العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

عقد العراق الضائع (٢\٢)

من ديمقراطيين إلى متعاونين مع قوة احتلال

النسخة الورقية

(العودة الى الجزء الأول)

بدأنا نناقش مبرر وجودنا. مجموعة غير قليلة ممّن ارتبطوا بالمشروع لأسباب قريبة من تلك التي دفعتني إلى تلك المغامرة. ماذا نفعل هنا؟ ربما كان أكثر من عشرين من بين أعضاء مجلسنا المئة والأربعين متّفقين على ضرورة الاعتراض على سياسة متعمّدة لتهميشنا. لم تكن لقاءاتنا سرّية. في أمسيات حزيران/يونيو كنّا نلتقي في باحة فندق الرشيد نشكو همومنا. لكننا لم نكن موحدي الرؤى في ما ينبغي القيام به.

تنشيط التيار الديمقراطي

أتمشّى ساعات طوالاً مع الدكتور محمد الحكيم (وهو الآن سفيرنا إلى الأمم المتحدة) نناقش فكرة ضرورة قيام تنظيم وطني ديمقراطي يلمّ شتات من يؤمنون بمبادئ الديمقراطية والدولة المدنية. لكنّ يديّ محمد لم «تتلطّخا» بالحياة السياسية كما تلطّخت يداي. ليس ثمة أسهل من كتابة بيان يتضمّن أفكار الدفاع عن قيم يؤمن بها قطاع واسع من العراقيين. لكننا في أجواء «فرساي» بعد. أقصد ما أشرت له سابقاً من أن التشكّك في مشروع يحمله أفراد قادمون من «الخارج» ومع المحتل هو أقصر الطرق لوأده. اقترحت أن نتصّل أوّلاً بالأحزاب الديمقراطية القائمة، على علّاتها، أملاً في ضخّ دم جديد إليها وتحويلها إلى الحركة التي نحلم بها. كنت قد زرت مام جلال [الطالباني] والدكتور عدنان الباججي والحزب الشيوعي والتقيت بالدكتور غسان العطية فور وصولي إلى بغداد.

زرت مام جلال في مقره في المنصور ودعاني إلى البقاء على الغداء لأن هناك من يجب عليّ أن أطرح أفكاري عليهم، كما قال. كان هناك ابنه قُباد، نائب رئيس وزراء حكومة كردستان حاليا، الذي سبق أن تعرّفت إليه في ورشة «مستقبل العراق»، والدكتور فؤاد معصوم، رئيس الجمهورية الحالي، وآخرون. سأل مام جلال شاكياً: «ما الذي يمكن أن نفعله لكي ننشّط التيار الديمقراطي؟»، كان السؤال نابعا من رغبة صادقة، لكن السياسي يبحث عن حلول سريعة. «ماذا نفعل؟ لقد دعونا [فلاناً] للعودة إلى العراق ورتّبنا له استقبالاً حافلاً، وقدّمنا دعماً مادياً لـ...». شعرت بأن معظم الحاضرين لم يكونوا معنيّين بالأمر ــ كنت أعرف أن إجابتي لن تكون مرضية لسياسي مهما كان عميق التفكير. قلت إن أمام القوى الديمقراطية طريقاً طويلاً، لن يتم اجتيازه من دون دعم مادّيّ وإعلاميّ بالتأكيد، لكنْ ليس هذا هو الأساس. على القوى الديمقراطية أن تطرح برنامجاً مقْنعاً قابلاً للتنفيذ، أي يتجاوز الشعارات. القوى الديمقراطية قد تطرح شعارات يتجاوب معها الأفراد، لكنّ هؤلاء يبحثون عن حلول سريعة تخفف عنهم الجوع وتوفّر لهم العمل، وهو ما لا تستطيع تلك القوى القيام به فيما هي في متناول قوى الإسلام السياسي. ثمّة طريق للمساعدة أتفهّم أسباب استحالة تنفيذه: تشكيل قائمة انتخابيّة عراقية موحّدة تضمّ الحركات الكرديّة والقوى المدنيّة عوض ترك الأخيرة تواجه الحيتان الكبيرة وحدها.

كانت القيادة الكردية، وبالتحديد مام جلال الطالباني، مهتمّة بالفعل بتنشيط التيار الديمقراطي، على الأقلّ لأنّه التيار الوحيد الذي يمكن أن يتبنّى خطّاً مبدئياً في الدفاع عن المساواة القومية. لكن هذه الرغبة ما كان لها أن تتّسق مع وقائع أخرى نشأت بعد سقوط البعث. في لقاء لي معه بعد شهر من سقوط صدّام، أحسستُ بأنّ عليّ التحذلق حتى عند طرح البداهات. قلت إنّ دعم التيار الديمقراطي (وفي رأيي أن الوضع الصحّي يتطلّب أن تكون تيّارات) يعني أن ننطلق من التمسّك بخطاب وممارسات عابرة للقوميّة والطائفة والدين والجنس تتبنّى المساواة التامة بين العراقيين والعراقيات. وإن كان نظام البعث قد مارس تمييزاً قومياً وطائفيا فإنّ سقوطه لا ينبغي أن يقود إلى ممارسة القوميّات أو الطوائف التي كانت ضحيّته تمييزاً معاكساً. وليس المطلوب هنا تزويق شعارات ورديّة عن التآخي والوئام بين «مكوّنات الشعب»، بل إدراك الظلم الذي وقع على العرب السنّة كذلك. المطلوب عدم اختلاق ديكورات يقودها عرب سنّة، بل التوجّه إلى أبناء الرمادي الذين تعرّضت مدينتهم لقصف مدفعي عام 1995 بعد أن انتفضوا مطالبين بالقصاص من قتَلة ابن مدينتهم اللواء محمد مظلوم، والتوجّه إلى أبناء تكريت الذين تعرّضت وجوه بارزة منهم، مثل الدكتور راجي عباس التكريتي وجاسم مخلص ومئات غيرهم إلى مصائر بشعة، والتوجّه إلى أبناء سامرّاء التي أنجبت عبد الخالق السامرائي، خصم صدّام اللدود الذي تم إعدامه، وتطول القائمة لتشمل عانه وحديثة وهيت وغيرها.

جولات على السياسيين

حين لا يطلب المحاور تفصيلاً عن آليات ترجمة مثل هذا الطرح البدهي ويكتفي بإجابات مهذّبة من نوع «طبعاً، دكتور»، تكتشف أن الأمر ليس من بين أولوياته. في زمن الضعف يستمع القادة إلى النقد باهتمام ويتقبّلونه حتى وإن كان جارحاً. هكذا كان حالهم إثر جرائم الأنفال البشعة التي قادت إلى نزوح القيادات الكردية والعربية المقاتلة لصدّام، فضلاً عن عشرات ألوف المواطنين البسطاء إلى دول الجوار. وهكذا كان الحال أيضاً أيام الحرب الأهليّة الكرديّة عام ١٩٩٦. لكنّ هذا زمان آخر: قد يتّفق عقل القيادي مع ما تقول، لكنّه معنيّ بتعظيم قاعدته الشعبية. وفي بيئة مفتّتة، ليس ثمّة طريق لتحقيق ذلك أفضل من شحذ غرائز الخوف من الآخر بما يدفع الجمهرة، بمن فيهم من يوجّهون انتقادات جديّة إلى ممارسات ذلك القيادي، إلى الالتفاف حول من يقنعها بأن قيادته لها هي ضامن وقايتها من عداء الآخر. انتهى الأمر، إذن، إلى الحديث عن تمويل قادة ديمقراطيين وإحاطتهم بتغطية إعلامية. حين طلب مام جلال منّي العمل على إقناع الأميركان بإعادة مسؤول عربي سنّي إلى وظيفته، أحسست بأنّ السياسي البارع أراد الإيحاء لي بأنّه متجاوب مع ما اقترحت، إذ لم يتطلّب الأمر أكثر من اتصال هاتفيّ ببريمر أو حتى بمن هم في مستويات أدنى وظيفيّاً لكي يتحقّق ذلك.

