«إني لا آمركم بأن تقاتلوا بل آمركم بأن تموتوا». كان هذا مزاج العصر. وهو ما قاله مصطفى كمال لقواته في ذلك اليوم الحاسم من معركة المضائق (الدردنيل) في ٢٥ نيسان / أبريل ١٩١٥. هذا القول سوف يغيّر مصير تركيا. بلغ عدد الجنود العثمانيين القتلى ٢٥٣ ألف جندي. لكنهم كسبوا المعركة التي استمرت قرابة تسعة أشهر وانتهت بهزيمة كاملة. لقد أفشلت محاولة البريطانيين مع حلفائهم الأستراليين والنيوزيلانديين الوصول إلى اسطنبول.
وهكذا ارتقى إلى مصاف الأبطال قائدُ لواء المشاة ٥٧ الذي قال «لست آمركم بأن تقاتلوا بل آمركم بأن تموتوا. بعد قليل سوف تأتي وحدات جديدة وضباط جدد ويأخذون أماكنهم».
أبي، الذي كان ضابط أركان في السلطنة العثمانية، مارس دوراً قيادياً في تلك المعركة وقد أصيب في فخذه ومؤخرة الرأس. وسوف أعود إلى هذه الحادثة.
اعتقالات في صفوف الأرمن
قضت مفارقة ساخرة كبيرة في واقع أن ٢٥ نيسان/ أبريل ١٩١٥، يوم بداية «معركة المضائق» الكبرى، كانت شرطة إسطنبول تعتقل مائتي وجيه أرمني بقصد نفيهم وربما تصفيتهم. القصة معروفة جداً، لكنها لا تمنع من إثارة السؤال: ما الذي أدّى إلى حملة الاعتقالات هذه؟
يقتضي الجواب أن نقوم برحلة إلى وراء. فلنعد إلى العام ١٨٢١، قبل مئة عام بالضبط من تفكيك السلطنة العثمانية العام ١٩٢١.
في العام ١٨٢١، نالت اليونان استقلالها. والغريب أن غزوات نابليون، وحلمه الإمبراطوري، أطلقا في أوروبا رغبة في تدمير مجموعات كبرى مكوّنة من أمم وشعوب وأوطان مختلفة. حدث أول شرخ في السلطنة العثمانية لحظة وفاة نابليون، في جنوب البلقان، في آخر موقع حيث كانت اللغة اليونانية لا تزال هي اللغة القومية بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية.
القرن التاسع عشر قرن غريب. بدأت خلاله إمبراطوريات الداخل تنهار ببطء ولكن بثقة، فيما إمبراطوريات الخارج، الإمبراطوريات الكولونيالية، يؤسسها الفرنسيون والبريطانيون والهولنديون والبلجيكيون في عموم أفريقيا وفي أجزاء كبيرة جداً من آسيا حتى لا نقول فيها كلها. فتلقى حركات تحرر من جهة، وتلقى من جهة ثانية وفي الآن ذاته شعوباً أخرى يجري إخضاعها بقسوة.
في ما يتعلق بشعوب السلطنة العثمانية، والأرمن منهم خصوصاً، يجب أن نُبرز قوة أوروبية جديدة. في العام ١٨٧٧، غزت روسيا تركيا عبر حدود القفقاز، وهناك كان يوجد القسم الأكبر من السكان الأرمن. لم يقف الأرمن إلى جانب الروس ظنّاً منهم أنهم بذلك سوف يكسبون بلداً مستقلاً. طبعا كانت توجد قرى تركية ويونانية في المناطق ذات الأكثرية الأرمنية. خلال تلك الحرب ١٨٧٧-٧٨ كان القمع التركي وحشياً. وكان الشيشان والأكراد في الصفوف الأمامية من قوى القمع الذي جرى على نطاق واسع جداً. وأقول إن ما كان يجري كان حرباً أهلية، مع أن الكلمة لم تلفظ حينها، والحروب الأهلية كاسحة بالنسبة إلى السكان.
هكذا تعرّضتْ السلطة العثمانية في إسطنبول لخطر مزدوج على امتداد السنوات: القوى الأوروبية المصممة على تدمير السلطنة العثمانية، خصوصاً في دفع أقلياته، «الأمم» داخله، والعالم العربي كذلك، إلى الثورة المسلحة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تمثّل الخطر في مجموعة من الضباط الذين راحوا يطالبون بإجراءات جذرية، وهم ضباط «تركيا الفتاة».
