لطالما اعتُبر تأميم قناة السّويس في العام ١٩٥٦ بقرارٍ من الرئيس المصريّ جمال عبد الناصر مجرّد ردّة فعلٍ على رفض البنك الدوليّ والدول الغربيّة، خصوصاً بريطانيا والولايات المتّحدة، تمويلَ مشروع السدّ العالي. ساهم عبد النّاصر نفسُه في خلق هذا الرّبط حين عَقد مقاربةً بين التّأميم ورفض التمويل عبر ذكر تصرّف «مستر بلاك»، رئيس البنك الدّولي الذي تميّز بالغطرسة والتّشدّد أثناء مقابلةٍ أجراها معه، فأعاد إلى ذاكرتِه تصرّفَ الخواجة فرديناند ديلسبس، الرّجل الشّره الذي أتى إلى مصر كي يقدّم لواليها آنذاك محمد سعيد مشروعَ قناة السّويس فبدأت معه رحلة تبعيّة مصر للقوى الخارجيّة.
بدا اسمُ «ديلسبس» بمثابة كلمة السّر التي نطقها عبد النّاصر في معرض حديثه عن رفض البنك الدولي تمويلَ مشروع سدّ أسوان العملاق. وبينما يُصغي الجميعُ إلى خطاب عبد الناصر، يوم ٢٦ تموز / يوليو ١٩٥٦ انطلق في أحد أحياء القاهرة الرّاقية رجلٌ بمفرده للاستيلاء على مقرّ «الشّركة العالميّة لقناة السويس» في حيّ «غاردن سيتي».
لم ينتظر الرّجل، وهو ليس عسكريّاً، عوناً من رجال شرطةٍ تأخّروا في الوصول، فما إن سمع ذكر «الخواجة ديلسبس على لسان عبد النّاصر حتّى شَرع في تنفيذ مهمّةٍ كرّس سنواتٍ طويلةً من حياته لأجْلها. في الأثناء ذاتِها، كانت فرقٌ من الجيش المصريّ تحتلّ منشآتِ الشركة في بور سعيد وعلى طول القنال.
إنه الدّكتور مصطفى الحفناوي، جنديُّ التّأميم المجهولُ الذي يضع ابنه علي الحفناوي بين أيدينا اليوم مذكّراتِه القيّمةَ التي جمعها وترجمها بنفسه (دار «أريك بونيه»، باريس ٢٠١٩).
تفاصيل مجهولة عن الحدث
تتألّف المذكرات من ثلاث عشرة وثيقةً تنقل للقارئ أصواتَ وشهادات مَن عايشوا أحدَ أهمّ أحداث تاريخنا المعاصر أو شاركوا فيه سواء في مصرَ أو فرنسا. تروي المذكراتُ تفاصيلَ مثيرةً ومجهولة عن الحدث، تنتمي إلى السّيرة الذاتيّة والشهادات التاريخيّة. أما تصديرُ الكتاب الذي كتبَه نجلُه وكذلك المقدّمة «جاك لانغ»، مدير معهد العالم العربي بباريس، فيلفتان النّظرَ إلى حجم مشاركةِ الحفناوي في معركة تحرير مصر واستقلالها حتى قبل العام ١٩٥٢.
يُفهَم من مقدّمة الحفناوي لمذكّراته أنّه كان محطّ اتّهام من قبل بعض المحيطين بامتلاكه طموحاتٍ سياسيّة، لذا يجدُ نفسَه ميّالاً إلى تفسير الأسباب التي دفعتْه لكتابة ما كتَب. يتعلّق أوّلُ تلك الأسباب بالصراع العربي الإسرائيلي. بُعيد العام ١٩٦٧ اتّخذ هذا الصّراعُ منحى خطراً بالنسبة للعرب. في صلب أهداف الحفناوي تنبيهٌ وتحديداً للأجيال الحاليّة من حقيقة التّهديد الإسرائيلي، وما سيناء وقناة السويس سوى المفاتيحِ الاستراتيجية لفهم الخطر الإسرائيليّ فهما الهدفُ الحقيقيّ للأطماع التوسّعية لإسرائيل. و«الحدّوتة» التي يسردُها الحفناوي سيرةٌ عائليّةٌ يثأر بها من الإهانةِ التي تعرّض لها ذووه، فهو حفيد فلّاحٍ هربَ من سخرة حفْر القناة وبقي غائباً عن قريته لسنوات بسبب ذلك. وهي القناة ذاتُها التي عمل الحفناوي لاحقاً وبجدّ على تحريرها من سيطرة الاحتلال، فكأنّه حرّرَ بذلك تاريخَ عائلته من سطوة الاستعباد.
