فصل من كتاب يصدر قريبًا بعنوان «صورة الفتى بالأحمر ٢- زمن اليسار الجديد»- حوارات مع مريم يونس. (رياض الريس للطباعة والنشر)
بعد فترة قصيرة من مغادرة «البعث»، تعرّفتُ إلى وضّاح شرارة من خلال قريب له هو طلال شرارة، العضو في قيادة قطر لبنان المنشقّة. كان وضاح على صلة بالـ«بعث» في لبنان لكنه انتسب إلى «الحزب الشيوعي الفرنسي» خلال سنيّ الدراسة. عاد وقد ترجم كتاب أنور عبد الملك «مصر مجتمع عسكري» وكان يفكّر بإصدار مجلة فكرية على غرار «الأزمنة الحديثة»، مجلة سارتر. كان طلال شرارة ومجموعة من المنشقّين يسعون إلى تكوين كتلة سياسية، منهم غسان شرارة، عضو القيادة القومية سابقًا، وعبد الوهاب شميطلّي، الأمين القطري السابق في لبنان، وفؤاد شبقلو، ومحمود سويد وأحمد الزين، وآخرون. شاركتُ ووضاح في اجتماعاتهم. وقد كانوا يميلون إلى تكوين جناح بعثي معارض وكنّا أكثر جذرية في نقدنا للـ«بعث» والفكر القومي وأكثر التزامًا باليسار والماركسية، فافترقنا عن مجموعة البعثيين السابقين واتفقنا على تأسيس مجموعة يسارية مستقلة.
تكوّنت النواة الأولى التي أسست «لبنان الاشتراكي» من أحمد الزين، محامٍ وبعثيّ سابق؛ كريستيان غازي، ابن عقيد في الجيش ومخرج تلفزيوني؛ زوجته مادونا مجدلاني غازي، مدرّسة وممثلة مسرحية؛ وداد شختورة، نقابية في قطاع التعليم الخاص، زميلة مادونا في التدريس وصديقتها؛ ومحمود سويد، الصحافي في أسبوعية «الأسبوع العربي» وعضو سابق في قيادة حزب «البعث» في لبنان.
تأخرت البداية الفعلية للمجموعة. كان وضاح وكريستيان على صلة بأحمد ستَيتيّه، القيادي في «حركة القوميين العرب» الذي يتفاوض مع نخلة المطران، أبرز وجوه «التيار اللينيني» في «الحزب الشيوعي» مع إدمون عون وأحمد الحسيني، وهو تيار يجمع بين نظرة منفتحة إلى الشيوعية متأثرة بالشيوعية الإيطالية وولاءٍ لا يلين لخالد بكداش ويعارض بالتالي محاولات استقلال الحزب اللبناني عن الشقيق السوري. نتج من تلك اللقاءات انجذاب وضاح وكريستيان إلى فكرة العمل من داخل «الحزب الشيوعي» في إطار «التيار اللينيني» خصوصًا بعد أن اكتشفا أنّ للتيار وجودًا بين مزارعي التبغ في الجنوب. تعطلت اجتماعات النواة التأسيسية، غير أن الثنائي لم يطُلْ به المقام في «التيار اللينيني» لأكثر من عدة أشهر وغادرا لأسباب لم أعد أذكرها.
مع عودة وضاح وكريستيان، انتظم عمل المجموعة وستنضم إلينا باكرًا يولا بوليتي، زوجة وضاح آنذاك، وعزيز العظمة، الذي سيغادر باكرًا للدراسة في الخارج، وأحمد بيضون وحسن قبيسي، وكرّت المسبحة ولو بطيئًا. بدأنا بإصدار نشرة «لبنان الاشتراكي» العام ١٩٦٦. اقتنينا آلة ترقين يعمل عليها إسكندر حمام، طالب الهندسة الكهربائية في الجامعة الأميركية والعضو في يسار «حركة القوميين العرب». في البدء، كنا نطبع النشرة على آلة «رونيو» في «النادي الثقافي العربي» بمساعدة زملاء الدراسة في الجامعة الأميركية فؤاد السنيورة وعصام عرقجي. ثم اشترينا آلة طباعة «سْتِنْسِلْ» خاصة بنا تعمل على «السبيرتو». وصدر العدد الأول من «لبنان الاشتراكي» في أيلول/ سبتمبر ١٩٦٦ وسوف نصدر من النشرة ١٧ عددًا قبل أن تتوقف عن الصدور في آذار/ مارس ١٩٧٠.
«لبنان الاشتراكي»
الأرجح أنّ الذي اقترحه هو وضّاح. تعدّى الأمر التسمية. يمكن النظر إلى كامل فكر مجموعة «لبنان الاشتراكي» ومواقفها وسلوكها، وفكر مثيلاتها من منظمات اليسار الجديد، انطلاقًا من التمسّك بوضع الاشتراكية على جدول الأعمال. سوف يطبع هذا المنظور رؤيتنا لكل ما يجري حولنا. حاكمْنا الناصرية والبعث من منظار بناء الاشتراكية. وكانت الاشتراكية عنصر التمايز الأبرز تجاه «الحزب الشيوعي» الذي كان لا يزال متشبثًا بمقولة الرأسمالية الوطنية أو بالاختيار بين جناحين من البرجوازية، أو بالثورة الوطنية الديموقراطية قبل أن يتبنى مقولة «الطريق اللارأسمالي إلى الاشتراكية».
لم يكن الأمر مستغربًا. كنا نعيش في عالم منقسم بين معسكرين وبين رؤيتين للعالم والحياة، وكانت الفترة أيضًا فترة نهوض حركات التحرر الوطني والاجتماعي وولادة دول عدم الانحياز، والسائد أن الاشتراكية لن تأتي في العالم الثالث من التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وإنما من خلال نضال الشعوب ضد المركز الإمبريالي والربط بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي. وكانت لدينا الأمثلة الوفيرة على ذلك في مجموعة الدول التي تعتبر نفسها في طور الانتقال إلى الاشتراكية: فيتنام، الجزائر، كوبا، مصر الناصرية، اليمن الديموقراطي، الصومال، إلخ. وإلى هذه محاولةٌ مبتكرةٌ لبناء الاشتراكية وصلت إلى السلطة بواسطة الانتخابات النيابية كما في تحالف الوحدة الشعبية بين الشيوعيين والاشتراكيين في تشيلي، بقيادة سالفادور ألليندي.
أما لماذا اقتصرت التسمية على لبنان، فأحسبُ أنها كانت ردة فعل ضد شطحاتنا القومية السابقة والتعبير عن التصميم على التفكير والفعل في لبنان أولًا.
ورشة فكرية
كان «لبنان الاشتراكي» بالدرجة الأولى ورشة فكرية لقراءة وإعادة قراءة التراث الماركسي بالعودة إلى «أمّهات النصوص» وإلى التفسيرات والتأويلات التي تتضمنها مراجع ثانوية جديدة ضمن شاغل سائد في تلك الحقبة هو «تعريب الماركسية». وقد اعتبرنا أن مساهمتنا الأساس في ذاك الجهد هي إنتاج المعارف عن التشكيلة الاجتماعية اللبنانية. والوسيلة: إعادة الاعتبار إلى دور النظرية في تحليل وقائع الحاضر وتطوراته والحياة اليومية وفي الفعل السياسي والنشاط العملي. أما الواسطة فنشرة سرّية دورية تخدم كوسيلة للاتصال قصد كسب الأنصار والأعضاء وتشكّل «المنظّم الجماعي» على الغرار البلشفي، إذ كان الهدف الذي تجهر به المجموعة هو بناء «الحزب الماركسي اللينيني الثوري». وكان لوضاح شرارة في تلك المجموعة موقع «المتقدم بين متساوين»، كما يٌقال، خصوصًا في مضمار اقتراح الكتب التي تستوجب القراءة والصحف والمجلات والدوريات إلى ما مثّله من انضباط واحترافية في البحث والتأليف.
