كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.
١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟
كان واضحًا بالنسبة لنا أنّ السياسات الماليّة النيوليبراليّة المتطرّفة وسياسات التقّشف والخصخصة التي تراكمت منذ نهاية الحرب الأهليّة بإمكانها أن تؤدّي إلى تحّركاتٍ احتجاجيّة تستهدف قضايا معيّنة. لكن لم يكن لأحد أن يتوقّع فشل الشبكات الزبائنيّة في الحفاظ على هيمنتها الاقتصاديّة وقدرتها الرعائية. نجم عن ذلك انفصالٌ جماعيٌّ عن السوق الطائفيّة بشكل عفويّ ولا مركزيّ، إذ إنّ التصعيد في الشوارع وأماكن العمل، ولاحقًا في المصارف، جاء من خلال تبلور التناقضات واشتداد العداوة بين الطبقات التي سادتْ منذ حملة إسقاط النظام الطائفيّ في عام 2011 واحتجاجات الأساتذة في عام 2012، وتصاعدتْ في عام ٢٠١٥ مع التحرّكات الشعبيّة من جراء أزمة النفايات.
جاء هذا الحراك نتيجة وعيٍ جماعيٍّ حول عدم استدامة تلك الشبكات الزبائنيّة التي أبرزتْ هيمنتَها وبطشها عن طريق دفن وطمر المطالب بالعنف، الأمر الذي خلق وعيًا سياسيًّا وعزّز زخم التنظيمات السياسيّة. ومنذ ذلك الحين، نلاحظ محاولاتٍ عديدة من قبل الطبقة الحاكمة للتبرّؤ من المسؤوليّة عن فشلها، عبر إزاحة أزمتها الماليّة والاقتصاديّة على الطبقة العاملة بطريقةٍ مرحليّة. بدأت المحاولات مع فرض نظام الكفالة على العمّال السوريّين، وتكاملتْ مع فرض شروطٍ قاسيةٍ وعنصريّةٍ على العمّال الفلسطينيّين، وكلاهما على أسسٍ متناقضةٍ وخادعة تحت عنوان "حماية العمّال اللبنانيّين". ازدادت الخدعة وضوحًا عندما تعاظمت السياسات التقشّفيّة التي تستهدف العمّال المستقبليّين في سوق العمل، أي طلاب الجامعات، ما أدّى إلى حراك الطلّاب في الجامعة اللبنانيّة.
نلاحظ إذًا هذا التزامنَ في تطبيق سياسات مفترسة ضدّ العمّال من جميع الجنسيّات بهدف إزاحة الأزمات، والتي تبلغ ذروتها في تحرّكات ١٧ تشرين وتحقّق زخمها بالاستناد إلى إرث وعيها السياسيّ الناجم عن حراك 2015.
٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟
أوّلًا، قبل الإجابة عن السؤال، علينا أن نفهم ونحلّل أبعاد مصطلح "تكنوقراط". هل نَعتبرُ مشاكلَ لبنان الاقتصاديّة والاجتماعيّة ناجمةً عن ضعفٍ تقنيٍّ ضمن الطبقة الحاكمة؟ أم أنّها مسألةٌ بنيويّة ممنهجة لا مفرّ منها في النظام الرأسماليّ، خصوصًا بشكله النيوليبراليّ المتوحّش في لبنان؟ هل نعتبر أنّ السقف السياسيَّ لمطالبنا يجب أن يكون محدودًا بالإصرار على تبديل المستبدّين باختصاصيين ليديروا آلةَ القمع بكفاءة أكبر؟ هل ننسى أنّ أعنف وأشرس وأفشل البيروقراطيّين في الحكم هم من نخبة الاختصاصيين أصلًا؟ وإن سلّمنا جدلًا بأنّ هدف المعركة هو مكافحة الفساد (وهذا تجريدٌ واضح للمعركة الفعليّة)، هل نعتبر أنّ علاج تبعات الخصخصة هو المزيد من الخصخصة؟
إعادة النظر بمفهوم الأحزاب
ثانيًا، علينا إعادة النظر بمفهومنا للأحزاب، فتوجيه المعركة عليها بشكلٍ حصريٍّ هو أيضًا تجريدٌ للصراع. يَنتج هذا الأمرُ من تحليلٍ سطحيٍّ ومغالِط للشروط الماديّة التي سمحتْ لتلك الأحزاب بتسلّم الحكم والآليّات التي تعتمدها للمحافظة عليه. لذلك، إذا أمعنّا النظر في ما يُسمّى العمل الحزبيّ بشكله المعاصر في لبنان، يتبيّن لنا أنّ نمط سلوكه ذو طابعٍ طفيليّ. تستغلّ الأحزابُ جميع الفرص الناتجة من شكل النموذج الاقتصاديّ وقدرته على تدمير وقمع أيّ محاولة لبناء اقتصادٍ منتج. هكذا، طوّرت الأحزاب شبكاتٍ واسعةً من المحسوبيّة والزبائنيّة منحتْها القدرةَ على الهيمنة الاقتصاديّة والثقافيّة، ممّا ساعدها على إعادة إنتاج النموذج الاقتصاديّ القائم، وبالتالي إعادة إنتاج نفسها.
