العدد ٣٢ - ٢٠٢١

بيروت أو دبـي ٢

تطبيق «استراتيجية الصدمة»

انطلاقة إمبراطورية «سوليدير»

في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥-١٩٩٠)، خرجت بيروت متأثرة ماديًّا بالصراعات التي دارت فيها. باكرًا جدًا، فتحت بعض الأحياء شهيّة المصالح الخاصة. ونشهد منذ ذلك الحين التفتيت التدريجي لهوية المدينة، الذي نجم عن جموح المقاولات في ميدان البناء الحضري. وقد سمح تفتّت الدولة اللبنانية، على المستويين الاقتصادي والسياسي، وضعف المؤسسات المنهجي، لرئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بأن يفرض نفسه بما هو الرجل المنقذ من خلال مؤسسته «سوليدير».

لكن المخططات الهائلة لـ«المؤسسة اللبنانية للتنمية وإعادة الإعمار» لم تفِ بوعودها إطلاقًا. لم يتّضح فقط أن إعادة التأهيل وإعادة الإعمار تحوّلا بشكل أساسي الى إعدام أحياء سكانية تاريخية، لكنّ هذه الأخيرة استُبدلت ببنايات سكنية فخمة، وبمبانٍ تملكها مؤسسات أقامت فيها مكاتبها أو متاجرها. وهؤلاء جمهور أكثر إدرارًا للربح من السكان الذين كانوا يعيشون فيها، نظرًا إلى ارتفاع الإيجارات التي وضعها الذين صادروا تلك المباني.

وكمثال معبّر عن ذلك، يذكّرنا جورج قرم بأن الشركة التي يديرها الحريري «كان يمكنها أن تحوّل المركز التاريخي للعاصمة، بمزيجه المعماري المتناسق من الأسلوب العربي- العثماني والفرنسي- الإيطالي، إلى منطقة مشاة فتتحول إلى منطقة جذب سياحي كبيرة في حوض البحر الأبيض المتوسط. (...) لكن المؤسسة نسفت تسعمائة مبنًى تاريخي، بما فيها مبنى الشرطة المركزي القديم في ساحة الشهداء» أو حيّ وادي أبو جميل الرائع (الذي نُسف بكامله عام ١٩٩٦) ( ،٢٠٠٥ ،Cormص. ٢٥٤).

تقليديًّا، لم يكن للدولة أيّ دور حقيقي في إدارة الأملاك الجمعية والتدخل بالشؤون العامة. يلخّص ليونيل مطر (٢٠٠٧) الموقف بدقة: رفض إعطاء الدولة دورًا واضحًا ومحدّدًا في إنشاء المؤسسات، وخصوصًا، الارتياب من الدولة كمؤسسة في وقت كانت البلاد فيه بحاجة إلى هيكل دولة لكي تتطوّر وتُشرك كل القطاعات وجميع السكان في النهضة الاقتصادية.

بصدد هذه الحقبة «الحريرية»، يتحدث جورج قرم عن قومية لبنانية جديدة ليصف أيديولوجية النجاح الفردي هذه، على مثال النجاح الفردي لرئيس الوزراء الأسبق: «هكذا سيغيب تمامًا مفهوم المال العام والأخلاق الجماعية عن إيديولوجية إعادة البناء الجديدة المسجلة ضمن أشدّ تيارات النيوليبرالية صرامة، حيث تُعتبر الدولة والعمل الجماعي مصادر تشويه وتبذير اقتصاديين، تعرقل فعالية الشركات الخاصة والمقاولين العقاريين، وهم الوجه الأسطوري الجديد لنهاية القرن تلك» ( ،٢٠٠٥ ،Cormص. ١٣٨-٢٣٧).

وقد ساهم تعميم إيديولوجية النمو في التصورات الجماعية للبنان ما بعد الحرب، دون أدنى شك، في تحويل مؤسسة «سوليدير» إلى رمز لإعادة الإعمار. لكنها استطاعت، بقوة وضع اجتماعي واقتصادي وإداري يعطي الحصة الأفضل للزبائنية والفساد المعمّم (Corm, ٢٠٠٥; Neal et Tansey, ٢٠١٠; Salhab, ٢٠٠٣; Chaker, ٢٠١٢)
أن تتصدى لكلّ إرادةٍ مقاومة لدى منتقديها القلائل بفضل حججٍ لا يمكن دحضها. بهذا، أصبحت المؤسسة رمزًا للتخطيط الحضَري الحديث، وتكفّلت بإعادة إعمار وسط بيروت. لكل هذه الأسباب، احتلّ مشروع الشركة العقارية هذا كلّ الحيّز السياسي عام ١٩٩١. فكان ينبغي إزالة أي مظهر لبازار أو قصبة من «القلب التاريخي القديم للعاصمة، لصالح حداثة مدنية، فاحشة وعتيقة في الوقت نفسه، شكلت لدى الفريق الجديد في السلطة رمزًا لإعادة إحياء لبنان يفتخر بها» ( ،Cormص. ٢٤٠).