قرأنا وشرحنا وحلّلنا «البيان الشيوعي» وكتابات ماركس الفرنسية و«الأيديولوجية الألمانية»، وقرأنا من إنغلز «أصل الأسرة» ومن لينين «مصادر الماركسية الثلاثة» و«ما العمل»، كما قرأنا مؤلفات في تاريخ الثورتين الروسية الصينية وفكر ماو تسي تونغ. ودرسنا مؤلفات هنري لوفيفر وجورج لوكاش ولوي ألتوسير ونيكوس بولانتزاس وإسحق دويتشر وفرانز فانون. وقرأنا عن كتاب «رأس المال» لماركس في تأويل لوي ألتوسير وفي كتاب إرنست مانديل الثمين عن الاقتصاد الماركسي، أكثر ممّا قرأنا في «رأس المال» بأجزائه الثلاثة. عدا عن قراءته الرحبة للمادية التاريخية، فتح لنا لوفيفر آفاقًا جديدة في الماركسية من خلال مفاهيمه عن الممارسة، والحياة اليومية، والتناقض بين الفرد والمجتمع. وكان لفكر أنطونيو غرامشي مكان خاصّ في التحصيل والدراسة. تعرّفنا إليه من خلال إعجابنا بـ«الحزب الشيوعي الإيطالي» المتحرر من التبعية السوفياتية وأيضًا من خلال ألتوسّير ونيكوس پولانتزاس. جذبتنا إلى غرامشي عوامل عديدة: تكريس إنتاجه المعرفي لبلده إيطاليا؛ التاريخانية في مقابل الحتمية التاريخية؛ الاستقلال النسبي للبناء الفوقي السياسي والأيديولوجي؛ الأهمية التي يوليها للثقافة والمثقفين ومفهومه للمثقف العضوي؛ ونصّه عن «المسألة الجنوبية» التي غذّا اهتمامنا بالجنوب اللبناني، في وقت كانت تلك المنطقة الطرفية على حدود فلسطين المحتلة أبرز ضحية لقيام دولة إسرائيل وإقفال السوق الفلسطينية، تُصدّر أهلها إلى ضواحي العاصمة وأحيائها وأبناءهم إلى مدارسها والجامعات، عدا عن تهجيرهم إلى تغريبتهم الأفريقية. وباتت فكرة غرامشي القائلة إن «كل وجهة نظر جديدة تبدأ دومًا عبر السجال» مبدأنا في التعامل مع الأقربين وإن كنا مارسناه بقسوة ومبالغة وقدر من التعالي أحيانًا كثيرة.
بالنسبة لي، لازمتني رفقة غرامشي ولا تزال. تركت آثارها في أبحاثي وكتاباتي في التأريخ، والطبقات الاجتماعية وعلاقتها بالسلطة السياسية، وجدل الريف والمدينة، وخصوصًا في نقد الأيديولوجيا في «صلات بلا وصل. ميشال شيحا والأيديولوجيا اللبنانية» (١٩٧٩) وأوحت لي بالشغل على الثقافة الشعبية والفولكلور في «مسرح فيروز والأخوين رحباني: الغريب، الكنز، الأعجوبة (٢٠٠٦)» وفي «إن كان بدّك تعشق... مقالات في الثقافة الشعبية» (٢٠٠٥). وقد ترجمتُ لغرامشي في تلك الفترة واحدًا من أهم نصوصه في التأريخ- «عن الوحدة القومية الإيطالية»– لكني لم أنشره إلا عام ٢٠١٧.
جمعتْ أفرادَ «لبنان الاشتراكي» أفكارٌ وأحلام وطقوس وعادات مشتركة. قراءة دؤوبة للصحف- «النهار» و«الحياة» و«المحرر» لبنانيًا وما تيسر من الصحافة المصرية، خصوصًا الأسبوعيات «روز اليوسف» و«صباح الخير». إلى مشاركتي الرفاق في القراءات الفرنسية من منشورات دار «ماسبيرو» خصوصًا، والمواظبة على مطالعة اليومية «الموند» والأسبوعية «نوفيل أوبسرفاتور» ومجلة سارتر «الأزمنة الحديثة»، كنت أتابع «نيو ليفت ريفيو» البريطانية و«مونثلي ريفيو» الأميركية. ومن الطقوس، تدخين السجائر الفرنسية من نوع «غولواز» و«جيتان» (كانت «سلتيك» الأضخم والأقوى سيجارتي المفضّلة) وسهرات النبيذ والجبنة الفرنسية عند كريستان ومادونا غازي تنتهي بنشيد «الإنترناسيونال» والقبضات المضمومة، بالإضافة إلى الاستخدام الفائض لبادئة «يبدو» في مطلع الجملة – من قبيل التحفّط العلمي!– و«جيّد» من قبيل الاستحسان، على غرار ما يتصدق به معلِّم، و«سلامات» للتحية أو الوداع، وللاثنين أحيانًا، وقد تفشّت في أوساط الإنتليجنسيا اللبنانية، وغيرها. ودرجنا على حضور السينما والمسرح، واعتبار هذا وذاك نشاطًا ثقافيًّا لا مجرّد تسلية وإثارة، نمارسه في أولى «نوادي السينما» في زمن كانت القبلة لا تزال تثير بين الحضور صرخات «عسل يا موز!» في الصالات التجارية. وحضور الفيلم مناسبة لتحليل وتأويل ونقد وتقييم من حيث الفكر والسرد والفن السينمائي وأسلوب التمثيل والممثلين، أما المسرح فشدّتنا إليه مادونا مجدلاني وزميلاتها وزملاؤها المشاركون في النهضة الكبيرة التي شهدها المسرح في لبنان خلال الستينيات والسبعينيات.
أما السرّية واستخدام الأسماء المستعارة فلم تكن تحتمل اعتبارها طقسًا، ولا المبالغة في التأويل الأنثروبولوجي المضخّم لها، كما في سيرة وضاح شرارة «الرفاق». اعتمدناها بالدرجة الأولى تلبيةً لضرورة حماية وظائف البعض منّا من أساتذة التعليم الرسمي والخاص، ومنهم وضاح شرارة وأحمد بيضون، ولدرء حالة القمع التي كانت تفرضها الأجهزة الأمنية الشهابية في تلك الفترة.
الترجمة والنشر
لم ينفصل جهد التحصيل والكتابة والإنتاج عن جهد الترجمة. احتضننا بشير الداعوق، مؤسس «دار الطليعة» ومديرها، وهو الإنسان الدمث، والقارئ الدائب، والبعثي المنفتح، والناشر الجريء الاستثنائي الذي أسهم بدور بارز في نشر أدبيات التحرر الوطني والاشتراكية والماركسية. إضافةً إلى تحصيل دخل إضافي، كان الهدف من الترجمة المساهمة في الجهد إياه، جهد تعريب النتاج الماركسي ومشاركة القراء بمؤلفات أثّرت فينا، خصوصًا الكتب التي امتنعت دورُ النشر السوفياتية عن نشرها. ولمّا أصدر بشير الداعوق مجلة «دراسات عربية»، كتبنا فيها وتسلّمنا مسؤولية تحريرها لفترةٍ تولّاها محمود سويد.
ترجم وضاح شرارة وعزيز العظمة «الأمير الحديث» لغرامشي عام ١٩٧٠ (بتوقيع زاهي شرفان وقيس الشامي) وترجمتُ أنا له «المادية التاريخية» عام ١٩٧١، ولعلّ هذه وتلك أولى ترجمات غرامشي إلى العربية. وترجم عزيز العظمة (بتوقيع قيس الشامي) مختارات في المادية التاريخية بما فيها أولى نصوص لآلتوسّير تنشر بالعربية. وفي وقت مبكر، ترجم وضاح شرارة كتاب أنور عبدالملك «مصر مجتمع عسكري» الذي عنونته دار الطليعة «مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون» (١٩٦٤) وترجم «البيان الشيوعي» وقدّم له باسم زاهي شرفان (١٩٧٢). أما ترجماتي فلائحة تطول: «الثورة الدائمة» لليون تروتسكي (بتوقيع بشار أبو سمرا)، ورائعة جون ريد عن الثورة الروسية، «عشرة أيام هزت العالم»، و«ستالين: سيرة سياسية» لإسحق دويتشر، وجمعتُ الحوارَين الكبيرين عن مفاهيم وآليات الانتقال إلى الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وكوبا في كتاب بعنوان «مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية»، كما ترجمتُ «بناء الاشتراكية في الصين»، لشارل بتلهايم، و«يوميات بوليفيا» لتشي غيفارا (مع منير شفيق)، و«تحرر المرأة العاملة» لألكسندرا كولونتاي (مع طلال الحسيني) ونصوصًا لأميلكار كابرال ولقادة الثورة الفيتنامية و«المسيرة الكبرى لأميركا اللاتينية» لريجيس دوبريه. لغزارة ترجماتي، اقترح عليّ بشير الداعوق التفرّغ للترجمة في الدار بمعاش شهري قدره ٢٠٠ ليرة وكنت لا أزال على مقاعد الدراسة الجامعية.
