العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

الرسالة الثانية من الإسلام

النسخة الورقية

الرسالة الأولى

الرسالة الأولى هي التي وقع في حقها التبيين بالتشريع وهي رسالة المؤمنين. والمؤمنون غير المسلمين، وليس الاختلاف بين المؤمن والمسلم اختلاف نوع، وإنما هو اختلاف مقدار، فما كل مؤمن مسلم، لكنّ كلّ مسلم مؤمن.

والإسلام بداية، ونهاية. فكما أن الزمان والمكان لولبيان، فكذلك الأفكار، فإنها لولبية، يسير الصاعد في مراقيها في طريق لولبي، يرتفع في المراقي كلّما يدور على نفسه، حتى إذا تمت دورة على نقطة البداية ارتفع السالك سمتاً فوقها، وجاءت نهاية تلك الدورة على صورة تشبه البداية، ولا تشبهها. وكذلك الحال، فإن السالك في مراقي الإسلام يسير على معراج لولبي، ينضمّ نحو مركزه، كلما ارتفع نحو قمته، ويدور على نفسه دورة، كلما رقي في سبع درجات، أولها الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، ثم علم اليقين، ثم عين اليقين، ثم حق اليقين، ثم، في نهاية الدورة، الإسلام.

وأمة البعث الأول ــ أمة الرسالة الأولى ــ اسمها المؤمنون، لدى الدقة، وإنما أخذت اسم المسلمين، الذي ينطلق عليها عادة، من الإسلام الأول، وليس، على التحقيق، من الإسلام الأخير.

وأنت حين تقرأ قوله تعالى «إن الدين عند الله الإسلام» يجب أن تفهم أن المقصود الإسلام الأخير، وليس على التحقيق، الإسلام الأول، ذلك بأن الإسلام الأول ليست به عبرة، وإنما كان الإسلام الذي عصم الرقاب من السيف، وقد حسب في حظيرته رجال أكل النفاق قلوبهم، وانطوت ضلوعهم على بغض النبي وأصحابه ــ ثم لم تفر ضلوعهم عن خبئها، وذلك لأن المعصوم قد قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا، عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها، وأمرهم إلى الله». ولقد نشأ الإسلام بين القريتين، مكة والمدينة: بدأ في مكة، فلما انهـزم فيها هاجر إلى المدينة، حيث انتصر. وما كان له أن ينتصر في مكة، ولم ينتصر «وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون».

إسلام المُسلمين وإسلام المؤمنين

ما انتصر الإسلام، وإنما انتصر الإيمان. ولقد جاء القرآن مقسما بين الإيمان، والإسلام، في معنى ما جاء إنزاله مقسماً بين مدني، ومكي. ولكل من المدني والمكي مميزات يرجع السبب فيها إلى كون المدني مرحلة إيمان، والمكي مرحلة إسلام.

فكل ما وقع فيه الخطاب بلفظ «يأيها الذين آمنوا» فهو مدني، ما عدا ما كان من أمر سورة الحج، وكل ما ورد فيه ذكر المنافقين فهو مدني، وكل ما جاء فيه ذكر الجهاد، وبيان الجهاد، فهو مدني، هذا إلى جملة ضوابط أخرى.

وأما المكي فمن ضوابطه أن كل سورة ذكرت فيها سجدة فهي مكية، وكل سورة في أولها حروف التهجي فهي مكية، سوى سورتي البقرة، وآل عمران، فإنهما مدنيتان، وكل ما وقع فيه الخطاب بلفظ «يأيها الناس» أو «يا بني آدم» فإنه مكي، سوى سورة النساء، وسورة البقرة، فإنهما مدنيتان وقد استهلت أولاهما بقوله تعالى «يأيها الناس اتقوا ربكم» وفي أخراهما «يأيها الناس اعبدوا ربكم» والشواذ عن الضوابط، بين المكي والمدني، إنما سببها التداخل بين الإيمان والإسلام، فإنه، كما ذكرنا، كل مؤمن مسلم في مرتبة البداية، وليس مسلماً في مرتبة النهاية، وكل مسلم مؤمن، ولن ينفك.