طبعًا، ليس هذا الجزء الوحيد من المعادلة، لكنّه يوضح أنّ الحلول لا يمكن أن تنبع من النظام نفسه. بل في الواقع نحن بأمسّ الحاجة إلى تدمير هذا النظام تمامًا. من ناحيةٍ أخرى، لا يجوز أن نغضّ النظر عن المطالب والشعارات التي وضّحت وبلورت التناقضات الناتجة من شكل النظام الرأسماليّ في لبنان رغم طابعها الإصلاحيّ، مثل حملتنا لتأميم المصارف أو حملة طلاب الجامعة اللبنانيّة للتعليم المجانيّ وغيرِها من الحملات التي ساهمتْ بإظهار أبعاد المعركة الفعليّة عبر علاقتها الجوهريّة بصراعات العمّال اليوميّة.
بناءً عليه، إنّ المطالبة باستقلال الحكومة عن أحزاب السلطة والإصرارَ على الانتخابات المبكّرة هي ببساطةٍ شعاراتٌ ومطالبُ فارغة لا تحمل أيَّ قيمة تغييريّة فعليّة ما لم توضَع ضمن إطارٍ ثوريّ مُعادٍ لكيان وشكل السلطة بحدّ ذاته. تمثّل تلك المقاربات الإصلاحيّةُ العائقَ الأخطر أمام الحراك اليوم.
٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟
من أبرز إنجازات الانتفاضة أنّها شهدتْ مشاركةً عمّاليّةً وازنةً لا سيّما من جهة العمّال غيرِ اللبنانيّين: عمّال وعاملات مهاجرين ولاجئين. اللافت أنّ الانتفاضةَ خلقتْ، ولو بتواضعٍ، مساحةً تفاعليّةً نقديّة بين مختلف شرائح العمّال من جهةٍ والجمهور اللبنانيّ من جهةٍ أخرى. في هذا الصدد شهدت الانتفاضة محاولاتٍ تنظيميّة شتّى رمتْ إلى تصويب السهام نحو واقع الاستغلال بصيغته العنصريّة ومنطقه القانونيّ. وقد يكون الإنجاز الأبرز هنا المحاولات التنظيميّة التي قام بها لاجئون (طلّابًا وعمّالًا) لإنشاء شبكات علاقاتٍ واسعة تساعد على حماية وتحفيز مشاركة غير اللبنانيّين (من الطبقات المستغَلّة القاطنة في لبنان)، ضمن الفعل الثوريّ الشعبيّ في الميدان.
على الرغم من صغر هذه المساعي في العدد وضعف استمراريّتها التنظيميّة، إلّا أنّ انتصارها الأكبرَ كمن في القدرة على إخراج الخطاب المناهض للعنصريّة من حيّز التضامن الإنسانويّ-الأخلاقويّ إلى حيّز النضال ضدّ الفاشيّة نحو تثبيت حقّ العامل واللاجئ في الفعل السياسيّ الفرديّ والجماعيّ. أي أنّنا انتقلنا من حيّز خطاب الحقوق المدنيّة إلى مقاربة الحقّ السياسيّ الجماعيّ في تقرير المصير على أساسٍ طبقيٍّ حرّ.
