري، الذي يملكه ميشيل وغابرييل أبشي، مجموعةُ ADMIC الخاصة بهما، ويمتلك المركز أيضًا الامتياز التجاري لـ Galeries Lafayette وBHV وMonoprix. «يغطي سيتي مول» «٢٠٠.٠٠٠ متر مربع، منها ٧٥.٠٠٠ متر مربع للأغراض التجارية، ويشمل سوبرماركت و«مول» ومجمّعًا لتسع دور سينما وموقف سيارات يتّسع لألفي سيارة وفسحة لألعاب الأطفال» (Abaza، ٢٠٠٦، ص ٣٥- ٣٦). من المفترض أن يستهدف المركزُ التجاري المشترين من الفئة - C بأسعار معقولة وعلامات تجارية شهيرة (محلية وأجنبية). بعد افتتاحه، كان «سيتي مول»، كما نتذكر شخصيًّا، الوجهةَ الرئيسية والأولى من نوعها للشباب الذين سيتباهون بأنهم كانوا في «الجيان» (الجبّار) «Geant». في الواقع، شكّل التسكع والتفرّج على الواجهات مجمل نشاط العدد الكبير من الشباب. وكانت فئة كبيرة منهم تتردّد على «المول»، وكان الشباب يغرقونه بأعدادهم خلال عطلات نهاية الأسبوع والعطلات، كما كانوا معروفين على نطاق واسع باسم «الهيبيين من جيان» أو «وزاويز جيان»، ويجري التعرّف عليهم من ملابسهم البراقة والفضفاضة وتسريحات الشعر غير التقليدية.

«سوليدير» وأخواتها

أعقب هذا الانفجار البدئي للنشاط في «سيتي مول»، افتتاحُ العديد من «المولات» والمجمّعات التجارية الجديدة. بعد عقود من الاضطرابات، واجهت الحكومة عام ١٩٩٠ ضرورةَ إعادة بناء وتطوير قلب المدينة، الذي تعرّض لأضرار جسيمة أثناء الحرب. تاريخيًّا، تُعتبر منطقة بيروت المركزية «مركزَ المصارف والتجارة في لبنان». وعام ١٩٩١، وضع البرلمان الإطار القانوني الذي من شأنه أن يسمح للشركات العقارية الخاصة بإعادة تطوير المناطق بموافقة الحكومة، وأن تترسمل عن طريق مساهمات المستثمرين النقدية من جهة وإصدار الأسهم مقابل المساهمة الإجبارية في حقوق التملك للمالكين والمستأجرين الأصليين من جهة أخرى (مع خيار لهؤلاء المالكين باستعادة ملكية بعض العقارات) (وزارة المالية، ملف مقاطعة ٢٠١٣، ص ٣٢).

تأسست الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار منطقة وسط بيروت ش.م.ل. (سوليدير)، شركة مساهمة لبنانية، في ٥ أيار/ مايو ٢٠٠٩. شهد مركز بيروت التجاري افتتاح أسواق بيروت؛ «مشروع التجزئة الرائد» الذي يَعِد «بالتسوق المميز والضيافة والترفيه ونقطة الالتقاء الحضاري» مما يعزّز «النشاط الاقتصادي والحيوية الاجتماعية لمركز المدينة» (تقرير سوليدير السنوي، ٢٠١٢).

وشهد عام ٢٠١١ افتتاح «زيتونة باي» بسلسلة مطاعمه الجذّابة، وافتتاح شارع أوروغواي كوجهة للحياة الليلية الراقية. تبلغ المساحة بالكامل حوالي ١.٨ مليون متر مربع بما في ذلك ١٠٠,٠٠٠ متر مربع من المشروع الضخم للأسواق المعروفة تاريخيًّا باسم سوقَي الطويلة وأيّاس، ومقسّمة على النحو الآتي: «١٢,٠٠٠ متر مربع مقابل متجر متعدّد الأقسام، ٥,٠٠٠ متر مربع لسوق المجوهرات ومجمّع ترفيهي بمساحة ١٨,٠٠٠ متر مربع لثماني دور سينما، وسوبر ماركت بمساحة ٧,٠٠٠ متر مربع ومركز تجاري بمساحة ٣٠.٠٠٠ متر مربع يتّسع لمئتي متجر» (Abaza، ٢٠٠٦، ص ٣٣).