اتصل المعماري الكبير رفعت الجادرجي، الذي تعرّفت إليه قبل سنوات، بأخيه الأستاذ نصير الجادرجي يعرّفه بي لكي يستقبلني. وهكذا كان. حضر عدد ما يقارب العشرة من قادة الحزب الذي أخذ يعيد لملمة صفوفه. ملامح الحضور ومعرفتي بتاريخهم المشرّف تؤكد أنهم جميعاً تجاوزوا السبعين. كانت فكرتي شديدة البساطة: إنّ أفكار حزب كامل الجادرجي الوطنيّة الديمقراطيّة أكثر راهنيّة من أي وقت مضى. ذلك أن جمهرة، أزعم أنّها هائلة العدد، تتطلّع إلى مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدّم والدولة المدنيّة، أي المبادئ التي قام عليها الحزب الوطني الديمقراطيّ. هذه المبادئ بحاجة إلى إطار مرن يستوعبها من دون أن تكون أسيرة المركزيّة الحزبيّة والفكرة الواحدة والتعاليم واجبة التنفيذ من القيادة. حاولت أن ألطّف قولي حين أبديت قلقي من أن يكون مصير الحزب مشابهاً لمصير حزب الوفد المصري: تراث عريق وقيادة عاصر معظمها مؤسّس الحزب لكنّه بعيد عن الإحساس بالزمن وهو غريب، بالتالي، عن هموم الناس اليومية. سيستعيد الحزب ألَقه بأن يضمّ مئات، بل آلاف، ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والأربعين على الأقلّ لبعث تلك المبادئ مكيّفة مع ظروف القرن الواحد والعشرين، وهو توجّه كنت ولا أزال أظنّه قابلاً لتكوين إطار يجمع آلافاً من المتحمّسين لمشروع كهذا.

صدمني رد الجادرجي البارد والضاحك. لم يُبد حرجاً من واقع شيخوخة القادة: نعم، كبرنا في السن، وهذا هو الحال!

حين أتأمل موقف الأستاذ نصير وتمسّك قيادته بزعامة حزب لم يبق له غير تاريخ مشرّف، أتذكّر جلسة أريحية جمعتني بالدكتور فاضل الجلبي، واحد من أهمّ خبراء النفط على المستوى العالميّ ومعاصر لذلك الزمن. قال الجلبي: «يعني ما إفتهم شلون كامل الجادرجي رجل الديمقراطية بالعراق. كان يطرح مشروعاً على قادة حزبه، فإذا رفضوه بالأغلبية أو بالإجماع، ينزل عند رأيهم. يروح يعتكف ببيته إلى أن يجون يصالحوه. لَعَد ليش طلع حسين جميل ومحمد حديد من الحزب؟ يا أخي، زهقوا منّه. هذا شلون ديمقراطي ما يرضى برأي الأغلبية؟».

كان الأمر مختلفاً مع الدكتور الباججي. إنسان ذو شخصية وملامح أرستقراطية يثير إعجابك إذا جلست معه على طاولة للعب البوكر مع كأس ويسكي إلى جانبك. رجل ينتمي إلى عصر قادة الحكم الملكي المترفين، لعلّك تتساءل كيف احتمل التكيّف مع قادة عراق ما بعد ٢٠٠٣، بل كيف تسلّم منصباً في عهد الحكم العسكري في الستينيات كذلك. لم يدرْ حديث جدّيّ عن ماهية الفكرة التي نسعى إلى تحقيقها ولا عن الشكل التنظيمي الذي ينبغي أن يؤطّر هؤلاء المزمع ارتباطهم ولا عن كيفية اتخاذ القرارات في تنظيم كهذا. اختصر الأمر بـ«تعال عندنا». ودّعني بالقول «أنت واحد منّا» وهو ما كان سيشرّفني لو استمع إلى ما وددت قوله.

انحياز إلى «تيار الوسط»

عرفت الباججي في النصف الثاني من التسعينيات. لأكن أكثر دقّة: كنت أعرف اسم الباججي وأعرف تاريخه الوطني. وعرفت عن دخوله عالم المعارضة في النصف الثاني من التسعينيات، لكنني لم ألتق به إلا في أواخرها، حين قدّمنا مداخلتين في ندوة عُقدت في لندن موضوعها «العراق: ٢٠٢٠». قبل ذلك، كنت وليث كبّه، الذي توطّدت علاقتي به منذ أوائل التسعينيات، في واحدة من ندوات واشنطن التي لاحصر لها. طلب مني أن نجتمع على انفراد. كنّا متفقين على أنّ معظم حركات المعارضة القائمة آنذاك باتت هياكل لا أساس حقيقياً لها سوى اعتماد قادتها على علاقة مع هذا الطرف الدولي أو ذاك، وأنّ تلك الأطراف نفسها لم تعد مقتنعة بهم ولا تتعامل معهم كممثلين لقطاعات ذات شأن من العراقيين. إذن، والحديث لكبّه، فقد استقر رأي عدد من الوطنيين العراقيين، على تأسيس حركة تسمّي نفسها «تيار الوسط»، تيار يتّسع لمتبنّي عقائد سياسية متنوعة يجمعهم العمل على قيام نظام ديمقراطي تعدّدي: إسلاميون ويساريون ولبراليون. وفهمت من ليث أنه والصديق الدكتور غسان العطية وراء المشروع وأنهما يسعيان لإقناع الدكتور عدنان الباججي، الذي كان بعيداً كلّ البعد عن ممارسة أي نشاط سياسي منذ عقود، بقيادة تلك الحركة.

كان اختيار التوقيت مناسباً، إذ كانت معنويّات الإدارة الأميركية في الحضيض في صيف ١٩٩٦. لقد تمزّقت كردستان في حرب أهلية بين الحزبين الرئيسين وانقسمت إلى منطقتين متقاتلتين. وفشلت المحاولة الإنقلابية التي أعدّتها وكالة الاستخبارات المركزية بعد أن اخترقت أجهزة نظام صدّام حركة الوفاق الوطني بقيادة الدكتور أياد علّاوي التي كانت ستنفّذ الإنقلاب وأعدمت بطريقة وحشية اللواء الطبيب راجي عباس التكريتي والمحامي جاسم مخلص التكريتي، كما اغتالت في بيروت الشيخ طالب السهيل (والد النائبة صفيّة السهيل) الذي قيل إنه كان صلة الوصل مع من كانوا داخل العراق. وفي الوقت نفسه استفادت قوّات النظام العراقي من أجواء حرب كردستان الأهلية لتجتاح أربيل وتقتل حوالى ثمانين كادراً من كوادر المؤتمر الوطني العراقي بقيادة الدكتور أحمد الجلبي (وكنت محظوظا إذ غادرت كردستان، بمحض الصدفة، عشية ذلك الاجتياح). فقد ناشد السيد مسعود البارزاني، قائد الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي واجه وضعاً عسكريّاً حرجاً في مواجهة قوات الاتحاد الوطني الكردستاني تحت قيادة جلال الطالباني، صدّام حسين راجياً تدخّل القوّات العراقية لدعمه. وكانت تلك فرصة الأخير الذهبية لإستعادة وجوده هناك. سمعتُ، فيما بعد، مَن قال لي من المطّلعين الأميركيّين، إن مشروع تأسيس تيّار الوسط هذا لم يكن عفوياً، بل لإنّ البريطانيين وأطرافاً في الإدارة الأميركية شجّعوا على قيامه بسبب تلك الانكسارات، ولكن ليس بوسعي التحقّق من ذلك بالطبع.