التراكم الأوّلي
غلب على السنوات الأولى ما يمكن تسميته «التراكم الأولي»، أي كسب الأعضاء والأنصار، من خلال الاتصالات الفردية والنقاشات المطوّلة. وعند نضج الشخص الذي كان يسمّى «اتصال»، يرشحه عضوان عاملان للانضمام إلى حلقة يشرف عليها أحد الأعضاء العاملين، إلى أن تبلغ الحلقة، أو أحد أعضائها، الأهلية لـ«الترفيع» إلى العضوية العاملة في خليّة. ومع تعدد الخلايا، تتولى التنسيق في ما بينها بواسطة مندوبين عن كلٍّ منها في «هيئة تنسيق» وهي، كما يشير اسمُها، هيئة لا سلطة لها على الخلايا الممثلة فيها. أو بالأحرى أنها قائمة على مبدأ الإجماع أو النقض. عدا المعارف الشخصية وزملاء الدراسة والعمل أو الأقارب، كان لتوزيع نشرة «لبنان الاشتراكي» وبعدها نشرتَي «نضال الطلاب» و«نضال العمال» الدورُ الكبير في كسب الأعضاء والتوسع.
انعقدت لنا صلات مبكرة في صيدا وصور وطرابلس وزحلة، أذكر في هذه الأخيرة معلّمَ الرياضة باسم ميقاتي، الذي سوف يتحول إلى أحد شيوخ الإسلاميين. وتشكلت مجموعة في الأشرفية منها حاتم حوراني، ومن الجبل، جاء جنان شعبان ورشيد الحسن، القادمان من «الحزب الشيوعي»، بالإضافة إلى مجموعتَي الجامعة الأميركية وحيّ النبعة الوافدتين من «حزب البعث». وتكوّنت أول حلقة طلابية من تلامذة وضاح وأحمد في الكلية العاملية أذكر منهم سامي سويدان ومحمد دبس وسميح عبّاني ومعهم محمد أيوب، علي شامي، محمود بيضون، علي يوسف، محمد عبد الحميد بيضون وآخرون.
على صعيد آخر، ظهرت في تلك الفترة «جبهة القوى الطالبية» FFE التي تأسست العام ١٩٦٤ من مجموعة شباب في المعاهد والجامعات الفرنسية تنتقد النظام الطائفي والزعامات السياسية وتطرح أهمية التنظيم النقابي للطلاب على ميل يساري عام لدى أعضائها وأبرزهم غسان فواز، سمير فرنجية، خليل شميّل، آن موراني، كريم مجدلاني، آن ماري أغاجانيان، جاد تابت، خالد لطفي، نوال عبّود، أمين معلوف، هاني حمدان، مروان الحص، راجي الحص، فرانسوا زبّال، إلخ. وقد ضمّت المجموعة عددًا من الطلاب اليهود اليساريين المعادين للصهيونية من خريجي مدرسة «الآليانس» اليهودية بينهم اليكو بيضا، سليم تركية (المعروف في الصحافة باللغة الفرنسية باسم سليم نصيب)، يولا پوليتي، هيني سرور، موريس سرور، روبير عدّي، وغيرهم. وكانت النواة القيادية للمجموعة مكوّنة من غسان فواز، اليكو بيضا، سمير فرنجية وفرانسوا زبّال. والمنافسة على أشدّها لاستمالة «الجبهة» بين «الحزب الشيوعي»، ممثلًا بنسيم ضاهر، وكتلة «التيار اللينيني» داخل الحزب التي انحاز إليها معظم أعضاء المجموعة. ومع أن يولا كانت من المؤسسين للجبهة، فقد طُردت من «التيار اللينيني» بتهمة تمرير معلومات عن «التيار» إلى «لبنان الاشتراكي» عن طريق وضاح شرارة. وخرجت بالتالي من الجبهة. واستقلت أنا بدوري.
وكان لنا صلة بحركة الثانويين من خلال محمود بيضون، شقيق أحمد بيضون، ومحمد أيوب وعلي شامي وعلي يوسف، ومحمد عبدالحميد بيضون، وغيرهم، نشطوا خلال إضراب الثانويين الشهير من أجل تخفيض رسوم التسجيل في الامتحانات الرسمية وتوحيد الكتاب المدرسي وتعديل مناهج التعليم وإلغاء العلامة اللاغية على اللغة الأجنبية – التي تميّز ضد الطلاب الذين لا يجيدون اللغة الفرنسية وأكثريتهم في التعليم الرسمي. وقد استشهد في ذلك الإضراب الطالب إدوار غنيمة برصاص الدرك في صور في آذار/ مارس ١٩٦٧. وقد واكبنا مؤتمر اتحاد الطلاب الجامعيين. في القطاع التعليمي كان لحركة الثانويين حضور في نقابة معلمي المدارس الخاصة من خلال وداد شختورة.
في الجامعة الأميركية، عملتُ بالتعاون مع مجموعة من الشباب اليساري الفلسطيني، في «حركة القوميين العرب»، بينهم خليل الهندي وكمال عرنكي وإسكندر حمام؛ ومع عدد من أعضاء الحركة من مختلف البلدان العربية: وليد قزيحة من لبنان؛ عبد الرحمن النعيمي (سعيد سيف)، عبد النبي العكري (حسين موسى)، وليلى فخرو (هدى) من البحرين؛ عبدالله الأشطل، محمد الأرياني، خالد الحريري، فتحية منقوش، وعبد الرحمن فخري، من اليمن. سوف يمارس معظم هؤلاء أدوارًا حزبية ونضالية وحكومية في عدد من بلدان الخليج واليمن. هذا بالإضافة إلى زملاء النضال اليساري من طلاب بريطانيا العراقيين ممّن انتقلوا إلى بيروت وهم: فالح عبد الرحمن، الذي دخل الجامعة الأميركية، قسم الفلسفة، ومكّي العاني، الذي أمضى بعض الوقت في بيروت يعاوننا في العمل السياسي والتنظيمي.
غلبت قضية فلسطين على جو الجامعة الأميركية وأطلقت نشاطًا متعدد الأوجه خصوصًا مع بروز المنظمات الفدائية العام ١٩٦٥. تظاهرنا تضامنًا مع طلاب الجامعة اللبنانية وأساتذتها، وكسرنا الحظر على التظاهر داخل الجامعة وتظاهرنا من أجل فلسطين. ومن نشاطاتنا حملة دعاوية ضد الحرب الأميركية في فيتنام. أصدرنا منشورًا باللغتين العربية والإنكليزية بعنوان «حقائق حول الحرب في فيتنام» بتوقيع «الطلبة الاشتراكيون في الجامعة الأميركية ببيروت» (١٩٦٦) يدين العدوان على فيتنام ويعلن الانضمام إلى الحملة العالمية الداعية لانسحاب القوات الأميركية والاعتراف بحق الشعب الفيتنامي في تقرير المصير. وسيتسبّب البيان في منعي من دخول الولايات المتحدة الأميركية لمدة عشرين عامًا. وكانت ذروة تلك النشاطات احتلال الطلاب للحرم الجامعي خلال حرب حزيران/ يونيو ١٩٦٧ وتنظيم حملة تطوّع للمساهمة في القتال.
وفي الأميركية، كنت أيضًا على صلة بعدد من الموظفين. ابن عمّتي نبيه عبّود العامل في مشغل كلية الهندسة كان قليل الاهتمام بالسياسة. لكني تعرّفت من خلاله إلى زميله سليم الشامي، اللاجئ الفلسطيني والمناضل الشيوعي الذي كان مرافقًا للقائد الشيوعي إميل توما. أسرّ لي سليم بأنه انضمّ إلى الماسونية ولمّا سألته عن هذا المذهب الغامض، بدا أنه لا يعرف عنه الكثير ولا يهمّه أن يعرف. انتسب بحثًا عن لقمة العيش بعد أن نزح من فلسطين. دلّه زميل إلى أحد المتنفذين من الماسونيين فضمّه للماسونية ووجد له وظيفة في الجامعة الأميركية. كنت ألتقي سليم باستمرار، يحدثني عن فلسطين وشيوعيّيها. وبين أصدقاء الجامعة أيضًا جورج يوسف، الموظف في مكتب المحاسبة. وجورج من القوزح، القرية الحدودية الجنوبية، غادر «الحزب الشيوعي» وبقي طويلًا في صفوف اليسار الجديد وكان ابنُه إيلي من مؤسسي «تجمع الشبيبة الديموقراطي» الفرع الشبابي في «منظمة العمل الشيوعي».
الإنتاج الفكري
من مفارقات الأبحاث والدراسات عن «لبنان الاشتراكي»، في الأكاديميات الأميركية والأوروبية، أنها نادرًا ما تتطرق إلى الموضوع الأساسي الذي برر وجود المجموعة بالنسبة لمؤسسيها وأعضائها: الإنتاج الفكري. حتى أحمد بيضون عندما نشر نصه عن تجربة المجموعة أغفل هذا الوجه من نشاطها، مع أن النص كان بالأصل محاضرة أكاديمية في «الكوليج دو فرانس» بباريس.