تقدّر نايلة أبو عزيز، رئيسة وحدة الإعلام في الشركة، أن الأسواق لديها إمكانات وأنشطة فريدة ومتنوّعة بحيث تلبّي جميع الفئات والأعمار والاهتمامات، وتُوفر الأسواق مجموعةً واسعةً من العلامات التجارية التي تناسب مختلف الميزانيات والزبائن. (مقابلة شخصية، ١٧ نيسان/ أبريل، ٢٠١٥). وتتيح المساحات المفتوحة للمشاة التنزّه بعيدًا من السيارات، والتفرّج على الواجهات، والوصول إلى سوبر ماركت TSC الضخم وإلى مقاصد الطلاب، مثل مكتبة أنطوان متعدّدة الطوابق، وستاربكس، ومشاهدة المعالم الأثرية والتاريخية، وتجربة الحياة الليلية ومشاهدة سينمائية فخمة بأسعار تنافسية، وارتياد صالات وجبات سريعة، ومطاعم، ومقاه، وزيارة مرسى «زيتونة باي»، وبرنامج «بيروت على الدراجة» (بجهود جواد سبيتي)، و«سوق الطيب» الأسبوعي (بجهود كمال مزوّق)، وسوق الياسمين، وسوق الذهب وغيرها. ومع ذلك، فإن الانتهاكات والتجاوزات الصارخة على الممتلكات العامة مستمرة بلا رادع. فعلى سبيل المثال، مُنحت شركة «سوليدير» الإذن «بهدم ما يقدّر بـ ٢٩١.٨٠٠ متر مربع من الواجهة البحرية لبيروت من ميناء الحصن إلى المرفأ، كما منحت الحق في الاستثمار في «ميناء سياحي» (زيتونة باي) لقاء ما لا يزيد عن ٢٠٠٠ ليرة لبنانية للمتر المربع سنويًّا» (Traboulsi، ٢٠١٤، ص ٩٣). ويساهم آل الفطيم وروبير فاضل أيضًا في تجاوزات على الأملاك العامة بسبب هدم ملايين الأمتار المربعة في ضبيّه وطرابلس لصالح تجارة التجزئة والمكاسب الاقتصادية، وعلى حساب المساواة في الوصول إلى الشاطئ والساحات العامة في مدن مزدحمة فوق ذلك بالتلوث وقلة التخطيط الحضري. يمكن ربط لبنان بسهولة مع القلق الذي تعبّر عنه منى أباظة حين تقول: «هل سينشقّ الشرق الأوسط بأكمله بين مناطق نزاع وعشوائيات من جهة، ومدن الـ«مولات» الطوباوية الضخمة من جهة ثانية؟» (Abaza، ٢٠٠٦، ص ٢٨).

واجهة ضبيّه البحرية

«بيروت سيتي سنتر» معْلم تجاري رئيسي آخر افتتحتْه مجموعة ماجد الفطيم (MAF) في نيسان/ أبريل ٢٠١٣. وقد شهدت المجموعة نموًّا مذهلاً من خلال نشاط مراكز التسوق والبيع بالتجزئة، الذي بدأ بافتتاح «دبي مول» أكبر «مول» في العالم، (عام ٢٠٠٩). وقد أضاف «بيروت سيتي سنتر» ٦٢,٠٠٠ متر مربع من المساحة الإجمالية القابلة للتأجير، وهي إضافة رئيسية لسوق العقارات التجارية في لبنان (Schellen، كانون الثاني/ يناير ٢٠١٣). بصفته صاحب الامتياز الحصري لـ«كارفور» Carrefour الفرنسي في الخليج، يمتلك «بيروت سيتي سنتر» الآن أكبر سوبر ماركت في الشرق الأوسط لمجموعة «كارفور» (١٣,٠٠٠ متر مربع، أي ربع مساحة «المول»)، وهي أكبر عملية تشغيل وأكبر مصدر للإيرادات في «المول» وفقًا لسليمان ملاط، مدير أول مجمّع تجاري لشركة MAF Properties Lebanon. في مقابلة مع مجلة Executive يدّعي ملاط أن «الخدمات التسويقية في لبنان دون المطلوب». تشير جميع الدراسات إلى أنه يمكننا تطوير المزيد من مراكز التسوق في لبنان ولدينا مشروع آخر Water Front City Center في ضبيّه (كانون الثاني/ يناير ٢٠١٣ ,Schellen) (وقد نُفّذ المشروع). يُعرّف هذا المشروع على أنه يلبّي احتياجات عملاء الفئة- B، من خلال قاعدة واسعة من العلامات التجارية الشهيرة ذات الأسعار المعقولة و«المتاجر الرئيسة» مثل Marks & Spencer. تقول سوزان خوري، مديرة التسويق في المركز التجاري إن «سيتي سنتر» موجّه إلى حد كبير للشباب، ويستهدف شريحة عمرية واسعة، ولكنها تمتد في غالبها من سن ١٨ إلى ٣٥، مع ملاحظة العدد الكبير من طلاب المدارس وكذلك العائلات الشابّة التي ترتاد «المول» (مقابلة شخصية، ١٦ نيسان/ أبريل ٢٠١٥).