ولعلّ انتفاضة المخيّمات التي استمرّتْ أكثر من شهرين في عام 2019، كانت المحرّكَ الأساس لتبلور هذا الوعي الطبقيّ العابر لقوالب الفاشيّة المواطنيّة، فحالما تقاطَعَ حراك المخيّمات مع تنظيمات العاملات المهاجرات على سبيل المثال في كنف انتفاضة تشرين، بدأ تأسيس اللبنة التي سيُبنى عليها خطابٌ طبقيّ يتجاوز المَحاور والأقطار الهويّاتيّة القوميّة ونظام الاستغلال المقونن الذي يحوم حوله. ولعلّ هذا التلاقحَ في الأفعال السياسيّة سيساعد على بلورة وعيٍ نقديٍّ ضدّ رجعيّة النظام القانونيّ اللبناني.
٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟
جاءت انتفاضة 17 تشرين ضمن مدٍّ واسعٍ من التحرّكات التي هزّت المنطقة، من العراق إلى الجزائر والمغرب والسودان. أسقط السودانيّون البشير وهم يهتفون «النصر أو مصر». ولكن للسخرية، دفع فلولُ النظام مجريات الأحداث نحو مفاوضاتٍ فتسوية برعاية عبد الفتاح السيسي نفسه، المنقلب على الثورة المصريّة.
انتفض الشعب السوداني بجميع مكوّناته في وجه حكومة البشير النيوليبراليّة الإسلاميّة، فتشكّلت اللجان في كافّة أرجاء البلاد، من الأطراف وصولًا إلى العاصمة مطالبةً بالعيش الكريم. شكّل «تجمّع المهنيّين السودانيّين»، الذي كان شبه سريٍّ، لا وجهَ له ولا كوادر في العلن، صلةَ الوصل لدى معظم قوى الثورة. نجح باستقطاب العديد من الشباب لكونه، وخلافًا لباقي المعارضة، لم يدخل في اللعبة السياسيّة (التفاوضيّة) تحت نظام الطاغية. كما أنّه كان من حيث طبيعته النقابيّة مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالشارع.
مثّل التجمّع ركنًا أساسيًّا في عمليّة تنظيم الحراك وتوجيه الحركة المطلبيّة، وكان رفض التفاوض من سِمات «تجمّع المهنيّين السودانيّين». حاول البشير استخدام شتى أنظمته القمعيّة ومليشياته الدمويّة، لكنّ إصرار المنتفضين لم يهتز، فحصل الانقلاب العسكريّ. وعلى الرغم من الإطاحة بالبشير، بقيت الساحات مليئةً بالناس، وتحوّل المطلب إلى الإطاحة بالحكومة العسكريّة الجديدة. أتى الردُّ بمجزرة الخرطوم من قبَل مليشيات ما يسمّى بـ«قوى التدخّل السريعة». وتشكّلت «لجنة تحقيق» ودخلتْ قوى المعارضة (ومن بينها التجمّع) مرحلةَ مفاوضاتٍ انتهتْ بتسويةٍ كرّست دور الحكومة العسكريّة وأعطتْ بعض المكتسبات لقوى المعارضة، لكنّ "العيش الكريم" أصبح خارج المعادلة.
لعلّنا نستفيد من التجارب التي تجري في محيطنا، والنضالُ السودانيّ خيرُ مثال، فالشُعلة الثوريّة لن تنطفئ في السودان. تؤكّد تجربة «تجمّع المهنيّين السودانيّين» أهميّة التنظيم النقابيّ المنسجم مع المجتمع بعيدًا عن الهيكليّات البيروقراطيّة. ولكن في الوقت عينه، ليس هذا التنظيم كافيًا في غيابِ نظرةٍ متكاملة للتوجّه والمبادئ التي من شأنها أن ترصّ صفوف المناضلين. فمن بعد الإطاحة بالبشير وخروج التجمّع إلى العلن، تبيّن الخللُ في الإجماع على المبادئ لدى قوى المعارضة، وقد استغلّت القوى الرجعيّة تلك التناقضات.