والاختلاف بين المكي والمدني ليس اختلاف مكان النزول، ولا اختلاف زمن النزول، وإنما هو اختلاف مستوى المخاطبين. فيأيها الذين آمنوا خاصة بأمة معينة. ويأيها الناس فيها شمول لكل الناس. فإذا اعتبرت قوله تعالى «لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم» ــ وقوله تعالى «إن الله بالناس لرؤوف رحيم» وأدركت فرقاً، فاعلم أنه الفرق بين المؤمن والمسلم، وهو مستوى كل من الخطابين. وورد خطاب المنافقين في المدينة، ولم يرد في مكة، مع أن زمن النزول في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة عشر سنوات، أو يقل، وذلك لأنه لم يكن بمكة منافقون. وإنما كان الناس إما مؤمنين، أو مشركين، وما ذلك إلا لأن العنف لم يكن من أساليب الدعوة بل كانت آيات الإسماح هي صاحبة الوقت يومئذ، «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين» وأخواتها، وهن كثر.

وحين تمّت الهجرة إلى المدينة، ونسخت آيات الإسماح، وانتقل حكم الوقت إلى آية السيف، ونظائرها، «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم، واحصروهم، واقعـدوا لهم كل مرصـد، فإن تابوا، وأقامـوا الصلاة، وآتـوا الزكاة فخلـوا سبيـلهم، إن الله غفور رحيم». ودخل الخوف في ميدان الدعوة، واضطرت نفوس إلى التقية، أسرّت أمراً وأعلنت غيره، ودخل بذلك النفاق بين الناس.

وكون ذكر الجهاد، وبيان الجهاد، من ضوابط الآيات المدنية، لا يحتاج إلى تعليل.

وأما كون المكية من ضوابطها ذكر السجدة، فذلك لأن السجدة أقرب إلى الإسلام منها إلى الإيمان. وفي حديث المعصوم: «أقـرب ما يكـون العبـد لربه وهـو ساجد»، وفي القـرآن الكريم «اسجد واقترب» وفيه سر عظيم من أسرار السلوك إلى منازل العبودية.

ومنها أن تفتتح السوَر بحروف التهجي، وهذا باب عظيم، وفيه سر القرآن كله، والحديث عنه لا يتسع له هذا المقام، وإنما نكتفي منه بما نحن بصدده من بيان الفرق بين رسالتي الإسلام.

الرسالة الثانية

الرسالة الثانية هي الإسلام، وقد أجملها المعصوم إجمالا، ولم يقع في حقها التفصيل إلا في التشاريع المتداخلة بين الرسالة الأولى وبينها، كتشاريع العبادات، وكتشاريع الحدود، قال تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً» هذا اليوم يوم عرفة، من حجة الوداع، في السنة الثامنة من الهجرة، وقد كان يوم جمعة. وهذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن. وهي قمّة رسالات السماء.

الإسلام لا يمكن أن يكمل

وهو إنما رضي لنا الإسلام دينا لنرضاه، فإن أمراً لا يبدأ من طرفه هـو، لا يبدأ من طرفنا نحن. قال تعالى «ثم تاب عليهم ليتوبوا». وقد ظن كثير من الناس أن قوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم» تعني أن الإسلام كمل عند الناس، وانتهى إلى قمة كماله يومئذ. وهؤلاء، حين يقرأون قوله تعالى «وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم» يعتقدون أن تبيين القرآن قد تمّ، وليس هناك أمر هو أبعد من الصواب من هذا الرأي. فالقرآن لم يبيّن منه بالتشريع، وبالتفسير، إلا الطرف الذي يناسب الوقت الذي جرى فيه التبيين، ويناسب طاقة الناس. والقرآن لا يمكن أن يتم تبيينه. والإسلام، كذلك، لا يمكن أن يكمل. فالسير في مضماره سير سرمدي. «إن الدين عند الله الإسلام» و«عند»، هنا، ليست ظرف زمان، ولا هي ظرف مكان، وإنما هي خارج الزمان، والمكان. فالسير بالقرآن في مضمار الإسلام سير إلى الله في إطلاقه. وهو بذلك لم يتمّ تبيينه، ولن يتمّ، وإنما تمّ إنزاله بين دفّتي المصحف. تم إنزاله، ولم يتم تبيينه.