تعتبر أماكن الترفيه مثل «ماجيك بلانيت» للأطفال، وكذلك دُور سينما «ڤوكس»، من عوامل الجذب الرئيسية التي تندرج ضمن مشاريع MAF الخاصة. في الواقع، تقول خوري إن الناس يتصورون أن «سيتي سنتر»، بدلاً من سيتي مول الدورة، الأكبر في لبنان بسبب هندسته المعمارية المبتكرة ومساحاته المشغولة والمنظمة. وتقول مسؤولة التسويق إن «المول» واجه شكوكًا طفيفة خلال العامين الأولين من عملياته، أولاً بسبب موقعه الذي كان يُفترض شعبيًّا على أنه «بعيد»، والثاني بسبب أصوله «الخليجية». ومع ذلك، تشير خوري إلى انخفاض الشكوك حين أدرك الناس سهولة الوصول إلى موقعه، وتقدير عدد كبير من السكان لاسمه المألوف- «سيتي سنتر» - وعلامته التجارية «خليجي» وعلامات البيع بالتجزئة التي تتخذ من دبي مقرًا لها («الشايع» و«لاندمارك»، وكذلك «كارفور» بالطبع).

في الواقع، يلاحظ المرء من تقارير «إجمالي الوافدين حسب الجنسية» الصادرة عن وزارة السياحة أن غالبية السيّاح الذين يصلون إلى مطار الحريري الدولي، قادمون من دول عربية، وقد اعتادوا بالتالي على هذه «العلامات التجارية الثابتة» التي تظهر في كبريات «مولات» الخليج ودبي (رواد العام ٢٠١٠: ٨٩٤،٧٢٤؛ العام ٢٠١١: ٥٨١،٥٩٧؛ العام ٢٠١٢: ٤٥٨،٠٦٩؛ العام ٢٠١٣: ٤٠٢،٠٨٠؛ والعام ٢٠١٤: ٤٦٠،٨٢٢). وبناءً على ما يقوله نقولا شمّاس، رئيس جمعية تجار بيروت، من أنه «في بعض القطاعات التجارية المتعلقة بالإنفاق الاستهلاكي مثل المجوهرات والملابس والعطور والسلع الجلدية وما إلى ذلك، تصل مساهمة السيّاح، العرب منهم خصوصًا، إلى حوالي ٤٥ في المائة من إجمالي المشتريات المعفاة من الرسوم الجمركية. عندما يغيب هؤلاء الناس، نتكبّد خسائر فادحة» (Brophy، تموز/ يوليو ٢٠١٣). وعند سؤالها عن تأثير «المول» على المتاجر المحلية، تشير خوري إلى أن المنطقة التي بني عليها «المول» كانت منطقة «ميتة» إلى حد ما وكان الإقبال عليها خفيفًا قبل افتتاح «المول» فيها. علاوة على ذلك، وفّر «المول» العديد من فرص العمل، وخلق مجتمعًا محليًّا، ومساحات للبيع بالتجزئة للعلامات التجارية المحلية أيضًا. وتمتد منطقة التجارة الأساسية لـ«سيتي سنتر» اليوم لتشمل الحازمية، المنصورية، الحدث، وبعبدا؛ وتصل منطقة التجارة الثانوية (STA) إلى أنطلياس، وشارع الحمرا، والجناح، والأشرفية (مقابلة شخصية، ١٦ نيسان/ أبريل ٢٠١٥). ويوضح ملاط أن إجمالي الاستثمار في المركز التجاري يبلغ أكثر من ٣٥٠ مليون دولار (منها إنفاق ٢،٥ مليون دولار على البنية التحتية للطرق البلدية) وهو يوفّر ١٥٠٠ وظيفة دائمة (حوالي ٣٠ مديرًا و١٦٠ مقدّم خدمات و١٣٠٠ فرصة عمل في تجارة التجزئة) (Schellen، كانون الثاني/ يناير ٢٠١٣). ومع ذلك، «يشكل انتشار هذه المتاجر الكبرى و«المولات» تهديدًا خطيرًا للأسواق التقليدية ولمستقبل التجارة والمتاجر الصغيرة ومتوسطة الحجم»، كما يقول طرابلسي (٢٠١٤، ص ٥٢). وقد أعرب نقولا شماس عن مخاوف مماثلة، مؤكدًا أن تجّار التجزئة التقليديين والأصغر حجمًا يواجهون «نقص العمليات التجارية التي ابتليت بها الأمّة بأكملها من جهة وفي نفس الوقت استحواذ «المولات» على المزيد من العمليات التجارية» من جهة أخرى. رئيس جمعية تجار بيروت نفسه هو حامي مصالح حيتان المال المتمثلة بمشروع «سوليدير» وخصخصة الوسط التجاري وما تبعه من تهجير قسري واقتلاع للأسواق والتجّار المحليين الذين شكلوا على مدى عصور القلبَ النابض للعاصمة.