بالعودة إلى السؤال الأساس، يمكننا القول إنّ في شعار «نحن نطالب ولا نفاوض» شيئًا من الحتميّة والغموض. يقتضي التفاوضُ مع طبقةٍ مهيمِنةٍ وجودَ ميزان قوى معيّنٍ إذا ما أردنا تحقيق مكتسبات، وهنا تأتي أهميّة التنظيم، تنظيم حركة "مطلبيّة" عمّاليّة بإمكانها تهديد مصالح الطبقة الحاكمة عبر الشارع وأماكن العمل، وحركة مبنيّة على قواعدَ مبدئيّة صلبة. نواجه في لبنان منظومةً تدرك مخاطر هذا التنظيم، فهي على سبيل المثال سعتْ عبر العقود إلى ترسيخ وإعادة إنتاج «النمطيّة الخصوصيّة لنمط الإنتاج الرأسماليّ». من أبرز مظاهر هذا السطو هيمنتُها على الاتحاد العمّالي العام محوّلةً إياه إلى جهاز قمعٍ طائفيٍّ في مواجهة الطبقة العاملة.
مَن نفاوض؟ وعلامَ نتفاوض؟ يقتضي التفاوض تنظيمَ الرؤية إلى جانب تنظيم الحراك. تكون المطالبة فعّالةً عندما يشلّ هذا التنظيم إعادةَ إنتاج المنظومة الحاكمة. لن تكون مبادؤنا رهن التفاوض. ويبقى أن نذكّر بأنّ الإنذار أتى من السودان بقلم المناضلة مزن النيل: "إنّ الثورة المضادّة تقبع في سطور الاتفاق".
الجديد في دور الشباب
في البدء، تطوّر التنظيم الشبابيّ.
من الصعب مقارنة الحدثَين الجماهيريّين على أنّهما فعلان منفصلان، فهما من دون شكٍّ جزئان من عقدٍ واحد من استِعار الحركات الشعبيّة ضمن حيّز الجغرافية العربيّة من جهة، والعالميّة الأوسع من جهة أخرى. فالعالَم العربيّ في سياق هذا العقد الممتدّ (2010-2020) شهد عمليّةً تراكميّةً متسارعةً في إيقاع الاحتجاجات الشعبيّة التي تكاد تصل إلى ذروة (أوليّة) في تحديد موقفٍ أكثرَ وضوحًا من المنظومة الدولاتيّة (الاقتصاديّة–السياسيّة) القائمة. من هنا، لا يمكن وصف التغيّرات في الفعل الـ"شبابي" أو الطلابيّ إلّا من منطلق خطّ الفعل المتّصل الذي يصل الذروتين بعضهما ببعض، لذا وجب أوّلًا تحديدُ جملة الاحتجاجات المتقطّعة التي تصل خفوت هبّة 2015 الشعبيّة بذروة انتفاضة 2019.
قبل أن يخبو حراك 2015 تُركت الساحات بأقلّ من عشر مجموعاتٍ ذات طابَع ائتلافيّ تشمل تشكيلاتٍ حزبيّة خارجة عن التركيبة الحكوميّة (مثل حملة «بدنا نحاسب»)، وأخرى تتشكّل من مجموعات مجتمع مدنيّ ومنظّمات غير حكوميّة (كـ«طلعت ريحتكم»). وبين هذا وذاك ترنّح الخطاب المصاحب لنشوء هذه الحملات بين ذاك الداعي إلى العدول عن سياسات الخصخصة التي يرتكز عليها النظام الاقتصاديّ للبرجوازيّة اللبنانيّة، وآخرَ داعٍ إلى معالجة الفساد على أنّه المسبّب الأساس في فشل الإدارة في البلاد. رغم وجود العنصر الشبابيّ في كافّة تلك التشكيلات، بدا واضحًا أنّهم كانوا منضوين تحت جناح الخطابات السائدة، مع مساحاتٍ ضيّقة أو غير متبلورة بعدُ للتفاعل الشامل الذي يحاكي القطاعات الحيويّة التي تشهد الثقل الشبابيّ الأوزن، أي الجامعات.
بدأت تتبلور نواةُ الحركة الطلابيّة بعيد خفوت زخم الشارع في صرح الجامعة اللبنانيّة. متأثرةً بطغيان الخطاب الإصلاحيّ المجتزأ على المزاج الاحتجاجيّ العامّ في البلاد، اقتصرت بدايةُ التحرّكات الطلابيّة على تنظيماتٍ مجهريّةٍ تُعنى بمعالجة قضايا الجامعة اللبنانيّة وأوجه الفساد فيها حصرًا. بدأ هذا العمل يتطوّر تنظيميًّا من خلال مبادراتٍ ائتلافيّة مختلفة بين شتى النوادي والتجمّعات الطلابيّة التي تضع نفسها في موقع العداء للمحاصصة الطائفيّة وأوجه فسادها التي تنهش في مؤسّسة الجامعة اللبنانيّة.
