كثيرًا ما توصَف الدولةُ اللبنانيّة بأنّها دولةٌ ناقصةٌ (أو ضعيفة)، وذلك لسببَيْن رئيسيْن على الأقلّ: أوّلًا، عدم احتكارها للعنف المشروع، إذ ثمّة حزبٌ مُسلَّحٌ يحتكر الدفاعَ عن الحدود، ويخوض حروبًا إقليميّة، ويبسط سيطرتَه الأمنيّة على مساحات واسعة من البلد. وثانيًا، تَرَكُّز الجزء الأكبر مِن السلطة السياسيّة خارج المؤسّسات الدستوريّة للدولة، أي في أيدي حفنة من الزعامات الطائفيّة تستطيع غالبًا تعطيلَ عمل هذه المؤسّسات.
إنّها إذًا، وفق هذا المنطق، دولةٌ مقصّرةٌ في ثلاثٍ من وظائفها الأساسيّة: توفير الأمن وضمانُ اتّخاذِ القرارات السياسيّة من داخل المؤسّسات الدستوريّة وفرض تنفيذ القرارات التي قد تُتَّخذ أحيانًا من داخل هذه المؤسّسات. ويُعتبر هذا التقصير الفادح سببَ الأوبئة المستشرية في الحياة السياسيّة (الفساد المُمَنهَج، المحسوبيّة، الزبائنيّة، المُحاصصة في المؤسّسات العامة، عدم استقلاليّة القضاء، إلخ)، وتفسيرًا لتقاعس الدولة عن تأمين الخدمات الأساسيّة (الكهرباء، الماء، البُنى التحتيّة، إلخ). أمّا الطائفيّة السياسيّة، فيُنْظَرُ إليها غالبًا كالخطيئة الأصليّة التي وُلدَت منها دولةٌ مُقصّرةٌ ومشوَّهةٌ ومبتورة.
الحلُّ السحريُّ: الإصلاح (أي بناء دولة قويّة، أو العبور إليها بحسب أحد شعارات 14 آذار)، وهو مسارٌ طويل يُختتم بإلغاء الطائفيّة السياسيّة. لَهُوَ طرحٌ بديهيٌّ، لكنّ ما يثير الرّيبة ويجعله مشبوهًا، هو أنّه الطرحُ ذاتُه الذي تجترّه علنًا، ومنذ سنوات مديدة، كافّةُ أطياف السلطة السياسيّة بلا استثناء.
إنّ الدولةَ مُقصِّرةٌ وينبغي العملُ على إصلاحها: هذه هي الأيديولوجيا الرسميّة للجمهوريّة اللبنانيّة الثانيّة التي انبثقت من اتفاق الطائف. فما من حزبٍ أو تيّارٍ سياسيّ في لبنان إلّا ويتمحور مشروعُه العلنيّ وبرنامجُه الانتخابيّ حول النهوض بهذه الدولة من خلال الإصلاح. وما من حزبٍ أو تيّارٍ إلا ويُبرّر فشلَه المتكرّر في تحقيق إصلاحها المنشود، بضعف الدولة وتقصيرها اللّذين يتيحان لحزبٍ أو تيّارٍ آخر تعطيلَ البدء بالإصلاح. وحتّى "حزب الله" يعلّل تمسّكه بسلاحه مُحاجِجًا بأنّ الدولةَ الضعيفة قصّرت في تحرير أراضيها المحتلّة ثمّ في حمايتها مِن الاعتداءات الإسرائيليّة، ويقول إنّ سلاحَه ضرورةٌ إلى حين قيام الدولة القادرة والقويّة.
الدولة مقصّرةٌ وينبغي إذًا الإصلاح، لكنّ هذا التقصير الأصليّ والبنيويّ هو ما يعيق عمليّة إصلاحها: إنّ هذه المُعادلةَ البسيطة هي ما يَحكم كلّ خطابٍ رسميّ وأيّ نقاشٍ عامّ في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها وتأمين التيار الكهربائي 24 ساعة يوميًّا ووقف الهدر والفساد ومحاسبة الفاسدين وتحقيق استقلاليّة القضاء والحدّ مِن التهرّب الضريبيّ وخفض الدَيْن العام وتعزيز التعليم الرسميّ، إلخ، إلخ، إلخ: هذه أمثلةٌ عن إصلاحاتٍ يسعى الجميعُ إلى تحقيقها، ويفشل الجميعُ في تحقيقها لأنّ الدولةَ مقصّرةٌ ولا تمتلك، تاليًا، المقوّمات التي تتيح لدولةٍ القيامَ بما يُفترض بها القيام به.
لأيديولوجيا التقصير والإصلاح وظيفةٌ أساسيّة تتعدّى تبرير الفشل المُتكرِّر: إنّ الإقرارَ العلنيّ والصريح بالخلل الفادح في بنية الدولة اللبنانيّة هو المسوّغ لبقائها على حالها. بمعنى آخر، إنّ الاعترافَ بتقصير الدولة وبوجوب إصلاحها، يَحجب حقيقةَ أنّ هذه الدولة ليست فعلًا مُقصِّرة، وإنّما هي ما ينبغي أن تكونه. هي دولةٌ تامةٌ، وتحقّق غايتَها على نحو كاملٍ، إذ ثمّة طبقةٌ اجتماعيّةٌ تعتاش منها وتبسط سيطرتَها على المجتمع بواسطتها. هي دولةٌ تُحافظ على ديمومتها مِن خلال الدعوة إلى إصلاحِ نفسها، وهو إصلاحٌ حتميُّ الفشل. باختصار: الدولة اللبنانيّة في حاجةٍ إلى إصلاح حتّى تصبح قادرةً على إنجاز أيّ إصلاح.
في «تاريخ لبنان الحديث»، يكتب فوّاز طرابلسي: الجمهوريّة الثانية التي أسَّست لها الوثيقة [أي اتّفاق الطائف] هي مرحلة انتقاليّة إلى جمهوريّة ثالثة تُلغى فيها الطائفيّة السياسيّة. الجمهوريّة الثانية، وفي دستورها، تجاهر إذًا بأنّها جمهوريّةٌ ناقصةٌ (أو انتقاليّة) وتعترف بوجوب إصلاح نفسها. لكنّ وسيلة الإصلاح المنصوص عليها (العمل على إلغاء الطائفيّة السياسيّة) لا تتعدّى كونها مزحةً سمجة، إذ تقتضي مِن أهل السلطة الذين أقرّوا اتفاق الطائف، أن ينسفوا دعائمَ سلطتهم ويُخرِجوا أنفسهم من الحكم. لذلك، يمكن القول إنّ هدفَ الإقرارِ بوجوب إلغاء الطائفية السياسيّة هو حجبُ حقيقة أنّ هذه الجمهورية ينبغي أن تبقى طائفيّة.
الجمهوريّة اللبنانيّة الثانية حتمًا في حاجة إلى إصلاح. لكنّ المعضلة هي أنّ مجرّد التفوّه بكلمة إصلاح يُوقِع المرء في شرك الأيديولوجيا الرسميّة المُسوِّغة لاستمراريّة هذه الجمهوريّة.
نشر في «ميغافون» ٢٠٢٠/٢/٢
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.