العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

سقطتْ أسطورة المصارف والخوف من الثورة المضادّة

كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.

 

١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟

في حملة "لِحقّي" توقّعنا قيام انتفاضةٍ شعبيّةٍ، لذلك كنّا أوّلَ من دعا للنزول إلى الشوارع في 17 تشرين، ومع ذلك، لم نتوقّع أن تكون الانتفاضة بهذا الحجم والامتداد. دعَونا بدايةً إلى تحرّك في 21 تشرين الأوّل/أكتوبر، ثمّ أطلقنا، صباح 17 تشرين عريضةً شعبيّة حصدتْ آلاف التواقيع خلال ساعات، فقرّرنا الدعوة إلى تحرّكٍ في اليوم نفسه عند السادسة مساءً، ومن هناك كرّت السّبحة.
17 تشرين انتفاضةٌ ثوريّة وتتويجٌ لمسارٍ طويلٍ قادتْ خلاله المنظومةُ الحاكمة البلادَ إلى حدود الانهيار الشامل. بنَتْ قوى السلطة خطابها السياسيَّ خلال انتخابات عام 2018 على التهويل الطائفيّ والتخويف السياسيّ والمظلوميّة والحصار والكثير من الوعود. انتهت الانتخابات، فإذا بالبلد يسير نحو الانهيار. أمّا الشرارةُ فكانت سلّة الضرائب المجحفة والتي أتتْ فورًا بعد حرائقَ شبّت في قرى عدّة أظهرت فيها الجهاتُ المعنيّة أداءً سيّئًا. في هذه الحرائق شعر الناس بقوّتهم وقوّة تضامنهم، الأمرُ الذي شكّل عاملًا من عوامل إنجاح ثورة تشرين، ففي مقابل خطاب اليأس الذي دأبت السلطة خلال سنواتٍ على ترسيخه، رأينا مشهدًا تضامنيًّا واسعًا مدّ الناس بالقوّة. هذا بالإضافة إلى خروج الحراك الشعبيّ من الخطاب الاحتجاجيّ إلى الخطاب الذي يحمل الحلول المباشرة والواضحة، والتي ردّدها جميع الثوّار في المناطق كافّة. جعلتْنا جميع هذه العوامل أمام حراكٍ غير مسبوق لناحية حجمه وتأثيره وتأييده الشعبيّ.

في البداية، انخرط الجميع بالانتفاضة. لكنْ شيئًا فشيئًا، انسحبت الفئات الأفقر تحت الضغوط المعيشيّة وإصرار الكثير من القوى المؤثّرة في الثورة على انتهاج خطابٍ يدور في حلقة دستوريّةٍ مفرغة ابتعدت عن هموم الناس. شكّل الخطاب التخوينيّ مسوّغًا قويًّا لتبرير هذا الانسحاب، لاسيما في البيئة الاجتماعيّة لـ"حزب الله".

٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟

كان هذان الشعاران واقعيّين مع انطلاق الانتفاضة. كان من الضروريّ إسقاطُ الحكومة. ومع خطاب الإسقاط، ينبغي طرحُ بديلٍ واقعيٍّ ومنطقيٍّ يحمله الناس في جميع المناطق ويدافعون عنه. تمحورت المشكلة حول الغياب التامّ للخطاب الاقتصاديّ-الاجتماعيّ في العديد من الأماكن. كانت "لِحقّي" من التنظيمات السياسيّة القليلة التي ركّزت على هذا الخطاب. لكن بعد إسقاط الحكومة، كان ينبغي عدم الوقوع في الخطاب الدستوريّ المحض. يتحرّك الناس بحماسةٍ وإصرارٍ لإسقاط حكومة، لكنّهم لا يتحرّكون بالحماسة نفسها لفرض تشكيل حكومة، لاسيّما أنّ هذا الطرح غيرُ واضحٍ لناحية آليّات تحقيقه.
امتصّت السلطة غضبَ الشارع عبر تشكيل حكومةٍ سيّئة وغيرِ مستقلّة ولا تقدّم حلولًا جدّية للمشاكل، كما أنّها أسيرة إملاءات القوى السياسيّة وصندوق النقد الدوليّ والمصارف. لكنّ الشارع، أمام ضغوط الهموم المعيشيّة، يميل إلى تقديم بعض التنازلات وإعطاء الفرص.

عندما استفحل الصراع حول من سيدفع ثمن الأزمة، قدّمت "لحقّي" البيانَ الوزاريَّ البديلَ لحكومةٍ تنحاز إلى المواطنين. شمل البيانُ مجموعةً كبيرةً من الإجراءات التي رأيناها مناسِبةً وضروريّة لخروج البلد من الأزمة، واقتضت أن تدفع الأوليغارشيّة الحاكمة ثمن الأزمة لا الناس، فضلًا عن إصلاحاتٍ كبيرة وجذريّة في السياسات الاقتصاديّة والماليّة والنموذج الاقتصاديّ.

 

٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟

أهمُّ إنجازٍ أساسيّ للحراك هو هذه الانتفاضة التي حقّقتْ مكاسبَ أساسيّةً واستراتيجيّة:
أوّلًا، اكتشاف وتثبيت اللامركزيّة في مواجهة النظام والتي أثبتتْ جدواها وأنّها تربك النظام أكثر من الإصرار اليائس على التظاهر في المركز بيروت. تم نقلُ المواجهة إلى الحديقة الخلفيّة للنظام الحاكم.