آثار النيوليبرالية

أخيرًا، غالبًا ما تقترن العولمة بالأيديولوجيا النيوليبرالية المعاصرة، مع عواقب بعيدة المدى على نمط الحياة والتوجهات والتوقعات المحلية. من هنا تأتي ضرورة تشجيع المساعي الوطنية والمحلية والحفاظ عليها ودعمها. ومع ذلك، وتماشيًا مع خلف، «في حين أن العديد من الجيوب المكانية الناشئة واعية لهوياتها الأصلية وغيورة عليها، إلا أنها لا تنفر من تجربة المزيد من اللقاءات والمنتجات الثقافية العالمية العابرة» (Khalaf، ٢٠١٢، ص ٢٦٨- ٩). والواقع أن العلامات التجارية المحلية، غالبًا ما «تتعولم» لكي تتلاءم مع التوغّلات العالمية، في حين يجري تكييف التحوّلات العالمية الأخرى وتوطينها لتتناسب بشكل أفضل مع المتطلبات المحلية المتغيرة.

الاستهلاك لا يحقق الرضا لأنه «يتمكن من جعل عدم الرضا حالة دائمًة»، ما يعزز الانجراف وعدم الاستقرار في مجتمع يتلمّس طريقه بحثًا عن معنى على الرغم من أنه فقد السيطرة على مقدّراته منذ فترة طويلة. يقع «الإنسان المستهلِك» ضحيةَ وهْم السعادة، بينما يعاني من دون أن يعي من ضجره وسلبيته... فيصبح إشباع الجشع هو معنى الحياة، ويصير السعي وراء السعادة ديانة جديدة وتصبح حرية الاستهلاك هي جوهر حرية الإنسان» (Abaza، ٢٠٠٦، ص ٤٣). تتفاقم اللامساواة الاجتماعية في إطارٍ نيوليبرالي «يؤكد «الحق في الاختلاف» ويعطيه هذا الحق الأولوية على حق الجماهير في المساواة» (Corm، ٢٠٠٣ في Traboulsi، ص ١٧). والأسوأ عندما يكون المجتمع مدفوعًا بتوقٍ للبحث عن مهرب وملاذ من التوقعات الاجتماعية والاقتصادية القاتمة، ومن الحكومة والدولة المنهارتين، ومن عدم الاستقرار المستمر... نحو مخارج تعيد إنتاج عدم المساواة والاغتراب الاجتماعيين: أي الاستهلاك الجماهيري والطائفية (Khalaf، ٢٠١٢، ص ١٨).

إن بحثنا المحدود(٢٠١٥) الذي طاول أربعة مشاريع تجارية في لبنان: مجموعة ABC، «سيتي مول» (مجموعة ADMIC)، «بيروت سيتي سنتر» (مجموعة الفطيم)، و«أسواق بيروت»)، وأغفل عددًا من المشاريع المزدهرة الأخرى
Le Mall by Azadea Group)، مجموعة «إيكرز القابضة» Acres وغيرها)، يعطي الدليل الوافي بشأن الازدهار الكبير للنشاطات الاستهلاكية والبيع بالتجزئة والتجارة. على أنّ التوقعات تنذر بالخطر، وهي وقاتمة نوعًا ما، فيما يشهد المرء بقلقٍ النمو المطّرد لعدد «المولات» والمراكز التجارية يقابله التقلص الشامل للممتلكات العامة، والرفاهية البيئية والمسؤولية الجماعية، وللعدالة الاجتماعية والرفاه خصوصًا. إن الجشع والارتياب ونزعة التملك والاستعراض تأسر ثقافةَ الاستهلاك بسحر وهروب وهميين، إذ تظل احتمالات الرفاهية ضئيلة في بلد عالقٍ في حالة من التقلقل ومرتهنٍ لمصالح الأوليغارشية الثرية وتوابعها من مستثمرين ورجال أعمال ومشرّعين.