في البداية، لم تكن «تركيا الفتاة» قد اتخذت موقفاً معادياً للسلطان بذاته. كانوا يريدون تحديث تركيا والتعاون مع مسيحيي السلطنة لتفعيل الأمور. في العام ١٩٠٥ أنشأ مصطفى كمال جمعية «الوطن والحرية»، لكنها كانت أكثر جذرية إذ نادت بضرورة إسقاط السلطان. قام انقلاب «تركيا الفتاة» العام ١٩٠٨، وانضم كمال إلى قيادة أركان الجيش في ١٩١١. وفي العام التالي اندلعت حرب بين تركيا من جهة وتحالف مونتي نيغرو وبلاد الصرب والبلغار واليونان من جهة أخرى. أخيراً، قاوم الأتراك وأمكن تحقيق نوع من السلام.
أبي، زميل أتاتورك
أريد أن أتحدّث هنا عن حياة أبي لأنها وثيقة الصلة بتلك الفترة التي تثير اهتمامي في هذه الآونة. ولد أبي في دمشق العام ١٨٨٠، العام ذاته الذي ولد فيه مصطفى كمال. يقول بعض المؤرخين بصدد هذا الأخير إنه ولد في تشرين الثاني / نوفمبر ١٨٨٠ وآخرون في العام ١٨٨١. ومثله مثل جميع الفتية في العالم الإسلامي، درس أبي في «الكتّاب» إلى بلوغه الثانية عشرة. كانت أسرته تمتهن العسكرية. والده في الجيش لكنه توفي عندما كان أبي في الخامسة وشقيقته في الثانية. لكن الجد كان له ثلاثة أولاد وابنتان من زواج سابق وكان كل اخوة أبي غير الأشقاء ضباطاً عثمانيين من أم قوقازية.
في سن الثانية عشرة، خالف أبي إرادة أمه وقرر أن يذهب إلى إسطنبول للانضمام إلى المدرسة التمهيدية للكلّية الحربية. يروي أنه فرّ من دمشق إلى إسطنبول، عابراً كل أراضي الأناضول. وفي إسطنبول قصد عمه الذي كان على رأس الإدارة في تلك الكلية.
لم يكن أبي يتكلّم كثيراً. كان من الصامتين. لكن الغريب أنه كان يتحدث كثيراً عن أتاتورك. يقول إنهما كانا طالبين معاً وتخرّجا ملازمين شابين في العام ذاته. وسرعان ما حانت تجربتهما الأولى في القتال. كان الإيطاليون قد هاجموا السلطنة في ليبيا، فأُرسل أتاتورك إلى طبرق وأبي كذلك. كان ذلك في العام ١٩١٢ بعدما كان قد أرسل إلى القدس. ذات يوم، في قديسة القيامة تفكك مسمار وسقطت أيقونة من على جدار. اختلفت السلطات الدينية المسؤولة عن الموقع على من سوف يحل المشكلة. عندما أبلغ أبي بالأمر، قصد المكان وأخذ مطرقة وأعاد تعليق الأيقونة على الجدار. لم يكن لمُسلم الحق أصلاً بدخول الكنيسة الشهيرة، فتقرر نقله تأديبياً إلى موقع بعيد في الجزيرة العربية.
في الحجاز، غرب الجزيرة العربية، اكتشف أبي الصحراء. غالباً ما كان يتحدّث عن مخيماته فيها وعن أنوارها. وأكثر ما أثار اهتمامه انتقال كثبان الرمان من موقع لآخر. «ينام المرء وأمامه سلسلة من التلال ويستيقظ فإذا هو أمام سلسلة آخرى!». ووقع حادث مؤسف جعله يغادر المكان من جديد. اتهم ابن شيخ قبيلة بالكذب، وتلك إهانة كبرى. طالبه الشيخ بأن يغادر سريعاً عند الفجر. قال له «أنت تحت حمايتي ولا أستطيع أن اؤذيك، ولكن إذا قبض عليك رجالي خارج المخيّم فسوف تلقى حتفك». ركب حصانه عند انبلاج الصباح وفرّ نحو الشمال حتى وصل إلى المحمية العسكرية التالية على طريق دمشق.
لعله عند انتهاء تعليمه بين ١٩١٠ و١٩١٢، تزوّج أبي في دمشق امرأة شابة اسمها لطيفة وولد له منها ثلاثة أبناء: سميحة ونضيضة وبرهان الدين. أما اسمه فهو عساف قدري وكان يسمى قدري بك. لما قرر الفرنسيون تسجيل نفوس المواطنين في لبنان في العام ١٩٣٢، وطالبوهم بأن يتخذوا لأنفسهم أسماء عائلية، أضاف أبي اسم أبيه عدنان إلى اسمه.
