كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.
١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟
لم أفاجأ بحراك 17 تشرين بل كنت بانتظاره. بالتأكيد لم أتوقّعْ قيامه في هذا التاريخ، ولكنْ يَعي أيُّ ناشطٍ سياسيٍّ أنّ الغضب الشعبيّ آتٍ لا محالة، مع العلم أنّه تأخّر كثيرًا، لكن لنبدأ من هنا. قام حراك 17 تشرين بسبب الأزمة الاقتصاديّة الحادّة، وهي نتيجة فساد حكم الأحزاب والطبقة السياسيّة التي جاء بها اتّفاق الطائف. وفي ظلّ هذا الوضع الاقتصاديّ الرديء، قرّرت الحكومة فرض ضرائب جديدة تطاول الشرائح الفقيرة في لبنان، ولا أنكر أنّ المحرّك الأساسيّ كان فرض ضريبةٍ على تطبيق «الواتساب» وهي حركةٌ غبيّةٌ قامت بها الحكومة إذ بدت وكأنّها معاقَبةٌ للشعب واستغلالٌ له لسدّ العجز الاقتصاديّ الناتج عن السلطة نفسها، فكما تراكَمَ الانهيار الاقتصاديّ من 30 عامًا حتى اليوم، تراكم معه الغضب الشعبيّ الناتج عن اليأس، فأتت انتفاضة 17 تشرين فكانت فرصةً لتفريغ هذا الغضب. تعاظمت الانتفاضة بسرعة، فتضامنت المناطق مع بعضها البعض واتّحدتْ تحت شعار «إسقاط الحكومة» الذي برز مطلع الانتفاضة. لكنّ الاتّساع الجغرافيّ والعمق الشعبيّ للانتفاضة كان بسبب الجوع والانهيار الاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ، حتى أنّ جمهور «الثنائي الشيعي» قاد تظاهرات الجنوب خلال الأيّام الثلاثة الأولى.
في ما يتعلق بطبيعة الحراك، تضمّن الأخير تحرّكاتٍ ثوريّةً، من وقفاتٍ احتجاجيّة كثيرةٍ ومسيراتٍ وتظاهراتٍ إلى إغلاق مجلس النواب والهجوم على المصارف. الثورة سلطة، والشارع لم يصل إلى هذه النتيجة، لذلك أعتقد أنّ طبيعات التحرّكات تقع بين الحراك الشعبيّ والانتفاضة الشعبيّة، ولا مانع من التسمية.
أمّا الفئات والشرائحُ الاجتماعيّة المشارِكة في الانتفاضة، فقد كان للطبقة الوسطى حضورٌ بارز فيها على كافّة الصعد، كما لعبتْ دورًا كبيرًا فيها. إلى جانب هذه الطقبة، بدت الانتفاضة متنوّعةً وقد ضمّتْ جميع الفئات، إلّا أنّ زخم الفئات الأكثر ضررًا من الأزمة لم يكن واضحًا فمعظم هؤلاء كان ما زال بين أحضان زعيمه، وهنا لا يمكن أن نغضّ الطرْف عن محاربة السلطة للانتفاضة عبر مختلف الوسائل من تخوينٍ وترهيب، الأمر الذي أثّر كثيرًا على فئة كبيرةٍ من اللبنانيّين الذين بدتْ قلوبُهم وعقولُهم معنا لكنّهم مكبَّلون.
17 تشرين محطة نضاليّةٌ راكمت الكثير، وثورةُ الجياع آتيةٌ لا محال.
٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟
بعد إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، شهد الشارع ضياعًا: والآن ماذا؟ لم تكن الانتفاضة الشعبيّة الواسعة التي تتحرّك بشكل عفويٍّ بسبب الجوع واليأس تحمل بدائلَ وحلولًا، تعاملتْ خلال تلك الفترة مع الرأي العام يوميًّا. بعد صدمة إسقاط الحكومة دخلْنا في متاهة: ماذا بعد؟ فانقسمت الآراء حول حكومتين: تكنوقراط أو حكومة انتقاليّة.