ومن ههنا يفهم الفرق بين «أنزلنا» و«نزل» من الآية «وأنزلنا إليك الذكر لتبيـّن للناس ما نزل إليهم، ولعلّهم يتفكّرون». فإنّ الفهـم العام، عنـد العلماء، أنهما مترادفتـان، وما هما بـذاك. و«ما» في جملة «ما نزل إليهم» لا تعود إلى الذكر، وإنما تعود إلى جزء من الذكر، ينصب عليه الأمر بالتبيين، وهو ما يخص الرسالة الأولى. إلا ما يكون متداخلاً بينها وبين الرسالة الثانية.

ويحسن أن نذكر هنا أن القرآن قد نزل مثاني. وفي ذلك يقول تعالى «الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً، مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم، وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد» ومعنى «متشابهاً» قائمة قرينة الشبه بين أسفله وأعلاه، وبين وجهه وقفاه، وبين ظاهره وباطنه.

ومعنى «مثاني» أنـه ذو معنيين. معنى بعيد عند الرب، ومعنى قريب تنزّل للعبد. والقرآن كله مثان. كل آية منه، وكل كلمة فيه، بل وكل حرف من كل كلمة. والسر في ذلك أنه حديث صادر من الرب مخاطب به العبد. والشبه الذي فيه هو الشبه الذي قام بين الرب والعبد، وعبّر عنه المعصوم بقوله «إن الله خلق آدم على صورته» وعبّر عنه تبارك وتعالى «يأيها الناس اتّقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة» وتلك النفس الواحدة إنما هي نفسه، تبارك وتعالى.

فكلمة الإسلام، مثلاً، لها معنى قريب هو الذي عبّر عنه القرآن بقوله تعالى «قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم». وهذا هو الذي سمّيناه الإسلام الأول وقلنا إنه لا عبرة به عند الله. وللإسلام معنى بعيد، وهو مركوز عند الله، حيث لا حيث. وهو بمعناه البعيد قد أشار إليه سبحانه وتعالى حين قال «يأيها الذين آمنوا اتّقوا الله حق تقاته، ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون». ومعلوم أنه لا يتّقي الله حق تقاته إلا الله، وهو، من ثم، نهج معراج إلى الله ذي المعارج، في مقام عزه، بالعبودية، والتذلل، والاستسلام. والعبـودية لا تتناهى. فهي كالربوبية تماماً. والعبودية المطلقة لله تقتضي العلم المطلق بالله. وهذا لا يكون الّا لله عز وجل «قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلّا الله» فالغيب هنا يعني الله. فكأنّه قال، لا يعلم الله إلا الله، ولقد تحدثنا في رسالة الصلاة كيف أن العبودية هي الحرية، ممّا لا سبيل إلى إعادته هنا. فليرجع إليه.

الأمّة المُسلِمة لم تظهر بعد

والإسلام إنما كان نهج معراج إلى مقام العبودية بفضل القرآن. وهو كتابه المسلك في مراقيه. وهذا التسليك هو ما من أجله أنزل القرآن، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «ولقد يسّرنا القرآن للذكر، فهل من مذكر». وهو إنما يذكرنا بالعبودية التي أقررنا على أنفسنا بها، ثم نسيناها، وذلك حيث قال تعالى عنا «وإذ أخذ ربك من بني آدم، من ظهورهم، ذرّيتهم، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم ؟ قالوا بلى! شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين / أو تقولوا، إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون / وكذلك نفصل الآيات، ولعلهم يرجعون»، لعلّهم يرجعون إلى الله بالعبودية والاستسلام بالإسلام.