عندما انقسمت جماعة «تركيا الفتاة»، وجلّ أعضائها من زملاء الدراسة، حوْل بعض الأمور مثل النزعة الألمانية لدى أنور باشا وانجذاب كمال إلى إنكلترا وفرنسا، ومبدأ الدولة الوطنية، كان أبي يتمنى تحقيق إصلاحات، لكنه كان معجباً بالجنرالات الألمان الذين كانوا يُعدّون لمعركة الدفاع عن المضائق، أي حماية إسطنبول. وكان على صلة وثيقة بكمال وقد شارك في حملات ليبيا وبلغاريا وغاليبولي. لم يكن قومياً عربياً. كانت بريطانيا بالنسبة إليه مصدر كل مصائب السلطنة.
في بداية العام ١٩١٤، أو نهاية ١٩١٣، التقى والدي بأمي، يونانية من إزمير تصغره بنحو ١٨ سنة ومن أسرة فقيرة نوعا ما. تزوجها، وكانت الزيجات المختلطة نادرة جداً في تلك الأيام. لاحقاً، وأنا طفلة في بيروت، سمعتُ أنها قضت سنوات سعيدة معه عندما كانا في إسطنبول، يرتادان المقاهي حيث الغناء، ويصاحبان مغنّين ومغنيات من المشهورين.
عندما اعتقَل اليونانيين في معسكرات لمنعهم من الانضمام إلى الجيش اليوناني المحتشد في أوروبا قصد السيطرة على إزمير والساحل، عمل أبي على إسكان أشقاء أمي الثلاثة عندنا ولكن بـ«تكتم»، وتولّى تأمين حاجات أسرهم.
في العام ١٨٧٧ حاولتْ روسيا اجتياح المقاطعات الواقعة شرقي تركيا. وعندما اندلعت الحرب العام ١٩١٤، بين فرنسا وإنكلترا من جهة وألمانيا وتركيا من جهة أخرى، أعلن الروس الحرب على تركيا فانضم أرمن المقاطعات الشرقية إليهم. وتلقّوا التشجيع من البريطانيين والروس فشنّوا حرب عصابات سموها حرب تحرير ضد تركيا. كان ذلك فعل خيانة في نظر الأتراك، وانطلقت حملة القمع الأولى للجيش التركي. تلى ذلك معارك أخرى، إحداها في كيليكيا حول أضنة، وداخلها، حيث كان الفوج الأرمني يقاتل مع القوات الفرنسية. من هنا بات الوضع في السلطنة كلها غير قابل للتوقّع إلى درجة أنّ البريطانيين كانت لهم أربع خطط مختلفة في نهاية الحرب العالمية الأولى. محاولة الاجتياح الروسي عن طريق القوقاز انتهت العام ١٩١٧ مع قيام الثورة البلشفية. ثم وقّع لينين معاهدة مع الأتراك لوقف الحرب على تلك الجبهة فوقع أرمن المناطق الشرقية والشمالية في الفخ. واستمرت معركتهم ضد الأتراك، التي حرّضهم عليها البريطانيون، لسنتين إضافيتين.
لويد جورج وتقسيم تركيا
عودة إلى الخطة الأثيرة لرئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، الخطة التي لم يحالفها النجاح قط. قرر أنه يجب تقسيم تركيا كما نعرفها الآن، فيعطى الساحل المتوسطي إلى اليونانيين، خلا سيليسيا التي قرر منحها لإيطاليا. وتكون إسطنبول وجوارها من نصيب روسيا، وتمنَح الأراضي على البحر الأسود وصولاً إلى القوقاز إلى الأرمن، وتبقى أنقرة ومنطقتها تركية!
بناء عليه، شن كمال هجوماً على الأرمن في شمال البلاد على مدى سنتي ١٩١٥-١٩١٦. وقد تعرّض الأرمن لحملات قمع قاسية بعدما تخلّى عنهم البريطانيون. في تشرين الأول/ أكتوبر ١٩١٨، أعلن عن هزيمة السلطنة العثمانية، وفي العام التالي وقّع السلطان محمد السادس معاهدة سرّية تضع السلطنة تحت الانتداب البريطاني. أما على الأرض فلم تكن الأمور قد حسمت على الإطلاق.