استراتيجية الصدمة

إن لحظة إعادة الإعمار، التي يُفترض بها أن تعطي أملاً جديدًا للبنانيين بإقامة دولة القانون، سريعًا ما ستصبح ضحية متطلّبات وأطماع الدول المجاورة، وخصوصًا دول مجلس التعاون الخليجي، التي لم يكن يمثّل مصالحها في لبنان سوى رفيق الحريري، الذي يحمل هو نفسه الجنسية السعودية.

وإذا بإعادة بناء بلد مخرّب تصير ضربة حظ لبعض المتنفّذين المحلّيين والخارجيين تحمل لهم المكاسب المادية الوفيرة. عندها أمكن تطبيق ما تسمّيه ناومي كلاين «رأسمالية الكارثة» (٢٠٠٨ ،Klein)، أو «امتداح الصفحة البيضاء»: وهي عملية تتولاها مصالح خاصة تشن غارات منهجية على المجال العام غداة الكوارث وتستغل الأخيرةَ كفرصة لتكديس الأرباح. وحفز الوضع شهيةَ البعض، اعتمادًا على سياق اقتصادي وسياسي لبلد يضمّد جراحه: هيكلية دولة ضعيفة ومستنزَفة، بعد ١٥ سنة من الحرب، ذات طبيعة تجتذب المستثمرين والمقاولين من القطاع الخاص. لم يكن بالإمكان تطبيق النموذج الذي تُفصّل فيه الكاتبةُ فعليًّا إلا في سياق اقتصادي مخرّب، متحرّر من القيود التي تمارسها دولة القانون. هي عقيدة مستوحاة من نظريات ميلتون فريدمان الذي كان يفكّر باعتماد علاج الصدمة لـ«إعادة هيكلة المجتمعات وإعادة تطبيق رأسمالية صافية، مجرّدة من كل التدخلات- القرارات الحكومية، معوقات على التجارة وعلى المجموعات ذات المصالح الخاصة» ( ،٢٠٠٨ ،Kleinص. ٨٠). وتسمح بالانتقال إلى مثل هذه الحالة أزمة اقتصادية أو كارثة بيئية أو حرب عنيفة، بما أن الأوضاع سوف تجمع ظروف دولة معطّلة ومجتمعٍ واقع تحت الصدمة.

بالاستفادة من ارتدادات حرب أهلية طويلة ومُنهِكة، يمكن عندئذٍ أن تطبَّق العناصر التي تتكون منها «رأسمالية الكارثة»، كما عدّدتها كلاين: ثرواتٌ جماعية مسلّمة للقطاع الخاص؛ خصخصة الخدمات العامة؛ تفكيك مؤسسات الدولة؛ تحرير الأسواق؛ ضرائب مخفّضة للحد الأدنى؛ تخفيضات استثنائية في الإنفاق العام؛ إخلاءات سكانيّة لمناطق بأكملها وتركها للمؤسسات الخاصة (كما هو حال شركة «سوليدير» في وسط المدينة) وتدشين عصر جديد من الإثراء السريع.

في نهاية الحرب، لم تكن هناك أي رؤية أو تخطيط اقتصادي، ولكن بالأحرى مقاربة تجارية ومالية لمشروع إعادة الإعمار (٢٠٠٥ ،Corm). وأصبح التعتيمُ في استدراج العروض، وصراعُ المصالح والفسادُ المنتشر العلامةَ التجارية لعصر الحريري (٢٠١٠ ،Neal et Tansey). إنها رأسمالية كارثة محلية.