ولد مصطفى عام ١٩١١ في قرية «بنايوس» في الشرقيّة لعائلةٍ ثريّةٍ تبنّت بعض مظاهرالأسلوب الغربيّ في الحياة اليوميّة. أبصر النّور داخل قصرٍ بناه جدّه عبد الله الحفناوي أطلق عليه أهلُ قريته «السّرايا» لجماله وتفرّده. وقد عاش الجدّ حياةً قاسيةَ، ونجا بأعجوبة من سخرة حفر القناة، وعمل بجدٍّ حتّى امتلكَ ثروةً وأرضاً نازعَهَ في ملكيّتها أبناء القرية، فقرّر حينها تشييدَ سراياه التي عهِد بمهمّة بنائها إلى مهندسٍ إيطالي. تبدّلت أحوال العائلة بُعيد الحرب العالميّة الأولى إذ خسر الأب كلَّ ما يملكُ في بورصة القطن حيث كان يُضارب. حزنَ الأبُ وتحوّلت السّرايا إلى مكانٍ موحشٍ ولم تعدْ مكاناً للولائم والزيارات، وأضحى الطّفل مصطفى متشرّداً يركض حافيَ القدمين في أزقّة القرية.
لم يدخل مصطفى المدرسةَ حتّى بلغ العاشرة وذلك بعد أن تعلّم وحفظَ القرآن في الكتّاب. وعلى الرّغم من ذلك أظهر نبوغاً وجدّيةً في تحصيل الدّروس فتمكّن من التفوّق على أقرانه الذين أزعجَهم أن يتميّزَ «فلاحٌ» مثلُه عليهم. تابع الحفناوي بجدٍّ وتعبٍ دراستَه في مدرسة الحقوق بالقاهرة التي أتاها خاليَ الوفاض سوى من طموحٍ جارفٍ وقليلٍ من الأموال قدّمتْها له أختُه الكبرى بعد أن باعت ما تملكُ من مجوهرات. مزج الحفناوي العملَ بالدّراسة التي اضطرّ أحياناً إلى إيقافها لتعثّره في دفع مصاريفها. حُفرت هذه الظّروف القاسية في ذاكرته، فلم ينسَ نشأتَه يوماً ولم يتنكّر لكفاحه الطّويل، بل ظلّ على الدّوام فخوراً بالمكان الذي انطلقَ منه وبأنه هو الفلاح الذي لم يمتلكْ شيئاً سوى ساعدَين للعمل. ها هو، في عمر السادسة والثلاثين يحضُر افتتاحَ مشروعِ بناء سدٍّ في إسنا بصفته ممثلاً للشركة الإنكليزية التي استعانتْ به كمحام لها في مصر، جنباً إلى جنب مع الوزراء وكبار رجالات الدولة، مصافحاً الملك فاروقاً الذي دعا الحضورَ إلى مأدبةِ عشاءٍ ملكيّة.
تحرير مصر من تحرير السّويس
جاء الحفناوي إلى القاهرة في العام ١٩٣١ في وقتٍ كانت تمرّ فيه البلادُ بفترةِ غلَيانٍ سياسيّ تصاعدتْ خلالها أصواتُ الأحزاب السياسية مطالبةً بالاستقلال الذي أضحى مطلباً شعبيّاً. وقد كانت مطالبُ تلك الفترة من بين آثار ثورة ١٩١٩. ساهم في الغضب الجماهيري وضعُ دستور جديد (دستور العام ١٩٣٠) الذي منحَ الملكَ حقوقاً إضافيّة فبات يجْمع بين المُلك والحكْم بعدما كانت تخوّله الامتيازات أن يملك فقط. طالبت الأحزابُ بعودة دستور ١٩٢٣. وبعد خمس سنواتٍ على وضع الدستور الجديد وقعتْ أحداث الطلبة فشكّلت الصّدمة الكبرى للمصريين، إذ شهدتْ تلك الفترةُ انتفاضَ طلبة الجامعة ونزولَهم إلى شوارع القاهرة فقمعتْهم قوّاتُ الاستعمار وأغرقت عدداً منهم رمياً في النيل في ما عُرف بأحداث «كوبري عباس». على أثر ذلك، خضع الملكُ أحمد فؤاد إلى المطلب العام فتخلّى عن دستور ١٩٣٠ وأعاد العمل بدستور العام ١٩٢٣، وهو من أفضل الدساتير في تاريخ مصر، وقد استمرّ العمل به حتى نهاية الملكيّة.