في أيلول /سبتمبر ١٩٢٠، بعد فترة من المناوشات المتواصلة بين أتراك وأرمن، طلب كمال من الجنرال كارابكير «تهجير الأرمن خارج حدود تركيا». ومع أن الأرمن وقّعوا معاهدة سلام في تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٢٠، في غوروري، حاول سكان الشرق والجنوب الشرقي الفرار. وسارت قوافل من المهجرين إلى سورية ولبنان مشياً على الأقدام.
هنا يمكننا رواية قصتين.
في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وأنا بعد طفلة، التقيت في قرية بعبدات اللبنانية سيداً تركيا يدعى عبدالرحمن بغدادي زاده. كان يتحادث وأهلي بالتركية وكنت أفهمهم جيداً، أعني أنني كنت أستطيع أن أتابع أحاديثهم. كان عبد الرحمن بغدادي محافظ منطقة أضنة عندما قُتِل الأرمن، بمن فيهم النساء والأطفال. ويجب التذكير بوضوح أن السفن البريطانية والفرنسية الراسية في ميناء أضنة لم تُنِزل جنوداً على اليابسة لحماية الأرمن مع أنهم كانوا قد شجعوهم على الثورة منذ عقد من الزمن. كان بغدادي زاده قد تأثر، إنسانياً، كثيراً بالمأساة التي تجري تحت ناظريه واتصل بالحلفاء للسماح للأرمن بركوب السفن والنجاة بأنفسهم. وعندما انكشف تدخّله هذا اعتُبر خائناً لدى الأتراك، ورشق بيتُه بالحجارة وأجبر على سلوك طريق المنفى. ذهب عبد الرحمن إلى باريس لبعض السنوات قبل أن ينتهي وحيداً في بعبدات وقد قررت زوجته وأولاده البقاء في البلاد. وكثيراً ما كان يقول إنه لم يكن ليستطيع أن يتصرّف بطريقة مغايرة. فقد اتّبع ما أملاه عليه ضميره، وهو ليس آسفاً على شيء.
قصة الحقيبة الجلدية الحمراء
قصتي الثانية: عندما كنت في التاسعة عشرة تقريباً، دخلت «كلية الآداب» في بيروت حيث كانت صديقتي المفضلة ماجدا إهماليان، من أسرة أرمنية تتكون من أب وأم وخالة عزباء وأختين، عائدة وبرجوي. كانت تلك السنوات الختامية للمراهقة وكنت أعاني صعوبات جمّة في علاقتي مع أمي، كنت أعيش في حالة غربة فعلية في أسرتي الصغيرة. فوجدت لنفسي أسرة أخرى، أسرة تقبلني كما أنا، لأني كنت مسكونة بحالة اضطراب عميقة وغريبة. كانت هذه الأسرة تدرك أن والدي كان زميلاً لأتاتورك وأنه كان لفترة في قيادة الأركان العثمانية التي يرأسها أنور باشا. سألوني عدة مرات «هل قتل أبوك أرمنيين؟» وكنت اجيب دوماً «لا». وهذا صحيح وأنا أكيدة منه.
كنت أزور تلك العائلة عدة مرات في الأسبوع، على امتداد خمس سنوات (عدا زياراتي لهم عندما كنت أعود من الولايات المتحدة إلى لبنان في بعض فصول الصيف). عرفتهم معرفة حميمة، كأنني واحدة من أفراد العائلة. غالباً ما كانوا يتكلمون التركية، ذلك أن الوالدين لم يكونا يتكلمان الفرنسية. وغالباً ما يجري الحديث عن تركيا. وأستطيع القول بثقة إنهم كانوا يشتاقون إليها. ذات يوم، أبلغوني أن الأب كان رئيساً لمحطة قطار قونية، المدينة التي تضمّ ضريح الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي وحيث يجري احتفال سنوي على اسمه في ١٨ كانون الأول/ ديسمبر من كل سنة. قال لي الأب إهماليان إن حاكم قونية كان رجلا تقيّاً يقدّس الرومي، وإنه أسرّ له بما يُعدّ للأرمن في منطقته، ففرّ هؤلاء إلى سورية وبعضهم إلى لبنان. فّروا مشياً على الأقدام وكثير منهم قضى على الطرقات. يذكر أن الفنان بول غيراغوسيان، الذي استقرت أسرته في القدس بفلسطين، أمضى حياته يرسم مشاهد ذلك الخروج من تركيا. (وأرغم هو نفسه على الهجرة إلى لبنان العام ١٩٤٨ عندما أجبر الإسرائيليون مئات الألوف من الفلسطينيين على مغادرة بلدهم! فإذا هو على الطرقات مرة أخرى!) للوحات بول غيراغوسيان أثر روحاني قوي. ففي كل لوحة من لوحاته، صغيرة كانت أم كبيرة، تحّول عبقريتُه قافلةَ اللاجئين الطويلة إلى حَجيج مقدسيين.