في هذا الوقت، بدأت أصوات هامسة من داخل التيار المسمّى بالواقعي داخل الحزب الجمهوري تلمّح إلى ضرورة فتح القنوات مجدّداً مع نظام صدّام حسين. كان هذا التيّار، وأبرز ممثليه هنري كيسنجر، لا يؤمن بالأيديولوجيات على عكس المحافظين الجدد الذين ستكون لهم اليد الطولى في عهد بوش الابن، وكان يرتبط بعلاقات وثيقة مع نظام صدّام حسين حتى احتلاله الكويت.

أواخر صيف ١٩٩٦، كنت ألقي محاضرة في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، وكان من بين الحضور سفير أميركي سابق إلى العراق هو مارشال وايلي الذي سيأتي الحديث عنه، وينتمي إلى تيار الواقعيين. علّق العضو على محاضرتي قائلا إنّهم جرّبوا كل السبل ولم ينجحوا في إسقاط النظام فلماذا لا يجرّبون سياسة احتوائه؟ كنتُ ملمّاً بمواقف هذا التيار، فأجبت بأنّ كوبا لم تغزُ بلداً آخر، وهي تقع على مرمى حجر من الولايات المتحدة ومع هذا لم يطرح أحد منهم فتح حوار مع نظام كاسترو بعد سبع وأربعين سنة من القطيعة معه. فهل أنّ مصالح هذا التيار في استئناف العلاقة مع صدّام هي التي تكمن وراء ذلك؟

أعلنت تضامني الكامل مع مشروع «تيار الوسط» إنْ كان أمر تأسيسه محسوماً، وأبديت استعدادي لتقديم أيّ مساعدة أستطيع القيام بها عدا الانضمام إليه. وانطلقت في ذلك من قناعتين آمنت بهما: الأولى هي أن حركة كهذه ستبقى متّجهة إلى عراقيّي الخارج، وليس ثمّة ضير في ذلك إذا لم تطرح نفسها ممثّلة أو قائدة للشعب، لكنّني لا أرى فائدة أو مبرّراً لإنشاء حركة جديدة لا أعتقد أنّها ستنجح في تحريك الجوّ الراكد أياً تكن جِدّة أفكارها أو نبلها، وستنتهي إلى أن تكون رقماً مضافاً إلى عشرات غيرها. وانطلقت في قناعتي الثانية من الاتفاق على أنّنا بحاجة إلى بلورة صوت مستقلّ يخاطب العالم والإدارة الأميركية بخاصة من موقع غير تابع، وأظنّ أنّ السعي إلى إقناع دبلوماسي ذي تاريخ مشرّف هو الدكتور الباججي بتولّي قيادة هذا التيار كان موفّقاً. لكن الإعتقاد بأنّ تياراً كهذا سيكون قادراً على فرض مواقف تدفع الإدارة الأميركية إلى تغيير مواقفها من العراق لن يكون مجدياً، ولعلّ ما نحتاج إليه وما يمكن أن يضيف جديداً هو تكوين هيأة موسّعة تقوم بإصدار دراسات جدية، ملموسة ومعمّقة تلعب دوراً تنويرياً لجمهرة المعارضين، أفراداً أو حركات، وتجمع حولها مئات المثقفين المتناثرين الباحثين عن فرص لوضع خبراتهم تحت تصرّف العراقيين الديمقراطيين، سواء كانوا أحزاباً أو حركات. ويمكن لهيأة كهذه، بل عليها، أن تكوّن قوّة ضاغطة، تكشف عن زيف أفكار سائدة وتوجّه إلى اتّباع سياسات أكثر قدرة على تفهّم الواقع العراقي والتعامل معه. ولعل هيأة كهذه يمكن أن تنشئ قناة توصل أفكارها إلى المثقّفين والمتنوّرين داخل العراق تساعدهم على بلورة مواقفهم بعيداً عن الشعارات. قلت لليث، إن تشكيلاً كهذا، في ظروفنا القائمة، أمر مرجّح. ولعل إسلاميين ديمقراطيين يمكنهم أن يتبنّوا الدعوة إلى تأسيس ما يشبه أحزاب الديمقراطية المسيحية الأوروبية.

لم يكن الباججي وأركان حركته، التي بات اسمها «التحالف الديمقراطي»، راغبين في تحشيد جمهرة المثقّفين الديمقراطيين لأسباب معروفة كما أظن. فقرارات معظم الحركات السياسيّة، إن لم يكن كلّها، يتم اتّخاذها من قبل حفنة من القياديّين، وربما من قبل قائد واحد. وليس من مصلحة حركات كهذه، إذاً، أن تضمّ إلى صفوفها جماعات مشاغبة تسبّب لها صداعاً عبر إثارة التساؤلات وإبداء التحفّظات والمطالبة بمناقشة المواقف قبل تبنّيها، لكنّها سترحّب، بالطبع، بدخول مثقّفين أفراد يحتلّون مواقع غير مؤثّرة. أحسستُ أن الطريق بات مسدوداً.

في ظل سلطة بريمر

حظوظ شبه معدومة باستثمار وجودي في المساهمة بنشاط ذي مغزى وحظوظ مستحيلة في توسيع نطاق ما نستطيع القيام به لإصلاح ماكنة الدولة المتهرئة من خلال مجلس الإعمار.

أخذ أنصار خط وزارة الخارجية من الأميركان بتبنّي حجة جديدة لتبرير تهميش دورنا: أننا قادمون من الخارج لا نعرف شيئاً عن المشاكل الفعلية التي تواجه البلد. لكنّ هذه الحجّة باتت نكتة ممجوجة. فمعظم الساسة الذين بدأوا يعدّون أنفسهم لتولّي الحكم جاءوا من الخارج، وبدهي أن دورهم كان أكثر أهمّية وحساسيّة بكثير من دور مجلس يُفترض أن يقوم أعضاؤه بأداء مهمّات فنّية، وهم الأولى بأن يعرفوا مشاكل العراق ورسم خطط حلّها. كما أنّ رئيس سلطة التحالف، السفير بريمر، لم يهمّش عراقيّي الخارج وأعضاء مجلس الحكم فحسب، بل إنّه قام بذلك مع عراقيي «الداخل» أيضاً. كان يدعو حوالى ثلاثين من الكوادر العليا والمسؤولين من الوزارات المختلفة بهدف «استشارتهم والاستماع إلى آرائهم». لكن أيّاً من تلك الاجتماعات لم يكن يستغرق أكثر من ساعتين. ولو افترضنا أن الجانب الأميركي لم يكن ينبس بحرف، فإن متوسّط الفترة المخصّصة لإبداء المسؤول العراقي رأيه كان أربع دقائق. وفيما يتعلّق بمجلس الحكم، فقد كان بريمر يمتلك سيفاً مسلّطاً استخدمه أكثر من مرة تمثّل في امتناعه عن توقيع أي قرار يتخذه المجلس إن اعترض عليه، الأمر الذي يجعله لاغياً. والطريف أنّ بريمر وأباطرة القصر الجمهوري كانوا يغضّون الطرف عن «عراقييهم» القادمين من الخارج ويوقّعون معهم عقوداً مجزية في مختلف المجالات، في حين أنتج إثنان وثلاثون من هؤلاء المنفيّين، الذين أُبعدوا حتى عن الأدوار الاستشارية، وثيقة ضخمة عن مستقبل العراق حملت، وفقاً لكثيرين ومنهم «النيويورك تايمز» المستنكرة لجهل أو تجاهل سلطة التحالف لها، تقييمات وتنبؤات دقيقة وتوصيات سليمة، منها التحذير من حلّ الجيش وتوقّع انفلات الأمن وانتشار عصابات الجريمة المنظّمة.