في الوقت نفسه، حشدتْ بريطانيا لمفاوضاتٍ في لندن بهدف طرح معاهدة ١٩٣٦ شرط أن تحضر كلُّ الأحزاب المفاوضات. انضمّ الحفناوي إلى «الحزب الوطنيّ» وهو الوحيد الذي رفض المفاوضاتِ والمعاهدةَ رافعاً شعار «لا مفاوضة إلّا بعد الجلاء»، فاتُّهم بالتّعنّت من قبل جميع الأحزاب. أُعجب الحفناوي بكفاح الحزب في سبيل تحرير الوطن، وقد عبّر الوضوح والإصرار وعدم المساومة على قضايا الوطن الذي وجدَه الحفناوي في الحزب عنه تمام التّعبير. انطلق الحفناوي الثّائرُ والغاضبُ مع شبيبة «الحزب الوطني» حاشداً ضدّ معاهدة ١٩٣٦ المُشينة، فألّف كتاباً هاجمَ فيه من يؤيّد معاهدةً تجعل من مصرَ دولةً مسلوبةَ السّيادة. مُنع الكتاب وقبضت قوّات الأمن على المؤلّف، غير أنّ احتجازه لم يدُمْ طويلاً، فخرج أكثرَ عزماً على المضيّ قدماً. بعث برسالةٍ إلى عصبة الأمم ليُبلغ أعضاء الدّول دائمي العضويةِ فيها باعتراض فصيلٍ سياسيّ على المعاهدة. وصلت الرّسالة ووُزّعت على المندوبين فقُرئت بشكلٍ غير رسميٍّ لكون كاتبها غيرَ مفوّضٍ من بلاده لتمثيلها. استمرّ الحفناوي بممارسة نشاطه السياسيّ بعد الإفراج عنه فتوطّدت علاقتُه مع أبرز الوجوه السياسية أمثال محمد علي علوبه باشا ورئيس «الحزب الوطني» آنذاك حافظ رمضان وفكري أباظة وهدى شعراوي والمؤرّخ عبد الرحمن الرافعي الذي يعتبره الحفناوي معلّماً له. ساهمتْ تلك الفترة بتكوين فكر الحفناوي الذي وهبَ مجهودَه ووقته ومقدّراته لقضايا التّحرّر الوطنيّ وشارك في «الحركة الوطنية»، حتى أنّ اهتمامه بقضيّة قناة السويس طوال فترة حياته مبعثُه النضالُ لاستقلال مصر.
لم يربط الحفناوي بين قضيّتي تحرير الوطن وعودة قناة السويس لمصر قبل العام ١٩٤٦ حين سمع أثناء رحلة عملٍ إلى لندن حواراً بين إنكليز حول استحالة عودة القناة للمصريين مهما حصل حتّى وإن انتهت فترة الامتياز في العام ١٩٦٨، وأنّ هذة القناة تتحكّم بالتجارة العالمية وبالتالي لا ينبغي أن يملكها أحدٌ سوى القوى الغربية. ثارت ثائرةُ الحفناوي على وقع ما سمع، وكاد أن يهمّ بضرب النّاطق بالكلام غيرَ أنّه قرّر الإقدام على ما هو أفضل، تحويل ذاك الغضب والطاقة إلى مشروعٍ يُمكّن بلادَه من استعادة حقّها في القناة وفي الحرّية.
أطروحة «استرداد القناة»
مسترشداً بمصطفى كامل الذي نقل كفاحَه في الدّفاع عن مصر إلى المحافل الدولية، قرّر الحفناوي الحصولَ على درجة الدكتوراه بأطروحةٍ يتقدّمُ بها في أيٍّ من جامعات إنكلترا أو فرنسا يثبت فيها أحقّية مصر بقناة السويس، فوقع الاختيار على جامعة «السوربون» الفرنسيّة بعدما علمَ أنّ قائمة انتظارٍ طويلةٍ لن تسمح له بتسجيل أطروحته على الفور في «أوكسفورد» بإنكلترا.
