هي الحرب إذن!١
ليست الحرب على عباس. وهو صبيّ كان، وفقاً للبلاغات العسكرية، أول ضحية مدنية أصيب في قصف الحلفاء في الأيام الأولى من الحرب فتبرّع أمير الكويت بإرسال طائرة خاصة نقلته للعلاج على نفقته. بثّت قناة فوكس المتحمّسة للحرب الخبر مفصّلاً. فسقوط ضحية مدنيّة في هذه الحرب ليس إلّا حدثاً عارضاً في حرب يُراد تصويرها إنسانية وسمّاها الرئيس بوش نفسه «الصدمة والإيلام» Shock and Awe. بعد سنوات قليلة لم يعد الضحايا المدنيون أفراداً متناثرين يصابون عرَضاً. هل كان الأمير والأميركيون يتوقّعون أن يأتي يوم لن تكفي فيه كل طائرات الكون لمعالجة المصابين كما عولج علي عباس؟ ظلّ للصبيّ اسم على الأقلّ. أمّا من سيلحقونه فلم تعد لديهم أسماء، بل صاروا أرقاما. صاروا يتجرّعون الألم والصدمة التي ستصاحبهم حتى اليوم.
هكذا كان الحال يوم التاسع من نيسان / أبريل ٢٠٠٣. لم يعد ثمّة اسم لما حصل: سقوط، تحرير، احتلال. تتلوّن تسمية الحدث كما تريد أن تراه أو لا تراه. ولم يكن هناك وصف للملامح. كان الارتباك المصاحب للسقوط المدوّي للتمثال يشي بالارتباك الذي سيليه في ما بات يعرف بـ«العملية السياسية».
صعد الجندي الأميركي وغطّى رأس صدام حسين بعلَم بلاده، لكنّ القادة أزالوا العلم فوراً. فلا بد للحدث أن يظهر عراقياً.
سقط التمثال وخرج «الحواسم»
نقلت وسائل الإعلام صورة الكهل الذي أمسك ببوستر الرئيس المخلوع وأخذ يضربه بالنعال. لكنها لم تنقل صورة مراسلة قناة «الجزيرة» التي أغمي عليها حين شاهدت سقوط تمثال معبودها من مقرها في فندق الميريديان. ولم تنقل كذلك ما انفرد الصحافي جون لي أندرسون بالحديث عنه في كتابه «سقوط بغداد»: في الأيام الأخيرة للتراجيديا شاهد أندرسون للمرة الأولى حوالى خمسين شخصاً ملتحين يرتدون جلابيب قصيرة ينزلون من سلالم الفندق. كان هؤلاء من المجاهدين الذين سمح لهم صدام بالمجيء (أو أطلق سراحهم من السجون) على أمل أن يقلبوا الوضع إلى جحيم بوجه القوات الغازية. حين سقط التمثال، تولّى بعض الإعلاميين نقل هؤلاء إلى جامع الفردوس المقابل حيث اختبأوا.
بدأت معالم الطبقة الصاعدة تتوضّح مع صعود «الحواسم»٢. مئات، بل آلاف ممّن أجهزوا على ما تبقّى من دولة نخرتها الحروب والاستبداد وجوع حصار وحشيّ دام ثلاث عشرة سنة وغرفوا كلّ ما وقعت عليه أياديهم من أموال عامّة وخاصة. لم يكن قد مضى أسبوع على سقوط «الصنم»، كما صار إسلاميو الشيعة يسمّونه، حتى تم اكتشاف شاحنة ملأى بسبائك الذهب في حديقة فندق الشيراتون وسط بغداد. كانت الشاحنة تعود لمن نصّب نفسه محافظاً لبغداد. كان هذا «المحافظ» ركناً من أركان حركة سياسية ستلعب دوراً في ما بعد ٢٠٠٣، لكنّ الحركة سارعت إلى التنصّل منه. في الوقت نفسه تسرّبت الأخبار عن الهجوم على قبو البنك المركزي والمتحف العراقي ونهب ما فيه. من «طبقة» الحواسم هذه، ومن آخرين انضمّوا إليها، سيشهد العراق توزيعاً جديداً للعمل بين أفرادها: عصابات الخطف و«العلّاسة» ووظيفتهم مراقبة الضحية / الهدف وتشخيصه، و«القباطنة» المتخصصون في تهريب النفط ومشتقّاته إلى الخارج، و«الكابتن» المتخصص في تجارة المخدّرات. لكنّ الحواسم الأهمّ هم من سيتحوّلون إلى رجال أعمال العراق الجديد.
عدا الانفلات العارم للحواسم وانتشار العصابات، لم يكن ثمّة تحرّك جماعي يُذكر. خدر وذهول يلفّان الشارع. لا تجد تظاهرات معارضة للاحتلال، ولا جماهير تحيّيه، ولا داعين إلى استعادة السيادة وإقامة نظام حكم ديمقراطي جديد. كان ذبح المعارض مجيد الخوئي على يد المعارض الصاعد مقتدى الصدر في حرم الإمام علي مؤشّرا مبكّراً إلى المسار الآتي لـ«العملية السياسية». وكان عدم الإكتفاء بقتل مقاولين أميركيين قيل إنهم كانوا من «السي آي أي» بل الرقص فوق جثثهم وصراخ المعارضين بأن رؤوس هؤلاء ستكون «باجة»٣ ومن ثمّ تعليقهم على سارية الجسر مؤشراً إلى اعتياد شعب على دمويّة تربّوا عليها طوال عقود من تفنّن الحكّام بالقتل والتعذيب.
لماذا لم تتكرّر انتفاضة ١٩٩١؟
عند ذاك أدركتُ الوهم الذي دافعتُ عنه لسنوات، وَهم اقتنعت به. دافعت عنه في ورشة «مستقبل العراق» الشهيرة التي جرت برعاية وزارة الخارجية الأميركية أواخر عام ٢٠٠٢ وكتبت عنه في دراسة نشرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن في الفترة ذاتها. لا أظنني جانبت الصواب حين أكّدت في محافل دولية عدّة على سلبية وتشكك العراقيين تجاه الغرب بسبب موقف الولايات المتحدة الذي مكّن صدام حسين من إجهاض انتفاضة عام ١٩٩١. ولم أجانب الصواب حين كتبت وعبّرت عن رأيي في مناسبات لا حصر لها بأن الحصار الوحشي الذي تم فرضه أفاد النظام فيما مزّق النسيج الاجتماعي وجعل الناس ينطوون على أنفسهم ويركضون وراء لقمة العيش. وكان رأيي، ولا يزال، أنّ انبعاث الهويات «تحت الوطنية» وتجذرّها يعود إلى هذا الحصار لا إلى طائفية وعشائرية متأصّلتين في المجتمع. الهوية الطائفية ظلّت قائمة لكنّ بُعدها السياسيّ لم يتّخذ منحىً متفجّراً إلّا خلال التسعينيات. والهوية العشائريّة أفَلَتْ أو كادت في الجنوب والشرق، فيما ظلّت عامل تماسك في المناطق غير الزراعية في غرب العراق وشمال بغداد. حذّرت مراراً من أن سياسة الحصار ستنتج «جيل فرساي» عراقياً كناية عن الشباب الألماني الذي خنقه الحلفاء إثر الحرب العالمية الأولى حين تم انتزاع مناجم الفحم من ألمانيا وأوصل البؤس والبطالة إلى مستويات بشعة سهّلت على هتلر اللعب على العواطف بتصوير الغرب مسؤولاً عن مآسيه وولّد حقداً عارماً ضدّ المنتصرين. لكنّني ارتكبت خطأً فاحشاً إذ تصوّرت بأنّ سيناريو انتفاضة ١٩٩١ الشعبية سيتكرّر ما إن تتبدّى معالم هزيمة نظام صدام.