في محاولة لملء هذه الثغرة، سأتناول أبرز معالم الإنتاج الفكري في «لبنان الاشتراكي» وما علق منه في خطاب اليسار و«الحركة الوطنية». امتد الإنتاج على أقل من خمس سنوات وهو موجود في ١٧ عددا من أعداد النشرة بين أيلول/ سبتمبر ١٩٦٦ وآذار/ مارس ١٩٧٠حوت زاوية ثابتة عن الحزب والمسألة التنظيمية. يضاف إليها عدد من الأبحاث والدراسات صدرت على حدة. وقد صدرت مختارات من مقالات النشرة في كتاب «العمل الاشتراكي وتناقضات الوضع اللبناني» تأليف «اشتراكيون لبنانيون» (بيروت، كانون الثاني/ يناير، ١٩٧٠).
أولوية الصعيد السياسي
كان أهم شاغل فكري عند المجموعة هو تمييز النصاب السياسي، في رد فعل على «اقتصادوية» «الحزب الشيوعي». وأبرز النصوص في هذا الموضوع «تناقضات الصعيد السياسي في لبنان» (العمل الاشتراكي وتناقضات الوضع اللبناني، ٧٧-٩٢- كتابة وضاح شرارة) عن المفارقة بين الدور العربي والعالمي للرأسمالية اللبنانية من جهة وبقاء الحياة السياسية أسيرة الريف وعلاقاته السياسية. بناءً عليه، يعيّن شرارة التناقضين اللذين يحكمان الحياة السياسية:١) بين البرجوازية المالية- التجارية والإقطاع السياسي؛ ٢) بين الإقطاع السياسي ومجموع الناخبين، ومعظمهم ينتمي إلى البرجوازية الصغيرة في الريف والمدينة والعمال الزراعيين والفلاحين. سوف يحتل التناقض الأول الحيّز الأكبر من الاهتمام والشغل، أما التناقض مع البرجوازية الصغيرة فلم يكن بالمستوى نفسه من الأهمية خصوصًا أننا حِدْنا عنه مرارًا بالحديث عن البرجوازية الصغيرة بما هي قاعدة النظام.
عرّفْنا «الإقطاع السياسي» بما هم أبناء أسر من المالكين للأرض يحتكرون التمثيل السياسي على القاعدة العائلية والطائفية. وقدّمنا مقاربة أولى لمفهوم المحسوبية (الزبونية) بما هي التبادل بين الولاء السياسي، المعبّر عنه في الانتخابات النيابية خصوصًا، من جهة، والتنفيع الفردي والعائلي والمناطقي في الإدارة وخدمات الدولة، من جهة ثانية. ولم نغفل الإشارة إلى الطابع غير المتكافئ للتبادل، على اعتبار أن الزعيم يوظف الولاء السياسي لأغراض التكسب المادي من خلال السلطة.
تعرّض مفهوم الإقطاع السياسي لتعديلات وتطويرات. أكدنا منذ البداية على دور الإقطاع السياسي في لعب دور الوكيل السياسي للبرجوازية. ولاحظنا لاحقًا «تبرجز الإقطاع السياسي»، أي نشوء مصالح اقتصادية رأسمالية جديدة لرجالاته من خلال سلطة الدولة والشراكة مع البرجوازية. وبدأنا من جهة أخرى نتلمّس الدور المتصاعد للمهن الحرّة والطبقات الوسطى في تمثيل المصالح البرجوازية في المؤسسة التشريعية.
أمّا مفهوم التناقض بين البرجوازية وطاقمها السياسي فسوف تكون له حياة طويلة في اليسار الشيوعي وفي «الحركة الوطنية»، وعلى منوّعات عدة. في تلك الفترة التأسيسية وردَ اجتهاد يرجّح إمكان حل التناقض. ومن الحجج المستخدمة على ذلك أن دور الرأسمالية في توسعة السوق وتحرير قوى الإنتاج سوف يمهّد حكمًا لتصفية الرواسب الإقطاعية والعشائرية وتوفير شروط وحدة الوطن فتتحول الطبقة الحاكمة إلى «طبقة حاكمة فعلًا». بناءً عليه، رجّحنا اندماج قطاعَي البرجوازية – المسيحي، «صاحب الامتيازات السابق»، والجناح المسلم «الأقل امتيازًا» – ما يمهّد لحل جذري لمشكلة الطائفية ويسهل العمل على إزالتها «من تحت»، في صفوف الشعب، بعد أن زالت «من فوق». (انظر: فواز طرابلسي، «ملاحظات حول وحدة اليسار في لبنان»، مجلة «الثقافة العربية»، السنة ٨، العددان ٦و٧، حزيران/ يونيو وتموز/يوليو ١٩٦٦، ص ٣٥١- ٣٦٨).
نمط إنتاج الخدمات الرأسمالي
حاولنا تمييز النظام الاقتصادي اللبناني في دوره العربي بإقامة الصلة بين فصل الكيان اللبناني عن سائر سورية وتغليب دور الوساطة المالية والتجارية عليه بحيث تحوّل إلى «حلقة الوصل المحلية» بين السوق العالمية والداخل العربي. وأكدنا أنّ انعزال لبنان السياسي والثقافي عن سورية وسائر العالم العربي هو شرط «عروبته الاقتصادية» أو وجهها الآخر.
ترافق ذلك مع محاولة تفكير ماركسية في الاقتصاد من خلال صياغة مفهوم «نمط إنتاج الخدمات الرأسمالي» (العمل الاشتراكي، ص ٩٣-١٢١؛ «لبنان الاشتراكي»، أيار/ مايو ١٩٦٨، كتابة فواز طرابلسي) عن غلبة قطاع المال والتجارة الموجّه للخارج. أفدنا في تلك الأبحاث من مقولة ألبرت حوراني عن «جمهورية التجار» في لبنان خلال العهود الاستقلالية، وكتاب «نظرة ثانية على الاقتصاد اللبناني» ليوسف صائغ ومحمد عطالله، الذي أبان حجم قطاع الخدمات وتوجهه الخارجي. وشكّل تقرير «بعثة إرفد» محطّة هامة في تطوّرنا الفكري وقد كشف لأول مرة وبالأرقام وجود الفقر والفوارقَ الطبقية حيث أربعة في المئة من اللبنانيين تستحوذ على ثلث الدّخل القومي، والامتيازات التي تتمتع بها بيروت وقسم من الجبل، على حساب الأطراف، إلخ.
مع ذلك، لم يكن لنا إنتاج يذكر عن التركيب الطبقي للمجتمع اللبناني. اكتفينا من الطبقة العاملة وبالحديث من موقعها، ومن موقع حزبها الماركسي اللينيني المرتجى أو المفترض (الذي ينعت بالثوري أحيانًا) ورأينا إلى البرجوازية الصغيرة على أنها القاعدة الطبقية للتحالف الحاكم وحمّلناها أيضًا ما اعتاد عليه الشيوعيون من التوجّس والحذر على اعتبارها المصدر الرئيس للانحرافات.
الشهابية
قاربْنا «الشهابية» على أنها بالمقام الأول مشروع إصلاحي لرأسمالية الاقتصاد الحر قصد تنظيم نموّها وحمايتها وتحريرها من عدد من سلبياتها، ولو رغمًا عنها في بعض الأحيان. تحقق ذلك بواسطة جهاز تكنوقراطي–أمني عوّض عن فريقَي الحكم المتناقضَين والعاجزَين: إقطاع سياسي غير قادر على التمثيل السياسي لنظام رأسمالي في طور النمو من جهة، وبرجوازية مالية–تجارية ضعيفة الحضور في السياسة، وعاجزة عن تنظيم التطور الفوضوي لقطاعها المالي الناتج من تدفّق أموال النفط، من جهة أخرى. وأبرز الأدوات في هذا المجال صدور قانون النقد والتسليف الذي أنشأ المصرفَ المركزي وثبّت العملة وأمّن للمصارف، والبرجوازية بالجملة، قدرًا من الثبات والحماية. إلا أننا في مقالات العام ١٩٦٨ قلنا إن الشهابية باتت تمثل «مصالح الرأسمالية اللبنانية ذات الطابع التجاري–المصرفي الغالب» («لبنان الاشتراكي»، تموز/ يوليو ١٩٦٨)
تولّت الشهابية تقليم أظافر الإقطاع السياسي بتفريخ وجاهات وسيطة في وجه كبار الزعماء، وصدّ تدخلهم في الإدارة عن طريق استحداث عدد من الأجهزة والمؤسسات الناظمة للحقل العام – مجلس الخدمة المدنية، ديوان المحاسبة، التفتيش المالي، مجلس تنفيذ المشاريع الكبرى، إلخ. على أن تلك الإنجازات تلازمت مع نقل مركز السلطة إلى الجهاز التنفيذي على حساب السلطة التشريعية وتأسيس دور خاص للجيش وأجهزة الأمن في التدخل في الحياة السياسية والعامة، خصوصًا بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي قام بها «الحزب السوري القومي الاجتماعي» العام ١٩٦١.