في العام ١٩٤٧ انطلق مشروعُ الأطروحة فبدأ الحفناوي رحلة جمع معلوماتٍ بين مصر وإنكلترا وفرنسا. راح يقرأ كلَّ ما يقع بين يديه من وثائقَ حتّى جمَعَ كلّ الأدلّة التي تُثبت أحقية مصر بإدارة قناة السويس. لم يتبقَّ له سوى الاطّلاع على الوثائق الأهمّ، الوثائق الموجودة في أرشيف المقرّ الرّئيسيّ لـ«الشركة العالمية لقناة السويس» في 1 شارع «أستورغ» في باريس. طال انتظار الحفناوي فرصةً لدخول مقرّ الشركة والذي يُعتبر من المستحيلات، إلى أن أتتْه من حيث لم يتوقّع. في أحد أيّام العام ١٩٥٠ استدعاه مكتبُ رئيس الوزراء النحّاس باشا الذي رغب بإلغاء معاهدة ١٩٣٦ من طرفٍ واحد، بعدما أقرّها بنفسه ووقّع عليها قبل سنين حين كان حزبه مسؤولاً عن تشكيل الحكومة. تذكّر النحاسُ الشبابَ الذي ثار عليه قبل توقيع المعاهدة بعام، وتذكّر الكتيّبَ الذي أثبت فيه أحدُهم عدم صلاحيّة المعاهدة قانوناً، وتذكّر مؤلّفه الذي أمر قوّاتَ الأمن باعتقاله. بعد رئيس الوزراء، التقى الحفناوي وزير خارجيّته محمد صلاح الدين باشا، فتباحثا في مسألة نقض المعاهدة والمسوّغات القانونية التي ساقها الحفناوي في كتابه. فوجئ وزير الخارجيّة حين أخبره الحفناوي بأنّ المعاهدة تُعتبر لاغيةً قانوناً وأنّ لا وجود لها تقريباً، كما أنّ نقضَ المعاهدة لن يُحرز تقدّماً في قضية الاستقلال الوطنيّ. واستطرد الحفناوي بالحديث عن قناة السويس مشيراً إلى أنّ بقاءها على هذه الحالة بين أيدي الإنكليز والفرنسيين، «كدولة داخل الدولة»، يسمح للمحتلّ بإحكام قبضته على مصر. تحمّس الوزير لفكرة الأطروحة التي يُعدّها الحفناوي حول حقّ مصرَ في القناة مطالباً إيّاه ببذل أقصى الجهود لإنهائها في أقرب وقتٍ فهي، حسب تعبيره، أهمّ من «كلّ ما نقوم به هنا».
طلب الحفناوي من وزير الخارجيّة مساعدته في دخول أرشيف مقرّ القناة في باريس. بالطبع لم يمتلك حتّى وزيرُ خارجيّة مصر قدرةً على ذلك، لكنّه عرض في المقابل على الحفناوي المساعدةَ في إطار صلاحيّاته الديبلوماسية، فطرح الحفناوي عليه خطّةً تمكّنه من «التّسلّل» داخل الأرشيف. اقتضت الخطة أن يعملَ الحفناوي في السفارة المصرية في باريس كملحقٍ إعلاميّ فمن شأن وجوده في هذا الموقع وتحت هذا الغطاء أن يتيحَ له حتماً مقابلةَ رجال الشّركة. وكان للحفناوي ما توقّع. استطاع أن يتعرّفَ، أثناء حفل استقبال وزير التّجارة المصريّ في باريس، إلى رئيس شركة «قناة السّويس» فرنسوا شارل رو، الذي أبهرتْه معلوماتُ ملحق السّفارة المصريّة عن القناة، لكنّه توجّس منّه، فاستدعاه سائلاً عن سبب ومصدر معلوماته. اغتنم الحفناوي الفرصةَ كي يطلبَ من رئيس الشّركة السّماحَ له بمطالعة الوثائق السّريّة للقناة مبرّراً ذلك بأنّه يستعدّ لتأليف كتابٍ باللّغة العربيّة عن إنجازات القناة. سعد فرنسوا شارل رو بمثل هذا «الكتاب الدّعائيّ» فمنحه جميعَ الصّلاحيّات التي مكّنتْه من الاطّلاع على أرشيف الشّركة. صار الحفناوي يرتاد رقم ١ شارع أستورغ حتى اعتاد العاملون هناك وجودَه. وبعد جهدٍ كبير وجد الوثيقةَ الحاسمةَ التي تؤهّله لمناقشة أطروحةٍ هي أشبه بالمرافعة عن حقّ مصر الكامل في امتلاك القناة، وهي العقدُ التأسيسيّ لها أو عقد الامتياز الأصليّ الذي أجازه السّلطانُ العثماني والذي يُثبتُ، بما لا يدع مجالاً للشّكّ، أنّ قناة السّويس والشّركة مصريّتان. كان العقد موجوداً في مصر حتّى اختفائه عند دخول الإنكليز إليها في العام ١٨٨٢ واستبداله بآخر مزوّر.