لم تتكرّر انتفاضة ١٩٩١ في عام ٢٠٠٣. وإذ أسعى إلى تفسير هذا الأمر تحضُرني بعض أسبابه:
كانت الانتفاضة فعلاً مدينياً لم يلعب الريف أو العشائر دوراً يُذكر فيه. لكن العشائر «الوهميّة» صارت ظاهرة مستشرية في المدن والبلدات بفعل الحصار. انهارت أجهزة البعث في تلك الفترة أو تفكّكت وانضم كثير من البعثيين الشيعة إلى الانتفاضة وما عاد بوسع الحزب التحكّم بكل مفاصل حياة المجتمع. وعلى أنقاضها استحضر صدام، أو اخترع، شيوخ عشائر يغدق عليهم المنافع المادية ويقرّبهم إليه في خطوة ذكيّة نجحت إلى حدّ ما في تكوين جدار عازل ووسيط بين النظام وقطاع كبير من سكان المدن. كانت الخطّة الصدّامية تقوم على إنشاء سلّم متحرّك يسير باتجاهين: من الأعلى إلى الأسفل، إذ يُفترض في الشيخ أن يوزّع بعض المنافع الآتية من أعلى على أفراد عشيرته، ومن الأسفل إلى الأعلى إذ ينقل الشيخ إلى القمّة معلومات عن التحرّكات المعارضة ليسند مهمّات ذوي البدلات الزيتونية (كما بات العراقيون يسمّونهم) من فيالق القدس وفدائيي صدّام وغيرها من أجهزة القمع التي تكاثرت بعد الحصار. هكذا تقطّعت معظم المدن لتتحوّل أجزاؤها غير الحديثة إلى «دِيَرٍ» عشائرية تعيق تكرار سيناريو ١٩٩١ حين هبّ سكان المدن والبلدات متجاوزين تلك التقسيمات وإن لم يتجاوزوا الانقسامات الطائفية. لعب الانقسام الطائفي دوره الخطير على صعيد آخر برغم الخطاب التزويقي الذي تتبنّاه معظم القوى السياسيّة. وإن كان التباعد الطائفي وباءً، وهو كذلك، فلا بدّ من الاعتراف بوجوده كمدخل لعلاجه. إذ كيف يمكن أن نفسّر بقاء محافظات صلاح الدين والأنبار والموصل السنّية ساكنة آنذاك؟ وكيف نفسّر أن المحافظات المختلطة مثل ديالى وبغداد لم تشهد تحرّكات تُذكر إلّا في مدينة الثورة/ الصدر الشيعية؟
وكان ثمّة فارق آخر لم أعطه ما يستحقّ من تفكير. في عام ١٩٩١ أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب وقف العمليّات العسكريّة عند وصول قوات التحالف إلى الناصريّة، ممّا دفع غالبية الشعب إلى الانتفاض على نظام أدركوا أنه ما زال واقفاً على قدميه برغم ترنّحه. ولكن ضد من ستثور هذه المرة وقد وصلت القوات الأميركية إلى بغداد بسرعة فائقة مسقطة النظام؟ وبرغم هذا الإنتصار الساحق، كان ثمّة خوف لعب هو الآخر دوراً في عدم تكرار الانتفاضة. خوف قد يبدو مثيراً للاستغراب حين نسترجع الأمر بعد أكثر من عقد على انتهاء الحرب. خوف من عودة صدّام سرى على ألسنة أناس بسطاء التقيتهم بعد شهر من سقوط التمثال. تسمعه متمثّلاً في صورة تشكّك في نوايا الأميركيين. قد يتّخذ الخطاب شكلاً سريالياً. قال لي سائق التاكسي: قد يكون الأمر لعبة أميركية تعيده إلى الحكم فينقضّ علينا كما فعل في ١٩٩١. لكنّ خطاب عشرات آخرين التقيتهم كان أكثر واقعيّة وإيلاماً: وماذا سيحدث لنا إذا تركنا الأميركيون كما فعلوا في الحرب الأخيرة؟
الجنرال والسياسي والخبير
كنت في واشنطن يوم السقوط المدوّي للتمثال في التاسع من نيسان / أبريل ضمن فريق من مئة وأربعين شخصاً هم أعضاء المجلس العراقي لإعادة الإعمار والتطوير. تسمّرنا أمام شاشات التلفزيون وهي تنقل الحدث حيّاً. هل دمعت عيناي فرحاً بانتهاء كابوسٍ جثَم على صدورنا طوال ربع قرن أم حزناً لأنً حلمي بأنّ ثورة عراقية ستتكفّل بالانقضاض على ذلك التمثال لم يكن سوى أمنية بأن يستحيل الحدث مفخرة للعراقيين عوض تعاملهم معه بارتباك؟
جنرال سيكون الأكثر عداءً لهذا المجلس لعب دوراً في تأسيسه. في نهاية عام ٢٠٠٢، وبعد إكمال مشروع ضخم باسم «مستقبل العراق» أشرفت عليه وزارة الخارجية الأميركية تم سحب ملف العراق من الأخيرة لتصبح وزارة الدفاع مسؤولة عنه وليكون تحت الإشراف المباشر لوزير الدفاع المفوّض للشؤون السياسية، الدكتور بول فلفوفتز٤. كان من أولى المشاريع التي خطط لها البنتاغون تأسيس هيكل من الخبراء الذين يمكن أن يساعدوا في إعادة إيقاف الدولة العراقية على قدميها بعد الاحتلال.
لا أعرف إن كان المشروع وقْدة ذهن أم أن الأميركيين كانوا يتسابقون مع آخرين سبقوهم إلى التخطيط للأمر، إذ ليس بوسعي تأكيد أو نفي معلومات متواترة سمعتها من مطّلعين بريطانيين عن فكرة مماثلة شجّعت حكومتهم الراحل السيد مجيد الخوئي على تنفيذها. ولعلّ الولايات المتحدة استبقت الأمر فأجهضتها. كما أشير إلى مجموعة من العراقيين المقيمين في كاليفورنيا، كنت واحداً ممن كانوا على تواصل معها على شبكة البريد الإلكتروني، كانت تسعى لذلك بدعم من الدكتور أحمد الجلبي.
جاء وفد من البنتاغون برئاسة الجنرال جاي غارنر إلى ديترويت للقاء قادة «المنبر الديمقراطي العراقي» وهو تجمّع من الكفاءات العراقية المعارضة لنظام صدّام حسين. كان جاي غارنر مسؤولاً عن حملات إغاثة كردستان إثر انتفاضة ١٩٩١ وصار أول حاكم لعراق ما بعد صدّام، لكنه ابتعد فيما بعد عن النقاشات والصراعات الدائرة في إدارة بلده. دعا غارنر قادة المنبر إلى اجتماع مع فلفوفتز في واشنطن. أصرّ البنتاغون على أن يكون الجسم الرئيس للمجلس من بين العراقيين الأميركيين. ذهب وفد من خمسين شخصاً إلى ذلك الاجتماع الذي استغرق ساعة ونصف ساعة بعد أن كان مقررا له أن يستغرق ثلاثة أرباع الساعة. في هذا الإجتماع تم الاتفاق على تشكيل المجلس العراقي لإعادة الإعمار والتنميةIraqi Reconstruction and Development Council.
ولتكريس المباركة الأميركية للمجلس، وجّه البيت الأبيض دعوة لممثلين عن المجلس للقاء الرئيس بوش. كان تشكيل الوفد مصوغاً بعناية إذ تمّ اختيار عربي شيعي وعربي سنّي ومسيحي لعضويته. وكان غياب ممثّل كردي عن اللقاء لافتا للنظر مع أن المجلس سيضمّ عدداً كبيراً من الأكراد في عضويته. كان الأكراد غائبين لأنّهم أخذوا يتعاملون مع العالم الخارجي باستقلالية عن العراقيين.
لم أكن من بين مؤسسي المجلس، لكن منسقّه اتصل بي مرات عدة طالباً منّي الالتحاق بهم، وكان قد بعث لي برسالة قبل ذلك تحمل أطناناً من المديح. لكنّ مصدر الإلحاح، كما عرفت فيما بعد، كان بول فلفوفتز، وزير الدفاع المفوّض، الذي صار المجلس مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بمكتبه. اتّصل بي فلفوفتز بنفسه حيث أقيم بهولندا طالبا منّي أن ألتقي بـ«أصدقائي» المؤسسين للمجلس على الأقل. وبالفعل، كان ولايزال لي أصدقاء حميمون في المنبر شرّفوني إذ دُعيت كأول مساهم من خارج الولايات المتحدة لحضور مؤتمرهم السنوي وتقديم مداخلة فيه.
تحفّظات وقبول
فوجئت بطلب الالتحاق لثلاثة أسباب، أوّلها وأهمّها أن موقفي من المشروع الأميركي كان معروفاً: لا للحرب، نعم لرفع الحصار المدمّر للمجتمع العراقي لا لنظامه الحاكم، نعم لضربات إلى مراكز قوة النظام الاستخباراتية والعسكرية، نعم لتجريم قادة النظام ومحاصرتهم بتجميد أرصدتهم المالية والتحرّي عن واجهاتهم المالية، نعم لمطاردتهم حيثما حلّوا كمجرمي حرب ومجرمين ضد الإنسانية. وفوجئت بطلب الالتحاق ثانياً، لأنني كتبت في مقال طويل في شهرية «اللوموند دبلوماتيك» الباريسية واسعة الإنتشار والتأثير عن الصراعات بين وزارتي الخارجية والدفاع حول الموقف من العراق. وفوجئت ثالثاً، لأنّ ما طرحت في مداخلتي بمؤتمر المنبر الديمقراطي العراقي، الذي كان نواة مجلس إعادة الإعمار، أفكار تتقاطع كلياً مع أفكار البنتاغون. ولأن المؤتمر انعقد في فترة حاسمة إذ سبق إعلان الحرب على العراق بأشهر قليلة، كان الحضور الرسمي الأميركي، فضلاً عن وسائل الإعلام الحكومية الأميركية مثل «صوت أميركا»، كثيفاً، وأذكر أنّ السيّد توماس كراتشيفسكي مساعد وزير الخارجية الأميركي كان من بين الحاضرين.
في مداخلتي تلك، أبديت قلقي من وهمين روّجهما مقرّبون عراقيون من البنتاغون وصارا مسلّمتين في أعين إدارة بوش. أوّل هذين الوهمين وأخطرهما، في نظري، كان افتراض أنّ عقوداً من الإستبداد وسيادة الفكر الواحد ومفهوم القائد الواحد والتسميم الفكري الذي ربّى الناس على عداء الديمقراطية والتعددية وتصويرهما كمؤامرة غربية لشقّ وحدة الصف الوطني لم تترك تأثيراتها المدمّرة في الثقافة السياسيّة للشعب العراقي الذي سيستقبل القوّات الأميركية كمحرر يقابله بالترحيب. والوهم الثاني هو تخيّل العراق جزيرة لا محيطَ إقليمياً حولها سيرمي بكل ثقله لإنهاك وتمزيق أي تجربة ديمقراطية تهدّد الدول المحيطة، وكلّها (باستثناء تركيّا) تخضع لنظم تسلّطية. بتعبير أكثر دقّة، كان ثمّة وهم قائم على أنّ الوجود العسكري والسياسي لأكبر دولة في العالم سيشلّ أيّ محاولة لإضعاف تلك التجربة، بل أنه سيلعب دور العامل الحاسم في إطلاق ظاهرة الدومينو [سخافة الوهم العربي عن الفوضى الخلّاقة] حيث تتساقط النظم الاستبدادية واحداً تلو الآخر بفضل إشعاع التجربة الديمقراطية العراقية، لا سيّما أنّ تلك النّظم، باستثناء إيران وسورية، تعتمد اعتماداً وثيقاً على التحالف مع الولايات المتحدة. لم يكن هذا الوهم متعامياً عن الثقل الإقليمي وقدرته على تغيير الخريطة السياسية العراقية فحسب، بل إنّه تعامى عن حقيقة أنّ معظم الحكّام الآتين إلى العراق مرتبطون بهذا القدر أو ذاك بالقوى الإقليميّة، وأنّ الديمقراطية ليست مطروحة على أجنداتهم، إذ برغم الاستنتاجات المتواترة عن أن حليفّي الولايات المتحدة الرئيسين في العراق لم يكونا يتمتّعان بوجود جماهيري مؤثّر، ظلّت الإدارة الأميركية تدفن رأسها في الرمال مفترضةً أنّ احتلالها للعراق سيخلق واقعاً محليّاً جديداً.