ولمّا كان القرآن هو منهاج السلوك إلى الله، «قلنا اهبطوا منها جميعاً، فإما يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، والقرآن هو هذا الهدى، فقد أصبح أوله عند الله، وآخره عندنا. فإن نحن أحسنّا السلوك في مدارجه استرجعنا الفردوس الذي فقدناه بخطيئة آدم، وارتقينا المراقي في الإطلاق. قال تعالى عن القرآن «أ ل م / ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتّقين». وقال عن المتّقين المهتدين بالقرآن «إن المتقين في جنّات، ونهر، في مقعد صدق، عند مليك مقتدر». وهذه درجات: أّولها الجنات، ثم النهر، ثم مقعد الصـدق ثم عند مليك مقتـدر، وذلك «عنـد لا عنـد» و«حيث لا حيث». وهذه الدرجات تتفاوت من الجنات الحسية، وهي الفردوس المفقود بالخطيئة، إلى المطلق في إطلاقه، وإلى كل أولئك يهدي القرآن، فهو لا يستنفد. «قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مدَداً». ومن أجل هذا فإنه باطل، زعم من زعم أن القرآن يمكن أن يستقصى تبيينه. ذلك بأن القرآن هو ذات الله. وهذه الذات تنزلت، بمحض الفضل، إلى مدارك العباد ليعرفوها، فكانت القرآن في تنزلاته المختلفة: الذكر، والقرآن، والفرقان. وفي منزلة الفرقان هذه انصبّ في قوالب التعبير العربية، واستعملت هذه القوالب أبلغ استعمال لتشير إلى منزلتي القرآن، والذكر. والقرآن إنّما انصبّ في قوالب التعبير العربية لنتمكّن نحن من الفهم عن الله. قال تعالى في ذلك: «إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون». ولقد ورّطت هذه الآية، وأخواتها كثيراً من علماء المسلمين في الخطأ، فظنـوا أن القرآن عـربي بمعنى أنه يمكن أن يستقصى فهمه من اللغة العربية، ومن معرفة أساليبها، وما هو بذاك، ولقد تحدّثنا عن ذلك عند حديثنا عن السور المفتتحة بأحرف التهجي، فليراجع هناك.

ولما كان الإسلام بهذا السموق، فإنه لم يتفق لأمّة من الأمم إلى اليوم. والأمّة المسلمة لم تظهر بعد. وهي مرجوّة الظهور في مقبل أيام البشرية. وسيكون يوم ظهورها يوم الحج الأكبر، وهو اليوم الذي يتم فيه تحقيق الخطاب الرحماني بقوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً».

ولقد كان محمد يومئذ طليعة المسلمين المقبلين، وهو كأنما جاء لأمّته، أمّة المؤمنين، من المستقبل، فهو لم يكن منهم، فقد كان المسلم الوحيد بينهم «قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين». ولقد كان أبوبكر، وهو ثاني اثنين، طليعة المؤمنين. وكان بينه وبين النبي أمد بعيد. وإلى المسلمين، الذين يجيئون في مقتبل أيام البشرية، أشار حديث المعصوم، حين قال: «واشوقاه لإخواني الذين لمّا يأتوا بعد!» فقال أبوبكر «أولسنا إخوانك يا رسول الله؟» قال «بل أنتم أصحابي!» ثم قال ثانية: «واشوقاه لإخواني الذين لمّا يأتوا بعد!» فقال أبو بكر «أولسنا إخوانك يا رسول الله؟» قال «بل أنتم أصحابي!» ثم قال ثالثة: «واشوقاه لإخواني الذين لمّا يأتوا بعد!» قالوا «من إخوانك يا رسول الله؟» قال «قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعين منكم» قالوا «منا أم منهم؟» قال «بل منكم» قالوا «لماذا؟» قال «لأنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون على الخير أعوانا».