استولى الحفناوي على العقد، أو بالأحرى استردّه، وأرسله فوراً إلى مصر، ليبدأ بعدها الإعدادُ لمناقشة الأطروحة. حالفَه الحظّ في اختيار أعضاء المناقشة، وقد ترافعَ يوم الخامس من حزيران / يونيو ١٩٥١ عن مصر مطالباً بحقّها في القناة أمام جمعٍ من الأكاديميين فحصلَ على تقدير جيّد جدّاً.
من جامعة باريس إلى شوارع مصر
لم تشكّل الأطروحة نهايةَ كفاح الحفناوي، بل كانت بداية نضالٍ من نوع آخر نقله الحفناوي إلى بلاده. بعد عودته إلى مصر عكف على ترجمة أطروحته وتنقيحها وإضافة مزيدٍ من التفاصيل إليها كي ينشرَ فصولها على التوالي آملاً في أن يساهم في توعية المصريين، ثمّ أصدر «جُرنال قناة السويس» من ماله الخاصّ لنشر الحقائق التي كشفها. حاربتْه «الشركة العالمية لقناة السويس» حرباً ضارية فصادرتْ أعداد جريدته التي كان يوزّعها بالمجّان على المشتركين. لكنّ الحفناوي لم ييأس بل تطوّع للدّفاع بصفته محامياً عن عمّال الشّركة ضدّ الظّلم الكبير الذي يتعرّضون إليه من قبل الإدارة الفرنسيّة. زاد حنق الشركة عليه لكنّه لم يستسلم. وقد بدأت في ذلك الوقت علاقتُه برئيس الحكومة الجديد علي ماهر الذي أخبره أن الملك فاروق راضٍ عن مواقفه ويشجّعه على الاستمرار فهو مستاءٌ شخصيّاً من التّدخّل السّافر في شؤون مصر الدّاخليّة عن طريق صلاحيات القناة.
يذكر الحفناوي في مذكّراته أنّه لطالما كانت مسألة عودة القناة إلى مصر في قلب حركة التّحرر الوطني، أما العزم على عدم إعادتها أو تسليمها لمصر فكان أيضاً قراراً مسبقاً لدى الإدارة الفرنسية. يشهد على ذلك ما حدثَ في العام ١٩١٠، العام الحاسم وبالغ الأهمّية في تاريخ القناة. حينها تقدّمت الشّركة إلى الحكومة المصرية بمشروع تمديد الامتياز أربعين عاماً إضافية بعد العام ١٩٦٨، ما يعني أنّ النهاية المزعومة تنتهي بحلول العام ٢٠٠٨. ليس وحده تقديم المشروع ما استفزّ القوى الوطنيّة، فالأصعبُ تبنّي الحكومة بقيادة بطرس باشا غالي للمشروع. أقدم شابٌّ مفعمٌ بمبادئ الحرّيّة ينتمي لـ«الحزب الوطني» على اغتيال بطرس باشا غالي. قدّم المستعمرُ الاغتيالَ على أنّه جريمة طائفيّة وتعمّد إغفال سياق الأحداث، كما لم يذكر أحدٌ إطلاقاً انتماء الشاب لـ«الحزب الوطني» أو دراسته في سويسرا، الحقائق التي تنفي عن الشّاب الثائر تُهمتي الجهل والتّعصّب اللّتين أُلصقتا به ظلماً. من ناحيته، ألّف طلعت باشا حرب كتاب «قناة السّويس» وهو أوّل كتابٍ تحدّث عن ملكيّة وحقوق مصر للقناة.