في ظل أيديولوجية «النمو» (التي وصفناها بـ«التكنوقراطية»)، تولّت الدولة الشهابية الإنفاق الواسع على مشاريع البنى التحتية – إيصال الكهرباء والماء لأرياف البلد والأطراف، وإقامة السدود وربط البلد بشبكة طرقات – وعلى استصلاح الأراضي. ومع اعترافنا بأن هذه المشاريع حملت الحد الأدنى من مستلزمات الحياة الإنسانية للأرياف والأطراف، إلا أننا شددنا على دورها في توسعة السوق وإيصال الأجهزة الكهربائية المنزلية والمواد الاستهلاكية إليها، أي أنها شجعت على الاستهلاك بديلًا من تنفيذ مشاريع تنمية تسدّ الحاجات المعيشية الأولى في أرياف تنهار فيها الزراعة الكفافية، وبدلًا من أن تعمل على زيادة إنتاجية الأرض وتشجيع التصنيع الزراعي، إلخ. مع العلم أننا لم نتغافل عن دور «المشروع الأخضر» في توسيع مساحة الأراضي القابلة للزراعة. لكننا اتخذنا موقفًا سلبيًّا من طلب الجهاز الشهابي قروضًا بقيمة ٣٠٠ مليون ليرة لبنانية لأغراض التنمية الاقتصادية («لبنان الاشتراكي»، ٢، تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٦٦) وانتقدنا عدم كفاية برامج حماية الصناعة.
ومع الاعتراف بقيمة السياسات الاجتماعية للدولة الشهابية – وأبرزها إنشاء صندوق الضمان الاجتماعي – ركزّنا على ما فرضته في المقابل من قيود على الطبقة العاملة: عقود العمل الجماعية، والتحكيم، والوساطة الإلزاميين في النزاعات بين العمال وأرباب العمل، والضبط الأمني للحركة النقابية من خلال «المكتب الثاني».
ويجدر التذكير أننا بدأنا الإنتاج والفعل وقد انتهى عهد فؤاد شهاب (١٩٥٨-١٩٦٤) والحياةُ السياسية قد انقسمت بين أنصاره وخصومه، فحلّلنا بدقّة عهدَي حلو وفرنجية، بما في ذلك أزمة «بنك إنترا» ١٩٦٦– وصعود «الحلف الثلاثي» المعادي للناصرية والشهابية معًا، من كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، بعد هزيمة حزيران/ يونيو ١٩٦٧، إلا أننا لم ننشغل كثيرًا بمدى نجاح الخصوم في الارتداد على تلك السياسات وتفكيك مؤسسات التنمية والرقابة والمحاسبة، ما سوف يسهم في تفكك الدولة ذاتها عشية الحرب الأهلية.
مهما يكن، النظر إلى الشهابية قبل الحرب الأهلية ليس كالنظر إليها بعدها. وهذا ما سأعود إليه.
المواقف العربية والعالمية
لم يكن لنا نتاج وفير عالميًّا عدا عن موقفنا النقدي من الستالينية التي كانت لا تزال تخيّم على الحركة الشيوعية العربية. وقد أفدنا في ذلك من أعمال هنري لوفيڤر وجورج لوكاش وإسحق دويتشر وآخرين. أولينا أهمية خاصة لمتابعة الثورة الفيتناميّة واعتبرنا التضامن مع فيتنام هو محك الأممية البروليتارية، في مغايرةٍ للدارج عن التضامن مع الاتحاد السوفييتي. ومن أبرز نصوصنا النقدية عن الستالينية، نشرنا دراسة معمّقة ومستفيضة للأزمة التشيكية والتدخل العسكري السوفياتي، بكتابة أحمد بيضون («لبنان الاشتراكي»، العددان ١٢ تموز/ يوليو ١٩٦٨ و١٣ تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٦٨) حلّلتْ الأزمةَ التشيكية على أنها نتاج تناقضات مخلّفات الحقبة الستالينية، ووضعت الجناح التكنوقراطي في مواجهة الحزب والإدارة، وأبانت أن التدخل العسكري للاتحاد السوفياتي والدولة الحليفة لم ينجح في قلب الاتجاه الذي فرضته الحركة الإصلاحية، وإذ لاحظ بيضون مشاركة الطبقة العاملة في الحركة الإصلاحية، ختم متمنيًا أن تنجح الطبقة العاملة، في ظل نظام ليبرالي، في الخروج «من الوصاية الستالينية لتبني حكمها المستقل: الديكتاتورية الديموقراطية للبروليتاريا».
وتضمّنت النشرة زاوية دائمة للتثقيف النظري كنتُ أتولى تحريرها من وحي اللينينية خصوصًا، يفترض بها أن تقدّم الدعم النظري لهدف المجموعة المعلن– بناء الحزب الماركسيـاللينيني. تضمنت الزاوية موادّ عن التنظيم الحزبي، ومخاطر البيروقراطية في الحزب، والمفهوم اللينيني للمركزية الديموقراطية، ووحدة الحزب، ومختارات من «ما العمل؟» لينين، ومن كتابات لينين عن التحالفات، وما شابه. ومن باب التثقيف أيضًا مادة منشورة على حدة عن مبادئ الاقتصاد الماركسي.
أما أبرز مشاغلنا العربية فكان الموقف من النظام الناصري استوحيناه من كتابات الماركسيين المصريين خصوصًا. كتاب أنور عبد الملك («مصر، مجتمع عسكري»، ١٩٦٤) يعرّف النظام على أنه وليد مجموعة عسكرية صادرة عن البرجوازية الصغيرة، إلا أنه يرى أن عبد الناصر بنى دولة اشتراكية نظرًا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية الجذرية التي أحدثها، لكنها ذات نظام بيروقراطي عسكري تفصله هوة كبيرة عن جماهير الشعب المصري. وفي العام نفسه، أصدر سمير أمين «مصر الناصرية» باسم مستعار (حسن رياض) اعتبر فيه أن أجزاء من البرجوازية الصغيرة تحوّلت إلى برجوازية دولة حلّت محل الطبقة الحاكمة السابقة وسمّاها «الأرستقراطية البرجوازية». أما الأكثر جذرية في نتاج الماركسيين المصريين فكان محمود حسين– الاسم المستعار لبهجت النادي وعادل رفعت، وهما مناضلان شيوعيان اعتقلا العام ١٩٥٩ وغادرا إلى فرنسا حيث ألّفا بالفرنسية «الصراع الطبقي في مصر، ١٩٤٥-١٩٦٨» (١٩٦٩). يرى الكتاب إلى انقلاب الضباط الأحرار على أنه جاء لقطع الطريق على ثورة شعبية. وسوف تلهم هذه الدراسات النقدية اليسارَ العربي الجديد في نقده النظام الناصري بعد نكسة العام ١٩٦٧.
لم يقتصر الاهتمام العربي على مصر. تابعنا أوضاعَ «الحزب الشيوعي العراقي»؛ ودعمنا حق الأكراد في الحكم الذاتي ضمن الجمهورية العراقية؛ وتابعنا أوضاع «حركة التحرر الوطني» في الجنوب اليمني ضد الاستعمار البريطاني، عشية الاستقلال؛ ونشرنا لزملاء ورفاق يمنيين وبحرينيين وسعوديين وعراقيين وسوريين في الجامعة الأميركية عن أوضاع بلدانهم. وكان لي اجتهاد حول حكم «حزب البعث» في سورية سعى إلى تشخيص قاعدته الاجتماعية الريفية، بعد انحسار قواعده المدينية خلال النزاع مع الناصرية، وإبّان نمو الامتيازات الاجتماعية للضباط، وحلّل تحكّم المنطق الانقلابي بتقلبات الكتل العسكرية المتناحرة. («لبنان الاشتراكي»، العدد ٣، كانون الأول/ ديسمبر ١٩٦٦).
نقد اليسار
يؤخذ على نتاج «لبنان الاشتراكي» طغيان هاجس التمايز عن «الحزب الشيوعي» والتعبير عن شعور بالتفوّق تجاهه لامتلاكه أدوات التحليل الماركسية. في القول الكثيرُ من الصحة خصوصًا أن تأكيد التمايز حمل قدرًا من المبالغة والادعاء والتشاوف النظري إضافة إلى اتخاذ موقع ادّعاء النطق والمحاسبة باسم الطبقة العاملة.