كانت العبارات المقولبة عن المعارضين المنفيّين المنقطعين عن الواقع ملهاة تستعملها الأطراف المتصارعة في داخل الإدارة الأميركيّة، إذ يتّهم كلّ طرف خصمه بالاعتماد عليهم لإنتاج صورة خاطئة عن الوضع العراقي. وأقول بكل موضوعيّة بأن اعتراضاتي الجديّة على هذا الضرب من التلاعب لا ينطلق من رغبة في الدفاع عن النفس أو تبرئة المعارضة من أمراض مزمنة جديّة عانت منها، فقد كان واحد من كلّ ثمانية عراقيين يعيش في الخارج، بعضهم غادر وهو طفل وآخرون غادروا مضطرين أو مختارين وهم في عمر النضج، بعضهم انخرط في نشاطه المهنيّ مبتعداً ومنقطعاً باختياره عن الهمّ العراقي، وآخرون ظلّوا، وهم يمارسون مهنهم أو يعانون من العطالة، معنيّين بالشأن السياسي بهذا القدر أو ذاك، بعضهم انتمى إلى حركات سياسيّة أبْقته على اتصال بما يحدث وآخرون تابعوا الأحداث عن بعد، بعضهم كان لتنظيماته امتدادات داخل العراق تنقل له نبض الشارع وتفاصيل ما يحدث وآخرون أنشأوا حركات صالونات، بعضهم خرج إلى المنفى بفعل نشاطه السياسي وآخرون خرجوا مختارين، بعضهم عاش في بلدان أمّنت لهم حداً أدنى من الأمان وسبل العيش وآخرون ألقتهم الحياة في بلدان نظرت إليهم بريبة في أحسن الأحوال.

ما الذي يجمع مَنفيّي/ لاجئي/ أسرى مخيمات السعودية الذين شاركوا في انتفاضة ١٩٩١ والبيشمركة (وكثير منهم كانوا مناضلين عرباً) ممن اضطرتهم عمليّات الأنفال الإجرامية واستخدام الأسلحة الكيمياوية إلى النجاة بجلودهم والخروج من العراق مع أصحاب رؤوس الأموال المقيمين في الغرب؟ لم تكن الأطراف الأميركية المتصارعة معنيّة بكلّ هذا. كان كلّ طرف يحيل علاقة الطرف الآخر بـ«منفيّيه» إلى سبّة. لكنّ أيّاً من الطرفين لم يكن مستعدّاً للاعتراف بأنّ يديه ملوّثتان بقدر تلوّث يدي خصمه. لذا لم يكن الصراع حول دور المنفيّين يدور حول ذاك الكمّ المهمَل الذي يقارب تعداده المليونين بل حول حركات سياسيّة لم ينخرط في أيّ منها، باستثناء حركات الإسلام السياسيّ الشيعيّ، أكثر من بضع مئات. هكذا وُضع مَن دعا من هؤلاء إلى شنّ الحرب واحتلال العراق مع من ناضل لفكّ الحصار وتمكين العراقيين من خوض صراعهم بأنفسهم في سلة اسمها «المنفيون». وفوق كل هذا وذاك، كان كل طرف أميركي وهو يوجّه اتهامه للآخر، يعتمد في الواقع على «منفيّيه». كان المنفيّون جاهلين بالتأكيد بكثير ممّا كان يجري، لكنّ أبناء وطنهم المقيمين الخاضعين للتعتيم الإعلامي البعثي لم يكونوا أقلّ جهلاً إذا تذكّرنا بأنّ الساتلايت والهاتف المحمول كانا بعيدين كلّ البعد عن العراقي كأنّهما وسائل اتصال بين سكّان الكواكب الأخرى.

مقال في الواشنطن بوست

صار السؤال الذي يلحّ علي: ما الذي يبرّر وجودك هنا؟ اتّصلت براجيف شانراسيكاران الذي سبق ذكره. كنت قد تعرّفت إلى الرجل مصادفة في الحافلة التي تقلّنا من مدخل القصر الجمهوري إلى مدخل المنطقة الخضراء المحاذي لمبنى وزارة التخطيط القديم وبالعكس، وهي المسافة التي كنّا نقطعها سيراً على الأقدام في البداية. يدخل راجيف إلى القصر من باب خلفيّ لم أكن قد اكتشفته قبل ذاك. منذ ذلك الوقت صار راجيف يتّصل بي بين حين وآخر للاستفسار عن شأن ما أو لكي ينقل لي خبراً ما. نقلت له تفاصيل الصراعات حول حدود التغيير التي يسعى كلّ طرف إلى إحداثها وأجواء الصراعات الجارية وانعكاسات ذلك على سياسات مسؤولي سلطة التحالف. وكان رأيي أنّ العراقيّين، لا أعضاء مجلسنا فقط، راحوا ضحيّة عوامل عدّة. فالانتصار العسكري السريع الذي حققه الأميركان ووصولهم إلى بغداد بسرعة مذهلة أسكرهم وجعلهم يعتقدون بأنهم قادرون على بناء الدولة التي يريدون بالسرعة نفسها ومن دون إشراك أحد. في منتدى المنامة الدولي الذي ينظّمه المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية التقيت السفير البريطاني آنذاك، وهو السير جيريمي غرينستوك، ممثل الدولة الأكثر التصاقاً بالموقف الأميركي والأكثر اندفاعا في تأييد موقفها من غزو العراق. قال لي بكل صراحة (ولابد أنه كرر القول في منتديات أخرى) بأن الأميركان كانوا يتّخذون القرارات المهمّة ويبلغونه بها فيما بعد مع أنه كان رسميا (أو اسمياً) نائباً لبريمر. أمّا العامل الآخر الذي دفع العراقيون ثمنا باهظا له فقد كان الصراعات العنيفة لا بين ممثلي وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية من جهة ووزارة الدفاع ونائب الرئيس ديك تشيني من جهة أخرى، بل بين العسكريين والمدنيّين كذلك. كنت واقفاً في باحة القصر حين جاء مَكيرنان، الجنرال ذو الثلاث نجوم (أعلى رتبة في الجيش الأميركي هي الجنرال ذي الأربع نجوم) يحيط به حشد من العسكريين وأخذ يصرخ بغضب: «ماذا يعرف هؤلاء البيروقراطيون الخرا الجالسون وراء مكاتبهم المكيّفة عن الوضع؟ ويريدوننا بعد ذلك أن نمتثل لقراراتهم». أمّا صراعات الخارجية والدفاع، التي سأتحدّث عنها بالتفصيل، فقد وصلت إلى مستوى صبياني. كنت وديفيد بيرس الذي عرفته مذ كان مشرفاً على ورشة مستقبل العراق والذي صار قنصلاً لبلده في القدس بعد أن أبعده البنتاغون، جالسين على سلالم القصر الخارجية. قلت له: «تكثرون من الحديث عن التركيب القَبَلي في العراق، لكنكم تتصارعون كقبائل. لم أر أحدً منكم يصافح آخر من «القبيلة» الأخرى. حتى في المطعم، يجلس أفراد كل قبيلة حول طاولات مستقلّة عن طاولات القبيلة الأخرى». ابتسم ليداري خجله.

بحكم عمله وعلاقاته، كان راجيف مطّلعاً على وقائع أكثر ممّا أعرف بالطبع، لكنّه أبدى اهتماماً بالتحليل الذي قدّمت وبالوقائع التي عايشتها ونقلتها له. في اليوم التالي، أو بعد يومين، اتصل بي راجيف طالباً أن أفتح موقع «الواشنطن بوست» على الإنترنت. لكنّنا، برغم تفضّل الـ MCI علينا بتوفير تلك الخدمة الثمينة، كنّا في بغداد التي تعتمد شبكتها على الأقمار الصناعية لا على شبكة محلّية، لذا لم أتمكّن من ذلك. حمل إليّ في اليوم التالي نسخة مطبوعة من العدد على صفحته الأولى مقاله الذي ينقل عن مصدر «لا يود ذكر اسمه (أي عنّي)» تفاصيل عن عملية التهميش هذه ويركّز على أن المستشارين الأميركيين حوّلوا مجموعة من خيرة الخبراء العراقيين إلى مترجمين ومرافقين لهم.