تركتْ محاولةُ الإدارة الغربيّة السّطوَ على القناة بواسطة التّحايل القانونيّ أثراً عكسيّاً. تأجّجت المشاعر الوطنية بعد العام ١٩١٠ وتوجّهت نحو ما بات يُعتبر كياناً مغتصباً و«دولةً داخل الدولة». استمرّ هذا الاستياء حتّى أتى الحفناوي برؤيةٍ قانونية واضحة عن وضع القناة. أهمّ ما فيها إثبات ما لم يستطع أحدٌ إثباتَه من قبل، إمكانية تأميم القناة، الأمر الذي لطالما حرصتْ إدارةُ الشركة على طمسه. تتعدّى أطروحةُ الحفناوي وجهده فكرةَ النّضال الوطنيّ لتكون الحجّة القانونيّة وحجرَ الأساس التي بُنيتْ عليها الجهودُ الوطنية لاستعادة القناة والخطوة العمليّة على طريق الاستقلال. لا تكمن أهميّة الحفناوي في كونه المؤرّخَ المهمومَ بقضيّة القناة فحسب، بل الأهمّ من ذلك في كونه رجل القانون الذي قاد معركةً قانونيّةً على مستوًى دوليّ لاستعادة القناة، لذلك كان منطقيّاً أن يكون هو من صاغ قرار التّأميم.
اللقاء مع عبد النّاصر
يروي الحفناوي في آخر فصلٍ من مذكّراته، وبشيءٍ من التّفصيل، طبيعةَ علاقته بعبد الناصر و«الضباط الأحرار». التقى الحفناوي بهم للمرّة الأولى في شهر أيلول / سبتمبر ١٩٥٢ حين اتصل أحدُهم به ودعاه لمقابلتهم في مبنى القيادة العامّة. تعرّف الحفناوي هناك إلى بعضهم مثل صلاح سالم وعبد الحكيم عامر، ورأى للمرّة الأولى البكباشي عبد الناصر. يَذكر الحفناوي أنّه وجد نفسه أمام شخصٍ ذي ذكاءٍ حادّ وقياديّ ومتميّزٍ وسط الآخرين على الرّغم من عدم تبوّئه حينها منصباً يميّزه عنهم. كما يذكر الحفناوي كيف لمح عند عبد الناصر شغفاً وفضولاً تجاه كلّ ما يتعلّق بالقناة. وبالفعل، بعد ٢٣ تموز / يوليو ١٩٥٢ اتُّخذت قراراتٌ في مجلس قيادة الثّورة سعت إلى وضع القناة تحت الإشراف المصريّ ومتابعة شؤونها، غير أنّ كل تلك المحاولات باءت بالفشل نظراً إلى رفض الإدارة الحاسم لما رأت فيه تدخّلاً في صميم عمل القناة. وفي الوقت نفسه، تمّ إنشاء مكتبٍ خاصّ بشؤون القناة تابعٍ لرئاسة الوزارة بناءً على رأي الحفناوي على الرّغم من مطالبة الأخير في البداية بإنشاء وزارةٍ خاصّة بالقناة. تابع الحفناوي عقد المؤتمرات والندوات التي أوضح فيها هويّتها المصرية سارداً تاريخها وشارحاً وضعها القانونيّ. ولكنْ في الوقت نفسه تراجعتْ قضيّة القناة، ظاهريّاً على الأقلّ، من قائمة أولويّات الحركة الثوريّة. ويَذكر الحفناوي بإعجابٍ اكتشافَه أنّ عبد الناصر يجيد التّخطيط وذلك حين استدعاه قبل ساعاتٍ من حدوث التّأميم، فقد تجاوز موضوع القناة أثناء وجود الإنكليز في مصر حتّى يضمن جلاءهم التّامّ أوّلاً، ثمّ اعتمدَ لاحقاً على عنصر المفاجأة في تنفيذ التّأميم. ويؤكّد الحفناوي أهمية تاريخ ١٩٥٢ بالنسبة لمصير القناة، فعلى الرّغم من الجهد الشخصي الذي قام به العديد من السياسيين والمثقّفين المصريين لاستعادة القناة، المجهود الذي بُنيت عليه عملية التأميم، إلا أنّ أحداً لم يقوَ على اتّخاذ القرار بذلك، إذ لم يكن منطقيّاً أو حتّى ممكناً الحديث عن استقلال القناة ومصر تحت وطأة الاحتلال. وأظهرت مذكّرات الحفناوي كذلك كيف كانت القوى الغربية تّعدّ للاستيلاء على القناة إلى الأبد. وعبر سرد تلك الحقائق يفنّد الحفناوي الرّأيَ الذي انتقد قرار عبد الناصر تأميمَ القناة خصوصاً أنه استدعى على مصر عدواناً ثلاثيّاً غاشماً.