لكن لن يكون التمايز من دون مبرر. كان «الحزب الشيوعي» لا يزال في المرحلة السرية لم يخرج بعد من حالة العزلة التي نتجت من تأييده قرار تقسيم فلسطين العام ١٩٤٨ومعارضة خالد بكداش الوحدةَ المصرية السورية والنزاع مع مصر الناصرية، وكان يعيش حالة من الصراعات الداخلية من عناوينها استكمالُ الاستقلال عن الحزب السوري والتحرر من طغيان بكداش على الحزب اللبناني واستقبال تحديات قيام النظامين البعثي والناصري. وكانت أجهزته في حالة ركود بقيادة عتيقة لا تزال تعيش في العهد السرّي. وقد تجمعت تلك العوامل لتطلق حركة التجديد التي تكرست في المؤتمر الثاني للحزب العام ١٩٦٨. أقصد القول إن «الحزب الشيوعي» في تلك الآونة كان قليل الجاذبية لشبّان متمردين ومستعجلين يريدون الإطلالة من خلاله على الماركسية وعلى الانخراط في حركة شعبية جذرية.
ثم إن حركةً جديدةً في طور النشوء لا بد أن تغلِّب وجه التمايز مع الأقربين على وجوه التماثل والتقارب. من حيث المنهج، أخذنا على الحزب غياب التحليل الماركسي للوضع الطبقي في لبنان (مع أننا أنفسنا لم نقدّم فيه أي مساهمة تذكَر)؛ والانحراف النظري الستاليني؛ والتبعية للاتحاد السوفياتي؛ والتحالف مع البرجوازية الوطنية (كان النزاع داخل الحزب بين القيادة القديمة التي ترى في رشيد كرامي ممثلًا عن البرجوازية الوطنية والجيل الجديد الذي ينصّب كمال جنبلاط ممثلًا لها)؛ وضعف التمايز عن الحلفاء الذي يفقد الحزب دوره الطليعي. وأرجعنا كل ذلك إلى ما سمّيناه «تذبذب البرجوازية الصغيرة» وأيديولوجية الحزب التكنوقراطية، وأخيرًا أخذنا على الحزب انعدام الديموقراطية في حياته الداخلية وعدم اعتماد المبدأ الانتخابي والمساءلة ورفض الآراء المعارضة، إلخ.
لكن الخلافات الأبرز مع «الحزب الشيوعي» دارت على قضايا راهنة: الموقف من قبول جمال عبد الناصر مشروع روجرز العام ١٩٧٠ لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي؛ الموقف من العمل الفدائي ومن الكفاح المسلح عربيًّا وعالميًّا؛ اختلاف وجهات النظر إلى الشهابية وسعي الحزب الدائم للالتحاق بجناح أو بآخر من أجنحة البرجوازية، إلخ. وظهرت أيضًا خلافات في وسائل العمل مع تغليبنا العمل القاعدي في النضال العمّالي والفلاحي، وإعطاء الأولوية لمجالس الصفوف في الثانويات وللجمعيات العمومية في الجامعات.
التدخل السياسي والاجتماعي
انفجرت النضالات العمالية والشعبية بعد رفض شهاب التجديد لولاية جديدة وانتخاب شارل حلو رئيسا العام ١٩٦٤. نشطنا في تلك الفترة على هامش الحركة النقابية والعمالية. أصدر الصحافي سامي ذبيان جريدة «العمّال» ودعانا إلى العمل معه من خلال صديقه محمود سويد. هكذا تعرفنا عن كثب على أجواء الحركة النقابية، خصوصًا «جبهة التحرر العمالية»، وهي تحالف بين نقابيي «الحزب الشيوعي» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، يرأسها أسعد عقل من «الحزب الاشتراكي» ويشغل منصب أمين السر عادل عبد الصمد من «الحزب الشيوعي».
شهد ذلك العام تحركات مزارعي الأشجار المثمرة في جبل لبنان من أجل تصريف منتجاتهم، وقد أثاروا موضوع تحكم السماسرة بالأسعار والإيجارات الباهظة التي يفرضها أصحاب البرّادات التي ترفع كلفة الإنتاج، وطالبوا بمساعدة الدولة على تصدير منتجاتهم. افتتح الإضراب النشاط الاجتماعي الريفي لتحالف «الحزب الشيوعي» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«حركة القوميين العرب» في «جبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية والتقدمية» وتُوّج بـ«مهرجان بتخْنَيه» في قضاء عاليه شارك فيه اللواء جميل لحود، وزير العمل، وخطَب فيه كمال جنبلاط ونهاد سعيد، النائبة المستقلة، وجورج البطل، عن «الحزب الشيوعي»، ومحسن إبراهيم عن «حركة القوميين العرب».
علّقنا بوسائل عدة على الأحداث الجارية (طرابلسي، «ملاحظات حول وحدة اليسار»). ثمّنّا إيجابيًّا «مهرجان سينما بيبلوس» الذي دعت إليه جبهة الأحزاب ضد مشروع ضمان رؤوس الأموال الأميركية، الذي تقدمت به حكومة حسين العويني، وقد أطِلقت عليها تسمية «حكومة المليونيرية»، ونجحت المعارضة في إفشال المشروع وأسهمت في استقالة الحكومة. في المقابل، انتقدنا مهرجان بتخْنَيه لمطالبته بحماية «المصارف الوطنية» في وجه المزاحمة الأجنبية، مشككين في وطنية مصارف يعمل القسم الأكبر منها برؤوس أموال أجنبية، إضافة إلى لعبها دور المرابي في القطاع الزراعي.
في القطاع العمّالي انصبّ نقدنا على «جبهة التحرر العمالي»: النَفَس القصير، التقاعس في تأييد إضراب عاملات وعمال شركة حصر التبغ والتنباك– الريجي، الارتهان للتسويات البرلمانية، إلغاء تظاهرة تحمل مطالب العمال إلى البرلمان. وردًّا على اقتراح الجبهة تمثيل العمال في البرلمان وفق نسبة مئوية من عددهم، ذكّرنا بأن تمثيل العمال يتم من خلال أحزابهم وأنّ «دور الطبقة العاملة هو قيادة المجتمع إلى الاشتراكية».
ومن النقاط الجديدة التي أثرناها في مجال النضال العمالي المطالبة بمنح العمال غير اللبنانيين – وهم عمال سوريون في معظمهم – حق الانتساب للنقابات والتصويت فيها من دون الترشح؛ والدعوة إلى إشراف عمّالي على صندوق الضمان الاجتماعي وعلى كيفية توظيف أمواله على اعتبار أن تلك الأموال «أجورٌ مؤجلة» عائدة للعمال.
في تقييم تجربة التحالف، عيّنا شروط جبهة يسارية ناجحة: الأولويات المطلبية؛ تعيين العقدة الاستراتيجية التي تتكثف عندها تناقضات النظام (ولكن من دون أخذنا عناء المساهمة في تعيينها)؛ عدم تنازل ممثلي الطبقة العاملة الاشتراكيين عن الدعاية لمطالبهم المستقلة التي تتجاوز المطالب المشتركة؛ وأخيرًا التمييز بين الإصلاحات التي تتم من داخل النظام الرأسمالي وحسب منطق تطوره والإصلاحات التي تفتح ثغرات فيه باتجاه تغييره. وتأكيدًا على أن الدعوة للتحالف لا تتنافى مع استمرار الصراع الفكري مع الحلفاء، دبّج أحمد بيضون ردًّا بليغًا ومشغولًا على محاضرة لكمال جنبلاط بعنوان «في ما يتعدّى الماركسية» عنونه «تهافت الجنبلاطية في تعدي الماركسية».
الانتخابات النيابية
كانت الانتخابات النيابية في أيار/ مايو ١٩٦٨ مناسبة لنشاط علني يدعو إلى مقاطعتها على اعتبار أن مركز الثقل في النظام ليس البرلمان وإنما الجهاز التنفيذي، وأنّ بكوات الإقطاع هم في خدمة البرجوازية. ورفضنا التمييز بين مرشحي «الطغمة المالية» والمرشحين الشهابيين، على ما فعل «الحزب الشيوعي»، على اعتبارهما وجهين لعملة واحدة. ولعلّنا كنا أول المبادرين في نقد قانون الانتخاب وتبيان المفارقة الكبرى فيه حيث تعيش أكثرية اللبنانيين ويعملون في المدن لكنهم ملزمون بالاقتراع لنواب تحت ضغط شبكة الانتماءات العائلية والطائفية في قرى وبلدات لا يقيمون فيها.