«ميثاق شرف» في واشنطن
في السابع عشر من آذار/ مارس ٢٠٠٣، تسلّمت رسالة موقّعة من الجنرال جاي غارنر، مدير مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية «أورها» يدعوني فيها إلى الحضور إلى واشنطن «للتباحث مع منسّق المجلس ومسؤولين في وزارة الدفاع في الأمور المتعلّقة بمجلس إعادة الإعمار والتنمية العراقي ومهمّة «أورها» ORHA في عراق ما بعد النزاع». كانت صيغة الرسالة، ومن ثمّ القناعة التي تكوّنت لديّ منذ وصولي بعد يومين من تسلّم الرسالة، أنّ ثمّة غموضاَ في العلاقة بين المجلس و«أورها». فالرسالة تدعوني إلى الحضور لمناقشة أمور مع هيئتين مستقلتين لا مع هيئة واحدة تتبع إحداهما الأخرى. ومن الواضح أنّ وزارة الدفاع أنشأت الهيئتين حديثاً من دون أن تحدّد العلاقة بينهما. في اليوم الأول من التحاقي بالعمل، جاءني منسّق المجلس بمسوّدة تعرض صيغة تلك العلاقة تضمّنت «أن يؤدّي أعضاء المجلس المهمّات التي تكلّفهم «أورها» بها». وطلب منّي أن أقدّم مقترحاتي بشأنها. اعترضت على ذلك وأعدت صياغة المسوّدة لتكون «العمل المنسّق والمتكامل بين المجلس و«أورها»». ولم تكن الصيغة التي اقترحت ابتكاراً عبقرياً، فالرسالة التي وجّهها جاي غارنر لي نصّت حرفيّاً على أنّ «أورها» «طلبت مساعدة المجلس العراقي لإعادة الإعمار والتنمية في تأمين استمراريّة عمل الحكومة والاستقرار والنظام العام وإعادة إعمار البلد». بعد فترة قصيرة عاد المنسّق فرٍحاً لأنّ وزارة الدفاع وافقت على الصيغة التي قدّمتها.
ساهمت في وضع «ميثاق شرف» أترك لغيري الحكم على درجة الالتزام به: «أتعهّد أن أقوم بمهمّتي كعراقي يتجاوز انتماءه الطائفي أو السياسي، ألّا أسعى إلى الحصول على مركز وظيفي قبل انتهاء عمل المجلس وحلّه حيث تكون للفرد حرية التقدّم للعمل في أجهزة الدولة أو ممارسة النشاط الخاص أو العودة من حيث أتى. وأتعهّد أن أكون عضواً في فريق من العاملين يضمّ العاملين الحاليين في تلك المؤسسات أو الوزارات التي تمّ تكليفي بالمساهمة في إعادة إعمارها».
لم نعرف وظائفنا لأنّنا لم نعرف من أين نبدأ. ولم نعرف من أين نبدأ لأن الأميركيين أصرّوا منذ اللحظة الأولى على تهميش دور العراقيّين. كان الفريق المكوّن من ١٤٠ عضواً يتوزّعون إلى أربعة أفراد لكل وزارة بالإضافة إلى عدد مماثل من العاملين في الوزارات آنذاك والمحافظات غير الكردية التي استقرّ وضعها نسبياً بعد أن خرجت عن إدارة بغداد منذ عام ١٩٩٢.
كان بيننا من جاء طامعاً بأن يكون وزيراً في المجال الذي اختير من أجله في واشنطن. ولعلّ هؤلاء هم الذين كانوا الأبرع في تمثيل دور الخبير المتحمّس المجتهد في واشنطن، إذ لا بدّ أنّ من يتابع العمل سيرفع تقارير تشيد بكفاءته. ستظلّ حال الزميل المكلّف بالعمل في وزارة العدل عالقة في ذهني ككوميديا. كان يتحدّث بصراحة عن ضرورة تأمين فيلّات «لنا»: «لنا» تعني نحن الوزراء القادمين. فمنصبه كوزير أمر مفروغ منه، كما كان يعتقد. ومع أنّه رجل قانون (يقال إنّ أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه كانت حول الفكر القانوني لصدّام) فقد كان من بين ما عرض عليّ، بصفتي منسّقاً ثانياً، مرسومٌ يقضي بحلّ حزب البعث. وبرغم خبرتي المحدودة في هذا المجال، أجبت، متّخذاً هيئة التلميذ الذي يطرح سؤالاً بهدف التعلّم: ألا يجب أن يصدر أمر كهذا عن سلطة قضائية مستقلّة تبيّن فيه الأسباب القانونية الموجبة ثم تأمر السلطة التنفيذية، وهي هنا وزارة العدل، باتخاذ ما يلزم لتنفيذ قرارها؟ كما كان هناك الزميل الإعلاميّ الذي رجاني أن أصوغ له مذكّرة إلى بريمر باللغة الإنكليزية تناشده إرسال قوة عسكرية تصاحبه إلى تكريت التي عاش فيها لأنه قادر على تعبئة أبناء المدينة ضد صدّام وإقناعهم بتأييد عملية «تحرير العراق». وزميل ثالث استجلب طاقماً تلفزيونياً من البلد الذي كان لاجئاً فيه ليصوّر عودته الظافرة وجهوده في بناء البلد الذي لم يكن مضى على وصوله إليه غير أيام.
منتفعون وطالبو وظائف
حين وصلنا بغداد، تمنّيت أن أمتلك موهبة الإخراج السينمائي لكي أصوّر تلك الحالات التي لم تكن كلّها كوميدية كموقف الكهل المسكين الآتي من السويد والذي كاد أن يصاب بنوبة قلبية حين أجابه موظّف الاستقبال في فندق الرشيد بأنّه لايعرف اسم «الوزير» الذي وعده بالحصول على وظيفة رفيعة.
حصل بعضُ من انتمى إلى هذا الصنف من أعضاء مجلسنا على ما يريد لأنّه نجح في الرهان على الطرف السياسي الذي سيكون له دور فاعل في الدولة الجديدة، وغادر آخرون محمّلين بما استطاعوا كسبه من أموال.
ثمّة صنف ثان من الزملاء، عرف الزميل المنسّق وعرفوا أن «خبراتهم» تنتمي إلى مجالات أخرى: التكسّب والحصول على «القوت اليومي» والاستفادة من وجودهم في بلد الخراب الجائع للبحث عن عقود في مشاريع لايفقهون من أمرها شيئاً. ابنه أحمد الذي أنهى الدراسة الثانوية ولم يدخل الجامعة بعد، و«عبد حمود»، كناية عن مرافق صدّام، وغيرهم كثير ممن سيوقّعون عقوداً تمنحهم مبالغ تراوح بين ٣٠٠ دولار و٥٠٠ دولار يومياً إذ كانت المساومات والتوسّلات لرفع تلك المخصّصات جارية قبل وصولنا بأسابيع.
وتفريعة ثالثة: خبراء لا يجادل أحد في كفاءتهم في مجالات اختصاصهم، وآخرون ذوو خبرات متواضعة لم يكونوا معنيين بالمكافآت الشهرية ولم يدخلوا في بازارها. خطّطوا منذ البدء لغَرف أكبر ما يمكن بأسرع وقت. تعدّدت أساليبهم في تحقيق ما يريدون: طبيب محسوب على حزب الدعوة، حقّق طموحه في رئاسة الهلال الأحمر ثم تبخّر عائداً إلى الولايات المتحدة بعد أن «قيل» بأنّه استولى على ملايين الدولارات، ابنة مسؤول كردستاني كبير كانت تعمل في شركة اتصالات مغمورة في إنكلترا نجحت في إحالة عقد ضخم إلى شركتها برغم احتجاج شركة ماركوني ذات الشهرة العالمية التي عرضت وثائق تثبت أنها قدّمت عرضاً بسعر يقلّ بكثير عن عرض شركة ابنة المسؤول بمواصفات أرقى بكثير، خبير لم يكن بحاجة إلى كسب أموال من عراق ما بعد صدّام تحدّثت عنه الصحف الأميركية ولذا أجد نفسي في حلّ إذ اشير إلى اسمه الذي «ملأ الدنيا وشغل الناس» للحظة، ليتبخر ما إن انتفت الحاجة إليه. في عام ١٩٩٨، قدّم الدكتور خضر حمزة، الذي كان مستشاراً أقدم في لجنة الطاقة الذرية العراقية، مسوّدة كتاب بعنوان «خدعة: العراق والقنبلة النووية». كان العنوان واضحاً: لا قدرة للعراق على امتلاك سلاح نووي. لم يصادف موضوع كهذا هوى لدى الناشرين. لكنّ الدكتور حمزة كان مثابراً! بعد عامين فقط، أنجز الرجل مسوّدة كتاب جديد يقلب سابقه رأساً على عقب ليحقّق انتشاراً واسعاً. كان عنوان الكتاب هذه المرّة «صانع قنابل صدّام: قصّة أجندة أسلحة العراق النووية والبيولوجية من الداخل» (أي من شاهد عيان من داخل المشروع). في هذا الكتاب، تحدّث حمزة عن دور مفتَرض له كمساهم في مشروع نووي على وشك الاكتمال.