وفق تسلسلٍ زمنيٍّ يحكمه إيقاع الذّكريات، يحكي لنا الحفناوي تفاصيلَ قرار التّأميم. يبدأ من المشهد الأخير. استدعاه عبد النّاصر في يومٍ من أيّام صيف ١٩٥٦ قبل خطاب ٢٦ تموز / يوليو حيث كان الرئيس بمفرده في «العزبة»، التي تقع على ضفاف فرع رشيد من النيل فيما عائلتُه تُمضي أيام الصيف الحارة على شاطئ «ميامي» بالإسكندرية. امتدّ اللقاء حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي في ٢٤ تموز / يوليو، وقد ساده ودٌّ كبيرٌ من قبل «الريّس» الذي أحضر جلابيّتين له ولمضيفه كي يشعرا بالراحة. أظهر عبد النّاصر حينها فضولاً حول مسألة القناة، مبدياً رغبةً شديدةً في الاستماع منه شخصيّاً إلى كلّ ما يَعرف عن مشروع التأميم الذي تبنّاه الحفناوي في أطروحةٍ جامعية، وقد اطّلع عليها عبد الناصر. انتهى اللقاء باتّفاقٍ على أن يشارك الحفناوي في خطة التأميم شرط أن يبقى في بيته في القاهرة حتى تأتيَه الأوامر بالتّحرّك. يروي الحفناوي أنه وعلى الرّغم من علاقةٍ جمعتْه بالضباط الأحرار منذ العام ١٩٥٢، تاريخ تبلور فكرة التّأميم لديهم كنتيجةٍ حتميّة لإعلان الاستقلال، فوجئ باستدعاء عبد الناصر له في ٢٣ تموز / يوليو ١٩٥٦ حتى ظنّه أمرَ اعتقال، ذلك أن قرارَ التأميم وتاريخه حدّدهما عبد الناصر. وقد طلب بعض الضّبّاط الأحرار من الحفناوي ألّا يثير موضوَع التأميم في ندوات ولقاءاتٍ علنيّة كي لا يعوق مفاوضات الجلاء وذلك بعد أن أصبح يُعرف الحفناوي بـ«رجل التأميم». وبعدما جعلت فترةُ الصّمت اليأسَ يتسلّل إلى نفس الحفناوي خوفاً من تأجيل قرار التّأميم إلى أجَلٍ بعيد أو ربّما إلى النسيان، تبيّن له أنّ الصّمت جزءٌ من الخطّة نفسها التي اعتمدتْها القيادة المصريّة تحسّباً لأن يتنبّه الإنكليز والفرنسيّون لخطة التأميم فيجهضوا جهود الاستقلال.
على الرّغم من الصّمت الذي نُسج حوله حتّى بعد تحقُّق حلمه في التّأميم، ظلّ الحفناوي مهموماً بشأن القناة حتى توفّي في العام ١٩٨٠ عن عمر ناهز التّاسعة والستين.
هذه قصة مصطفى الحفناوي الذي توجّه إلى مقرّ الشركة في «غاردن سيتي» لتنفيذ قرار التأميم، بتكليفٍ من الرئيس جمال عبد الناصر. هذه قصة المحامي الذي بدأ ولهه باستعادة مصر قناة السويس في أطروحة جامعية عن حق شعب مصر في استعادة القناة فأسهمَ في توفير مسوّغٍ قانونيّ لقرار التأميم والذي استمرّ بالعمل في مكتب شؤون القناة ثمّ في «هيئة قناة السويس» بصفته خبيراً قانونيّاً إلى العام ١٩٦٩ مدافعاً عن مصلحة مصر كما دافع قبل التّأميم عن حقوق المصريّين العاملين في الشّركة العالمية.
إنّ مصطفى الحفناوي هو بحقّ فارس تلك المعركة، بل إنه جنديُّها المجهول.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.