ثمّة أحداث لا ندرك أهميتها إلّا بعد أن تنقضي. عندما توفيتْ أمي في بيروت العام ١٩٥٧، كنت أسكن كاليفورنيا لإعداد شهادة دكتوراه في جامعة بيركلي. كان عليّ أن أخلي شقتي بسرعة بأن أبيع بعض الأشياء وأعيد المفتاح إلى صاحب الشقة، بعدما سكنّاها منذ العام ١٩٣٠ (توفي والدي قبل ذلك بعشر سنين العام ١٩٤٧). ولما لم يكن لي غير غرفة طلاب في بيركلي، تعذّر عليّ الاحتفظ بالشيء الكثير من متاع البيت. أنقذت بعض الأشياء: سجادة بوخارى، لجمالها، «كيليم» تركي كانت مربعاته ذات الألوان الحمراء والنِيلية مفروشة دوماً في أرض غرفتي. احتفظت أيضاً بحقيبة حمراء، من الجلد البقري الصلب، تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى. وفي هذه الحقيبة غير الوسيعة وضعت ألبوم صور العائلة: أذكر صور عمتي في دمشق مع ابنيها – وشقيقتين يونانيتين من صديقات أمي غادرتا إلى فرنسا، وعدداً آخر من الصور. لم يكن لدينا كتب، ولا أعمال فنية، لذلك قضيت الساعات تلو الساعات أعاين ذاك الألبوم! وقد عثرت أيضاً على مغلّف كبير يحوي رسائل موجّهة إلى أمي ارسلها أبي خلال معركة الدردنيل. كانت مكتوبة بالفرنسية وهي لغة كانت تدرّس جيداً في الكلية الحربية، وقد تعلمتها أمي في مدرسة دينية بإزمير ارتادتها حتى سن الثانية عشرة. ولما كان اسمها «روزا ليليا لا كورتي» (كانوا يسمّونها «مدام ليلي» في بيروت)، كانت تلك الرسائل، وبعضها مكتوب «تحت القنابل»، تبدأ كلها بـ«يا وردتي العطِرة»! فاحتفظت بتلك الرسائل في الحقيبة، مع بعض الفضّيات التي أذكر أننا لم نستخدمها قط: مغرفة وملاعق وشُوِك وصينية، إلخ. ثم أضفت إلى كل هذا صورة كبيرة على ورق كرتون، كانت أمي قد وصفتها لي غير مرة، لقيادة أركان السلطنة العثمانية خلال الحرب. كان ثمة ثلاثة صفوف من كبار الضباط. في وسط الصف الاول يتربّع مصطفى كمال، وكان أبي هو أيضاً في عداد الصف الأولى على مبعدة بعض الأمكنة من كمال. كانت صورة مؤثّرة.
ولمّا كان عليّ أن أعود سريعاً إلى كاليفورنيا، تركت سجادتيَ والحقيبة عند آل إهماليان على أساس أني سوف أستعيدها بأقرب فرصة. في نهاية صيف ١٩٥٧ غادرتُ بيركلي لقضاء سنة في هارفارد. وفي تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٥٨ بدأت تدريس الفلسفة في كلية في شمالي خليج سان فرانسيسكو. استمرت سنوات التدريس إلى العام ١٩٧٢. خلالها، كنت أعود دورياً إلى لبنان في الصيف وأزور صديقتي ماجدة. وقد لاحظت أن الكيليم تحت فراش أحد أسرّتهم، وسجادة البوخارى تغطي الديوان في قاعة الاستقبال، حيث تجلس الأسرة كل يوم. مرة أو مرتين سألتني ماجدة متى سوف أستعيد أغراضي، لكنني أحسست بشيء من الخجل عندما ساورني شعور بأني «أسحب السجادة من تحت أرجلهم»! مضت السنوات. وفي صيف ١٩٧٢ قمت بزيارة قصيرة لبيروت، أو هكذا كنت أظنّ لأني ما لبثت أن أمضيت فيها ثلاث سنوات. حينها التقيت صديقتي سيمون فتّال ووجدت عملاً كمسؤولة للصفحات الثقافية في جريدة بيروتية تصدر باللغة الفرنسية.
