العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

في البحث عن أغاتانغل كريمسكي

النسخة الورقية

استقبلتنا العاصمة الأوكرانية كييف بالزينة وهي تحتفل بعيدها الموافق للأحد الأخير من شهر أيار/مايو. قادتني قدماي عبر الشارع الرئيس في المدينة «خريشاتيك» باتجاه «ساحة أوروبا»، وكان عليّ أن أنتقل إلى الجهة المقابلة من الشارع عبر ممرّ تحت أرضيّ فور وصولي إلى «ساحة الاستقلال»، هناك يزدحم باعة التذكاريات والورود. إلى اليمين سلكت شارع غروهيفسكي. قصدت المبنى الرابع، الذي تحتل جزءاً منه «أكاديمية العلوم» التي تحمل اسم الأكاديمي البروفيسور أغاتانغل كريمسكي (١٨٧١-١٩٤١)، حيث يقع في الطابق الثاني «معهد الدراسات الشرقية»، وإدارة تحرير فصلية «سخيدني سفيت» (عالم الشرق)، التي رأس تحريرها كريمسكي بين العامين ١٩٢٧ و١٩٣١، ثم تم القضاء عليها، مثلها مثل جميع الدراسات الشرقية في تلك الحقبة. ما تضمنته الدورية، التي أعاد إحياءها أحد تلامذة كريمسكي البروفيسور أوميليان بريتساك في العام ١٩٩٦، على أهميته لعقدين من الزمن، ليس سوى بعض انعكاسات للنصوص الأصليّة التي نشرها كريمسكي في حياته، وخصوصاً إثر عودته من بلادنا، فكان عليّ أن أقضي يومين منقّباً عنها بين مئات أكشاك بيع الكتب القديمة قرب محطة مترو «بيتروفكا».

يحظى كريمسكي باحترام كبير لدى الأمّة الأوكرانية، ويعتبر رائد الاستشراق فيها. وتترجم أوكرانيا الحديثة ذلك الاحترام بتسمية العديد من الشوارع والساحات العامّة والمؤسّسات العلميّة والتعليميّة، باسمه، وتجد تماثيله في مختلف الأماكن. وقد عمل كريمسكي في الحقل العلمي منذ كان طالباً في «معهد لازريفسكي للّغات الشرقية – موسكو، الذي تخرّج منه في العام ١٨٩٢، قبل أن ينضمّ إلى «كليّة التاريخ والدراسات اللغوية» في جامعة موسكو، التي تخرج منها في العام ١٨٩٦. وكانت أولى بعثاته الخارجيّة إلى بيروت العثمانية من أجل إتقان اللغة العربية ولهجاتها الشاميّة. وقد استغل كريمسكي فترة وجوده التي استمرّت لعام ونصف العام بين بيروت وجبل لبنان (١٨٩٦-١٨٩٨)، في جمع المواد العلميّة لبحوثه المقبلة في التاريخ العربي والإسلامي والدراسات القرآنية.

ترك كريمسكي دراسات منها: تطوّر الصوفيّة حتى نهاية القرن الثالث الهجري، محاضرات حول القرآن، تاريخ الإسلام في ثلاثة مجلدات، تاريخ تركيا وآدابها، تاريخ العرب والأدب العربي في ثلاثة مجلدات، تاريخ فارس وآدابها وحكمة الدروشة الصوفيّة في ثلاثة مجلدات، تاريخ الأدب العربي الحديث، نظامي ومعاصروه، إلى جانب عشرات المقالات العلميّة وترجمات أشعار الخيّام وحافظ وسعدي، والقصص الاجتماعية، عن بيروت وأوكرانيا وتتار القرم وشعوب القوقاز، التي تناولت العادات والأعراف واللغات ولهجاتها.

بعد ثورة تشرين الأول/ أكتوبر ١٩١٧، باتت حياة كريمسكي دائماً تحت مجهر السلطة السوفياتية، فقد كان منخرطاً في الحركة القوميّة الأوكرانيّة، التي نادت باستقلال أوكرانيا. وقد عرّضه ذلك في عشرينيات القرن الماضي لملاحقة السلطات، بتهمة الانتماء إلى «القوميين البرجوازيين»، لكن بعد ضمّ غرب أوكرانيا إلى السلطة السوفياتية رُدّ الاعتبار إليه لفترة. وعلى الرغم من أنّه نجا من حملة التطهير في ثلاثينيات القرن الماضي، منعته السلطات من ممارسة أيّ نشاط أكاديميّ لنحو عشر سنوات. في العام ١٩٣٩ أعيد إليه الاعتبار من جديد، لكن بعد نشوب «الحرب الوطنيّة العظمى» في تموز/ يوليو ١٩٤١، اعتقلته الشرطة السرّية (المفوّضية الشعبية للشؤون الداخلية – NKVD) ورحّلته إلى كوستناي في كازاخستان حيث لم يصمد في الاعتقال كثيراً، وقضى في «ظروف غامضة» وهو في الحادية والسبعين من عمره. وهكذا اختفى كريمسكي، وغابت كتبه ودراساته، وأيّ ذكر له.