 

المراجع

كتب

  • Abaza, Mona (2006). Changing Consumer Cultures of Modern Egypt: Cairo’s Urban Reshaping. Netherlands: Brill.
  • Khalaf, Samir (2012). Lebanon Adrift: From Battleground to Playground. London: Saqi Books.
  • Trabousli, Fawwaz (2007). A History of Modern Lebanon. London: Pluto Press.

مقالات

  • Brophy, Zak (July 23, 2013). «I can’t see Lebanon getting one percent growth’. Chairman of the Beirut Traders’ Association has little optimism». Executive Magazine.
  • Karam, Michael. (April 1, 2004). «Revolution
    in retail». Executive Magazine.
  • Rahhal, Nabila (March 13, 2013). «Battle of
    the Malls: ABC and Le Mall go head to head in bid to be Beirut’s top venue». Executive Magazine.
  • Schellen, Thomas (January 4, 2013). «Running Lebanon’s newest mall: Sleiman Mallat discusses the soon-to-open Beirut City Centre mall». Executive Magazine.
  • Traboulsi, Fawwaz (1994). «The Role of War
    in State and Society Transformation: The Lebanese Case. In War as a Source of State
    and Social Transformation in the Middle East», Paris: Social Science Research Council,
    Institut des Etudes Politiques.
  • Traboulsi, Fawwaz (2014). Social Classes
    and Political Power in Lebanon. Beirut, Lebanon: Heinrich Böll Stiftung, Middle East.

تقارير

  • Central Administration of Statistics, Lebanese Republic. Household Expenditure by Income Categories, 2012.
  • Chamber of Commerce, Industry and Agriculture of Beirut and Mount-Lebanon, (10/04/2014). List of Members: Commercial Center: Malls.
  • Chamber of Commerce, Industry
    and Agriculture of Beirut and Mount-Lebanon, (10/03/2014). List of Members: Supermarkets.
  • Chamber of Commerce, Industry and Agriculture of Beirut and Mount-Lebanon, (February, 2013). The Chamber’s Classification of Establishments.
  • Ministry of Economy and Trade, Republic
    of Lebanon, (01/01/2014). Report on
    the number, legal status
    and operations of companies, traders
    and tradeorganizations.
  • Ministry of Finance, Republic of Lebanon (April 5th, 2013). Lebanon Country Profile.
  • Ministry of Tourism, Republic of Lebanon. Report on the ‘Total Arrivals by Nationality for the Periods of: 2010-2011, 2011-2012, 2012-2013, 2013-2014. And report on ‘Total Arrivals for the Years 1951-2014’.
  • Solidere (2013). Solidere Annual Report 2012:
    The Chronicle. Lebanon: Anis Commercial Printing Press s.a.l.

مقابلات شخصية

  • أبو عزيز، نايلة. رئيسة وحدة الإعلام، سوليدير. مقابلة شخصية، ١٧ نيسان/ أبريل ٢٠١٥.
  • حواء، محمد. خدمة العملاء، ABC الأشرفية. مقابلة شخصية ، ١٧ نيسان/ أبريل ٢٠١٥.
  • خلف، سمير. قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، الجامعة الأميركية في بيروت. مقابلة شخصية، ٢٧ نيسان/ أبريل ٢٠١٥.
  • خوري، سوزان. مديرة تسويق، سيتي سنتر، حازمية. مقابلة شخصية، ١٦ نيسان/ أبريل ٢٠١٥.
  • نعمة، مارلين. رئيسة مصلحة الديوان بالإنابة، رئيسة دائرة الدراسات القانونية، وزارة الاقتصاد والتجارة. مراسلة شخصية، ٢٨ نيسان/ أبريل ٢٠١٥.
  • نخال، أحمد. مدير قسم الانتساب والتصنيفات، غرفة التجارة. الصنايع، بيروت. مقابلة شخصية، ٢٩ نيسان/ أبريل ٢٠١٥.
العدد ٣٢ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.