سيكتب راجيف في عام ٢٠٠٦ واحداً من أهم الكتب التي لاقت رواجاً كبيراً «الحياة الإمبراطورية في مدينة الزمرّد [إشارة إلى مدينة خرافية في رواية The Wizard of Oz]»، والذي سيصبح أساساً لسيناريو فيلم «المنطقة الخضراء» الذي صادف نجاحاً كبيراً هو الآخر. هل تنبّأ راجيف بأن مدينة الدولة العراقية ستتّخذ اسم المنطقة الخضراء فيما بعد؟

مذكّرة إلى بريمر

بعد يوم واحد بالضبط من نشر المقال وقبل أن أعرف أو يعرف غيري من العراقيين به، كان منسّق مجلسنا واقفاً في لوبي فندق الرشيد يحمل رزمة من استمارات معَدّة لكي يوقّعها أعضاء المجلس «أتعهد ألّا أعطي تصريحاً أو أن أجري مقابلة مع الصحافة من دون علم المجلس». مزّقت الورقة، وأظنّ أنّ هذا ما فعله كثيرون غيري.

في الثلاثين من حزيران/يونيو فوّضني عشرة أعضاء (أو أكثر) بكتابة مذكّرة إلى بريمر تطالب بأن يكون لنا دور جديّ في عملية إعادة البناء. ومع أنني صغت المسوّدة بإسلوب هادئ، طالبني الزملاء بالتريّث وإعطاء فرصة جديدة. كنت أعرف، مثل باقي الزملاء الذين توافقت مع رؤيتهم بأنّنا لن نتسلّم ردّا جديّاً. لكنّ الإمتناع عن الرد سيكون، وفق حلمي، فرصة لكي ندعو إلى مؤتمر صحافي نعلن فيه استقالتنا بشكل جماعيّ، ممّا سيطلق قنبلة إعلاميّة تحرج سلطة الائتلاف وتثير الرأي العام ضد الإدارة الأميركية التي ظلّت تكرّر أنّ هدف غزوها هو إقامة سلطة يديرها الشعب. لم يكن الأصدقاء متجاوبين مع رأيي لأسباب مختلفة. وحين أخبرتهم بعزمي على الاستقالة أكّدت لهم قناعتي، التي لا أزال مؤمناً بها، بأنّني لست أكثر جرأة أو وطنيّة أو زهداً من أيّ منهم. لكنّ قناعتي أوصلتني إلى اتّخاذ هذا القرار.

زرت سيرجيو فيرا دي ميللو، ممثل الأمم المتحدة في العراق. كان البقاء في بغداد قد صار قضية تحدّ بالنسبة لي. ليس الأميركان من يقرّرون بقائي في بلدي. أعتقد أن دي ميللو كان قد اطّلع على مقال الواشنطن بوست قبل أن ألتقي به، فقد أشعرني بأنّه يعرف موقفي. رحّب بي قائلاً إنّه يتذكّر مساهمة لي في ورشة كان قد نظّمها لسماع مقترحات مختصين حول القوانين التي ينبغي تشريعها لضمان التزام الحكومة العراقية بمبادئ حقوق الإنسان. في تلك الورشة، صدمني انفعال أحد المساهمين حين اعترض بعنجهيّة ابتلانا بها تاريخ سحيق: «لسنا بحاجة إلى من يعلّمنا مبادئ حقوق الإنسان. نحن من وضع شرائع حمورابي»! اكتفيت بتوجيه سؤال: «إن كانت شرائع وضعها حمورابي قبل آلاف السنين حقنت جيناتنا بالتمسّك بحقوق الإنسان، فكيف أذعنّا لطاغية سحق أبسطها بجزمته؟». يبدو أن دي ميللو ظلّ يتذكّر هذه الملاحظة، لكنّه دبلوماسي دولي لا يجوز له أن يعلن موقفاً مؤيداً أو معارضاً بشكل صريح.

bid14-p96-97.jpg


جندي أميركي داخل أحد قصور صدام حسين في أيار / مايو ٢٠٠٣، تصوير ليندسي أداريو

تعامل معي بودّ ظاهر، مع أنه لم يشر قطّ إلى تأييده أو استنكاره لقراري بالاستقالة. لمّح بحذر إلى ترحيبه بالعمل في الممثلية «إذا كنتَ مصرّاً على ترك موقعك». في كافتيريا الفندق التقيت نائبه وزميلي د.غسان سلامة الذي تولّى منصب وزير الثقافة في لبنان فيما بعد. استمع لي غسّان بودّ، برغم توقّعي أن يعترض الأميركان على ذلك. كنت شديد السعادة بالعرض، بل إنّ هذا هو ما دفعني لطلب اللقاء به مع أنّني لم أصرّح له بذلك. ولا بدّ أنّه أحسّ بما جئت من أجله. قضى القدر على أمنيتي حين دمّر انفجار «فندق القنال» الذي كان مقر ممثلية الأمم المتحدة في العراق. كان دي ميللو من ضحايا تلك الجريمة.

زيارة وفد صديق

تحوّل مشروع المذكّرة التي كنّا نخطّط لأن تحمل عشرة تواقيع على الأقل، والتي كان هدفها الضغط على بريمر، إلى مشروع رسالة استقالة مفتوحة مذيّلة بتوقيعي فقط. كانت صيغة الرسالة عنيفة وهجومية هذه المرّة. ويعود الفضل في تغيير لغتها، لا محتواها، إلى الدكتورين أندرو باراسليتي وبَنيت تالوار. كان هذان، ومازالا، صديقين حميمين لي.

تعرفت إلى الأول حين جاء إلى دمشق مع صديقته ميشيل براوز عام ١٩٩٢ ليدرسا العربية تمهيداً لإعداد أطروحتيهما للدكتوراه. كانت أطروحة أندرو عن الحرب العراقية ــ الإيرانية وأطروحة ميشيل عن الفكر العربي النهضوي. عرفت ميشيل متدرّبةً في مجلة «تقرير الشرق الأوسط» MERIP التقدّمية التي كنت أساهم في الكتابة لها بانتظام وتشرّفت فيما بعد حين وضعت المجلة اسمي، إلى جانب أسماء مثل إدوارد سعيد وفريد هاليداي وآخرين، ضمن مجلس تحريرها. لذا فقد شعرت منذ البدء بأنّني أتعامل مع أصدقاء أطمئنّ لهم. في تلك الفترة كان عشرات من طلاب الدراسات العليا الأميركيين، فضلاً عن أكاديميّين بارزين وغير بارزين وإعلاميين وممثلين لمنظمات حقوق إنسان وغيرهم يتوافدون إلى دمشق. وكان كثير منهم يتصل بي حاملاً رسائل توصية من زملاء أثق بهم لكي أساعدهم، وهو أمر كنت أقوم به بحماسة بسبب خلفيّتي واهتماماتي الأكاديميّة وبسبب همومي المتعلّقة بالشأن العام، ممّا كان يبعدني عن محترفي السياسة. بعض هؤلاء الدارسين اختار الاستمرار في العمل الأكاديمي ليصبح أستاذاً جامعياً أو عاملاً في مركز أبحاث، وآخرون، مثل أندرو وبنيت، اختاروا العمل في الحقل العام. صار بَنيت، ذو الأصل الباكستاني، يوصف بأنه ألمع كوادر لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، وكان يرأسها جو بايدن نائب الرئيس الأميركي حالياً، أما أندرو فكان مساعداً لسناتور ولاية نبراسكا تشاك هيغل، وزير الدفاع الذي استقال قبل فترة قصيرة. إذن، لم يكن الإثنان سياسييَن بالمعنى الحرفي للكلمة، بل كانا اختصاصيّين وظّفا خبرتهما في هذا المجال. وغالباً ما كان أشخاص مثل هذين شديدي الفاعلية حين يقدّمون توصيات لسياسيين لا يعرفون شيئاً عن العالم الخارجي.