المساواة السياسية: الديمقراطية

…كما أنّ الاشتراكية هي ثمرة النزاع الطويل بين «العندهم والماعندهم» في الصعيد المادي، فإن الديمقراطية هي أيضاً نتيجة الصراع بين «العندهم والماعندهم» في الصعيد السياسي، وهي تبتغي أن يكون الناس شركاء في السلطة، كما هم شركاء في خيرات الأرض. والديمقراطية صنو الاشتراكية. وهما معاً يمثّلان جناحي المجتمع. فكما أن الطائر لا يستقلّ في الهواء على جناح واحد، فكذلك المجتمع، لا يستقلّ بغير جناحين من ديمقراطية واشتراكية. ولقد ظهرت الديمقراطية قبل الاشتراكية، ذلك لأن الاشتراكية تحتاج إلى وعي جماعي أكثر مما تحتاج إليه الديمقراطية التي قد تقوم في بدايتها على قلة من المثقفين. ثمّ إنّ الاشتراكية تحتاج، كمقدمة لها، إلى الرأسمالية النامية الغنية. وهي أيضاً وليدة الآلة، فلم يكن من الممكن أن تتقدّمها. ولم تجئ الآلة إلا مؤخرا. هذا الحديث يعني الاشتراكية العلمية. أمّا الاشتراكية الساذجة، البدائية، فإن نشأتها بعيدة في التاريخ.

ولدت الديمقراطية في بلاد الإغريق، وفي أثينا بالذات. وقـد كانت أثينا أرقى مدن الإغريق ثقافة. وكانت كلّ مدينة من تلك المدن حكومة قائمة بذاتها. ولمّا كانت الدول الإغريقية التي تمثّلها المدن صغيرة فقد كان من السهل على الشعب أن يمارس الحكم مباشرة عن طريق اجتماع أفراده، وكانت ديمقراطيتهم بذلك الديمقراطية المباشرة التي لا تحتاج إلى مجلس نيابي، ولا إلى مجلس تنفيذي، على النحو الذي عرف مؤخراً، وهي لم تكن تقوم على موظفين دائمين، وإنّما كان الموظفون ينتخبون كل عام. وكثيرا ما كان الانتخاب يجري بالاقتراع، وكان أهل أثينا يعتقدون أن الاشتراك في مناقشة، وسياسة الشؤون العامّة، حقّ لكلّ مواطن، وواجب عليه، «لم يكونوا يعتبرون النساء والعبيد من المواطنين». (…)

الفرد غاية

ولقد أخذت الديمقراطية من أيام أثينا تنمو وتتطوّر وتتباين في ذلك في مختلف أرجاء العالم، ولكنّها تنبع في كلّ مكان من مبادئ تحاول أن تبيّنها بوضوح كنهج متميّز وفذّ من مناهج الحياة. نهج للحياة يعترف بكرامة الإنسان، ويحاول أن يقيم تصريف الشؤون الإنسانية وفق العدل، والحقّ، وقبول الشعب. ولقد وصلت مرحلة تطوير الديمقراطية الحديثة إلى مبادئ يمكن تلخيص أهمّها في ما يلي:

  1. الاعتراف بالمساواة الأساسية بين الناس.
  2. قيمة الفرد فوق قيمة الدولة.
  3. الحكومة خادمة الشعب.
  4. حكم القانون.
  5. الاسترشاد بالعقل، والتجربة، والخبرة.
  6. حكم الأغلبية، مع تقديس حقوق الأقلّية.
  7. الإجراءات أو الوسائل الديمقراطية تستخدم لتحقيق الغايات في الدولة الديمقراطية.

فليست الإجراءات ولا الأجهزة الديمقراطية غاية في ذاتها، وإنّما هي وسيلة إلى غاية وراءها. ليست الديمقراطية أن تكون لنا هيئة تشريعية، وهيئة تنفيذية، وهيئة قضائية، وإنما جميع أولئك وسائل لتحقيق كرامة الانسان. الديمقراطية ليست أسلوب حكم فحسب، وإنما هي منهاج حياة، الفرد البشري فيه غاية، وكل ما عداه وسيلة إليه، ولا يجد أسلوب الحكم الديمقراطي الكرامة التي يجدها عند الناس إلا من كونه أمثل أسلوب لتحقيق كرامة الإنسان.

