العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

هرانت دينك

منارة في التاريخ

النسخة الورقية

هرانت دينك (١٩٥٢-٢٠٠٧) ناشر وصحافي تركي أرمني، ناقد للإنكار التركي لإبادة الأرمن وداعية مصالحة بين الأتراك والأرمن. اغتيل في إسطنبول في كانون الثاني/ يناير ٢٠٠٧.


على غرابته، هناك تاريخٌ من النسيان. نحن لا ننسى أبداً ما نسيناه، أو ما ينبغي لنا نسيانه. هناك تاريخٌ من النسيان بما هو فِعل. هذا ليس الماضي الأفقي لمفهوم «النسيان». ذلك أشبه بطبقة بعد طبقة من العار، طبقة بعد طبقة من تجاهل العار، ثم طبقات من تذكّره، مع لوم أولئك الذين يتذكّرون، ومحو أولئك الذين يذكّرون به عن وجه الأرض، لجعلهم يختفون في تاريخ النسيان. وتاريخ النسيان موضوعٌ ضخمٌ ومعقّدٌ جداً.

هرانت دينك، ها هو هرانت دينك يقف في هذا التاريخ المؤلف من طبقات، تماماً عند النقطة التي تكتمل فيها الحلقة. من خلال محاولته تذكيرنا بندبة تعود إلى مئة سنة مضت، أضحى هدفاً ليستحيل هو نفسه ندبة مدفونة عميقاً في تاريخ النسيان. ونحن نحاول أن نَحول دون حدوث ذلك.

أحياناً أفكر في أننا أشخاصٌ يحاولون منع دفن الموتى. يا لغرابة ذلك. بيد أننا في أحيانٍ أخرى نحاول إقامة جنازة مشرّفة لأمواتنا، ونناضل في سبيل دفنهم بشكلٍ لائق رغماً عن الملك الشرير. وهذا أكثر غرابة حتى. إنه أشبه بما حصل مع أنتيغون في الأساطير الإغريقية.

قُتل هرانت لأنّه كان يحاول تذكيرنا بتاريخٍ من الغرابة من دون أن يصِمَنا بالعار. كان يحاول أن يتكلّم من دون إلقاء اللوم. كان ذلك فعل «إحراجٍ ثوري»١. لو أنّه صرخ بصوتٍ عالٍ، ملقياً اللوم علينا، موجهاً إلينا أصابع الاتهام بصفتنا «قتلة»، لما كان قُتِل. ذلك أنّ تاريخنا هو تاريخٌ يُقتَل فيه أولئك الذين يحاولون التوسّط. لا خطر على من ينتظرون على كلا الجانبين، في خنادق ساحة المعركة. إنما أياً كان من يجرؤ على الوقوف في الوسط، قائلاً «أصغوا لدقيقة!» يُردى برصاصة في مؤخرة رأسه. هذا هو توقيع القتل المرعب.

لا يُسائل التاريخ الأعمالَ التي قام بها الناس. نحن من نفعل ذلك. إذا لم يسأل الناس فإنّ التاريخ ينسى. لا أحد يتحمّل مسؤولية أعماله في وجه التاريخ. وإن طُلب منه ذلك، فإنّ الناس هم الذين سيضطر لمواجهتهم. لذلك، لا أعتقد أبداً أنّ قتلة هرانت سيُستَجوبون يوماً أمام التاريخ. فمن يأبه إذا ما تحملوا مسؤولية ما اقترفت أيديهم بعد أن مات الجميع، خصوصاً القتلة على أي حال؟ أنا، بشكلٍ خاص، لا آبه.

على الأرجح، سيصنع هرانت التاريخ بشجاعته. وأودّ أن يتذكّره التاريخ هكذا. فقد كان مُذكِّراً عطوفاً، شخصاً يتمسّك بمباهج الحياة على الرغم من الطغاة الوحشيين، رجلاً يستطيع أن يفكر بإنصاف، عضو «أقلية» يمزّق جسدَه إرباً ليكون عادلاً ومنصفاً.