تحدثت لسيمون عن حقيبتي، لكني ظللت اؤجل اليوم الذي سوف أذهب لاستعادتها. اندلعت الحرب الأهلية وغادرت وسيمون إلى كاليفورنيا، مع أني لم أعد إلى التدريس حينها. نحو العام ١٩٨٠ أمضينا فترة في بيروت. ما أن وصلت إليها حتى وعدت نفسي بأن أزور آل إهماليان لاستعادة أغراضي. كنت قد حزمت أمري. كان ذلك يوم إثنين، مثلاً، فقلت لنفسي «سوف أذهب إليهم يوم الجمعة بالتأكيد. سوف نذهب كلتانا». بعد يومين، أي يوم الأربعاء، كنت في «باب إدريس» أسير وسيمون على الرصيف عندما ظهرت الشقيقات إهماليان الثلاث. انخفطت أصواتهن. ولما كنت أتأهب لابلاغهن بأني قررت أخيراً أن آتي لاستعادة أغراضي، علمت أن والديهن قد توفيا. وأضافت ماجدة «تعرفان، سوف نغادر إلى لوس أنجلس بعد غد. لقد هوجم «بنكو دي روما» حيث نودِع مجوهراتنا وأموالنا وخسرنا كل شيء، إلى درجة أننا اضطررنا لبيع أثاث البيت، وأغراضك، لحاجتنا إلى المال. لم يكن لدينا عنوانك في أميركا!». سيطر عليّ إحساس غريب. لم أنبس ببنت شفة. أعطيتهن عنواني في كاليفورنيا. وافترقنا. فقد مضت ٢٥ سنة منذ أن تركت أغراضي عندهم!
مسؤولية فرنسا وبريطانيا
لم أتجاوز قطّ هذه الخسارة العائدة إلى إهمالي كلياً. ولكن بعد بضع سنوات، ذات ليلة تمكن فيها مني الأرق، أحسست وقد سرت قشعريرة باردة في ظهري. عادت إلى ذاكرتي اللحظة الماضي عليها ٢٥ سنة حين تركت حقيبتي في خزانة غرفة ماجدة، عندما فتحت وأهلها الحقيبة وشاهدوا الصورة التي كان أبي جد فخور بها: لقد آووا في منزلهم صورة الجنرال كمال باشا المسؤول عن وضع حد للوجود الأرمني في الأناضول. لا بد أنّ تلك كانت لحظة صادمة. لا أزال أعاني منها إلى الآن. قابلت الأخوات إهماليان في كاليفورنيا والمؤكد أننا لم نتطرّق للحديث عن تلك الأحداث. (ولا أنا استطعت أن أقرأ رسائل أبي!).
إن مجمل ما طالبت به تركيا الحالية من نهاية العام ١٩١٥ إلى العام ١٩١٧ تقريباً، كانت جماعات مختلفة موعودة به: الأرمن واليونانيون والإيطاليون. ومع ان الأرمن لا يذكرون ذلك إلا نادراً، وكان لليونان حضور هام ومطالب تاريخية، ذلك أن الإغريق قبل سقراط ظهروا على ساحل بحر إيجه والإمبراطورية البيزنطية سيطرت على آسيا الصغرى وما يتعداها. وكان لويد جورج يؤثر اليونان مع أنه وعد بمنح الجهة الجنوبية من تركيا إلى الإيطاليين! وكانت وزارة الخارجية البريطانية منقسمة بصدد كل هذه القضايا. في كل الأحوال، في كانون الثاني/ يناير ١٩٢١، انتهى حكم السلطان رسمياً. ومضي يونانيو أوروبا إلى احتلال ثراسيا وقاموا بالإنزال على الساحل الآسيوي من تركيا ودخلوا إزمير في أيلول/ سبتمبر ١٩٢١. في تلك اللحظة، انحاز يونانيو السلطنة إلى جانب الجيوش اليونانية الغازية. فوقعت اشتباكات في قرى كابادوس وارتكبت مجازر من الطرفين. وخان الإيطاليون اليونانيين الذين كانوا طامعين في المناطق الساحلية ذاتها. وكان اليونانيون يعتقدون بإمكان غزو المزيد من الأراضي في الداخل، أي ما يزيد على أراضي الساحل وحدها. استغرقت الحرب سنة كاملة وكسبها كمال ودخل إزمير في أيلول/ سبتمبر ١٩٢٢، حيث كانت هزيمة اليونانيين الكاملة، وعقد البريطانيون معاهدة مع تركيا الجديدة. ولا بد من أن نضيف هنا أن اليونانيين كانوا قد ضمّوا إلى خريطتهم المنطقة المسماة «الجسر»، أي الجانب الشمالي من تركيا على ساحل البحر الأسود، وهي منطقة كان الأرمن يطالبون بها هم أيضاً.