تعمّدت أن اؤجل الحديث عن مجموعة أظنّها الأكثر نبلاً في اندفاعها للانخراط في مشروع المجلس. لم يكن هؤلاء ولا من منحت نفسي الحقّ في تصنيفهم في خانات، قلت في البدء إنها تتشابك عنكبوتياً، غافلين عن طبيعة المشروع الأميركي تجاه العراق. غير أنّ من تحمّس للغزو ومن عاداه ومن وقف متردداً ضمن هذه المجموعة كان ينطلق من قناعة مبدئية ولا أظنه كان باحثاً عن مال أو عن منصب. أشير هنا إلى أمثلة اؤكّد أنها ليست حصرية: د. محمود ثامر أحد أهم اختصاصيي الطب الباطني، د. عزام علوش خبير الريّ الذي اكتسب شهرة عالميّة بفضل عمله في إعادة إحياء الأهوار، إلى جانب أسماء علميّة مهمّة أخرى: د. محمد الحكيم، د. محمد علي زيني وشباب رائعين مثل هاري حبيب وسامي كريم. وأضيف إلى هذه المجموعة مناضلين، منهم عدنان الزلفي الذي كان فتى تعرّض للتعذيب في سجون صدّام قبل أن يتمكّن من الفرار إثر انتفاضة ١٩٩١، والعميد توفيق الياسري الذي لعب دوراً بارزاً في انتفاضة ١٩٩١.
أيّ وطن ينتظرك أيّها الخبير؟
بعد شهر بالضبط من انهيار التمثال الذي بات نقطة القطع في تاريخ العراق، حطّت الطائرة التي حملتنا في «مطار» بغداد. كان يمكن للمكان أن يكون أيّ بقعة في الأرض. ظلام دامس تعجَب كيف تلمّس الطيار المكان الذي حطّ فيه. لم أقبّل الأرض. صار الطقس في عيني مسرحية مبتذلة. لا أذكر إن كنت بكيت وقتها، كما فعل بعض الزملاء، أم لا. كنت أشعر بذهول وخدر. تظل تحلم لمدّة ربع قرن حتى تأنس للحلم وتريد له أن يبقى يؤنسك. كأنّ عصا ساحر حوّلتنا جميعاً إلى أصنام. لا أذكر أحداً رفع صوته مخاطباً الآخر «الحمدلله عالسلامة». لا أذكر أحداً أطلق ضحكة تعبّر عن فرحة العودة. معظم من أقبلوا على تلك المغامرة حقّقوا الهدف الذي جاءوا من أجله: الانتقام من المنفى.
مرّ الباص الذي قادنا بمحاذاة سور مرتفع خيّل إليّ أنّه لن ينتهي. قدّرت أنّه قصر الرضوانية الرهيب الذي كان مقرّ حفلات التحقيق والتعذيب للمشتبه في مشاركتهم في انتفاضة ٥١٩٩١. كان السائق الأميركي قد أدار الراديو نحو محطّة «سوا العراق» التي سمعتها للمرّة الأولى. فبعد أن فشل راديو «صوت أميركا»، بإسلوبه الدعائي الفاضح، في الوصول إلى المستمع العربي، صوّت الكونغرس الأميركي لصالح إنشاء تلك القناة الإعلامية لتبثّ نشرات أخبار وبرامجَ خفيفة مخصِّصة قناةً مختلفة لكل من مناطق العالم العربي. وكان راديو «سوا العراق»، بالطبع، محطّ الإهتمام الأكبر لدى المشرفين على الإذاعة.
وصلنا أخيراً إلى القصر الجمهوري.
أولى الصدمات.
كان آخر ما توقّعت هو أن يختار الحاكم العسكري رمز السيادة العراقية مقرّاً له. أعلنوا، لفظيّاً على الأقلّ، أنّهم جاؤوا محرّرين. هذا ما فعله مود، الجنرال البريطاني يوم دخل بغداد عام ١٩١٧. كان بوسعهم إنشاء منطقتهم «الخضراء» أينما أرادوا، فقصور صدّام الفخمة تملأ بغداد، لكنّهم اختاروا القصر.
حتّى القصرُ كان حالك الظلام. وقف صفّ من العسكريّين أمامنا وطلبوا أن نضع حقائبنا على الأرض. لم تكن حقائب بالضبط، بل أكياساً عسكرية زيتونية اللون حشونا داخلها ما يلزمنا وما كان وجوده مثار سخرية: أقنعة مضادّة للغازات السامّة وسترات واقيةً من الرصاص وألبسة عسكرية لم نستخدمها قط. توسّط جاي غارنر الصف وصافحنا، كما صحْبه، ببرود لافت. ثمّ تفرّقنا نتعثّر على السلالم التي قادتنا إلى قاعات اصطفّت فوقها عشرات الأسرّة والأفرشة الملقاة على الأرض. مذّاك صار كل سرير ألقى أحدنا نفسه عليه سريرَه الخاص. وصار هذا السرير مكتبه الخاص. لم نكن الوحيدين الذين عشنا هكذا. فإلى جانبي كانت أسرّة «مكاتب» مهندسي وفنيي شركة بكتل العملاقة: يفرشون خرائطهم ومخططاتهم على الأرض ويجتمعون حولها للدراسة. ولم يحظ بعضنا حتى بأسرّة ففرشوا أغطيتهم على الأرض. لم يكن عددنا يقلّ عن ثلاثين شخصاً في القاعة.
لم تكن سلطة التحالف الموقّتة قد أنشئت بعد، بل كانت إدارة البلد المحتلّ في أيدي «أورها» ORHA، مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية الذي تشكل في أوائل عام ٢٠٠٣ بقيادة جاي غارنر. وكان الأخير قد جلب معه عدداً من العراقيين لمساعدته في تلك المهمة، لذا لم يستسغ وصول فريق من مئة وأربعين عراقيّاً يقومون بالمهمّة ذاتها. عرفتُ فيما بعد أن غارنر كان من الداعين إلى تسليم السلطة للعراقيين في أسرع وقت ممكن. ولم يكن هذا موقف وزارة الدفاع، لذا عدّنا غارنر «من جماعة» الأخيرة. لقد انتقل الصراع المرير بين أجنحة الإدارة الأميركية من واشنطن إلى بغداد. ظلّت «أورها» تدير العراق حتى تم حلّها في نهاية يونيو/ حزيران لتحلّ محلّها سلطة التحالف الموقتة ولتتّخذ الحرب بين قبيلتي وزارة الدفاع ووزارة الخارجية شكلاً جديداً لعب دوراً كبيراً في تعطيل، بل وتخريب أيّ مسعى لتحسين الوضع في العراق.
في إطاعة غارنر
حين تبيّن أنّ غارنر قرّر التعامل بشكل فوقي كامل مع فريق المجلس، طلبت من المنسّق أن يتّصل بواشنطن لكي تبلغ غارنر بأنّ مهمّتنا هي العمل بالتنسيق مع «أورها». صدمتني ابتسامته المرتبكة، واعترف بأنّه لم يخبرني الحقيقة إذ لم يوافق البنتاغون على الصيغة التي قمت بإعدادها ونحن في واشنطن، وأننا نعمل تحت إمرة «أورها» لا بالتنسيق معها. وصف أحد الصحافيين غطرسة غارنر قائلا إن هذا الرجل يعتقد أنّ مجرّد طلبه من الآخرين مناداته باسمه الأول كافٍ لإعطاء الانطباع بأنّه متواضع.
بعد حين أبلغني الزملاء الذين لحقونا إلى بغداد أن أول جملة خاطبهم بها غارنر «أنتم هنا لتنفيذ ما أكلّفكم به. وإذا لم يعجبكم الأمر فبإمكانكم العودة فوراً إلى ديربورن» (وهي البلدة التي يتركّز فيها العراقيون في ديترويت). وفسّر لنا ذلك بعض ما كان غامضاً في أذهاننا وأهمّه تأخير سفرنا إلى العراق إلى ما بعد شهر من سقوط صدّام. كنّا آنذاك في ولاية نيومكسيكو، واحدة من أكثر الولايات الأميركية تخلّفاً وتقع في أقصى الجنوب. لعلّها المكان الوحيد في أميركا وأوروبا الذي تشاهد فيه مبرّدات الهواء التي نستعملها في العراق لا أجهزة التكييف. فاستعداداً للعودة إلى العراق تمّ تدريبنا على استخدام الأقنعة الواقية من الغازات السامة وعلى استخدام المسدّس للدفاع عن النفس. تخيّلت الدكتور الوقور محمود ثامر، السبعيني الذي لا يتجاوز وزنه خمسين كيلوغراماً يجابه قوة عسكرية. تسلّمنا سلاسل تُعلّق على الرقبة ويحمل كل منها رقماً للتعرف إلى جثثنا في حالة الوفاة، إذ كانت مصنوعة من معدن يقاوم درجات الحرارة العالية التي يسبّبها الانفجار، كما تمّ تصوير أسناننا شعاعياً للغرض نفسه.
في نيومكسيكو كلّفني الزملاء من أعضاء المجلس بكتابة مذكّرة إلى بول فلفوفتز تعبّر عن عدم اقتناعنا بالتفسيرات المقدّمة منْ أنّ الظروف الأمنيّة لا تسمح بالتحاقنا، إذ إنّنا لم ننتم للمجلس إلّا للمساهمة في إعادة الأمن والشروع في المساعدة على إحياء مرافق الدولة. والواقع أنّ المجموعة التي وصلت بغداد في التاسع من أيار وكنت من بينها، لم تكن تضمّ أكثر من عشرين شخصاً من أعضاء المجلس المئة والأربعين. قيل لنا وقتها بأنّنا المجموعة «الأكثر أهميّة». أمّا الغالبية الساحقة «الأقل أهميّة» فقد سافرت إلى الكويت وبقيت هناك حتى نهاية مايو/ أيار. وكان التبرير هذه المرة سوء الأحوال الجويّة. عرفت فيما بعد، أنّ مساعيَ محمومة كانت تُبذل لحلّ المجلس حتى بعد أن وصلنا إلى بغداد.
القصر يتأمرك
خرجت من القاعة لأدخّن، فجاءت موظّفة من غرفة مقابلة عرفت فيما بعد أنّها غرفة «وكالة التنمية الأميركية» تأمرني بإطفاء السيجارة، فالتدخين ممنوع في القصر. لست في بلدك إذاً. هم يشرّعون ما يمكن وما لا يمكن عمله هنا. منذ البدء، كان للوكالات الرسمية الأميركيّة، على عكس «بكتل» وغيرها، مكاتب وغرف مستقلّة.