وفي النهج الديمقراطي الحاضر خطأ هو أقل من الخطأ الذي تورّطت فيه الشيوعية الماركسية بكثير، لكنّنا رغم ذلك لن نسترسل في استقصائه هنا وإنما نتركه إلى حينه في سفر «الإسلام ديمقراطي اشتراكي».

وإنما تجيء كرامة الإنسان من كونه أقدر الأحياء على التعلم والترقي، وإنما تجيء كرامة الديمقراطية من كونها، كأسلوب للحكم، أقدر الأساليب على إتاحة الفـرص للإنسان ليبلغ منازل كرامته وشرفه، وإنما يتعلم الإنسان من أخطائه، وتلك هي الطريقة المثلى للتعليم. ففي الديكتاتورية تمنع الحكومة الفرد من أن يجرب، أو يعمل بنفسه، وبذلك تعطل نموه الفكري والعاطفي والخلقي، لأن كل أولئك إنما يتوقف نموه على ممارسة العمل، وتحمل مسؤولية الخطأ في القول، وفي العمل، ثم التعلم من الخطأ. وعلى العكس من الديكتاتورية، نجد أن الديمقراطية قائمة على الحق في ارتكاب الأخطاء، وهذا ليس معناه الرغبة في الخطأ من أجل الخطأ، وإنما الاعتراف بأن الحرية توجب الاختيار بين السبل المختلفة للعمل. ولا يمكن للإنسان أن يكون ديمقراطياً حقا دون أن يتعلم كيف يختار، وأن يحسن الاختيار في ذلك، وأن يصحح، باستمرار، خطأ الاختيار الذي يبدو منه الفينة بعد الفينة. وفي واقع الأمر فإن السلوك جميعه، وممارسة الحرية برمّتها، إنما هي سلسلة من التصرف الفردي في الاختيار والتنفيذ. أو قل في حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل. على شرط واحد هو أنّ الإنسان يتحمّل نتيجة خطئه في القول، وفي العمل، وفق قانون دستوري.

فالديمقراطية هي حقّ الخطأ. وفي قمّة هذا التعريف جاء حديث المعصوم «إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأتي الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم».

«لستَ عليهم بمُسيطر»

ومن كرامة الإنسان عند الله أنّ الحرية الفردية لم يجعل عليها وصيّا، حتى ولو كان هذا الوصي هو النبي على رفعة خلقه وكمال سجاياه. فقد قال تعالى في ذلك «فذكّر إنما أنت مذكّر/ لست عليهم بمسيطر»، والمعنيون هنا هم المشركون، الذين رفضوا عبادة الله، وعكفوا على الأصنام، يعبدونها، ويتقرّبون إليها بالقرابين، والمنهي عن السيطرة عليهم هو الرسول محمد، الذي لم يُـرد علوّاً في الأرض، والذي قال تعالى عنه «وإنك لعلى خلق عظيم». ومن هذا نأخذ أنه ليس هناك رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين. وأنّ ثمن الحرية الفردية هو دوام السهر الفردي عليها. وفي الحق أن الحرية الفردية حقّ أساسي يقابله واجب هو حسن التصرف في ممارستها. ولمّا كان مجتمع المؤمنين قاصراً عن الارتفاع إلى ممارسة الحرية الفردية في الاختيار والعمل فقد جعل النبي وصيّاً عليهم ليُعدّهم لتحمّل مسؤولية الحرية الفردية المطلقة، وهو أثناء وصايته عليهم يصرّ على إعطائهم حق الخطأ، كلما وسعه ذلك، من غير أن يشقّ عليهم أو يعنتهم. فهو بذلك إنما يعدّهم لممارسة الديمقراطية حين يقوى عودهم، ويستحصد عقلهم. وبذلك أمر الله حين قال «فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضّوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إنّ الله يحب المتوكلين».