إنها ذكرى أنيقة، أجل، على الأرجح إنها ذكرى جميلة.

هذه دولة تقتل بدافع العار. بيد أنّها لا تقتل نفسها. لا تعرف ثقافة هذه البلادُ العقاب الذاتي. هي تعاقب الآخرين. تقتل النساء. تقتل الأولاد. تقتل الحيوانات. تقتل الناس. تقتل كل من لا يتعاون. يُعتبر العدو دائماً غريباً. وتعتقد هذه الدولة أنّها تقف ثابتة على قدميها من إذ تتصرف بهذا الشكل. وتفترض أنّ ذلك يمكن أن يستمر. تعتبر أنّ الوقوف هو بقاءٌ على قيد الحياة وأنّ البقاء هو الحياة بحد ذاتها. في عالم الكفاح في سبيل العيش هذا لا مكان للكياسة أو التعاطف. هم يدعوننا إلى أن نكون بشراً ونبقى بشراَ. إنّهم يصعّبون علينا الأمور لأنّهم لا يريدون شيئاً في المقابل، فمطلبهم الوحيد هو حقاً، وصدقاً، الإنسانية وحسب.

إنّهم يعطّلون النظام لأنهم لا يقبلون قوانين العداء ومطلبهم الوحيد هو الإنسانية. ولو أنّهم طلبوا شيئاً آخر، أي شيء آخر، لاختلفت النتائج، إذ ثّمة طريقة «للتعاطي» مع أي مطلبٍ آخر. بيد أنّهم يصرّون على المطالبة بالصدق، وهو أكبر المستحيلات. وهو وضعٌ عقيم بالنسبة إليّ. لا تعرف هذه الدولة كيف تتعامل مع العار الذي سيترتّب عن الصدق. لا تعرف هذه الدولة كيف تتعامل مع العار. لا تعرف كيف تعتذر، تماماً كما لا تعرف كيف تكون شاكرة.

مع ذلك، يمثّل هرانت إشارة. إشارة إلى أنّ حلقة النسيان قد شارفت على الانتهاء، وأنّه لم يتبقَّ أيّ مكان لأولئك الذين يريدون أن ينسوا. تنغلق الحلقة على منطق يستند إلى النسيان، تاريخ النسيان.

هرانت نقطة يبدأ عندها التذكر، حيث لا يوجد مكان آخر للذهاب إليه. كانت حياته هكذا وحسب، وهذا ينطبق أيضاً على وفاته. هرانت إشارة ينبغي تذكرها، إشارة يهتدي بها أولئك الذين يودّون التذكر باسم الشرف. ذلك أنّه اقترح طريقة للتذكير. وقد فعل ذلك بطريقة جميلة ومتعاطفة. وقد أخبرنا كل شيء عن كيفية حمل عبء العار، وكيف سيخفّ هذا العبء إذا ما حمله أمثالنا. والواقع أنّ هذه حقيقة مرعبة جداً بالنسبة إلى أولئك الذين يصرّون على أنّ هذا العبء لا يتزحزح. وقد أخبرنا هرانت أنّ الأمر لا يتعلّق بالعار وحسب بل بالمستقبل أيضاً. هذه نهاية تاريخ النسيان. إنها نقطة انفصال. إنها إمكانية. إنها شرخ.

إنه هناك. ليس حيث قُتِل. إنّه في ذلك الجزء من التاريخ حيث اعتاد أن يعيش، حيث كان له صوته. إنّه منارة. مكانٌ للعودة إليه والبحث عن الإرشاد. مكانٌ للوقوف عليه قبل القفز نحو المستقبل. من دون أي عبء. حمل العبء أولاً ثم التخلّص منه.

bid14-p86-87.jpg


خلال تشييع هرانت دينك في اسطنبول في كانون الثاني / يناير ٢٠١٢

  • ١. تعبير يستخدمه الشاعر حيدر إرغولان لزميلته الشاعرة جولتين أكين.
العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦
منارة في التاريخ

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.