صباح اليوم التالي خرجنا إلى الحمّام. كان فاخراً لكنّه لم يكن مترفاً، فلم يكن هذا مقرّاً لإقامة صدّام حسين. صبية ينظّفون المغاسل والأرض قابلونا: هلو سير، غود مورننغ مستر. صعقوا حين أجبتهم بالعربية. عرفت منهم أنّهم من مدينة «صدّام» التي لم يكن قد صار اسمها مدينة الصدر. هزّوا رؤوسهم بلا مبالاة حين قلت لهم بأنّ اسمها مدينة الثورة.
يا لهذه المدينة التي ظلّ اسمها هاجساً لكلّ الحكّام. كنّا، كبغداديين، نمارس عنصريّتنا فنسمّيها «خلف السدّة». سكّانها كائنات سمّيناهم «شراكوة» ألقى بهم الجوع على تخوم مدينتنا. وجاء عبد الكريم قاسم الذي حوّل أكواخ القصب إلى مساكن متواضعة تمتدّ إلى مساحات شاسعة فصار اسمها «مدينة الثورة». وقرر صدّام، في زيارة نادرة له إلى مدينة يعرف كم تكرهه، أن يسمّيها باسمه.
لم يكن في الحمّام ماء ساخن. ولم يكن حمّام واحد ليتّسع بالطبع لكلّ هذا الحشد من الوافدين. في الأيام التالية اشترى كلّ منّا «شامبو» من كشك أقيم على عجل على أحد الأرصفة خارج القصر، وتمّ بناء كابينات لتصبح حمّاماتنا.
بدأ القصر يتأمرَك. صار اسم الفسحة الدائرية التي تتوسط المكاتب «الروتندا» (الساحة المستديرة). كان في وسط الروتندا مجسّم للقصر الجمهوري استلفتتني مفارقة في وضعه. فمع أن الأميركيين لم يقصفوا القصر الذي ظلّ على حاله، كانت قبّة المجسّم متآكلة والمجسّم يعلوه الغبار. حشد من العراقيين يملأ الممرّ الخارج يساراً كلسان من تلك الروتندا طالبين تزويدهم بـ«بادجات» تسمح لهم بالدخول إلى القصر.
كان من بينهم إعلاميون يرأس بعضهم الآن تحرير صحف، ونوّاب حاليّون. أمّا نحن فقد حظينا بـ«بادجاتنا» التي تحمل كلّها الحرف A الذي يعنى أنّنا في الدرجة الدنيا من الثقة الأمنيّة. كانت القاعة الفسيحة على يمين الروتندا هي مكان عملنا، لكنّها لم تكن مكتباً خاصاً بالمجلس. كان فيها ما لا يقلّ عن أربعين جهاز كومبيوتر يعمل عليها أفراد ينتمون إلى جهات شتّى. إلى يسار الروتندا كان مكتب السفير البريطاني ومساعديه الذي دخلته مرّة واحدة للقاء السفير لسبب لا أذكره، لعلّه كان لإبداء اعتراضي على الدور الهامشي الموكل إلى مجلسنا. أمّا الطابق الثالث فكان محاطاً بسرّية تامّة ولا يقترب منه إلّا حمَلة «بادجات C» أعلى درجات الموثوقيّة. دخلته مرّة واحدة بطلب من أستاذ في جامعة جورج تاون التي سبق أن ألقيت فيها عدّة محاضرات. قابلني مَن فتح الباب لي باستنكار شديد، فقد اكتشفت في ما بعد أنّني في مكتب مجلس الأمن القومي التابع للرئيس الأميركي مباشرة. تعرّفت في المطعم بعد حين بشاب اسمه أحمد يعمل في هذا الجهاز قال لي إنّه الوحيد من أصول عراقيّة فيه.
ثم جاء تلفون «الثُريا»
بعد حوالى الشهر في القصر الجمهوري بدأنا نترفّه. تمّ بناء صفّ طويل من الكابينات الخشبيّة وخُيّرنا بين السّكن منفردين في واحدة منها أو البقاء في غرفة تتّسع لحوالى عشرة أشخاص في القصر فاخترت الكابينة. واختار آخرون البقاء. قبلها جاء تلفون «ثريّا». في البدء، كانت لدينا أجهزة لاسلكي لا ندري ما نفعل بها سوى أنها تمنح حاملها شعوراً بالأهميّة. قال منسّق الفريق بلهجة قائد عسكري إنّها ضرورية للاستخدام في حالات الطوارئ لكنّنا استخدمنا تلك الُلعب للتحاور في ما بيننا عبر الغرف. تشارك كل اثنين منّا في في واحد من أجهزة ثريّا، وكان شريكي الصديق العميد توفيق الياسري. لا أذكر أنّني استخدمت الجهاز إلّا للإتصال بزوجتي وبصديق آخر هو هشام ملحم مدير مكتب قناة «العربية» في واشنطن الذي كنت أنقل له ما يدور من مهازل.
لكنّ المؤسسة التي أحاطتنا «بحنانها» التجاري العسكري منذ البدء كانت «كيلوغ براون أند روت» وهي شركة فرعيّة لمؤسسة هاليبرتون العملاقة التي كان ديك تشيني نائب الرئيس بوش عضواً في مجلس إدارتها. تولّت كيلوغ تزويد العاملين الذين كانوا بالمئات بكل حاجياتهم اليومية، بدءاً بالطعام والقرطاسية وصولاً إلى غسل الملابس وكيّها. لكن ما إن تصل الملابس المكويّة ونعلّقها على مرافق الشبابيك (إذ لم تكن ثمّة خزانات ملابس بالطبع) حتى ينقضّ عليها تراب بغداد كأنّه يريد الانتقام من ترف العاملين بعيداً عن هموم الناس. وكانت المفاجأة حين اكتشفت أنّ كلّ تلك الخدمات من دون استثناء، بما فيها غسل الملابس الداخلية تتمّ في الكويت، وكل حاجياتنا ابتداءً من القرطاسية حتى الطعام تُجلب من الكويت. كتبت مذكّرة تقترح إصلاح مصانع الموادّ الغذائية العراقيّة، فضلاً عن إنجاز الخدمات الأخرى بهدف تشغيل بعض من قوّة العمل العراقية العاطلة، فجاء الجواب بأنّهم يخشون من تعرّض المنتجات والملابس للتسميم، علماً أنّه كان بوسعهم أخذ عيّنات للتأكّد من سلامتها. وكتبتُ مذكّرة أخرى تقترح إحياء معامل الإسمنت الحكومية للشروع في عملية البناء من جهة، ولخلق جو من الثقة لدى رجال الأعمال بأنّ المناخ الاقتصادي مقبل على الانتعاش، فكان الجواب هو أنّ الأولويّة الآن للخصخصة كأنّ المشاريع في عزّ ازدهارها ولم يبقَ إلّا بيعُها.
فرض النيولبرالية
بعد أشهر قليلة، أكّدت إدارة بوش نيّتها في فرض توجّهها النيولبرالي فوراً على العراق، وهو ما كان لا بدّ من أن يؤدّي إلى قيام رأسمالية متوحّشة لا اقتصاد سوق يمتلك آفاق الازدهار، وهو ما توقّعت حدوثه قبل سقوط صدّام في محاضرة دعاني البنك الدولي إلى إلقائها في عدد محدود من الخبراء والشخصيات أذكر منهم الأمير الأردني زيد بن طلال (أو ابنه رعد؟). أنشأت سلطة التحالف «مجلس التنسيق الدولي لسلطة التحالف الموقتة» وتولّى ماريك بلتكا رئاسته. كان بلتكا وزير مالية سابقاً في بولونيا تولّى الإشراف على عمليّة انتقال بلده بعد انهيار الشيوعيّة. في مؤتمر عن دروس انتقال أوروبا الشرقية في أواخر سبتمبر/ أيلول ٢٠٠٣، طرح بلتكا آراءه بوضوح تام: الإصرار على اللبرلة الفورية للأسعار، رفع الإعانات التي توفّرها الدولة للسلع التي يعتمد عليها الناس، الخصخصة الفوريّة، واعتبار أنّ إصلاح مؤسسات قطاع الدولة، حتى وإن كان هدفه تهيئتها للبيع إلى القطاع الخاص، أمر كارثيّ.
حكَم القضاء الأميركي على «كيلوغ براون أند روت» في ما بعد بدفع غرامات عالية بتهمة تضخيم الأرباح بالمشاركة مع تجّار كويتيين. كان التعلّل بأجواء الحرب وسيلة سهلة للقيام بذلك من خلال الادعاء باضطرار المؤسسة إلى دفع تكاليف خياليّة لنقل الموادّ، وتلف المعدّات والبضائع وضياعها. هكذا صار الأمن باباً للأردنيين وغيرهم من الساعين إلى غرْف أكثر ما يمكن وبأسرع ما يمكن من أموال سمّتها الإدارة الأميركية نفقات إعمار للعراق. كان هؤلاء يأخذون عقوداً لتجهيز سلطة التحالف بأيد عاملة رخيصة من بنغلادش وغيرها. فمع بدء الهجمات ضدّ القوّات الأميركية، تناقص عدد العاملين العراقيين في المطعم حتى انعدم، وكانت الحجة هي ذاتها: الخوف من تسلل الإرهابيين. وقد سمعت من مقاول أردني بأن العقود بينهم وبين كيلوغ تضمّنت شرطاً غير مكتوب مفاده عدم تشغيل أيّ عراقي.
أدركت فيما بعد سبب كرم كيلوغ المبالغ به في التعامل معنا، فحين انتقلنا إلى فندق الرشيد قيل لنا بأننا غير مطالبين بإعادة ما تم تزويدنا به من بطانيات ومراوح وسترات واقية من الرصاص سعر الواحدة منها ٥٠٠ دولار. وما إن صدر الحكم على الشركة حتى أعلنت مؤسسة «هاليبرتن» العملاقة انفصالها عنها وتحوّلهما إلى مؤسستين منفصلتين في مسعى للتبرؤ من فضائح «كيلوغ براون».