وهذه آية الشورى، والشورى، حيث وردت، سواء في هذه الآية، أو في قوله تعالى «والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرُهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون» فليست آيـة ديمقراطية، وإنما هي آية تنزلت من آية الديمقراطية لتعدّ الناس ليستأهلوا الديمقراطية، حين يجيء أوانها. فالشورى ليست أصلاً، وإنما هي فرع، وهي ليست ديمقراطية، وإنما هي حكم الفرد الرشيد الذي يعدّ الأمّة لتصبح ديمقراطية. والأصل في الديمقراطية آيتا «فذكّر إنما أنت مذكر / لستَ عليهم بمسيطِر».

وبنفس هذا القدر، الزكاة ذات المقادير ليست اشتراكية، وإنما هي رأسمالية. وآيتها «خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم، وتزكّيهم بها، وصلّ عليهم، إن صلاتك سكن لهم». ليست أصلاً، وإنما هي فرع. والغرض وراءها إعداد الناس نفسياً، ومادّياً ليكونوا اشتراكيين، حين يجيء أوان الاشتراكية. والآية الأصل، التي تنزّلت منها آية الزكاة ذات المقادير، هي قوله تعالى: «يسألونك ماذا ينفقون قل العفو» ولقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك.

ولمّا كانت الرسالة الثانية تقوم على الارتفاع من الآيات الفرعية إلى الآيات التي هي أصل، والتي جرى منها التنزّل إلى الفروع لملابسة الزمان، ولملاءمة طاقة المجتمع، المادية، والبشرية، فقد وجب الارتفاع بالتشريع، وذلك بتطويره ليقوم على آيات الأصول، وكذلك يدخل عهد الاشتراكية، وعهد الديمقراطية. وينفتح الطريق إلى تحقيق الحرية الفردية المطلقة بالممارسة في مستوى العبادة، ومستوى المعاملة. وهذه هي شريعة المسلمين. شريعة الأمّة المسلمة التي لمّا تأت بعد، وقد أصبحت الأرض تتهيأ لمجيئها. فعلى أهل القرآن أن يمهّدوا طريقهم، وأن يجعلوا مجيئهم ممكناً، وميسّراً، وهذا ما من أجله كُتب هذا الكتاب.

المساواة الاقتصادية: الاشتراكية

الاشتراكية تعني أن يكون الناس شركاء في خيرات الأرض، وهي قـد بدأت منذ أن بدأ المجتمع، فإنها صنو الرأسمالية. وكانت الرأسمالية، ممثلة في الملكية، هي النظام الذي نشأ عليه المجتمع، ولقد تطوّرت الرأسمالية إلى أن وصلت معناها العلمي الحاضر، وكذلك تطورت الاشتراكية، وإنما كان تطورها أبطأ من تطور الرأسمالية لأن الرأسمالية تعتبر مقدمة طبيعية لها، ولا يمكن للاشتراكية أن تسبق الرأسمالية. ثم إن الاشتراكية نتيجة حكم القانون الذي يرعى حق الضعيف، في حين أن الرأسمالية نتيجة قانون الغابة الذي يعطي الحق للأقوياء، ويتقاضاه لهم، وبطبيعة النشأة، فإن قانون الغابة مرحلة سابقة لمرحلة قانون العدل، والمرحمة.

ولقد ظهرت الاشتراكية في جرثومتها البدائية في صورة الحَسَد، أو الغبطة التي تعتمل في صدر «الماعندهم ضد العندهم». فقد كان محسوداً الذي يوفق إلى سلاح حجري يمتاز بالخفة، والقوة، والحدّة. والذي يوفّق إلى كهف حصين، وفسيح، والذي يوفّق إلى زوجة جميلة، ومُحبّة، ومطيعة، وقوية، وهكذا. ولقد دفع هذا الحسد إلى الصراع التاريخي بين «الماعندهم والعندهم». ولا يزال هذا الصراع محتدما، ولن ينفك، حتى تتمّ المساواة المطلقة بين الناس في خيرات الأرض.