تمهيدًا للانتخابات النيابية للعام ١٩٦٨، نشرنا مقالًا بعنوان «انتخابات الإقطاع السياسي وديموقراطية الشعب» («لبنان الاشتراكي»، العدد ١١، آذار/ مارس ١٩٦٨، كتابة فواز طرابلسي) يردّ على مقولة «الحزب الشيوعي» عن «الطغمة المالية» بمقولة التحالف الحاكم بين البرجوازية التجارية-المالية والإقطاع السياسي المكوّن من عائلات مالكة للأرض فقدت نفوذَها الاقتصادي أمام التطور الرأسمالي، تقوم علاقتُها مع جمهورها الريفي الفلاحي السابق على تبادل الولاء السياسي، مقابل خدمات وتنفيعات في الدولة أو بواسطتها (عقود لمقاولين، توظيف في القطاعين الخاص والعام، رخص دخان في الجنوب، رخص استيراد وتصدير، إلخ). ولعلّ هذا هو أول طرح لمقولة سوف تسمّى لاحقا «الزبائنية» أو «المحسوبية». وتلاحظ المقالة المفارقة في ذلك التحالف الحاكم حيث النفوذ السياسي للإقطاع السياسي أقوى بكثير من سلطته الاقتصادية، في حين أن النفوذ السياسي للبرجوازية التجارية المالية لا يعكس قوّتها الاقتصادية. وفي معرض السجال مع «الحزب الشيوعي» حول دور البرلمان في الحياة اللبنانية، والبرنامج الذي يقدمه للإصلاح النظام الانتخابي، تشدّد المقالةُ على ملاحظتين. الأولى أن مركز الثقل في النظام اللبناني، بفعل الشهابية خصوصًا، انتقل من البرلمان إلى الجهاز التنفيذي-الإداري. والثانية هي لفت النظر إلى أبرز وجه للنظام الانتخابي الوارد أعلاه: بفعل حركة الهجرة الريفية الواسعة منذ الخمسينيات، باتت أكثرية اللبنانيين تسكن المدن في حين أنها مضطرة إلى التصويت في أماكن الولادة في الأرياف والأطراف حيث تتحكم بها، وبأصواتها، أشدُّ العلاقات الاجتماعية والسياسية تخلفًا.
إلى هذا، أصدرنا بيانَين خاصين بالجنوب يتوجّه الأول إلى «العمال والفلاحين وسائر الكادحين في جنوبنا البائس» ويدعوهم إلى مقاطعة الانتخابات «حيث لا شرعية إلا لسلطة تختارها الجماهير من خلال أحزابها الديموقراطية والنقابات الحرة». أما البيان الثاني، فموقّع باسم «تجمّع عمال وفلاحي الجنوب» يعرض لمظالم أهل الجنوب «المحروم» ويعدد أبرزها: قضايا زراعة التبغ، المحصول الرئيسي لأهل الجنوب، ويعارض تحكّم شركة الريجي الاحتكارية والإقطاع السياسي بتوزيع الرخص، وتعيين مساحاتها، وتثمين المنتوج وغيره. ودعا البيان إلى تنويع المنتجات الزراعية، والتصنيع الزراعي، وإنشاء معاهد التعليم المهني في الجنوب، وأثار البيان النقص الفادح في العناية الصحية وفي التجهيزات الطبية والمستشفيات في المنطقة، وختم بالدعوة إلى تحقيق مطالب الحملة الشعبية في تحصين القرى الأمامية وتأمين الملاجئ لحماية الأهالي من الاعتداءات الإسرائيلية.
ملاحظات ومراجعات
عند إعادة قراءة هذه النصوص، يتبيّن لي أنها تنطوي على عدد من المفارقات والتناقضات تستحق التوقف عندها.
أولًا، التفاوت بين التشخيص والتحليل من جهة والخلاصات البرنامجية والأهداف الاستراتيجية من جهة أخرى. عيّنت مقالة «نمط إنتاج الخدمات الرأسمالي» التناقضَ الرئيس على أنه بين أكثرية الشعب والقطاع المصرفي، لكنها استدركت مباشرةً أنه لا يمكن المساس بهذا القطاع لأنه ركيزة دور لبنان الاقتصادي («العمل الاشتراكي»، ص ٩٣). وأثار مقال «تناقضات الصعيد السياسي»، التساؤل نفسه حول حيوية الدور الخارجي للاقتصاد اللبناني، مؤكدًا أن الليبرالية الاقتصادية والسياسية هي شرط أساسي لذاك الدور الوسيط ولحماية الأموال المودعة، وتساءل:
«هل يعني ذلك أن الطريق اللبناني إلى الاشتراكية هو طريق مسدود؟ ويعني بالتالي أنه لا بدّ للحزب الماركسي اللينيني من التخلي عن اضطلاعه بأعباء التحضير لقلب الأوضاع وعن البدء بطرح الأفق الاشتراكي عبر المواقف الجزئية الراهنة؟» («العمل الاشتراكي»، ص ٨٨).
فإذا بالجواب على هذه العقبة هو الدعوة إلى «مرحلة وطنية ديموقراطية» تمهّد الطريق إلى الاشتراكية، يتم خلالها «السيطرة على موارد التراكم الأولي» وتنميتها وخوض معركة الديموقراطية (السياسية) إلى أقصى مداها. أي أننا، في نهاية المطاف، دعونا إلى مرحلة وسيطة هي تلك التي انتقدْنا «الحزبَ الشيوعي» لأنه يدعو لها. ولا يخفف من الدعوة إلى تلك المرحلة الوسيطة أننا حذّرنا من التحالف مع جناح من البرجوازية واشترطنا أن يتولى القطب الذي تمثله «الطبقة العاملة اللبنانية وحزبها الماركسي اللينيني» جرّ الحليف إلى صفّه؛ علمًا أن «جرّ» الحليف للحليف يتوقف على توازن القوى بينهما؛ وإنْ حصل «الجرّ»، فلن تعود العلاقة بين الحليفين علاقة تحالف بل علاقة غلبة.
ويعود مقال «تناقضات الصعيد السياسي» إلى الإشكالية ذاتها في ملاحظته البحبوحة والنزعة الاستهلاكية اللتين سادتا خلال الستينيات، فيتساءل عما إذا كان الطريق اللبناني إلى الاشتراكية بات طريقًا مسدودًا؟ وهل يملي على الحزب الماركسي اللينيني التخلي عن اضطلاعه بأعباء التحضير لـ«قلب الأوضاع»؟ فيخلص هذه المرة إلى أن النموذج البديل للوضع الراهن «يلفّه ضباب كثيف» وأنه لا يمكن تصور هذا الاقتصاد المالي– التجاري بإدارة عمالية- فلاحية. بناءً عليه، يقدم المقال عددًا من الخطوط الاستراتيجية: ١) ارتهان شروط البناء الاشتراكي بتحولات عربية أساسية لا بد من أخذها في الحسبان عند التحضير لـ«الطفرة الاشتراكية»، ٢) إضفاء الشمول على التناقضات الاقتصادية والجزئية لا يتم إلا على الصعيد السياسي؛ ٣) بلورة برنامج يؤمّن العبور إلى الترابط والشمول بين المطالب، ٤) يختم المقال بأن مصداقية الاتجاه الجديد مرهونة بقدرة النضال على تحقيق مكاسب تقنع الناس بجدوى الاتجاه، إلخ.
الجدير بالملاحظة أن هذين النصين التأسيسيين لنتاج «لبنان الاشتراكي» يؤشران إلى أبرز المفاهيم والإشكالات التي ستشغل حركة التغيير في لبنان لفترة طويلة، حيث سيطر التناقض بين البرجوازية والإقطاع السياسي– واستطرادًا التناقض بين البرجوازية ونظامها الطائفي– طويلًا على فكر اليسار الشيوعي، في الحزب الشيوعي (انظر كتابات مهدي عامل مثلًا) كما في «منظمة العمل الشيوعي»، وسوف يؤسس هذا التناقض لاستراتيجية التغيير كما تجلّت في «البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي الديموقراطي» الذي طرحتْه «الحركة الوطنية» في آب/ أغسطس ١٩٧٥ وللسلوك في الحرب الأهلية.