إلّا أنّه في مطلع عام ٢٠١٩، وبالتوازي مع حراك المخيّمات، بدأ خطابُ الطلاب المعارضين يتلوّن بلغة سياسيّةٍ أكثر نفورًا فربط تهميشَ الجامعة اللبنانيّة، الذي تجلّى مطلعَ ذاك العام بقرار مجلس الوزراء تقليصَ ميزانيّة الجامعة اللبنانيّة، بنمط الاقتصاد الريعيّ النيوليبراليّ للدولة. تتالت الاحتجاجات حتّى وصلت إلى ذروتها في إعلان الطلاب تضامنَهم الكامل ووقوفَهم في صدارة المعركة التي أعلنتْها رابطة أساتذة الجامعة اللبنانيّة. وفي حين توقّفت معركة الرابطة عند سقفٍ مُحدّد من المساومات، استمرّ الائتلاف المعارض بفاعليّاته الاحتجاجيّة مبلوِرًا إياها تنظيميًّا على شكل تكتل طلابٍ سُمّي «تكتل طلاب الجامعة اللبنانيّة».
في استحقاقه الأوّل، أعلن التكتّل مقاطعتَه الانتخابات الطلابيّة في الجامعة على خلفيّة عقم نظامها الانتخابيّ الذي يعيد إنتاج تبعيّة الجسد الطلابيّ للإدارة الجامعيّة الممثِّلة للسلطة اللبنانيّة من جهة، وتكريسها منطقَ السلطة الإقصائيَّ الذي يحرم غير اللبنانيّين من الطلاب حقّ الانتخاب كفعلٍ سياسيّ. وبذلك خطا الحراك الطلابيّ خطوته الأولى نحو التماهي مع الفعل الشعبيّ الثوريّ الآخذ بالتبلور على الأرض في مواجهة بُنية وشكل النيوليبراليّة اللبنانيّة ومنطقها الفاشيّ. كان كلُّ ذلك قبل أسبوع واحدٍ من ١٧ تشرين.
ضمن انتفاضة تشرين، عمل حراكُ الجامعة اللبنانيّة على تكثيف التنسيق مع تنظيمات شبابيةٍ مؤدلجة. هدَفَ التنسيق إلى إخراج الخطاب الطلابيّ من أعتاب مؤسّسة الجامعة الوطنيّة نحو التفاعل مع الجسد الطلابيّ في الجامعات الخاصّة ككل، بالإضافة إلى إشراك الخرّيجين (لا سيّما العاطلين من العمل)، والأهمّ التفاعل مع شرائح عمّاليّة شبابيّة من منطلق تموضعٍ علنيٍّ في خندق اليسار. شكّل ذلك طبعًا خطوةً تنظيميّة سياسيّة جديدة لا تخلو من العيوب التقنيّة والسياسيّة الجوهريّة المتعلّقة بمدى العمق الراديكاليّ الذي يخوضه الجسد الطلابيّ وتحالفاتُه.
الظاهر أنّ طلاب الجامعة اللبنانيّة (المعارضين اليساريّين) استطاعوا بالحدّ الأدنى استنهاضَ المعالم الأولى للتنظيم السياسيّ الطلابيّ الذي غاب منذ الثمانينيّات. يتمحور الاستحقاقُ الطلابيّ اليومَ حول بلورة خطابٍ سياسيٍّ متكاملٍ يوضح موقع الحركة الطلابيّة من النظام اللبنانيّ بكلّيّته، مضطرةً بذلك إلى حسم الموقف من القطاع التعليميّ الخاصّ كعمادٍ أساس للنظام الاقتصاديّ النيوليبراليّ. وإلى أن يوثَّق ذاك الوعيَ السياسيّ خطابيًّا وتنظيميًّا، نستطيع أن نجزم أنّ مسيرة الاحتجاج الطلابيّ هزّت واقع الجمود والخوف والمطاوَعة في صرح الجامعة الوطنيّة مع هبّة ٢٠١٥. وها هي الآن مع انتفاضة تشرين تدخل مرحلةً تنظيميّةً تحاول فيها البروزَ على أنها ممثل للشباب القاطن على الأراضي اللبنانية من خلال أخذ موقع النقيض من النظام اللبناني باقتصاده النيوليبرالي ومنطقه الفاشي.