استغرقت الحرب العالمية الأولى أريع سنوات، واقتضى الأمر أربع سنوات إضافية لكي يرسم كمال باشا وجنرالاته خريطة تركيا كما هي اليوم.
يبدو أن انتصارات كمال، وحسْن الطالع الذي لم يفارقه، قضت على عدة مطالبات إقليمية (ونحن لم نتطرق إلى المطالب الكردية) وعلى العديد من الأحلام. مع بداية العام ١٩٢٤ تمّ الاعتراف بالجمهورية التركية رسمياً! وإذ نعاين تلك الفترة المزعزعة، غالباً ما ننسى مسؤولية الحلفاء، أي مسؤولية البريطانيين والفرنسيين خصوصاً، أو نستبعدها.
الفرنسيون
كانت الثقافة الفرنسية تهيمن على أوروبا، بما فيها روسيا، منذ القرن الثامن عشر. وكان العديد من كبار الروائيين الروس، بمن فيهم تولستوي، يجيدون الفرنسية. وكان للعثمانيين علاقات دبلوماسية على قدر من الأهمية مع مملكة فرنسا منذ القرن السادس عشر. أما بالنسبة إلى الحقبة التي تعنينا، فيجب التشديد على أن اللغة الفرنسية، جنباً إلى جنب التركية والالمانية، كانت تدرّس في الكلية الحربية المرموقة، في إسطنبول. وكان كمال يفتخر بأنه يتحدث الفرنسية بطلاقة. وكان نابليون بطلاً أسطورياً في السلطنة العثمانية على امتداد القرن التاسع عشر وصولاً إلى القرن العشرين. وكان نابليون، الغازي الشاب، قرين «الإسكندر المقدوني» في عصره، البطل الأثير لدى كمال باشا شخصياً، وهو المعروف بعدائه لألمانيا والمعجب بفرنسا، الدولة القومية التي كان يرى فيها النموذج الذي يقتدى بالنسبة لتركيا. ومن المؤكد أن دولة قومية مثل فرنسا قد شيّدت على مجازر مختلفة وجماعات سكانية مختلفة، فملوك فرنسا ارتكبوا المجازر بحق «الكاثار» و«الألبيجوا» والبروتستانتيين. سوف يقال إن هذا كان منذ زمن طويل جداً، لكن للفرنسيين مشكلات كبيرة عندما نحدّثهم عن الهجرة. في كل الأحوال، احتل نابليون مكانة كبيرة في مخيلة الصف الأول من الضباط العثمانيين. وفي مناسبة أو مناسبتين نظّم أبي حفلات استحضار للأرواح طلب ورفاقه خلالها من «وساطةَ الطاولات الدائرة» أن يبلغهم نابليون ما إذا كانوا سوف يكسبون الحرب أم لا!
الإنكليز
منذ الثورة البلشفية العام ١٩١٧ وخروج الروس من الحرب، قاد البريطانيون دفّة الحرب. وقد أخذ الإنكليز المبادرة في صياغة مصير الألمان في أوروبا ومصير العثمانيين في الشرق. وصلت سلطتهم إلى درجة أني سمعت أبي يقول عدة مرات «لن تسقط ورقة شجر واحدة من أي شجرة في العالم دون إرادة الإنكليز!». وكان في ذهن الإنكليز، وكذلك الفرنسيين، فكرة بسيطة جداً: استخدام أقليات السلطنة ومكوناتها لتقويض بنيانها كلياً، فقد أقنعوا عرب الحجاز بالثورة وانضموا إليهم واعدين إياهم بتأسيس مملكة عربية شاسعة تضم العراق وسورية وفلسطين وأجزاء من الجزيرة العربية. وبالتأكيد ما إن كسبوا الحرب حتى خانوا العرب خيانة موصوفة وقطّعوا أوصال المملكة العربية التي قد نشأت للتو! شجعوا الأرمن على التمرّد وعندما بدأ الأرمن يخسرون المعركة ويتعرضون للمجازر، تخلّوا عنهم كلياً. في النهاية، كان الإنكليز والفرنسيون موجودين في شرقي المتوسط كله، يسيطرون على كل شيء، وامتنعوا عن إنزال الجنود لنجدة اليونانيين أو الأرمن عندما كان هؤلاء في حالة كارثية. إن البريطانيين، كما الفرنسيين، يتحمّلون المسؤولية الكبرى عمّا جرى. ثم إننا لسنا نسمع أبداً اليونانيين أو الأرمن يتذمّرون من دور هاتين القوتين العظميين في المآسي التي تعرضوا لها.