لا أحد يسمع ما تقول، أو قل إنهم يسمعون ما يودّون سماعه فقط. عبّر الصديق مؤيد الحيدري عن الأمر ببلاغة شديدة حين التقى بول فلفوفتز بالإعلاميين في إحدى زياراته الأولى لبغداد. قال له: «كان صدّام يملأ أفواهنا بالقطن فجئتم وأخرجتم القطن منها لتضعوه في آذانكم».
هذا هو ربّ عملنا إذن
لم تكن حالات الترابط بين العلاقات السياسية والشخصية والمصالح الإقتصادية مقتصرة على مؤسسات «بكتل» و«هالبرتون» و«كيلوغ براون آند روت» وغيرها، فبعد أن تركت عملي في مجلس الإعمار، صرت أنقّب في الوثائق والتقارير بحثاً عمّا يلقي مزيداً من الضوء على الخيوط المتشابكة للّعبة التي كنّا ضحايا لها. كان الاكتشاف الأكثر إثارة لذهولي هو ما حصلت عليه من تفاصيل عن «ربّ عملنا» «سايك» SAIC، وهو مختصر Science Applications International Corporation إذ لم تكن عقود عملنا في المجلس تتمّ مع وزارة الدفاع مباشرة، بل عبر «سايك» التي نالت عقداً من الوزارة لتأمين لوجستيات تشغيل الأطقم ومتابعة شؤونهم.
لكن هذه المؤسسة التي تولّت عملية تجهيز وتأمين مستلزمات سفرنا وإقامتنا تستحق اسمها «التطبيقات العلمية العالمية» بكل جدارة. تعمل «سايك» في إنتاج تكنولوجية فائقة السرية تمثّل جوهر عمليات التجسّس التي تمارسها وكالة الأمن القومي و«السي آي أي» وغيرها من الوكالات التجسسية. ففي العام ١٩٦٩ ترك العالم النووي بيستر Beyster وظيفته المريحة في صناعات الدفاع وعمره ٤٥ عاماً ليؤسس SAIC في غرفة صغيرة بكاليفورنيا. وخلال أربعة عقود لم تتعرض «سايك» إلى الخسارة في أي سنة، إذ صارت أكبر شركة خاصة لتكنولوجيا المعلومات ووصلت عوائدها عشية غزو العراق إلى ٦،١ مليار دولار.
لا تعلن وكالات الاستخبارات أسماء مَن تتعاقد معهم ولا عن حصتهم من إجمالي العقود الممنوحة، لكن المصادر تفيد بأن «سايك» كانت المتعاقد الأكبر مع وكالة الأمن القومي ومن بين أكبر خمسة متعاقدين مع «السي آي أي» عشية الحرب على العراق. ففضلاً عن أن تكنولوجيا «سايك» في التقاط المعلومات وتحليلها هي التي مكّنت الولايات المتحدة من اعتقال عدد كبير من أعضاء القاعدة، فهي مصنّعة لمَجسّات حرارية تحت البحر تستطيع تتبّع الغواصات ومنتجة للبرامج التي تستخدمها الأقمار الصناعية التجسسية لمسح العالم وإيصال المعطيات الدقيقة حول مواقع الأهداف، لاسيما في حرب ٢٠٠٣، ومطوّرة لمعدّات تستخدم أشعة غاما التي تخترق الشاحنات وتفحص محتوياتها عن بعد.
لعل أهم إنجازات «سايك» برنامجا «تيراتيكست» TeraText وبرنامج التصنيف اللغوي الكامن Latent Semantic Indexing (LSI). بفضل هذين البرنامجين تتحول مليارات مليارات مفردات كل لغة مكتوبة في العالم والتي ترد في الكتب والمجلات والمكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني وغيرها إلى معطيات يمكن الإستفادة منها في عمليات المراقبة والتجسس. إذ بوسع «تيراتيكست» تحليل ملياري وثيقة خلال أربع ثوانٍ، أي ثلاثين مليار وثيقة في الدقيقة، من خلال كشف ترابطات وتكرار المفردات والمصطلحات والأسماء. ففي عملية اعتقال القيادي في تنظيم القاعدة خالد شيخ محمد، المدان بالتخطيط لعمليات سبتمبر ٢٠٠١، وكان في باكستان، جمع برنامج تيراتيكست عبارات مشتّتة مثل «خالد»، «نائم»، «تاريخ غير محدد» لعملية متوقعة تقوم بها خلية نائمة.
وبفضل هذا الدور الهائل والعلاقة الوثيقة مع الإدارات الأميركية، منح البنتاغون سبعة عقود لسايك لإعادة إعمار الحكومة وإنهاض الإعلام في العراق في شباط/ فبراير ٢٠٠٣، أي مع بدء الحرب بالضبط، على أن يتم تنفيذها جميعا تحت إشراف دغلاس فيث، الذي سيرد ذكره فيما بعد، علماً أنّ كبير مساعدي فيث في البنتاغون هو كرستوفر هنري الذي كان نائب الرئيس الأقدم لسايك حتى تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٠٢.
بموجب أحد العقود، تقوم سايك بتوظيف «خبراء ينفّذون محتوى العقد» وهم ١٥٠ شخصاً، يحدّد العقد طبيعة عملهم بـ«تشخيص، والاتصال وتوظيف أفراد من المنفيين العراقيين من الراغبين في تكريس جهودهم لإعادة الإعمار وفرض الاستقرار في العراق» (أي نحن)، وينصّ العقد كذلك أنّ على «سايك» استئجار شقق وتغطية تكاليف المعيشة وتوفير الطاقم الداعم والمقدم للخدمات لهؤلاء الأفراد. وينص العقد على إرسال الفريق إلى العراق لفترة لا تقلّ عن الشهر.
ويدعو عقد ثان «سايك» إلى توظيف جهاز لإعادة بناء جهاز الإعلام الجماهيري وتجهيزه وتدريبه يتكوّن من أربعين شخصاً، تكون مهمّته تشغيل ثلاث محطات تلفزيونية في بغداد والبصرة وإربيل وإصدار صحيفة تصدر ستة أيام في الأسبوع بتوزيع يومي مقداره ٣٠٠ ألف نسخة. ويحدد عقد ثالث ثلاثة أسماء بالإسم: شاها علي رضا (التي سيرد ذكرها كذلك) وأحمد دبّوس وأوين كربي «للمساعدة في تسهيل التحول السياسي لعراق ما بعد النزاع إلى أمّة ديمقراطية حرة» بمخصصات ٢٠٩ دولارات في الساعة (نعم، في الساعة الواحدة).
«بدأنا نعمّر العراق»
أخذ منسّق «مجلسنا» يجتمع بنا مساء كلّ يوم في حديقة القصر. ثمّة نافورة سيظلّ شكلها عالقاً في ذاكرتي. نافورة يكفي تأمّلها لتكوين صورة عن سيكولوجيا صدّام حسين. يستمتع الناس بشرب قهوتهم الصباحية أو المسائية جالسين أمام نافورات تضخّ الهدوء مع انسياب مياهها: ماء يتدفّق من فم دولفين وديع، من إبريق تصبّه صبّية. نافورة القصر الجمهوري لم تكن كذلك. هل انتبه لها أيٌّ من زائري صدّام؟ كانت النافورة تجسّم سمكة ضخمة تخنق أخرى تتقيّأ الماء. أيّ ذوق ساديّ! في الفترة التي كنّا فيها هناك، كانت الحديقة قاحلة بسبب انعدام المياه، فصار لون النافورة وأسماكها أقرب إلى حقيقتها: حقيقة الموت.
يأتي المنسّق متبوعاً بشخص شبه أمّي عيّنه عضواً في المجلس الذي يُفترض أنه يضم مئة وأربعين اختصاصياً في شتّى مجالات إعادة إعمار العراق، لكنّنا سمّينا التابع «عبد حمود» تشبيهاً له بمرافق صدّام حسين. «عبد حمود» الجديد يحتلّ الآن مركز مدير عام ويعلن أنه يحمل شهادة الماجستير. يتبختر المنسّق في مشيته، يرسم على وجهه وحركاته مظهر الجدّية ويوزّع علينا ابتسامات باهتة محسوبة، ويجلس مقابلاً أعضاء المجلس كأنّه يتّخذ قرارات استراتيجية. كان الاختصاصيون قد بدأوا يرافقون المستشارين الأميركيين إلى الوزارات، لكنّهم كانوا يشتكون جميعاً من أنّ الأخيرين لم يسمحوا لهم حتى بالتحدّث إلى المسؤولين أو العاملين العراقيين فضلاً عن تقديم اقتراحات بشأن عمل تلك الوزارات أو سبل المساهمة في إعادتها إلى سابق عهدها. عاد الزميل المعنيّ بالعمل في وزارة الداخلية يشعر بالإهانة إذ لم يسمح له الأميركيون بالإطلاع على قرص مدمج يحوي أسماء العاملين في أجهزة صدّام الأمنيّة، وهو الذي كان مفترضاً به أن يساهم في إعادة بناء تلك الأجهزة. وجرّبت هذا بنفسي في الزيارة الوحيدة التي قمت بها وكانت إلى وزارة الثقافة مع المستشار الإيطالي. فقد عهدت قوّات التحالف بمهمّة الإشراف على الوزارات الثانوية إلى غير الأميركيين لإضفاء طابع أمميّ على احتلالها للعراق. كان هذا المستشار منتشياً بدوره. يصطحب عدداً من المصوّرين ويزور شارع المتنبّي لكي يوحي باهتمامه بالثقافة. شعرت بالعار لأنّ الموظفين تعاملوا معي كمسؤول وصاروا يستعطفونني مؤكدين أنّهم لم يكونوا من أنصار نظام صدّام حسين.
لكنّ هذا بالضبط كان محور اجتماعاتنا اليومي وما يسأل عنه المنسّق: كم بعثياً شخّصت في «وزارتك»؟ هكذا كان المطلوب أن يتولّى مختصّون المهمّات التي كانت أجهزة الأمن تقوم بها في ظلّ البعث. لا حاجة إلى القول بأنّ بعض أعضاء المجلس لم يكونوا يحضرون الاجتماعات وكان قسم كبير من الحضور يتندّر على ما يجري.