أبرز مطالبنا
- إسقاط نظام الكفالة وإعطاء العمّال الأجانب كامل حقوقهم الإنسانيّة والمدنيّة.
- إعطاء اللاجئين الفلسطينيّين والسوريّين وغيرهم كامل حقوقهم الإنسانيّة والمدنيّة.
- إعطاء النساء ومجتمع الميم كامل حقوقهم الإنسانية والمدنية.
- إطلاق سراح جميع السجناء المرتكبين جرائم صغرى، ونزع سلاح عناصر الأمن الداخلي وتجريد المناطق المدنية من المظاهر العسكرية.
- تأميم قطاع الطب وشركات الأدوية لتوفير رعاية صحية كاملة مجانًا تكفل جميع السكان.
- استرجاع الأملاك العامة المنهوبة كالأملاك البحريّة وسوليدير، إضافةً إلى تأميم جميع القطاعات التي خُصخصت من قبل الطبقة الحاكمة.
- تأميم المصارف الخاصة لاسترداد الأموال المنهوبة، من خلال شطب الدين العام وديون الناس لتحرير أكثر من ثلث الميزانية العامة لتحسين الخدمات والرعاية، وكشف كل التاريخ المالي في البلد.
- إعادة هيكلة النظام الضريبيّ لجعله تصاعديًّا يطاول الثروات الكبيرة ويزيل العبء عن الطبقة العاملة.
- تحويل رؤوس الأموال نحو أعمال اقتصاديّة منتجة بحيث يسيطر العمّال بشكلٍ جماعي وكامل على عمليّات الإنتاج والديمقراطيّة في مكان العمل.
- تطوير سياسات زراعيّة مستدامة تحمي البيئة وتحسّن مكاسب المزارعين عبر الاستيلاء على الأراضي الزراعيّة المكدّسة لصالح المجال العام، وتشجيع وتحصين التعاونيات العمّالية في مجال الزراعة.
دروس من التجربة
أوّلًا: التنظيم ثم التنظيم ثم التنظيم أمرٌ أساسيّ وضروريّ للاستمرار. إنّ غيابَ التنظيم وأنانيّة المجموعات من أهمّ إخفاقات الحقبة الأولى. كان الأجدر بالأحزاب اليساريّة، والحزب الشيوعي تحديدًا، أن تكون حاضرة لتلقُّف واستيعاب وتوظيف هذا التحرّك الشعبيّ. لكنْ للأسف، لم يكن الحزب حاضرًا.
ثانيًا: في الثورات الشعبيّة لا مكانَ للنجوم والنجوميّة. لكن للأسف، لم تقبل الأحزاب ومناصروها بهذا الأمر، فعوّموا مَن أرادوا تعويمَه على حساب القضيّة والتحرّك، وهو أمرٌ سيّئٌ لأنه يُشخْصن القضايا ويحرفها عن مسارها الشعبيّ الشامل.
ثالثًا: العمل على بلورة قائدٍ لا نجم.
رابعًا: يكون التنسيق على الأرض مع أهل الساحات والشوارع. لكن للأسف، غالبًا كان التنسيق بعيدًا عن ذلك، فوجدنا المنظِّرين الكيبورديّين يخطّطون ويقرّرون عن الثائرين في الشوارع.
خامسًا: عدم المساومة بالشعارات مع أي مجموعة كانت. لا يشمل إعلاءُ السقف مطالبَ الثورة فقط، بل التحالفات التي يجب ألّا تقوم، فتصبح معها قضية كعلم فلسطين أزمةً يستوجب الدفاع عنها. وهنا المطلوب بناءُ خطابٍ جذريٍّ متكامل ورؤيا موحّدة.
