كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.
١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟
لا يمكن أن نقرأ الانتفاضة الشعبيّة التي بدأت في ١٧ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٩ إلّا كخطوةٍ تصعيديّةٍ عددًا ونوعيةًّ في مسار الاحتجاجات الشعبيّة التي بدأتْ عام ٢٠١١ واستمرّت حتى عام ٢٠١٦ تحت عناوينَ أكثرُها مطلبيّ (سلسلة الرتب والرواتب، أزمة النفايات، إلخ). وفي كل مرّة، كانت السلطة السياسيّة تنجح في إجهاض هذه التحرّكات عبر أساليبَ مختلفة، منها المناورة والاحتواءُ والمواجهة والتهديد.
في رأينا، يكمن السبب الرئيسيّ وراء نجاح السلطة في قراءة المجموعات والقوى التي كانت تدعو الناس إلى التظاهر، في طبيعة الظرف السياسيّ وبالتالي طبيعة المواجهة. كنا نرى، وما زلنا، أنّ المواجهة سياسيّةٌ بامتياز، وليست تقنيّة أو مطلبيّة، على تصحيح أجورٍ أو جمع النفايات وطريقة إدارتها، في حين رفَضَ أغلبُ شركائنا في الشارع "تسييس" الحراك. انعكس هذا التباينُ في وجهات النظر في نقاشات التنسيق بين القوى والمجموعات بشكلٍ واضح، وأحيانًا حادّ، وامتدّ الاختلاف في تقدير الظرف السياسيّ إلى استحقاق الانتخابات البلديّة عام ٢٠١٦. وقد خضْنا وَحدَنا هذه الانتخاباتِ في 16 بلديةً في مدن وبلدات كبيرةٍ من الشمال إلى الجنوب ومن بيروت إلى البقاع.
جاءت الانتخابات التشريعيّة عام ٢٠١٨ لتؤكّد مرّة أخرى طغيان أهميّة أسماء المرشّحين عند قوى الانتفاضات الشعبيّة على الطرح السياسيّ الواضح لتشكيل بديلٍ سياسيّ جِدّيٍّ لمنظومة ائتلاف زعماء الطوائف، فانتهينا إلى تشكيل تحالفٍ انتخابيّ تحت عنوان "كلنا وطني" بمضامين سياسيّة غير منسجمة، ولا تَرقى إلى مستوى التحدّي الذي كان أمامنا.
بعد الانتخابات النيابيّة، استطاعتْ قوى السلطة تجديد شرعيّتها الشكليّة، ولكنّها، على عادتها وطبيعتها، عجزت عن التصدّي للمشاكل الفعليّة في المجتمع، فتجاهلتْ مفاعيل الأزمة الماليّة التي بدتْ واضحةً لمن يريد أن يرى، وتصرّفت كأنّ كلّ شيء على ما يرام. إلا أنّ الناسَ في حياتهم اليومية كانوا يعيشون نتائج هذه المفاعيل، من توقّف القروض كافة وليس السكنيّة فقط، وإفلاس بعض المؤسّسات وانتشارٍ أوسع للبطالة، مرورًا بتعثّر استيراد عدد من السلع الأساسيّة، وصولًا إلى اهتزاز سعر صرف الدولار فوق عتبة التثبيت على ١٥١٥ ليرة في أيلول/سبتمبر ٢٠١٩. وكانت خطوة الحكومة مجتمعةً بفرض ضريبةٍ على خدمة الواتسآب الخطوةَ الحكيمةَ واللامعة التي فجّرت أرضيّةً تغلي.
التذكير اليوم بهذه المفاصل ليس من باب إلقاء اللوم على أحد، وطبعًا ليس من باب القول "كان معنا حقّ"، ولكنّه ضروريّ لقراءة المشهد عشيّة ١٧ تشرين/أكتوبر.
ينزل الناس إلى الشارع عندما يشعرون بأنّ السلطة تمرّ بمرحلة ضعفٍ واقعيّ أو متخيّل، وبالتالي يصعّدون تحرّكهم أو يخفّفونه حسب قراءتهم لهذا المؤشر. ثمّ يقدّرون، وإن بشكلٍ غير معلن، ومن دون وعيٍ مسبق، ميزانَ القوى، وهذا هو أساس العمل السياسيّ.