في نهاية الحرب العالمية الأولى، هل كان رسم خريطة جديدة للشرق الاوسط بعد زوال السلطنة العثمانية لزوم لازم؟ فالكذبة التي فرضت على العرب في ما يتعلق باستقلالهم كانت جليّة. أخرج الفرنسيون مشروعهم: إنشاء لبنان كدولة، إضعاف سورية إلى أبعد حدّ ممكن، خصوصاً بمنح تركيا مناطق شمالية يقطنها عرب مسلمون وأرمن ومسيحيون سريانيون بالدرجة الأولى. في العام ١٩٣٩، منحوا الأتراك الإسكندرون المدينة التي أنشأها الإسكندر الكبير، وأنطاكية، المدينة السورية التاريخية، مسقط رأس متى الإنجيلي. وقد اضطر العديد من الأرمن الذين كانوا يعيشون في تلك المدينة إلى الهرب منها من جديد.
والآن إلى سؤالنا الأخير: ما الذي نستطيع فعله الآن؟
خلال قرن، أدّى إنشاء الدول القومية مثل لبنان وسورية والعراق وفلسطين إلى الإفلاس إلى هذا الحد أو ذاك. لقد اختفت فلسطين، كما يبدو بوضوح، بسبب رفض الإسرائيليين السماح للاجئين بالعودة إلى حيث كانت منازلهم خلال قرون من الزمن. وكان العراق بحاجة إلى سلطة قوية لمنعه من أن يتفكك وقد دمّره الاميركيون بوحشية. لم تنجح سورية ولبنان في توحيد الجماعات التي تكونهما وعاش البلَدان أو هما قد عاشا أو يعيشان الآن حروباً أهلية مخيفة. أمّا تركيا، البلد الأكثر استقراراً، فأمامه مشكلة كردية عسيرة يتوجب عليه حلّها. وثمّة طريقتان لحل هذه المشكلات: تمنح تركيا للأكراد مواطَنة كاملة وشاملة وتنشئ نوعاً من النظام الفيدرالي على الطريقة السويسرية، حيث يمكن لشعوب ذات فروقات لغوية أو سواها أن تعيش معاً. والأرمن؟ في القفقاس دولة أرمنية. وعندما نفكّر في الوضع بالأناضول، خلال الحرب العالمية الأولى، فقد عولجت تلك المسألة بطريقة لم تكن لتؤدي إلا إلى الحرب: شعبان يريد كل منهما دولة استئثارية على الأرض ذاتها، فلو كسب الأرمن لما كان ثمة وجود لتركيا. وقد كسب الأتراك، ولا بد للأرمن الآن من أن يعترفوا بأنّ قادتهم وقفوا إلى جانب أعداء تركيا وأن هؤلاء قد خانوهم فخسروا. وعلى تركيا أن تعترف بأنّ كبار الجنرالات العثمانيين الكبار، كاراكبير باشا خصوصاً، استخدموا الحرب للتصفية النهائية للأرمن من أجل إنشاء دولة قومية تركية وهذا يسمّي: إبادة جماعية. وما أن يحصل هذا الاعتراف، يمكن للشعبين التطلع إلى المستقبل بهناءة أكبر. ينبغي معالجة مشكلات قديمة، لأن المشكلات الجديدة والملحّة، ذات الصفة الكونية، تنتظرنا: فائض السكان، نقص المياه، التلوّث، إلخ. وهي مشكلات لا بد من أن تعبئ الإنسانية طاقاتها لمعالجتها: فإمّا أن نبقى معاً على قيد الحياة أو نزول معاً. من جهتي، أعتقد أنّ غريزة البقاء سوف تنتصر.
التعليقات
مقالة مهمه وسرد تاريخي لوقائع
مقالة مهمه وسرد تاريخي لوقائع غيرت الى حد كبير وربما جذري تاريخ هذه المنطقه لكن وكما تقول السيده عدنان لا تزال الديمغرافيا بتنوهعا تطمح لاسترداد هوياتها الضائعه وهي تبحث بلا كلل عن انصافها
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.