العودة إلى الحياة

استمرّ التعتيم على كريمسكي إلى أن أعادت إحياءه «منظمة اليونيسكو» بضم تاريخ ميلاده إلى روزنامة مشاهير العلماء والكتّاب العالميين في العام ١٩٧١، في المئوية الأولى على ولادته. ولا ندري مدى الإحراج الذي سبّبه ذلك للسلطات السوفياتية، لكنّها أعادت طباعة بعض كتبه على عجل. ثم تم إعداد جزء من أعماله للنشر، فظهرت تلك الأعمال المختارة في خمسة أجزاء بين العامين ١٩٧٣ و١٩٧٤. وقد شكّلت بحوث كريمسكي ودراساته الاستشراقية المتنوعة، في العقود الأربعة الماضية، مصادر بحثية لعدد كبير من الدراسات الأكاديميّة الاستشراقيّة في دول الاتحاد السوفياتي السابق.

عربياً، وضمن مشروع ترأسته المستشرقة إيرينا سميليانسكايا، التي كانت قد نشرت عدداً كبيراً من الأبحاث المبنية على الماديّة التاريخيّة كنظريّة علميّة، أعدّت ضمن توجّهات السلطة السوفياتية في الثمانينيات، جملة من الوثائق التاريخية الروسية لترجمتها إلى العربية على يد المترجم الموثوق من السفارة السوفياتية في بيروت الأستاذ يوسف عطالله. وقد راجع تلك الوثائق بعد تعريبها وعلّق عليها الأستاذ الدكتور مسعود ضاهر، بالتوازي مع المراجعة والتقديم لـ«سلسلة تاريخ المشرق العربي الحديث». وضمنها كتاب «البنى الاقتصادية والاجتماعية في المشرق العربي على مشارف العصر الحديث»، لسيميليانسكايا، وكتاب «الحرب الوطنية التحررية في سوريا ١٩٢٥-١٩٢٧: صفحة مشرقة من النضال العربي ضد الإمبريالية الفرنسية» لأستاذها الأكاديمي السوفياتي فلاديمير لوتسكي، الذي وجّهها إلى هذا الاختصاص.

وبالفعل تمّت ترجمة عدد من الوثائق التاريخية، أهمّها «لبنان واللبنانيون» للقنصل الروسي قسطنطين بتكوفيتش، «سوريا ولبنان وفلسطين في النصف الأول من القرن التاسع عشر» وهو عبارة عن مجموعة من التقارير... ولم يكن بالإمكان إغفال كريمسكي، فقد كان أهمّ من أن يتم إغفاله، لكنّ كتابه الذي اختير للترجمة إلى العربية لم يكن كتاباً في الواقع، وليس بحثاً أو تقريراً علميّاً أو تاريخيّاً بل مجموعة الرسائل التي قام بإرسالها من سوريا (بيروت) ولبنان (جبل لبنان) إلى أهله (والده، وأخيه، وأخته، وزوجة أخيه) في أوكرانيا. تلك الرسائل لم ينشرها في حياته، إنما دوّن فيها ملاحظات لكتابة عدد من البحوث والقصص الاجتماعية، ومنها ديوان شعريّ من ثلاثة أقسام بعنوان «سعف النخيل» ومجموعة من النصوص الاجتماعية بالغة الأهميّة بعنوان «قصص بيروتيّة».

والرسائل المترجمة عن أحد الأجزاء المختارات بعنوان «رسائل من سوريا ولبنان»، حُذفت أجزاءٌ منها، وبعض الرسائل حذفت كلّها، كما تم تجهيل متلقّي الرسالة، وتم ضمّ أجزاء من الرسائل إلى بعضها البعض. والخلاصة أن ما تبقّى من تلك النصوص جُمع وتم تضمينه في كتاب «بيروت وجبل لبنان على مشارف القرن العشرين: دراسة في التاريخ الاجتماعي من مذكرات العالم الروسي الكبير أ. كريمسكي» بقلم ضاهر، وتقديم سميليانسكايا. بذلك يكون كريمسكي، الذي تعتبر بحوثه ودراساته أكثر أهمية من معظم الدراسات المترجمة إلى العربية، قد قدّم إلى القارئ العربي عبر ملاحظات أولية، وليس «مذكرات»، تضمنتها رسائله إلى أهله.