بين تسكيرٍ للشوارع واستعادةٍ لمساحات من الأراضي المصادَرة من قبل الدولة، من خلال فعل التخييم والمبيت، نشأت في مختلف ساحات لبنان كما أسلفنا الذكر، سلوكيّات في الوسط الشعبيّ أخذت على عاتقها مهمّةَ تأمين كافّة اللوجستيّات التقنيّة والعينيّة من بطانيّاتٍ ومأكل ومشرب وإسعافات أوّلية. لكن للأسف، سمح غياب التنظيم المتكامل المركزيّ (أي الموحّد) بدخول جهاتٍ غير شعبيّة إلى الساحات بحجّة المساعدة. أدّى هذا إلى توزيعٍ غير متكافئٍ للوجستيّات على المناطق أو ضمن المنطقة الواحدة من جهة، وصعود اتكاليّة غير مباشرة على أنماطٍ استهلاكيّة كهذه من جهةٍ أخرى.
أثبتتْ هذه الظاهرة وجوب إنشاء لجانٍ شعبيّةٍ تُعنى بالتنظيم القاعديّ القادر على الحفاظ على صيرورة الصمود الشعبيّ من دون الغرق في دوامات الاتكاليّة أو التبعيّة لجهاتٍ دون أخرى. يساعد بروزُ انتظامٍ عضويٍّ على مقارعة، بل القضاء على ثقافة الزبائنيّة التي تزحف من خلال المنظمّات المأجورة بين التجمّعات الشعبيّة كلما تسنّت لها الفرصة، مُحوّلةً أيَ تجمّعٍ إلى سوقٍ سلَعيٍّ خدماتيّ، كابحةً بذلك نواةَ التضامن الطبقيّ.
لتجاوز هذه العراقيل أمام بلورة التضامن الطبقيّ، لا بدّ من إنشاء لجانٍ شعبيّةٍ. يجدر التنويه كذلك إلى أنّ اللجانَ الشعبيّة منبرٌ لتجاوز الطابَع المواطنيّ القوميّ الذي عادةً ما يسيطر على الخطاب والمقاربات الخطابيّة في الساحات، مثل «حق المواطن اللبناني في الحياة الكريمة»، ويساهم في تطبيع الإقصاء الممنهج لغير اللبنانيّ من الجماهير الثائرة سواء كان لاجئًا أو عاملًا، إلخ. تساعد اللجان الشعبيّة، عند تنظيمها (وحتى في المخاض نحو تنظيمها)، على تجاوز الـ"عقل القومي" نحو الحسّ الطبقيّ العابر لـ"المواطنة". بمعنى آخر، من خلال اللجان الشعبيّة فقط، تنتظم الساحات على أنّها مساحاتُ تفاعلٍ معرفيٍّ تُحصّن الفعل الميدانيّ الثوريّ من الانزلاقات الانعزاليّة. في الخلاصة، تُصبح اللجان الشعبيّة جوابًا على سؤال كيف يصمد الشعب في معركته ضدّ السلطة؟ ويتجاوز معنى الصمود هنا سِمَتَه اللوجستيّة العينيّة نحو بُعده التفاعليّ الفكريّ.
سادسًا: ضرورة تحقيق اقتصادٍ بديل منتِجٍ يوفّر فرص عمل للجميع، بغضّ النظر عن الجنسيّة، وتصميم تنفيذه لصالح عمّاله، بدلًا عن صالح تراكم الأرباح الناتجة من الملكيّة الخاصّة. علينا أن نطالب بتأميم القطاعات الأساسيّة ومساندتها بسياساتٍ مستدامة منتجةٍ وبنْية تحتيّة تسهّل تحقيقها.
نبدأ أوّلًا بقطاع الزراعة للحدّ من استيراد الموادّ الغذائيّة وتحقيق حمايةٍ ثم سيادةٍ غذائيّة لجميع السكان. يمكننا عن طريق التطوير الزراعيّ وتأميم القطاع المصرفيّ تصوُّر قطاع صناعيّ فعّال. إنّ أيَّ نوع اقتصادٍ يطبّع علاقات الإنتاج الاجتماعيّة المبنيّة على الاستغلال قد يطوّر ويساهم في ازدهار الأسواق في المدى القصير، ولكن سوف يؤدّي حتمًا إلى أزمات أعنف على المدى الطويل. لذلك تبقى حقوق العمّال بإدارة صناعاتهم وأولويّة تحصيل رزقهم المتكامل الناتج من عملهم أساسَ أيّ نظامٍ اقتصاديّ ديمقراطيّ نطمح إلى تحقيقه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.