بيروت مقابل دبيّ

بعد سنوات طويلة من الأزمات والصدمات المؤلمة، باشرت البلاد جهود إعادة الإعمار، وكان العامل الأساسي تشجيع الاتحاد المقدّس المتكوّن حول شخص رفيق الحريري. وبرغم أن رئيس الوزراء لم يحُز بالضرورة على إجماع الشعب والطبقة السياسية، إلا أنه استأثر بمسؤولية إعادة الإعمار التي كان وضْع اليد على وسط المدينة وجهَها الحضري والمعماري. كان رئيس الوزراء الأسبق رجل سلطة وبأس، يتمتع بالهيبة (المالية والسياسية) الضرورية ليجمع أغلبية القوى السياسية حول مشروعه؛ ولكن ليس من دون مفاوضات عسيرة وتنازلات بالمقابل. وتحت رعاية الجار السوري القوي، والذي كان يدير الشؤون السياسية اللبنانية فترة ما بعد الطائف، تمتّع رجل الأعمال اللبناني- السعودي بكامل الصلاحيات لتنفيذ مشاريعه السياسية والمالية. للهرب من ماضي بيروت، رسموا لها ولسكانها مستقبلاً ترفيهيًّا، عبر مؤسسات مثل «سوليدير»، أو مبادرات أخرى خاصة تهدف إلى بناء فنادق، و«مولات» أو مجمعات سكنية فخمة على حساب المواقع الأثرية.

غير بعيد من حيث نحن، كانت دبيّ، المدينة- الدولة، تتحول تدريجيًّا إلى القطب الاقتصادي للشرق الأوسط. وتحت سلطة الملياردير «رئيس مجلس الإدارة» محمد بن راشد آل مكتوم، تغيّر مظهر دبيّ جذريًّا لتصبح «الأيقونة العالمية الجديدة للهندسات الحضرية الحديثة» ( ،٢٠٠٧ ،Davisص. ١٠). نالت دبيّ شهرتها إعلاميًّا عبر «ضخامة» منشآتها وغرابتها. استوردت المدينة- الدولة هندساتٍ معمارية «متطرّفة» ومُثُل نيوليبرالية ذات أنماط حضرية خارج السياق، مثل «المولات» التجارية أو «المجمّعات السكنية المسوّرة» المتّجهةً نحو «هندسة حضرية مجسّمة» انطلاقًا من الصفر ( ،٢٠٠٧ ،Davisص. ١٠). إن مفهوم الذاكرة المعمارية معدوم في الآلة الدبيانية التي تبتلع الهندسات المعمارية والطُرُز، ( ،٢٠٠٧ ،Venturi et al.ص. ٨)وتُحولها إلى مسوخ كاريكاتورية.

وبينما كانت دبي تتكوّن انطلاقًا من الصفر، ها نحن نحتاج في العاصمة اللبنانية إلى التدمير من أجل البناء. وبعكس «دبيّ ... [التي] تكمن فرادتها في أنها عاصمة نبتت كالفطر... انطلاقًا من لا شيء» ( ،٢٠٠٧ ،Cussetص. ٥٥)، فإن بيروت تملك تاريخًا فعليًّا. وعلى عكس المدينة المشرقية، «كل ما تعرضه دبي هو من النوافل... لا ينطلق من أي تاريخٍ، ولا من أي قاعدة اجتماعية، ولا من أي مرحلة انتقالية ( ،٢٠٠٧ ،Cussetص. ٥٧). لقد مسحت «سوليدير» من الذاكرة الجمعية اللبنانية المتاهات من الأزقة والأنماط الحضرية للأسواق التقليدية متجاهلةً القيمة الثمينة للنسيج العمراني البيروتي وندرته. هذه الأسواق التي اختفت وأصبحت ذكرى مبهمة، لن يعود بإمكان أحد أن يتذكرها عمّا قريب وستغرق في النسيان إلى الأبد. وهكذا، لن يتجلّى الظهور التلقائي للمدينة الترفيهية فقط وسط الصحراء كما في دبيّ، إنها تتشكّل أيضًا وسط المراكز التاريخية للنسيج الحضري المعقّد لمدن حوض البحر الأبيض المتوسط. إنّ تنوّع هذه التوليفات المدنية هو ثمرة تراكمات يعود أحيانًا لآلاف السنين كما هي الحال في بيروت.

وتؤكّد «سوليدير» أنها تحمي الذاكرة الجمعية بإبقاء بعض الآثار، متجاهلةً مع ذلك سياق تشكّلها. امتصّت الشركة الخاصة الأبنيةَ المختارة لتستحوذ عليها ضمن بنيتها الحضرية الترفيهية على أنها مشهد من الصور. أعادت رؤيتُها الحضرية بناءَ صورة للمدينة عبر تاريخٍ وطني مُكيّف بشكل مناسب. وللأسف، إن المقاربة المفهومية المدعوّة «ضمن السياق»، التي تدعمها «سوليدير»، تميل للعودة حرفيًّا إلى علامات مثالية لموروث كولونيالي لبناني يرجع إلى الامبراطورية العثمانية أو فرنسا.