ثانيًا، ستُسهم إشكالية العلاقة بين الشروط الداخلية والشروط العربية للتغيير في الإيحاء المبكر بأولوية التغيير عربيًا كشرط للتغيير في لبنان. وقد عرفتْ الفكرة منوعات عديدة، وأبرز ما نجم عنها في فكر «لبنان الاشتراكي» هو الدور التثويري لدخول المقاومة الفلسطينة إلى لبنان (في مقالة «مقاومتان»، كتابة وضاح شرارة). لكنّ إشكالية الداخل/ الخارج ستشكل أرضية الأزمات في فترات الانتكاسة والإحباط والارتداد التي أعقبت هزيمة العام ١٩٧٦-٧٧ والاجتياح الإسرائيلي العام١٩٨٢. والإشكالية لا تزال موضع تجاذب إلى الآن.
ثالثًا، في نقدنا للشهابية الذي لا أتردد في تسميته نقدًا «اقتصادويًّا»، أغفلنا أن الشهابية تضمنت قراءة معيّنة لحوادث ١٩٥٨ وتصرّفت بناء على دروس معينة استخرجتْها من تلك التجربة.
تحت شعار «بناء دولة الاستقلال»، انطلق شهاب مما كشفته حوادث ١٩٥٨ من استسهال الأطراف المهملة والمحرومة، ذات الأكثرية المسلمة، حمْلَ السلاح ضد الدولة. فكان همّه إطلاق سياسات تسعى إلى تحقيق ما لم يتم خلال العقود الاستقلالية السابقة: ربط أنحاء البلد بواسطة شبكة طرقات، وتوفير الكهرباء والماء، واستصلاح الأراضي، وتنمية الأرياف والأطراف، بما يجسّر الفجوة الكبيرة بينها وبين المركز (بيروت وجبل لبنان)، وإجراء تعديلات في التوازن الطائفي وفي الحصص في الإدارة، بما يسهم في دمج المسلمين في الاجتماع اللبناني. وكانت الإجراءات الاجتماعية هادفة إلى تحقيق قدر من التوازن بين الفئات الاجتماعية، وأبرزها إنشاء صندوق الضمان الاجتماعي ودَعْم التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية؛ كل هذا من دون المساس بالتزام لبنان بمبادئ الاقتصاد الحر.
وقد عززت الشهابية الدولة عمومًا على حساب قوى المجتمع عن طريق إضعاف زعامات الإقطاع السياسي والتشجيع على قيام زعامات متوسطة في وجهها مدعومة من الأجهزة الأمنية، وعن طريق زيادة عدد النواب؛ وعملت السياسات الشهابية على قطع دابر نفوذ الإقطاع السياسي في الإدارة بالاعتماد المتزايد على التكنوقراط والعسكر وإنشاء الأجهزة الرقابية – مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي وغيرها.
وهكذا، لم تضع الشهابية النظام الطائفي موضع تساؤل، لكنها عدّلت في نسب التمثيل الطائفي والمذهبي في الإدارة لصالح المسلمين وكانت مختلّة أيّما اختلال لصالح المسيحيين، بسبب سياسات العهود السابقة والأسبقية في التعليم.
على أن أهم ما استخلصه هذا القائد العسكري من حوادث العام ١٩٥٨ هو أولوية معالجة المسألة الاجتماعية من أجل ما سمّاه «تأمين الأمن والتوازن في البلد». في حديث استشرافي مع العالم السياسي الفرنسي موريس دوفرجيه، شذّ شهاب عن التداول المألوف بمعالجة المسألة الطائفية وقال لمحدّثه إن التسوية الاجتماعية، التي سعى إلى تطبيقها في عهده، أكثر أهمية من التسوية الطائفية لعلاج الأزمات اللبنانية، مؤكدًا أن المشكلة الأساسية في لبنان كانت وستبقى مشكلة اجتماعية، وتنبّأ بأن البلد على برميل بارود إن لم تنفذ فيه إصلاحات تحقق العدالة الاجتماعية. وكم هو معبّر أن أول من كسر وصية شهاب الثمينة هو تلميذه وذراعه اليمني، التكنوقراطي الباهت الياس سركيس الذي وضع ولايته الرئاسيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
(١٩٧٦-١٩٨٢) تحت شعار «الأمن قبل الرغيف».
وتجدر المقارنة الإجمالية بين عهد شهاب الذي جاء بعد الاقتتال الأهلي العام ١٩٥٨ وعهد إعادة الإعمار بعد حرب ١٩٧٥ من منظار الدروس والعِبَر المستمدة من حالتين من الاقتتال الأهلي، مع الفارق بينهما لناحية المدة الزمنية للعمليات العسكرية واتساع رقعة الضحايا والدمار.
نظر عهدُ إعادة الاعمار إلى الحرب بتحميلها للآخرين وتجهيل أسبابها، وتصوَّر نهاية الحرب فرصةً لجني «فوائد السلام»، وقدّم الإعمار على أنه عودة إلى عصر ذهبي سابق، والسعي إلى تجديد اعتماد النظام الاقتصادي على الأدوار الخارجية، حيث الدور الجديد هو ملاقاة سلام إسرائيلي عربي متوقّع – ومتوهَّم – من خلال بناء مركز أعمال دولي في وسط بيروت – وقد عزز مركزيتها عن قصد على حساب سائر المدن والأطراف – وأعطى الأولوية اقتصاديا لتنمية قطاعات المال والعقار وتجديد الخدمات الصحية والتعليمية الموجهة للخارج.
في ظل ذلك المشروع، تضخّمت معالم نظام الاقتصاد الحر، وهو القطاع الذي أسهمت أزمته في اندلاع الحرب الأهلية، بتحويله إلى نظام نيوليبرالي مع تركيز خاص على القطاع العقاري، وإعادة رسملة القطاع المالي بواسطة مديونية الدولة، وتثبيت سعر العملة، وتعميم القيم المالية في ظل توسيع أنماط الاستهلاك الشعبي، ما فاقم من الاختلال في ميزان المدفوعات. وبدلًا من مواجهة ذلك الاختلال بتنمية القطاعات الإنتاجية، جرى الاتكال على عائدات المغتربين والعاملين في الخارج. حل النمو محل الإنماء. واستُكملت عملية تصفية الدولة الشهابية بواسطة عمليات خصخصة واسعة النطاق شملت النقل العام والخدمات البريدية والمرفأ والتعليم العالي والاستشفاء من جهة، وتفكيك أجهزة الرقابة والمحاسبة من جهة أخرى. وتولّى عهدُ الانتداب السوري تسليم السلطة إلى قادة المليشيات وأحزابها وإلى مافيات محتكري الخبز والمحروقات والأدوية والآلات والأدوية الزراعية والمواد الغذائية ليجنوا في السلم أضعاف ما جنوه في الحرب. وتولى اتفاق الطائف إعادة الإنتاج الموسِّعة لنظام الطائفية السياسية، بإعادة توزيع نِسب القوى داخله – خصوصًا داخل الجهاز التنفيذي في العلاقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة – ولكن مع تضخيم طابعه الديني، وتعزيز دور أئمة وشيوخ ورجال الدين والمؤسسات الدينية فيه.
لكني أريد التوقف عند وصية شهاب الأخيرة التي دعا فيها إلى إيلاء الأولوية لمعالجة المسألة الاجتماعية على المسألة الطائفية، والتأمل في إمكانية دفع معادلة شهاب إلى نهايتها بطرح السؤال عمّا تستطيعه العدالة الاجتماعية في معالجة المسألة الطائفية ذاتها. وهو ما سمّيته مؤخرًا خيار «التجويف الاقتصادي–الاجتماعي للطائفية». وإنني أتساءل حقًا:
إذا تأمن التوظيف في قطاع الخدمة العامة والترقي بناءً على معيار الكفاءة،
وإذا تحققت تنمية مناطقية متوازنة، وتوفَّر توزيعٌ عادل لموارد الدولة وخدماتها،
وإذا تقلّصت الفوارق في فرص العمل والمداخيل والثروات،
وإذا اعتمِد نظام للتقاعد وشملت التغطية الصحّية جميع اللبنانيين،
وباتت الأولوية للتعليم الرسمي المتطور بمراحله المختلفة،
وإذا قطع البلد أشواطًا في السيطرة على الفساد،
هل يبقى الكثير من أسباب قوية للتظلّم الطائفي من جهة أو للتمسك بامتيازات مادية طائفية مفترضة من جهة أخرى؟ ألن تتناقص حاجة كل جماعة إلى ادعاء احتكار المظلومية، وتتقلص معها حاجة الناس إلى اللجوء إلى جماعاتهم وقياداتهم وأحزابهم الطائفية والمذهبية والمرجعيات الدينية لتدبير أمورهم المعيشية، فيتحررون تدريجيًّا من وهْم أن نمو قوة جماعتهم في السلطة يعادل تحسين أوضاعهم المعيشية وتزايد فرص العمل والوظيفة وتتسع آفاق الارتقاء الاجتماعي؟
لمزيد من التأمل...
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.