لم تنبَن علاقتي مع الإثنين على أساس آيديولوجي. كان الإثنان، مثل غيرهما ممّن ربطتني بهم علاقات جيدة، «وطنيين» أميركيين إن صحّ التعبير. وبسبب تخصّصهما في العلاقات والسياسة الخارجية كانا ينظران إلى السياسة الأميركية بعين نقدية حادّة: نعم، علينا أن ندافع عن حق إسرائيل بالبقاء، ولكن لماذا ندافع عن احتلالها لأراضي ما بعد ١٩٦٧؟ ولماذا نطالب الآخرين باحترام القرارات الدولية ولا نطالب إسرائيل بذلك؟ لماذا نصوغ سياستنا تجاه الشرق الأوسط من منظار المصالح الإسرائيلية لا الأميركية؟ نعم، لدينا خلافات عميقة مع إيران، ولكن لماذا لا نعترف بأخطائنا تجاهها قبل أن نطالبها بتغيير موقفها العدائي ضدّنا؟ نعم، يجب أن نقف بحزم ضد نظام صدّام حسين، لا بسبب امتلاكه لأسلحة دمار شامل لم يثبت وجودها، بل لأنّه مارس قمعاً لا يقلّ وحشيّة عن النازيين تجاه شعبه وجيرانه. ولكن لماذا لا نساعد الشعب العراقي على إزاحته عوض التفكير باحتلال البلد؟ (بسبب مواقف كهذه، سيخضع تشاك هيغل لاستجواب عسير من جانب مجلس الشيوخ قبل إقرار تعيينه وزيراً للدفاع).

لمن توجيه رسالة الاستقالة؟

جاء الإثنان إلى بغداد في نهاية حزيران/يونيو في مهمّة كلّفهما بها الكونغرس لمعاينة الوضع العام على الطبيعة. رتّبت لهما بضع زيارات، مع سياسيين أعرفهم ولا أعرفهم، رافقتهما إلى جامعة بغداد ومقرات بعض الصحف وزرنا، إلى جانب الشابندر، مقاهي شعبية عدّة. طلبا منّي المساعدة على تدبير زيارة إلى النجف والسعي للقاء آية الله السيستاني، فاتّصلت بالزميل سامي العسكري الذي طلب من عدنان الزرفي، وكلاهما كانا من زملائي في مجلس إعادة الإعمار، مرافقتهما وتأمين طلبهما. ثم عادا إلى واشنطن ليكتبا تقريراً نقديّاً حاداً حول مجريات الأمور.

أثناء زيارة أندرو وبنيت هذه، أبلغتهما قراري بالاستقالة. كانا شديدي التأثر والإعجاب بهذا القرار. أطْلعتهما على مسوّدة الرسالة التي أعددْت، فأيّدا كل ما جاء فيها وبإسلوبها اللغوي (كان أندرو يقول على الدوام: ليتني، وأنا الأميركي، أمتلك أسلوبك في الكتابة). كانت الملاحظة الجوهرية هي: لمن توجّه رسالتك؟ وهل تريدها مؤثّرة في صانعي السياسة الأميركان، أم مجرّد فضح إعلاميّ يضاف إلى آلاف المقالات التي تهاجم ما يجري؟ أنت في داخل المطبخ. وكونك أوّل من يتركه سيكون له تأثير كبير إن صيغت الرسالة بروحية تشي بأنك جئت مؤمناً بالعملية لا مرغماً على المجيء وأنت الرافض للحرب أصلاً. اقتنعت برأيهما، لا لأنني أثق بحسن نواياهما فحسب، بل لأنهما في داخل المطبخ الأكبر، مطبخ واشنطن. ولأنّهما في داخل المطبخ الأكبر، فقد كان مقترحهما الثاني ماكراً على أجمل ما يكون: لا توجّه رسالة الاستقالة إلى موظّف صغير، هو المنسّق العراقي للمجلس. سيبدو ذلك شكوى ضدّه لا ضد الإدارة الأميركية. بل لا توجّهْها إلى بريمير، إذ ستبدو شكوى ضد مسؤول كبير موجّهة إلى رؤسائه. وجّهها مباشرة إلى وزير الدفاع المفوّض بول وولفويتز، فالمجلس يتبع مكتبه مباشرة وبريمر معيّن من قبل وزارة الدفاع. الإحتجاج سيبدو عند ذاك احتجاجا على السياسة الأميركية لا على إدارة أو سياسة شخص ما. وهكذا كان!

الاستقالة إلى بول وولفويتز

في التاسع من تمّوز ذهبت إلى مكتب بريمر وطلبت من مديرة مكتبه إيصال رسالتي إليه شخصياً. كانت الرسالة موجّهة إلى وولفويتز و«نسخة منه إلى السفير بريمر، ونسخة إلى السيد منسق المجلس». تجوّلت في مداخل القصر والشارع الرئيس الرابط بينه وبين مدخله المفضي إلى وزارة التخطيط لألتقط بعض الصور. وجّهت الكاميرا إلى خمسة جنود. ابتسموا وسألني أحدهم عن سبب التقاطي الصور. قلت له إنني سأغادر غداً. اندفع الجنود لتهنئتي. ظنّوا أنني عسكري انتهت مهمته. كانوا كارهين للحرب يتمنون أن تنتهي مهمّتهم كما انتهت مهمّتي. اكتشفت بعد عودتي أنّ الكاميرا لم تتحمّل حرارة تمّوزنا فضاعت الصور. هكذا ودّعت كاميرتي بغداد.

أدناه أهمّ ما في الصيغة التي عرضت تقديمها باسم المجموعة «المتمرّدة»، وأضع بين أقواس التعديلات التي أدخلتها في رسالة الإستقالة الموجّهة باسمي فقط:

٩/٧/٢٠٠٣

... لقد مضى ما يقرب من أربعة أشهر منذ أن تشكلت المجموعة الأولى من بعض أهم المختصين والخبراء العراقيين في مجالات مختلفة، وكثير منهم موقّعون على هذه الرسالة، في صيغة المجلس العراقي لإعادة الإعمار والتنمية... [وهو مشروع استهلكت، أنت شخصياً، الكثير من الوقت والموارد... لتنفيذ التعهد بأن يتمكّن العراقيون من أخذ مصيرهم بأيديهم]. كنّا نشعر أننا أبعد ما نكون عن لعب دور مستشارين بالمعنى الدقيق للكلمة... لم تكن أدوارنا كمستشارين لحكومة انتقالية مقبلة طوال الأشهر التحضيرية التي قضيناها في واشنطن موضع تأكيد فحسب، بل أكّدتها كذلك تصريحاتك خلال زيارتك لمكاتب المجلس في نيسان/أبريل الفائت. كما شجّعتني دعوتك لي إلى مكتبك، بالرغم من جدول أعمالك المزدحم، للاستماع إلى آرائي بشأن الوضع في العراق.