في نقد الاقتراحين:
أوّلًا، لا يمكن لحكومة تكنوقراط من خارج أحزاب السلطة أن تتشكّل في الوقت الراهن لأنّ الطوائف ما زالت تتحكّم بسياسة الدولة المبنيّة على زعامات الطوائف والمحاصَصة، فرياض سلامة وفؤاد السنيورة تكنوقراط، وهما خير مثالٍ على أنّ المشكلة في السياسة العامّة، أي في النظريّة لا في الأشخاص. والجدير بالذكر أنّ خيار حكومة تكنوقراط هو مطلبٌ تمّ التسويق له من قبَل جهات سياسيّة معروفة وذلك قبل اندلاع الأزمة الحاليّة. يمكن لوزراء تكنوقراط أن يستمرّوا في السياسات الماليّة والاقتصاديّة نفسها، الأمر الذي نلمسه في حكومة «التكنقراط» الحاليّة.
ثانيًا، حكومة وطنيّة انتقاليّة إنقاذيّة بصلاحيّاتٍ استثنائيّة، من بينها إجراء انتخابات نيابيّة مبكّرة وإقرار قانون استقلاليّة القضاء واسترجاع الأموال المنهوبة وتحميل التحالف السلطويّ الماليّ تبعات الأزمة النقديّة والاقتصاديّة التي وصلتْ إليها البلاد. بمعنًى آخر، حكومة ثوريّة. لكن لم يصل الحراك الشعبيُّ إلى مرحلة الثورة، فميزان القوى لا يسمح بتطبيق هذا المطلب. لا يمكن أن تطلب من السلطة السياسيّة الحاكمة أن تغيّر بنية النظام التي تتغذّى منه. تعني المرحلة الانتقاليّةُ أنّ الثورة نجحت، فتنتقل السلطةُ من الطبقة الحاكمة إلى الثوّار. للأسف، يتطلّب هذا الامرُ مجهودًا أكبر، ويجب أن يكتسب شرعيّته من الشارع، يتطلّب هذا الأمر ثورةً بكلّ ما للكلمة من معنى.
٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟
لعلّ أهمّ إنجازات الحراك توسيعُ قاعدة اللبنانيّين المهتمّين بالشأن العام، فقد انتقل الخوف من قلب الشعب إلى عقول زعماء الطوائف القلقين على ثرواتهم وزعاماتهم المنتهية. سيظلّ هذا الوعي والإدراك يتراكم حتّى نصل إلى التغيير الحقيقيّ المنتظَر. من إنجازات 17 تشرين أيضًا انفتاحُ المناطق على بعضها ووحدةُ اللبنانيّين وتخلّيهم عن القيد الطائفيّ، وهو أمرٌ لم نشهده منذ الحرب اللبنانيّة. وكذلك محاولة استرجاع النقابات وعودة الإقطاعات للتكتُّل بسبب إيمانهم بأنّ صوتهم أصبح مسموعًا، ونقابةُ المحامين خيرُ مثالٍ على ذلك. وبرأيي، من أهمّ إنجازات 17 تشرين تعريةُ النظام المصرفيّ ووضعُ حدٍّ لهذا النظام الاقتصاديّ القائم على استغلال ذوي الدخل المحدود. هذه باختصار الإنجازات المعنويّة التي حقّقتْها انتفاضة 17 تشرين، وهذه هي كرة الثلج التي نراهن عليها للوصول إلى قوّةٍ ثالثة، أي لاعب سياسيٍّ جديد في البلد يؤمن بدولة القانون والعدالة الاجتماعيّة واستقلاليّة القضاء والاقتصاد المنتِج، إلخ. هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب على الحراك أن يسعى إلى تحقيقه.
٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟
علامَ نفاوِض؟ الثورة بالاسم والتمنّي لا تفاوِض بل تملي شروطَها. لا نثق بوعود السلطة ولا نعوّل عليها أصلًا. لا تحمّل الطبقةُ السياسيّة الحاكمةُ نفسَها مسؤوليّة ما وصلنا إليه اليوم! السبيل الوحيد هو تحويل هذه الانتفاضة إلى ثورةٍ حقيقيّة تكتسب شرعيّةً سياسيّةً من الشارع وتغيّر موازين القوى. عندها تفاوض. جرّبنا المفاوضات في مشروع "سد بسْري"، والنتيجة أنّ حكومة حسان دياب قرّرت الاستمرار بالصفقة مع كل مساوئها البيئيّة والماليّة. جرّبنا المفاوضاتِ في خطّة الكهرباء والبواخر والمعامل وبالمحارق وبالموازنات، لكنّ هذه الدولة لا تأخذ بآراء كل هؤلاء الاختصاصيّين الذين يقدّمون معروفًا لها. يخالف المسؤولون الدستور كل يوم. مجلسٌ نيابيّ لا يحاسِب. أمّا القضاء فعلى قياسهم.