منسّق مجلسنا هذا الذي ظننته اختفى عن الأضواء بعد اختفاء محتضنيه اللبراليين الجدد في أميركا ظهر مؤخراً مثيراً قنبلة سياسيّة في العراق. قرار بتوليته منصب الأمين العام لمجلس الوزراء كجزء من حملة «الإصلاح» التي دعا إليها رئيس الوزراء الحالي د. حيدر العبادي تحوّل إلى معركة سياسيّة ضارية انتصر فيها خصومه الذين اتّهموه بأنّ قراره جاء تنفيذاً لمطالب أميركية.
منسّقنا إذن صار أوباماويّ الهوى.
كان تشخيص البعثيّين وطردهم من الوظائف من المهامّ المطلوب تنفيذها من جانب المستشارين الأميركيين كذلك. لكنّهم كانوا بحاجة إلى عراقيين يساعدونهم في التعرف إلى هؤلاء. ومع أنّ الدور المنوط بالمستشارين الأميركيين كان شكلاً ملطّفاً متناسباً مع العصر بالمقارنة مع شبيهه البريطاني عند تأسيس الدولة العراقية، فقد كانت الصلاحيّات الممنوحة لهم لإدارة الوزارات وإعادة رسم سياساتها وأساليب عملها إمبراطورية بامتياز.
مؤهّل الخبير: الولاء لبوش!
ولكن من هم مستشارونا ومن أين جاؤوا؟
يلقى راجيف شانراسيكاران، مدير مكتب بغداد للواشنطن بوست أهمّية كبيرة في أوساط صنّاع القرار في الإدارة الأميركية وأحد أنشط الصحافيين العاملين في بغداد آنذاك وأكثرهم ثقافة وتوقّداً ذهنياً، أضواءً مهمّة على نوعية العاملين الأميركيين في سلطة التحالف وكيفية اختيارهم٦: «بعد سقوط نظام صدّام اجتذبت فرصة العمل في بغداد كلّ أصناف الأميركيين: مهنيين ضجرين من وظائفهم، أكاديميّين يتحدثون العربية، اختصاصيّين في التنمية، ومغامرين راغبين في الذهاب إلى مناطق الحرب». ولكن كان عليهم المرور على دائرة خاصة في وزارة الدفاع قبل أن يُسمح لهم بالعمل هناك. لم يكن على المتقدّمين أن يكونوا خبراء في الشرق الأوسط أو في مجالات إعمار مناطق ما بعد النزاعات. أهمّ المؤهّلات كان الولاء لإدارة بوش. كان العاملون في هذا المكتب يطرحون أسئلة فظّة بشكل مباشر: هل صوّتّ لجورج بوش؟ هل تؤيّد طريقة الرئيس بوش في محاربة الإرهاب؟ كان طبيعياً في مثل هذه الحال أن يكون كثير من العاملين في سلطة التحالف مفتقدين للمؤهّلات اللازمة للعمل. شابّ في الرابعة والعشرين من العمر لم يسبق له العمل في مجال المالية قطّ، قدّم طلباً للعمل في البيت الأبيض فأرسل إلى بغداد لإعادة تشغيل البورصة. ابنة معلّق بارز من المحافظين الجدد تخرّجت حديثاً من جامعة إنجيلية أرسلت لإدارة ميزانية العراق البالغة ١٣ مليار دولار. صُعقتُ حين سألني من سيكون مسؤولاً عن عمل البنك المركزي إن كانتْ للعراقيين تجربة في العمل على الكومبيوتر. أجبته بأنّ ثمة عموداً يوميّاً في جريدة الجمهورية البغدادية لتعليم الشباب على برنامج «بيسك» الذي كان سائداً حين ذاك، وأنني تدرّبت على برنامج «فورتران» في سنة دراستي الجامعية الأخيرة.
تمّ تعيين البعض بفضل مكالمة هاتفية أجراها عضو نافذ في الحزب الجمهوري مع بريمر لصالح صديق شخصي. من بين هؤلاء جيمس هافرمان الذي اختير لإعادة تأهيل نظام الرعاية الصحية، ولم يكن إلّا عاملاً في مجال الخدمة الاجتماعية واسماً مجهولاً في أوساط اختصاصيي الصحة في العالم التحق بعمله في بغداد. قبلها كان مديراً لوكالة مسيحية لتبنّي الأطفال. جاء خلفاً لشخصيّة من بين أكبر اختصاصيي العالم في مجال الصحة العامة وبخاصة في البلدان التي تشهد صراعات عسكرية، اختصاصيّ عمل في كوسوفو والصومال ودرّس في جامعة جونز هوبكنز المرموقة. لكنه لم يستمرّ في عمله سوى أسبوع واحد لأنّ الاختيار وقع على هافرمان. وعلى حدّ تعبير راجيف: «كان «بركل» الذي تمّ استبداله يملك من الشهادات العلميّة ما يملأ جداراً من المجلّدات لكنّه لم يمتلك صورة تجمعه بالرئيس بوش. أمّا هافرمان فكان من أوائل مشاريعه في عراق مُبتلى بكلّ أنواع الكوارث الصحية والمفتقد لأبسط الحاجات واللوازم الطبّية شنّ حملة للتثقيف بمضارّ التدخين».
تحاشى البيت الأبيض عن عمد خبراء الشرق الأوسط المحترفين والمخضرمين وخبراء مجتمعات ما بعد النزاعات، الذين عمل كثير منهم في وزارة الخارجية أو الأمم المتحدة لأنّهم لم يكونوا متحمّسين لنشر الديمقراطية وذوي نزعات ليبرالية.
تمثّلت الحالة الأكثر تراجيدية في تعيينات العاملين في سلطة التحالف في اختيار المشرف على وزارة الداخلية. ففي أيار / مايو ٢٠٠٣، أي بعد اكتمال احتلال بغداد بشهر واحد، توصّل فريق من خبراء وزارة العدل الأميركية إلى أنّ العراق بحاجة إلى أكثر من ٦٦٠٠ مستشار أجنبي لإعادة تأهيل جهاز الشرطة. فكيف استجاب البيت الأبيض والبنتاغون لهذه التوصية؟ تمّ إرسال شخص واحد فقط هو بيرني كيرك، الذي كان نجماً في الإعلام الأميركي، بوصفه قائد شرطة نيويورك أثناء الهجوم على مركز التجارة العالمي عام ٢٠٠١. لكنّ خبرة الرجل في العالم الخارجي اقتصرت على عمله مسؤولاً أمنياً لمستشفى حكومي أميركي في السعودية وطُرد بعدما توصّل التحقيق إلى أنه كان يتجسس على الطاقم الطبّي هناك.
ما إن حلّ كيرك محلّ خبير وزارة الخارجية في تطبيق القانون الدولي روبرت غيفود، وقبل أن يتعرّف على الوضع في العراق، عرّف مهمته بأنّها «جذْب اهتمام وسائل الإعلام لعملنا الجيّد في إعداد الشرطة لأنّ الوضع الأمني ليس بالسوء الذي يعتقده الناس». وقبل أن يُمضي أسبوعاً واحداً في بغداد، أجرى كيرك عدداً كبيراً من المقابلات التي أكّد فيها أن الوضع آخذ في التحسّن مع أنه عيّن فريقاً كاملاً من الحرّاس الشخصيين من جنوب أفريقيا.
ومع هذا فقد جاء بعض من هؤلاء المستشارين مدفوعاً بنوايا طيّبة وأحلام رومانسية بالفعل. وحاول آخرون القيام بأعمال إصلاحية لأسباب أخرى، منهم دكتور العلوم السياسية الثلاثيني إيردمان الذي أراد اختبار استنتاجات أطروحة تخرّجه برؤوسنا. في تلك الحالات القليلة كان ثمّة تبادل مثير للأدوار بين المستشار الأميركي وبين أعضاء فريقنا العراقيين. كنت حين أراه مصحوبا بأربع مصفّحات أو أكثر، عندما أخرج لتدخين سيجارة الصباح عند مدخل بناء القصر، أعرف أنّه ذاهب إلى البنك ليحمل أكداساً من النقد لتوزيع رواتب الأساتذة والعاملين. لم تكن اجتماعاته مع الأساتذة الجامعيين لقاءات «بريميرية» تزيينية. كان يسجّل أدقّ التفاصيل والمقترحات ابتداءً من توفير معدّات مخابر الكيمياء إلى تحديث مكتبات أقسام اللغة الإنكليزية في كليّات الآداب التي لم ترَ مطبوعاً جديداً منذ نهاية الثمانينيات. ولأنّ إيردمان وفريقه العراقي كانا ينتميان إلى هذه الفئة النادرة، فقد كانت محنته الدائمة، كما صرّح فيما بعد للنيويورك تايمز، هي التوفيق بين عمله كموظّف في سلطة التحالف الموقتة عليه تنفيذ المرسوم ١٦ حول إقصاء أعضاء المراتب الثلاث العليا من حزب البعث ومن لهم علاقات أخرى بالنظام المباد من جهة، وبين سعيه لإعادة إيقاف الجامعات وتحديثها من جهة أخرى. لم يرد إيردمان أن يتحوّل إلى مفوّض سياسي وظيفته مطاردة الآخرين. ولحسن الحظ كان المستشارون العراقيون لهذه الوزارة من فريقنا، وأهمهم الدكتور محمد الربيعي، من ذوي الخلفيات العلمية الجدية والاستقلالية السياسية. لم تربطني علاقة وظيفية مع الدكتور إيردمان، لكنّنا تقاربنا بحكم الخلفية الأكاديمية المشتركة.
غادر غارنر، جاء بريمر
كان آخر عهدي به حين تجاوب باهتمام مع مقترحي بعقد اجتماع يضمّ رؤساء الجامعات العراقية العشرين بوصفهم الأقدر على تحديد المشاكل وتعيين احتياجات كل جامعة وترتيبها حسب درجة إلحاحها وأولوياتها. شعر إيردمان بالخجل حين تم إبلاغه بأنّ الدكتور سامي المظفّر، رئيس جامعة البصرة، شتم الحرس الذين أرادوا تفتيشه قبل الدخول إلى قصر المؤتمرات وعاد من حيث أتى.