ولم تتح لأي عضو من أعضاء المجلس فرصة عضوية أي لجنة للمناقشة أو لإعطاء المشورة في أي مجال من مجالات تغييرات السياسة الرئيسة التي ستكون لها عواقب عميقة الأثر على بلدنا ومنطقتنا. وباستثناء بعض النقاشات الفردية غير الرسمية مع عدد منّا، لم يُطلب من أي عضو من أعضاء المجلس إبداء الرأي في قضايا كبرى مثل كيفية السير بدقّة في عملية اقتلاع البعث، أو حلّ الجيش وإنشاء جيش جديد، أو حل أجهزة الأمن وإقامة أجهزة بديلة، أو آليّات دفع الرواتب وحصص التقاعد والإجراءات الملحّة لإيجاد وظائف وتقليص البطالة، أو إصدار عملة جديدة ومكافحة التضخّم، أو مخطّطات الخصخصة وإقامة شبكات حماية اجتماعية، أو الخطوات الملحّة لتسليم بعض من السلطة السياسيّة للعراقيين، أو إقامة نظام عدالة انتقالية، وكل هذا ليس إلّا بعضاً من القضايا المطروحة. ولسنا، أيْ من يُفترض أن نكون في مركز عملية صنع القرار، الوحيدين الذين نشعر أنّنا في العتمة، بل كذلك يشعر العراقيون بعامّة وهم يرون قرارات كبرى تُتخذ مؤثرة في حياتهم ومستقبلهم. [لاعجب إذن، أنّ المجلس كجسم متماسك آخذ بالتحلّل نتيجة انعدام الكفاءة وسوء الإدارة].

وبعد أن استنفدنا كل الوسائل لنقْل مشاعر خيبتنا وإحباطنا إذ نجلس عاجزين فيما تتكاثر المشاكل والتهديدات التي تجابه بلدنا، نشعر بأسف شديد إذ نقول بأنّ كتابة هذه المذكّرة قد تكون فرصتنا الأخيرة لنناشدك التدخّل مباشرة لكي تغيّر جذرياً النزوع الممنهج لتجاوز العراقيّين، وهو ما يجعل عملنا ضمن سلطة التحالف الموقتة نافلاً. [وإذ حاولت أن أنقل مشاعر خيبتي وإحباطي إذ نجلس عاجزين فيما تتراكم المخاطر والمشاكل التي تجابه بلدنا، وهي مشاعر يشاركني فيها عديد من أعضاء المجلس، إنْ جاز لي القول، فإنّنا ننزلق بسرعة من موقع الديمقراطيين الساعين إلى تنفيذ آمالنا بإعادة إعمار بلدنا إلى متعاونين مع قوة احتلال. لذا أشعر بحزن عميق إذ أقدّم استقالتي وأن أناشدك بالتدخّل الشخصي المباشر لإحداث تغيير جذريّ].

الاستقالة في الصحافة

انفجرت القنبلة أوّلاً في كندا! ما إن غادرتُ العراق، حتى اتّصلت بكاتي إنكلش، كبيرة مراسلي جريدة «غلوب آند ميل» الكندية. منذ كنت في واشنطن في الطور التأسيسي للمجلس، كانت كاتي، التي لا أعرف كيف توصّلت إلى اسمي وتعرّفت على مواقفي، تتّصل بي بشكل شبه يومي لتتابع ما يجري، فقد كنت معنيّاً بإيصال الوقائع والتحليلات من منظور مختلف عن منظور المحافظين الجدد. وبحكم جوّ الثقة الذي تبلور بيننا، صارت تطْلعني هي الأخرى على ما تعرف من أخبار. أوصلت لها نص الرسالة. كنت منهكاً، فطلبت منها أن ترسل لي مسوّدة مقالها إذ ليس بوسعي الحديث معها مطوّلاً. وأكّدت على ضرورة أن تشير في البدء إلى أنها حصلت على نصّ الرسالة من «مصادر في داخل سلطة التحالف الموقّتة» وليس منّي.

وضعت بين أقواس ملاحظاتي على مسوّدة مقالها. أوردها هنا ليتعرّف القارئ على الصراط المستقيم الذي ينبغي السير عليه إن كنت تريد لعب دور معارض متجنّباً في الوقت نفسه مصيدة الوقوع في مطبّات قانونية يتشوّق خصومك إلى إيقاعك بها.

جاء العنوان: وعود مخروقة

أقتطف من رسالة استقالتي التي نشرتْها «غلوب آند ميل»: «... أقدّم لكم الإستقالة بحزن شديد. لكنّني إذ أفعل، فسيكون بوسعي مغادرة العراق بضمير مرتاح. ولو بقيت أكثر من ذلك، لما كان بوسعي قول ذلك. لقد خشيت من أنّ دوري في مجلس إعادة الإعمار، الذي تصوّرته في البدء عملاً مع حلفاء بطريقة ديمقراطية، أخذ ينزلق إلى دور المتواطئ مع الاحتلال. ومع أنّني أوّل من قدّم استقالته والوحيد حتى الآن ملاحظة مني: كاتي، الرجاء الإشارة إلى أنّ هناك نحو عشرين عضواً ربّما يفكرون، بدل تعبير «يفكّرون» بنفس الطريقة.

ملاحظة أخرى: أعرف أن أسلوب صياغتي أخرق، لكنّ استخدام عبارة «ربّما» يعفيني ويعفيهم من مسؤولية إعلان عدم تأييدهم لما أقول. لقد شعرت بأنني أساوم على معتقداتي. ولو بقيت أكثر من ذلك، فلن أكون هناك إلّا لكسب راتب ضخم. أضيفي رجاءً «ونقلا عن مصادر من خارج المجلس» مع أنّ أعضاء المجلس كانوا جاهزين للانتقال إلى بغداد حتى قبل سقوط نظام صدّام حسين، فقد تعمّد اللواء جاي غارنر، حاكم العراق السابق، إبقاءهم يتعفّنون في واشنطن وفي الكويت.

(متابعة رسالة الاستقالة). كان فهمي لوظيفة المجلس قائماً على أن يكون جسماً يعمل مع سلطة التحالف الموقّتة للمساهمة في إدارة الوزارات، لا كوزراء، بل كمستشارين. كان هدفنا إعادة بناء البنية التحتية المدمّرة: الكهرباء، المستشفيات، شبكات المياه، الطرق وإيصالها إلى ما كانت عليه قبل الحرب على الأقلّ بحيث تتمكّن حكومة انتقالية من تسلّم السلطة. عدت إلى العراق مدركاً أنّنا بلد مهزوم مثل ألمانيا عام ١٩٤٥، مستعدّاً للعمل مع الولايات المتحدة لإخراج بلدي من هذا المستنقع. لكنّ الولايات المتحدة لم تسمح لنا بالقيام بهذا الدور.

كاتي من جديد: رسالة استقالتي ليست علنيّة لنفس الأسباب. إذن ضعيها بالصيغة التالية: وكما نقلت «الواشنطن بوست» عنه، بأنه يبدو [فقط يبدو] أنّهم ليسوا مهتمّين بقيام العراقيين بهذا الدور. الإكثار من النقل الحرفي للرسالة يعني أنها مسرّبة بالنص. مثلاً، أشار مراسلون إلى أن أعضاء المجلس لديهم مكتب فخم لكنّهم يقضون وقتهم في تبادل الإيميلات.

«لم أرد أن أكون متواطئاً»

لقد شعر معظم العراقيّين بارتياح كبير لسقوط صدّام. لكنّ الأميركان جاؤوا متعجرفين. ومن المحزن، وأظنّ أنّ الفرصة ضاعت على العراقيين والأميركان، أن العراقيين لا يرون الآن غير الوجه العسكري للأميركان.

إنّ العراق اليوم في فوضى شبه تامّة، ولا يعرف أحد ما الذي يجري. لا أتحدّث هنا عن النظام السياسي المثالي، فأسئلة الناس تدور حول الأمن والكهرباء. ليس بوسعهم أن يفهموا لماذا لايستطيع أحد حتى إعادة الكهرباء. إنهم لايصدّقون أنّ قوّة عظمى بوسعها حشد كلّ هذه القدرة العسكرية لا تستطيع إعادة الكهرباء. بل، وما هو أسوأ من ذلك، فإنّ الناس يقارنون بين كفاءة صدّام في إعادة الكهرباء بعد حرب ١٩٩١ وبين عجز الولايات المتحدة!