أخيرًا، مَن نفاوض؟ "إذا فاوضنا برّي بيزعلوا السنّيّي والمارونيّي، وإذا فاوضنا باسيل بيزعلوا التانيين، وإذا فاوضنا الكل ما عدا باسيل بيعتبروا المفاوضات باطلة. بدهم قائد للثورة يختاروا حدا يمثّلهن بالأوّل".
٥ ما هي الدروس الرئيسة التي تستخلصها من حراك ١٧ تشرين؟ يرجى أن تعطي فكرة عن أبرز نشاطات الحراك في منطقتك وأبرز المطالب التي برزتْ خلال الحراك.
الدروس التي يجب أن نستخلصها من حراك 17 تشرين أنّه آن الأوانُ لتشكيل إطارٍ وطنيٍّ مُعارض يضمّ القوى السياسيّة والنقاباتِ والقطاعات المهنيّة، منتشرٍ في كل المناطق يحمي قيَم الثورة ومبادئها وأن يكون الأملُ في تشكيل قوّة سياسيّةٍ جديدة في البلد تشقّ الطريق نحو دولةٍ مدنيّة حديثة وصولًا إلى إسقاط النظام الطائفيّ العفِن.
والدروس الإضافيّة التي نستخلصُها كذلك أنّ التغيير صعبٌ لكنّه حتميّ وأنّ اليأس ممنوع، أمّا السلطة فهشّةُ وتخاف، وأنّ في أيدينا وسائلَ نضاليّةً غير مسبوقة، والمواجهة سياسيّة بحتة، كما يمكن للشعب أن يتحرّر من المناطقيّة والطائفيّة.
٦ تبلورت في حراك ١٧ تشرين مطالب خاصة بالشباب والطلاب، ما هي أهمّها برأيك؟
أبرز النشاطات التي قام بها الحراك في صيدا وأبرز المطالب:
أوّلًا، تمّ في صيدا العمل على تشكيل لجنةٍ تضمّ كلّ الأطراف السياسيّة المعارضة والمجموعات والشخصيّات تحت شعار "صيدا تنتفض" وتطوّرت آليّة عملها مع مرور الوقت.
قام الحراك في صيدا بتحرّكاتٍ مطلبيّةٍ عديدة: تظاهرات أمام مصرف لبنان ومؤسّسة كهرباء لبنان وشركة مياه لبنان الجنوبيّ وأوجيرو ومحال الصيرفة. نظّمَ تظاهراتٍ مطلبيّة أسبوعيّة في أحياء المدينة وأقام وقفاتٍ تضامنيّة بالتنسيق مع باقي المناطق. ومن صيدا، انطلقتْ كذلك الحركة الطلابيّة في لبنان. هذا بالإضافة إلى ندواتٍ شبهِ يوميّة تحت عناوينَ مختلفة: سياسيّة واقتصاديّة وقانونيّة واجتماعيّة. كما قام الحراك بحملات مساعداتٍ للعائلات الفقيرة، من تجميع ملابس ومؤن وتبرّعات مادّيةٍ على قدْر الإمكان، بالإضافة إلى إحياء حفلاتٍ فنيّة وطنية وإقامة معارضَ صور ونشاطات فنيّة متنوّعة.
توحّدت المطالب في لبنان عمومًا وصيدا خصوصًا على الآتي: وقْف الانهيار الماليّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والبيئيّ، إقرار قانون استقلاليّة القضاء كمدخلٍ لإعادة بناء مؤسّسات الدولة العادلة، قيام الدولة المدنيّة الديمقراطيّة العادلة التي تصون مبدأ العدالة الاجتماعيّة، استرداد أموال الدولة المنهوبة، الرعاية الصحيّة الشاملة، جامعة وطنيّة حديثة، ضمان الشيخوخة، العدالة الضريبيّة. إضافةً إلى الكثير من أدنى حقوق المواطن المحروم منها بسبب النظام السياسيّ الظالم المبنيّ على أساسٍ طائفيّ زبائنيّ مناطقيّ. ونشدّد على أنّ تحقيق أدنى هذه المطالب هو بالتغيير السياسيّ، فلا ثقةَ بهم ولا بحكوماتهم المزيّفة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.