بناءً عليه، لا يمكننا إلا استغراب هذه المفارقة التي تفرضها رؤية تجارية نخبوية وغير شخصية لإعادة إعمار بيروت بعد الحرب، على حساب تخطيط متّفق عليه مع مجمل الشركاء الاجتماعيين والمجتمع المدني. وعلى العكس تمامًا من ذلك، فإن تلك المواقع والأنسجة العمرانية، التي كان يمكن أن تكون تجسيدًا لهوية مشتركة لمجتمعٍ مزّقه تعدد الطوائف، هي اليوم ضحية استهتار شركات البناء والمقاولين العقاريين المنهجي بالإرث العمراني. سعيًا وراء مراكمة الأرباح، لن يتردد البعض في إزالة مجموعة من البيوت القديمة، أو حتى نقل معالم أثرية أو طمرها، لتحلّ محلها مشاريع مجمعات فندقية، أو تجارية أو سكنية. علمًا أن المدينة تحوي على ثروة أثرية غنية ومتنوعة.

إن الحالة العمرانية والاجتماعية للمدينة تشبه اليوم، وعلى نحو متزايد، عَدَمًا أخلاقيًّا وزمانيًّا ومكانيًّا تنطلق منه عبقرية المقاولات وحمّى الاستهلاك، وسط لا مبالاة كاملة بالشأن العام. يستعمل فرانسوا كوسيه هذه المصطلحات (٢٠٠٧، ص. ٥٥) في وصف دبيّ. ونلاحظ للأسف أنها تنطبق بسهولة في الوقت الحالي على وضع بيروت. إن كانت «الدَبْينة» (نموذج دبيّ) انقطاعًا حضريًّا أو جماليًّا، فهذا ينطبق على السكان أيضًا. هدْم بيروت، مثله مثل «اغتيال نيويورك» الذي وصفه روبرت فيتش Robert Fitch (١٩٩٦)، أو اغتيال لوس أنجلوس الذي ذكرَه مايك ديفيس Mike Davies (٢٠٠٣)، يستظهِر تمامًا المرض القاتل الذي يجتاح المدينة الكبيرة ويذرّر المكان إلى معازل جديدة (Bensaid، ٢٠٠١، ص. ١٢٠). فهل ينبغي لنا أن نستعير الكلمات الاستشرافية لغي دوبور Guy Debord (١٩٩٩، ص. ١٧٨) «لنغادرها قريبًا، هذه المدينة التي كانت بالنسبة لنا وافرة الحرّية ولكنها ستسقط بكاملها في أيدي أعدائنا»؟

 

مراجع

D. Bensaid (2011), Le spectacle, stade ultime du fétichisme de la marchandise, Nouvelles Editions Lignes, Paris.
R. Chaker (2012), Le déploiement des TIC au Liban: vers une gouvernance électronique?, in Les Cahiers de l’Orient, n° 106, Paris.
F. Cusset (2007), Questions pour un retour de Dubaï, in Mike Davis, Le stade Dubaï du capitalisme, Les Prairies Ordinaires, Paris.
G. Corm (2005), Le Liban contemporain, Histoire et société, La Découverte, Paris.
M. Davis (2007), Le stade Dubaï du capitalisme, Les Prairies Ordinaires, Paris.
G .Debord (1999), In girum iumus nocte et consumimur igni, Gallimard, Paris.
N. Klein (2008), La stratégie du choc, Babel Actes Sud, Paris.
M. Neal et R. Tansey (2010), The dynamics of effective corrupt leadership: Lessons from Rafik Hariri’s political career in Lebanon, in Leader Quarterly, numéro 21, pp. 33–49.
L. Matar (2007), Les racines du capitalisme libanais, in Travaux et Jours, numéro 79, automne, Université Saint-Joseph, Beyrouth, p. 121-137.
S. Salhab (2003), Les composantes rationnelles d’une réforme administrative, in Liban, État et société : la reconstruction difficile, Confluences Méditerranée n°47, L’Harmattan, Paris.
R. Venturi, D. Scott Brown, S. Izenou (1972), Learning from Las Vegas (Revisited Edition), MIT Press, Cambridge.

العدد ٣٢ - ٢٠٢١
تطبيق «استراتيجية الصدمة»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.