ثمّة أنواع لاتحصى من نظريات المؤامرة. يتساءل الناس إن كانت الولايات المتحدة لا ترغب بإعادة الكهرباء مثلا... لقد شكّل السيد بريمر الآن مجلسا للحكم. ثّمة شيعة يجلسون مع السنّة والأكراد والتركمان والأشوريين، لكنّني أخشى أن يكون أعضاء هذا المجلس، باستثناء الأكراد، لا قاعدة شعبية واسعة لهم... ولكي ينجحوا، عوض تحريض أحدهم على الآخر، عليهم اتخاذ موقف موحّد يقول للسيد بريمر «هذا ما يريده العراقيون» فالرجاء إبلاغ هذا الموقف لواشنطن. أعطونا سلطة كاملة وسنطلب مشورتكم حين نحتاج إليها... آمل أن يأتي اليوم الذي أستطيع فيه العودة إلى العراق. أنا مشتاق له منذ الآن».

تبعات ونتائج

في اليوم التالي نقلت «الغارديان البريطانية» نص المقال، ونشرته في موقع بارز، مغيّرة العنوان إلى: لم أرد أن أكون متواطئاً. أعادت عشرات المواقع والصحف نشره وترجمته فيما بعد.

لم تمض أيّام حتى اتصل بي مُعدّا برنامجين في هيئة الإذاعة البريطانية. البرنامج الأول هو Hard Talk الشهير الذي يبلغ متوسط مشاهديه خمسة عشر مليوناً، والآخر إذاعيّ اسمه «الاختيار» يبثّ خمس عشرة حلقة سنوياً يختار في كل منها شخصية مرّت بتجربة اضطرتها إلى اتّخاذ موقف صعب. في الأول تُثار أسئلة متحدّية تتناول تجربتك وتقييمك لتلك التجربة وآراءك في الوضع القائم وتقديرك لما ستؤول إليه الأمور. أمّا البرنامج الثاني الأقل جماهيرية فكان الأحبّ إليّ. طلب مني معدّ البرنامج الحديث عن خياري الصعب بالاستقالة من مجلس إعادة الإعمار, قلت له: هل تريد إعداد حلقة تتعلّق حقاً بخيار صعب اضطررت إلى اتخاذه؟ اتّخذت قرار الاستقالة، الذي كان صعباً بالفعل، بضمير مرتاح. ليكن البرنامج حول واحد من أصعب القرارات، إن لم يكن أصعبها، التي اتّخذتها طوال حياتي وهي حياة مليئة بمصاعب وتحدّيات لم أخترها. ليكن موضوع البرنامج: كيف اتّخذ إنسان تقدمي وقَفَ ضدّ الحرب وإدارة بوش، التي وصفها بأنها الأكثر عدوانية ويمينيّة في تاريخ أميركا الحديث، قرارَ التعامل معها؟

هل أخطأت أم لا؟

يقال إن البرنامج كسب عدداً كبيراً من المستمعين. وأقول بكل صدق، وقد مضى على كل ذلك عقدٌ من الزمان، إن أهمّ مشاهد لمقابلتي في برنامج «هارد توك» لم يكن الساسة والمتابعون الغربيون الذين أرسلوا لي ولهيئة الإذاعة البريطانية عشرات (مئات؟ لا أريد التباهي) الرسائل، بل ذلك العراقي الثلاثيني الذي لا أعرف إسمه.

حين عدت إلى بغداد بعد شهرين كنت أتسوّق في سوبرماركت «المطبخ الشرقي» في حي الجامعة. تأمّلني الرجل جيّداً، ثمّ هتف: «أنت دكتور عصام الذي ظهر في هارد توك. لقد رفعتَ رأسنا». تدمع عيناي حتّى وأنا أكتب هذا بعد عقد كامل. شعرت حينذاك بأن «تعاملي مع الاحتلال» كان ضرورياً بالفعل، وتأكدت أنّني لم أخطئ حين «تعاملت». نسيت ردود فعل كثيرة، بعضها بالغ في كيل المديح وأكثر منها كال السباب، لكنّ رجلَ حيّ الجامعة هزّ مشاعري.

وثمّة حالات أخرى لم يكن تأثيرها العاطفيّ علي أقلّ منه.

بضع ساعات من الفراغ أمامنا، وئام وأنا، قبل أن يحلّ موعد الطائرة من لندن بعد أن ساهمت في ندوة نظّمها المعهد الملكي للدراسات الدولية Chatham House. قرّرنا التسكّع في المحلات القريبة من الفندق ودخلنا إلى متجر لبيع الألبسة الرجالية. لم يكن في ذهني شراء شئ، لكنّنا وقفنا أمام صفّ من البدلات. جاء صاحب المتجر مصرّاً على إهدائي البدلة التي تعجبني. قال إنّه شاهد لقائي في نشرة أخبار العاشرة في القناة الثانية لـ«بي بي سي» ليلة أمس، وكرّر العبارة ذاتها: «لقد رفعت رأسنا». (ليطمئن القارئ! لم آخذ البدلة!). كان وقْع العبارة أشدّ أثراً هذه المرّة. فآيشتي، الذي كنت واثقاً من كرديّته بسبب الاسم الذي يعني السلام بالكردية، كان يهوديّاً عراقياً.

في برنامج «الاختيار»، وصفت بأمانةٍ المحنة التي مررت بها. تخيّلت أصدقائي ومعارفي العراقيين والعرب والأجانب، تلاميذي في الجامعة الذين حرّضتُهم على النزول في مظاهرات ضدّ الحرب، قرّاء مقالاتي ودراساتي، هل سيعتقدون أنّي خذلتهم؟ هل سيظنّون أنّي خنت مبادئي؟ وصفت شعوري إذ حسمت الأمر. لن أنسى رأي زوجتي وئام وابني سالار، وكان عمره ثمانية عشرة عام فقط: «الحرب والإحتلال آتيان سواء شئت أم أبيت. ولستَ من قرّر إشعالها أو القادر على إطفائها. بوسعك الجلوس أمام شاشات التلفزيون والتفرج على الـ«سي إن إن» ولعْن الأميركان، لكن بوسعكَ لعب دور مهما كان بسيطاً». وهكذا كان. وعدتهما ووعدت نفسي بأن أعترف بخطئي بشجاعة إن أحسست بذلك. وخطّطتُ سلفاً لأن أعود وأكتب مقالاً في صحيفة «الحياة» لا أزال أذكر العنوان الذي كنت سأختاره له: «أخطأت، وهذه هي الأسباب». لكنّني، وبكل صدق، لا أشعر أنني أخطأت. أشعر أنه كان علينا، أقصد العراقيين المنخرطين في العمل الوطنيّ، أن نحاول فعل شيء وأن نكون شهوداً من الداخل على ما يجري، وأن ننقل الحقيقة إلى العالم، إن أتيحت الفرصة لنا. وفي أسوأ الأحوال، لنقلْ لهذا الجمع المتغطرس من مراسلي أهمّ القنوات التلفزيونية والصحف العالمية، إننا نعرف ما يجري في بلدنا أكثر منهم، وإنّ بوسعنا نقْل صورة أكثر صدقاً ممّا يشعر به الناس وما يعيشونه.

إذا كان قرار الانضمام إلى مجموعة المجلس صعباً بالنسبة لي، مع أنّي أشعر بالسعادة لأنّني رشحت عدداً من الكفاءات الوطنيّة للانضمام إليه ونجحت في ذلك، فقد كان قرار الإستقالة صعباً هو الآخر. ولعلّ وصفي السابق لتبلور ذلك القرار يلقي ضوءاً على عالم سلطة التحالف الموقّت وعلى الكيفية التي تعاملت جهات عراقية مختلفة معها، وبالتالي على مواقف من استشرتهم بشأن الاستقالة.

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦
من ديمقراطيين إلى متعاونين مع قوة احتلال

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.