وقد جرت في السنوات الأخيرة محاولات للإضاءة على أعمال كريمسكي وأهمية نصوصه الاجتماعية التي كتبها عن بيروت خلال شتاء وربيع ١٨٩٧، أهمّها ندوة بعنوان «كريمسكي رائد العلاقات الثقافية والإنسانية بين أوكرانيا ولبنان»، التي نظمتها «الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا» بالتعاون مع السفارة الأوكرانية في بيروت، بتاريخ ١٨ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١١، والتي شارك فيها المستشرق الأوكراني تلميذ كريمسكي مدير تحرير مجلة «سخيدني سفيت» ي. م. كاتشوبيه. وقد كان لي شرف المشاركة في جملة من البحوث المتعلّقة بكريمسكي نشرتُ ملخّصات بعضها.

الرحلة اللبنانيّة

تضمنتْ رسائل كريمسكي كمّاً هائلاً من الملاحظات والمشاهدات عن بلادنا. وقد أولى العالم اللغوي أهمّيّة للّهجات وتباينها، وللعادات الاجتماعية والأعراف. عاش كريمسكي في بلادنا من تشرين الثاني/نوفمبر ١٨٩٦ إلى آذار/ مارس ١٨٩٨، وكان في الخامسة والعشرين من عمره عند وصوله إلى بيروت العثمانيّة. استقرّ في منطقة الرميل البيروتية عند أسرة عطايا الأرثوذكسيّة.

بوصفه لغوياً، اهتمّ كريمسكي في المقام الأوّل بموضوع اللغة. كان يعرف العربية الفصحى إلى جانب ١٦ لغة أخرى، لكنّه واجه صعوبات في فهم العامّيّة البيروتيّة، والعامّيّة الشاميّة التي حملتها العائلات النازحة من دمشق إثر أحداث ١٨٦٠. وما إن مرّ عليه شهر في بيروت حتى «بدأت الأذن بالاعتياد على التمييز بين أصوات الكلام»، كما قال.

رسائله غنيّة بالمعلومات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فقد حلّ في بيروت عندما كانت تشهد نمواً اقتصاديّاً وعمرانيّاً متسارعين، وسكّانها الذين تجاوز عددهم مئة ألف، وغالبيتهم من المسيحيين، كانوا يعملون بطريقة أو بأخرى في مجال التجارة. وقد ذكّر ذلك كريمسكي بجوّ مدينة أوديسا الساحلية على البحر الأسود، حيث تنمو التجارة جنباً إلى جنب مع العمران. فعلى مرأى منه كان يتمّ توسيع بناء الميناء وشقّ الطرق والسكك الحديدية، وتُفتح فروع لأكبر البنوك الأوروبية. ذلك إلى جانب تعزيز موقف فرنسا، حيث باتت الفرنسيّة لغة الحياة التجارية، وكان البيارتة يحرصون على تعليمها لأطفالهم. وقد أولى كريمسكي اهتماماً كبيراً بمشاكل الوعي البيروتي الاجتماعي، فكتب عن النقاشات والنزاعات العامّة، التي اكتسبت شعبيّة بدرجة معيّنة، وحضر المناقشات الثقافية التي كانت تبحث في دور العلم في التقدّم، والمجتمع، ومنجزات الحضارة، ونسبة اللهجات المحكية من اللغة الفصحى.

أحبّ كريمسكي بلادنا وقد ذكّره جبل لبنان ببلاده، فمنه «تفوح رائحة أوكرانيا المنعشة». أمّا بيروت فقد كانت لها مكانة خاصّة في قلبه، وحمل حبّها معه إلى أوكرانيا، وبثّ ذلك الحبّ في أشعاره الكثيرة، ونقله إلى تلاميذه، لاسيما المستشرق الكبير العلّامة إغناطيوس كراتشكوفسكي (١٨٨٣-١٩٥١).

كتب كريمسكي: «بيروت رائعة في جميع الأوقات، إنّها الأبهى بين المدن الشرقية التي شاهدتها.. لو كانت أرضيات الغرف في بيروت خشبية، ولو وُجدت مواقد للتدفئة، لكانت الجنّة بحدّ ذاتها».

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.