ثانيًا: استعادة المساحات العامّة وخيمِ النقاش وغيرها، والتي حرّمها النظام الحاكم وجرّم استعادتَها.

ثالثًا: تثبيت وتكريس خطابٍ سياسيٍّ يلغي الكثير من مفاعيل الانقسام العموديّ المهيمن الذي تكرّسه السلطة، ويستبدله بخطابٍ أكثرَ قوّةً وجديّة: الناس من جهة، والمنظومة الحاكمة من جهة أخرى، وهذه المنظومة هي تحالفُ أمراء الطوائف مع القطاع المصرفيّ وكبار المحتكرين.

من إنجازات الانتفاضة أيضًا إسقاط أسطورة المصارف وهالَتها الوهميّة والبطولات الخرافيّة للقطاع المصرفيّ ولمصرف لبنان.

لا أعتقد أنّ الحراك في الموجة الثوريّة السابقة كان بإمكانه أن يحقّق الكثير في هذا المجال أكثر من الذي حقّقَه، أقصد الإصلاحات والمطالب المعيشيّة. غير أنّه فرض على النظام تقديم الكثير من التنازلات، وصار يتحرّك بطريقةٍ مختلفة ويقوم بالكثير من الحسابات قبل اتّباع أيِّ سلوكٍ أو اتّخاذ أيّ إجراء. صار النظام يشعر بقوّة الناس. هذا فضلًا عن موضوع الاعتقالات والتحرّكات السريعة لتحرير المعتقلين وغيرها.

 

٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟

ليست المسألة متعلّقةً فقط بمبدأ التفاوض، إنّما أيضًا بمن يفاوض. لذا يجب أن يكون الهدف الأساسيُّ بعد جائحة كورونا تأسيسَ نوعٍ من الجسم التمثيليّ عبر مجالسَ ثوريّة محليّة ونقابيّة، وتشكيل مجلس وطنيّ. لا أحد من مكوّنات ثورة 17 تشرين بإمكانه ادّعاءُ تمثيل الثوّار وتمثيل الناس الذين ملؤوا الساحات.
بعد تشكيل هذه الأجسام التمثيليّة يصبح بالإمكان إضفاءُ نوعٍ من المشروعيّة على جميع التحرّكات والإجراءات والتوجّهات.

 

٥ ما هي الدروس الرئيسة التي تستخلصها من حراك ١٧ تشرين؟ يرجى أن تعطي فكرة عن أبرز نشاطات الحراك في منطقتك وأبرز المطالب التي برزتْ خلال الحراك.

كانت انتفاضة 2015 محدّدةَ النطاق والأهداف. ما تغيّر اليوم، بالإضافة إلى طبيعة الانتفاضة، أنّ الشباب ينخرطون فيها بصفتهم شبابًا وطلّابًا. رأينا مسيراتٍ شبابيّةً وطلابيّة من المدارس والجامعات. إنّ جميع أشكال الانتظام القاعديّة، محليًّا وقطاعيًّا، تهزّ أركانَ النظام الحاكم.
 

٦ تبلورت في حراك ١٧ تشرين مطالب خاصة بالشباب والطلاب، ما هي أهمّها برأيك؟

تمامًا، تبلورتْ في الحراك مطالبُ خاصّةٌ بالشباب، من الخطابات المتعلّقة بمستقبلهم في هذا البلد، مرورًا بالعديد من المطالب التربويّة التي رفعها الطلاب في "تكتّل طلاب الجامعة اللبناني" على سبيل المثال كتعزيز التعليم الرسمي ودعم الجامعة اللبنانيّة والتوظيف بالكفاءة لا بالمحسوبيّة، وصولًا إلى خطاب الأمل بالبقاء في هذا البلد بدلًا من خطاب اليأس والهجرة.
 

٧ من موقعكم كشباب وكمجموعات، ما أبرز المطالب التي يجب أن يركّز عليها الحراك؟

يجب أن يركّز الحراكُ على تنظيم نفسه إنّما على أسسٍ حقيقيّةٍ قاعديّة، لا على أساس المجموعات السياسيّة الفاعلة. أمّا المطالبُ، فأعتقد أنّ كورونا سيسلّم لنا بلدًا منهارًا. لعلّنا سنخرج من هذا الكابوس بثورة اجتماعيّةٍ شاملة.
 

٨ ما الذي تغيّرَ في دور الشباب بين انتفاضة ١٧ تشرين الأول ٢٠٢٠ وانتفاضة صيف ٢٠١٥؟

بماذا أخرج من دروس في تجربتي من الحراك؟ أتمنّى لو يمكن اختصار الأمر. في الواقع أعتبر تجربتي الشخصيّة وتجربتنا كتنظيمٍ في الانتفاضة جيّدة جدًا، كما أنّنا رأينا قناعاتِنا التنظيميّة والسياسيّة تتجسّد فيها: الخطاب الاقتصاديّ-الاجتماعيّ المنحاز للناس والخطاب السياسيّ الحاسم غير المساوم ولامركزيّة التحرّكات. ينبغي تثبيت كلّ هذه الاكتشافات وحمايتُها وتطويرُها. الخوف كل الخوف من القوى التي تلعب دور الثورة المضادّة التي يجب أن نجد آلياتٍ وأساليبَ فاعلةً للتعامل معها.

العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.