لهذه الأسباب، اتّخذت انتفاضة 17 تشرين هذا الزخم غير المسبوق على مستوى العدد والانتشار في كل المناطق اللبنانية. وقد لاحظ مَن كان حاضرًا في الشارع التنوّعَ الطبقيَّ الكبير، خاصّةً خلال الأسابيع الأولى. وبدا واضحًا للجميع أنّ المواجهة هذه المرّة سياسيّة بامتياز، وإن اتخذت بعض المجموعات وقتًا لتحسم أمرها. لكن ما لم يُحسَم حتى اليوم هو هدف المواجهة: تحسين أداء السلطة القائمة أم طرح بديل جدّيّ عنها؟
٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟
رُفعت خلال الانتفاضة شعاراتٌ كثيرة، منها الشعاران أعلاه، وغيرهما كاستعادة الأموال المنهوبة واستقلاليّة القضاء وغيرها.
نحن في حركة "مواطنون ومواطنات في دولة"، وانسجامًا مع قراءتنا بأنّ الاستحقاق السياسيّ الوحيد المجدي هو بناء دولة فعليّة في لبنان، أي دولة مدنيّة، قدّمنا في ١٨ تشرين ٢٠١٩ طرحَنا السياسيّ الذي يرسم خارطة طريق واضحة وبالتفاصيل للوصول إلى هذا الهدف. وأشرنا إلى أنّ ذلك يتمّ من خلال التفاوض مع قوى السلطة حول بندٍ واحد هو الانتقال السلميّ للسلطة إلى حكومةٍ انتقاليّة ببرنامجٍ سياسيٍّ واقتصاديّ بمهمّتين رئيسيّتين: مواجهة تداعيات الأزمة الماليّة ووضع أسس الدولة المدنيّة. تنتهي مهمّة هذه الحكومة بعد ١٨ شهرًا بانتخاباتٍ نيابيّة على أساس قانون تمثيل سياسيٍّ يكرّس مدنيّة الدولة وشرعيّة السلطة فيها، مع مراعاة من يريدون أن يتمثّلوا سياسيًّا من خلال الطوائف كحالات استثنائيّة. ودعَوْنا كل القوى والمجموعات الموجودة في الشارع إلى نقاش هذا الطرح وإغنائه بملاحظاتهم، وعقدْنا جلسات نقاش عديدة في خيمتنا وفي مقرّ الحركة، بالإضافة إلى لقاءات سياسيّةٍ عديدة مع قوى وشخصيّات، بهدف تشكيل بديل سياسيّ جدّي. كما وضعنا ثلاثة معايير أساسيّة للفريق القادر على تشكيل حكومة كهذه، وهي: المعرفة المنهجيّة والواقعيّة، الجرأة على اتخاذ خيارات سياسيّة صعبة، حريّة الحركة والقرار.
طبيعة هذه الانتفاضة لا تمكّنها من أن تتصرّف كطرفٍ سياسيٍّ واحد، ولن يكون صحيًّا أن تفعل. ولكن كان يجب أن يتبلور من رحمها مشروعان سياسيّان أو ثلاثة على الأكثر، وأن تتأطّر الحركة بتنسيق وتقاطُعٍ بين مُطلقي هذه المشاريع ومؤيّديها. لم يحصل هذا للأسف. بقيت الانتفاضة أسيرة شعارات غير واقعيّة، فشعار التكنوقراط مثلًا يوحي بأنّ المشكلة تقنيّة، وبالتالي يأتي الخبير ويحلّها بوصفةٍ جاهزة، بصرف النظر عن خياراته السياسيّة، وكأنّ هذا الخبير ليس ابن هذا المجتمع.
أما شعار الانتخابات المبكّرة فهو الأخطر. فلنتخيّلْ انتخابات مبكّرة في ظلّ أزمةٍ ماليّة حادّة. لن تكون نتيجة هذه الانتخابات أقلّ من إلغاء أي تراكمٍ ايجابيٍّ للانتفاضة، وقد قالها صراحة أمين عام حزب الله "في حال إجراء انتخابات مبكّرة سنعود أقوى من الانتخابات السابقة".
لا يمكننا أن نغفل عن احتمال دَسّ بعض هذه الشعارات بهدف تضييع النقاش أو حرفه عن مسار الجديّة، كما نفهم المشاعر الصادقة التي تنطلق منها بعض هذه الشعارات أو تؤيّدها ولكنّها لا يمكن أن تشكّل مشروعًا سياسيًّا جديًّا.
٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟
الإنجاز الأهمّ للانتفاضة هو الرسالة التي أوصلتْها بشكلٍ واضحٍ لقوى السلطة، ومفادها بأنّ ما كان لا يمكن أن يستمرّ. ونعتقد أنّ هذه القوى فهمت الرسالة. لكن تبقى هذه الرسالة ناقصة إن لم تُستكمل بمشروع سياسيٍّ جِدّي وواقعيّ يوضح ما هو الطرح للمستقبل، هذا هو هدف طرحنا السياسيّ بالضبط.
نحن نعيش مفْصلًا تاريخيًّا في لبنان، فهناك مرحلةٌ كاملةٌ بدأت أواسط الثمانينيّات تُحتَضر الآن، وكلما طال احتضارها كانت الأثمان أفدحَ على المجتمع، فقرًا وهجرةً وأمنًا، وبالتالي أي "إصلاح" يعني تطويل عمر الأزمة من دون أي رؤية واقعيّة للمستقبل. أمّا المَطالب المعيشيّة اليوم، على الرغم من حيويّتها للناس خصوصًا في ظلّ الأزمة، فهي وهْم. البلد مفلس، بحكومته ومصرفه المركزيّ ومصارفه الخاصّة ومؤسّساته الخاصة. أيّ مطلب معيشي اليوم مستحيل أن يلبّى، وإن تمّت تلبيته، فسيكون ثمنه أكبر على المجتمع من مردوده.
٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟
نحن على الطرف النقيض من هذا الشعار، فنحن لا نطالب. المطالبة اعتراف بشرعيّة السلطة القائمة، وبالتالي تجديدٌ لهذه الشرعيّة. كيف يمكن لعاقل أن يطالب سلطة قائمة على نفي حقوق المواطنين والمواطنات بما هي حقوق، ولا يتعاطى إلّا مع توزيع عطايا لرعايا الطوائف؟
أمّا عن التفاوض، فكل مسار سياسيّ، وحتى عسكريّ، ينتهي بالتفاوض، هذا إذا كانت الأطراف جدّية وواعية. المهمّ هو التفاوض على ماذا؟ نحن قلنا نقبل، لا بل ندعو إلى التفاوض على بند وحيد: الانتقال السلمي للسلطة.
٥ ما هي الدروس الرئيسة التي تستخلصها من حراك ١٧ تشرين؟ يرجى أن تعطي فكرة عن أبرز نشاطات الحراك في منطقتك وأبرز المطالب التي برزتْ خلال الحراك.
لا نعتبر أن انتفاضة ١٧ تشرين قد انتهت. لا شكّ أنّ الناس سيعودون إلى الشارع، وإن بأشكال مختلفة، وهنا يجب أن نكون حذرين جدًّا من انزلاقاتٍ عنفيّة عفوية أو مدبّرة.
جاء تفشّي "وباء كورونا" ككارثةٍ صحّيّة واقتصاديّة على البشر، لكنّه للمفارقة، جاء كطوق نجاةٍ للسلطة السياسيّة القائمة. أفرغ الشوارع فاستغلّت السلطة الفرصة لرفع الخيَم، ولا صوت يعلو على صوت المعركة في وجه الكورونا. في هذا الوقت ما زال مسار الانهيار الماليّ والاجتماعيّ ينزلق من قعرٍ إلى قعر بصمت. تُظهّر الحكومة الحاليّة إنجازاتِها في وجه الوباء، وترتبك وترتكب في وجه الأزمة الماليّة ودمار المجتمع.
بالنسبة لنا، يكرّسُ الدرس الرئيسيّ من هذه الانتفاضة الدروسَ المستقاة من التجارب السابقة خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو يقع في شقّين: الأوّل، محاولةُ تجميع كلّ الناس على مشروعٍ واحد وهْم ساذج في أحسن الأحوال، وهدرٌ مجّانيٌّ للوقت والجهد والفرص، أما الشقّ الثاني فهو أننا عندما نهرب من المواجهة السياسيّة المباشرة، تعود الأخيرة إلينا بشكل أوضح بعد أن نكون قد فوّتنا فرصًا كثيرة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.