تم حل «أورها» وأزيح غارنر ليحلّ محله بريمر. كان وجه غارنر متجهماً وهو يصافح بريمر ببرود. وصل بريمر المحسوب على وزارة الدفاع إلى بغداد ليتولّى منصب رئيس «سلطة التحالف الموقتة» التي حلّت محلّ «أورها». تجمّع العاملون في الروتندا حيث توسّط الحاكم الجديد الجمع وألقى كلمة: أمنيات، وعود وتأكيدات على تصميم الولايات المتحدة على العمل لضمان مستقبل زاهر لعراق ديمقراطي يكون نموذجاً يشعّ على المنطقة. تم ترتيب اجتماع بين بريمر وبعض أعضاء مجلسنا. أردنا أن يتركز الاجتماع على ضرورة إعطاء المجلس دوراً رئيساً في عملية إعادة الإعمار. كان الارتباك وترقّب الحدث السعيد الجلَل بادياً على وجه المنسّق حتى إنه أراد إجراء بروفة لكيفية توزيع الأدوار بيننا: ماذا يقول كل منّا؟ كيف نخاطبه؟ كيف نعرض ملاحظاتنا من دون إبداء تذمّر؟ أذكر أنني وزميلين، خالفنا الأعراف إذ جلسنا على حافة الشبّاك المواجه لمقعد بريمر المتصدّر للطاولة. حاول المنسّق مداراة حرجه من عدم احترامنا لأصول اللقاء بابتسامة اعتذار عن «رعونتنا». كلّ ما علق بذهني من ذلك اللقاء هو توجيه بريمر التحية لي باللغة الهولندية حين عرف أنني آتٍ من هناك، فقد استُدعي لتولّي مهمّة حكم العراق من وظيفته سفيراً لبلده في ذلك البلد ثانويّ (وربما ثالثي) الأهميّة. لم يعلَقْ شيء في ذهني لأنّ الحوار، إن صحّت تسميته حواراً، لم يكن غير تبادل للأمنيات بأن تسير الأمور على ما يرام. خرجنا من لقائنا بعد أن وعد بريمر بأنه سيغيّر الأمور. لكن الأمور لم تتغيّر.
مغادرة فندق الرشيد والعودة إليه
أوائل حزيران / يونيو ٢٠٠٣ تم إصلاح ما يمكن إصلاحه من فندق الرشيد فانتقلنا إليه. لا أزال أذكر ممسحة الأقدام في مدخله لأنّ صورة بوش الأب كانت مطبوعة عليها بهدف أن تدعس عليها بأقدامك إذ تدخل إلى الفندق. كانت تلك من آثار حرب تحرير الكويت. دهمهم الوقت فلم يتمكّنوا من نسج ممسحة جديدة تحمل صورة بوش الابن. لا أذكر كم بقيت هناك قبل أن نُعطى خيار الانتقال إلى سكن خاص خارج المنطقة التي لم تكن قد منحت اسم «الخضراء» بعد. اغتنم الصديق صادق الصائغ الفرصة فتشاركت معه في استئجار شقة في شارع السعدون قريباً من سينما أطلس. منطقة تعجّ بالعصابات والحشّاشين السودانيين وكل كائنات الله المهمّشة. ومع هذا كان صادق أكثر شجاعة مني. ينزل للتجوال ويعود حاملاً قصصاً طريفة ومخيفة. صار لدينا زوار «عاديون» لا ينتمون إلى عالم السياسيين والقادة «المهمين»: باحثون ومثقّفون ربطت صادق وربطتني بهم علاقات قديمة، أدباء ومراسلو وسائل إعلام، وأشباه مثقفين غربيون باحثين عن الشهرة يأملون بالعودة إلى الغرب حاملين كتابات أو أفلاما أو تسجيلات لا توثّق بل تعرض لبطولة المنتِج الذي تحدّى الموت في رحلته البطولية المفترضة. ملأ كلُّ هؤلاء حياةً كادت تجفّ داخل عالم لم ننتم إليه. حياة ثقافية هي انتماؤنا، هي هويتنا. من جزيرة الحرية هذه انطلقنا إلى شارع المتنبي، إلى سوق السراي.
ما أبشع الغربة! ما أبشع أن تقرّر خوض المعركة ضد الطغيان مبكّراً فتخرج منفيّاً. أو لعلّ أسلوبنا في المجابهة كان انتحارياً. ليست تلك مأساتنا وحدنا. هي مأساة عرفها ثوريو العالم كلّه. خرجنا مبكّرين قبل أن يتصاعد الكرْه للنظام فصار هذا سُبّة. لكنْ، على عكس السياسيين، لم يصفنا أحد بـ«جماعة الخارج». احتضنّا بعضنا، مزهر مرسومي، مؤيد الحيدري، لطفية الدليمي، سلوى زكّو، عبد الرحمن طهمازي وأحبة آخرون. تعرفت إلى مثقّفين لم أعرفهم من قبل، حيدر سعيد، يحيى الكبيسي، أسماء جميل. تظاهرنا أنّ الزمن توقّف منذ افترقنا، لكنّه لم يتوقّف. يعرفون أنّنا لم نأت قادة نفتتح عصراً جديداً يخنقهم الآن باسم الديمقراطية. لعلّ بعضهم أحسّ بأنّنا سنكون مخنوقين مثلهم في ظلّ نظام توهّمنا أنّه سيأتي بجديد فلم يأت به. أليست تلك المأساة المعروفة: الثورة التي تأكل أبناءها؟ لنا كمثقفين نحطّ أقدامنا في شارع المتنبي، كان لتلك البشاعة وجهها. كنّا بحاجة إلى أن يقوم أصدقاؤنا الشيوخ بالتعريف بنا لجمهرة من المثقفين الذين لم يسمعوا بأسمائنا ولآخرين سمعوا بها ولكن لم يعرفوا ما أنتجنا. خفق قلبي فرحاً حين عرفت بأن مازن لطيف قام بنسخ كتاب ممنوع لي بخط اليد ووزّعه في ظلّ نظام البعث. ولكن كم قارئاً كان بوسعه الحصول عليه؟ وكم قارئاً كان مهتمّاً بقراءة عمل غير شعري أو ديني؟ ما أبشع شعور الغربة!
ما أبشع أن يُشعرك آخرون لا بالغربة عن عالمهم، بل عن فضاء صار ملكاً لهم عن جدارة. وصفتُ حياتي في شارع المتنبي مذ كان عمري خمس سنوات: منذ ١٩٥٥. لكنهم يعيشون الشارع ويصنعونه اليوم.
قلت لماجد وأنا أشير إلى بناء مهدّم: هذه مكتبة المثنّى. علّق بلامبالاة: «إذن، كانت هنا». هو ابن الحاضر، وإن لم يكن شابّاً. فهو لم يعش المتنبي إلّا الآن. ما همّه إن أشرت إلى بناية عبد الكريم قدّوري المقابلة لمكتبة المثنى حيث مكتب أبي للمحاماة؟ إنه ابن شارع صنعه وما عاد لي فيه غير فضاء متخيّل. عليّ أن أتعامل معه كما يودّون تخيّله. مقهى الشابندر الذي لم يكن له أي علاقة بالثقافة، بل كان مقهى العرضحالجية ومراجعي المحاكم حوّلها خَيالهم إلى «كافّيه» المثقفين كأنه «كافّيه» كلوني الباريسي.
في فندق الرشيد وفي القصر الذي كان جمهورياً، وكان لابد أن نتردّد عليهما باعتبارهما «مقرّ عملنا»، كان جدول أعمال معظمنا يتضمّن قضاء ساعات في الكابينة التي أقامتها شركة MCI والتي تضم عشرات أجهزة الكومبيوتر التي يمكن استخدامها للتواصل عبر الإيميل. وكانت هذه الشركة، التي يبدو أنها كانت طامعة في الحصول على السبق في بناء شبكة الهواتف النقالة، قد زوّدتنا، عبر سلطة التحالف، بجهاز لكلّ منّا نتّصل به مجاناً. هكذا غادرنا عصر« الثريا».
لم نكد نبدأ التعود على حياة الحرّية في شقّة أطلس حتى اضطررنا إلى العودة خائبين إلى فندق الرشيد بعد أن تردّدت شائعات بأنّ البناية ستتعرض لهجوم بعد ورود «معلومات» بأنّها مقرّ لعملاء إسرائيليين! وقد حدث الأمر ذاته مع فندق في عرصات الهندية تم تفجيره بالفعل. لم تُشعرنا الدورية الأميركية التي جابت شارع السعدون مساءً بالاطمئنان.
- ١. فصل من كتاب يروي، مع بعض التحليل، العقد الممهد لغزو العراق عام ٢٠٠٣ والعام اللاحق له من خلال تجربتي الشخصية في التعاطي مع المؤسسات السياسية الأميركية ومراكز أبحاثها ومع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة السيد الأخضر الإبراهيمي.
- ٢. أطلق العراقيون هذه التسمية على اللصوص المنبثقين إثر الغزو نسبة إلى تسمية صدّام حسين لمعاركه المقبلة مع الأميركيين بالحواسم.
- ٣. وجبة ثريد الخبز مع رأس البقر المسلوق.
- ٤. سأتناول مشروع «مستقبل العراق» وفلفوفتز ببعض التفصيل في ما بعد.
- ٥. بالرغم من الكشف عن مئات المقابر الجماعية لضحايا نظام البعث وتقصّي كثير من وثائق إدانته، وثبوت كون قصر الرضوانية مقراً رئيساً لممارسة جرائم التعذيب، لم يردْ ذكرٌ له قطّ بعد سقوط النظام. فقد تحوّل القصر إلى «كامب كروبر» الذي احتفظ فيه الأميركيون بالسجناء «عالي القيمة» مثل صدام حسين وطارق عزيز.
- ٦. Rajiv Chandrasekaran «Ties to GOP Trumped Know-How Among Staff Sent to Rebuild Iraq: Early U.S. Missteps in the Green Zone» The Washington Post, Sept. 17, 2006.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.