وقبل أن تظهر الاشتراكية العلمية نتيجة لهذا الصراع الطويل المرير كانت الاشتراكية في مرحلتها البدائية، وهذه تعني المشاركة في الخيرات التي لا تضيق بأحد، ولا يقع عليها الحوز. ولقد عبّر المعصوم عن هذه حين قال «الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار». وفي هذا الحديث إشارة رصينة إلى وجوب الاشتراكية بين الناس حين يمكن أن تفيض الخيرات باستغلال الموارد الطبيعية والصناعية.

وإنما دخلت الاشتراكية في الطور العلمي مؤخراً، وبرزت، واستحوذت على اهتمام الناس، وأصبحت في أيامنا هذه يدّعيها الذين يعنونها، والذين لا يعنونها، وذلك لفرط تعلّق الشعوب بها.

من روبرت أوين إلى كارل ماركس

ولقد بدأ في أوائل القرن التاسع عشر استخدام اصطلاحَي «الاشتراكية» و«الشيوعية» في كل ما له صلة بفكرة الملكية العامة للعقار. وقد استخدم اصطلاح «الاشتراكية» في إنكلترا في حوالي عام ١٨٢٠، ولأول مرة، بواسطة روبرت أوين، وهو صانع ثري، ويعتبر مؤسس الاشتراكية الحديثة. ولقد كان يؤمن بإمكان تحقيق التحسين الاجتماعي عن طريق الوسائل الاختيارية، والدستورية الوئيدة، والمستقرّة، التي تجنب الشعوب الشرور التي تسير في ركاب التغييرات الثورية العنيفة، وبخاصة سيئة الإعداد منها.

وكلمة «الشيوعية» مشتقّة من كلمة لاتينية معناها «عام» أو «مملوك للجميع». ولقد استخدمت في أول الأمر حوالي عام ١٨٣٥ بواسطة الجمعيات الثورية السرية الفرنسية التي كانت ترمي إلى قلب الطبقة الوسطى بالعنف، ثم السيطرة على فرنسا، بهدف إنشاء اقتصاد يكون فيه جميع المتاع المنتج مملوكاً للشعب، وتكون فيه طبقة العمال هي العنصر الحاكم.

ودخل كارل ماركس في الصورة، وأخذ يدرس ويرصد ويطوّر أفكاره على أساس النظريات، والتطبيقات الاشتراكية، والشيوعية المختلفة، ولقد فضّل اصطلاح «الشيوعية»، فاختاره ليصف به أفكاره، لأنّ هذا الاصطلاح كان مرتبطاً بفكرة تغيير المجتمع بالعنف. وكان ماركس يقيم مذهبه على أربعة مبادئ:

  • مجرى التاريخ تتحكّم فيه القوى الاقتصادية.
  • التاريخ ما هو إلا سِجلّ لحرب الطبقات.
  • الحكومة ما هي إلّا أداة تستخدمها طبقة في اضطهاد طبقة أخرى.
  • العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع.

وعلى هذه المبادئ، ووفاءً بها، ظل ماركس، منذ كتاباته الأولى، يهاجم بإلحاح التجارب الاشتراكية، كالتي كان يرعاها روبرت أوين، ويصفها بأنها غير علمية، وغير واقعية، لأن التاريخ، كما هو واضح في رأيه، قد سار على قوانين علمية قاسية، وأنّ تغييراً اجتماعياً جوهرياً بغير طريق القوّة والعنف لا يمكن أن يتمّ. ولهذا فقد سخر باعتقاد أوين وغيره من الاشتراكيين بإمكان إصلاح اجتماعي عن طريق الزمالة، والتعاون، والتطوّر الوئيد. وكان يسمي عملهم هذا الاشتراكية «المثلى» ويهتمّ كثيراً بالتفريق بينها وبين مذهبه هو، ويسمّيه الاشتراكية «العلمية» أو «الشيوعية». ونحن عندما نتحدث عن الاشتراكية العلمية، أو عن الشيوعية، فيما ندعو إليه، لا نريد مذهب ماركس هذا، بل إنّا لنعلم أنّ اشتراكية ماركس ليست علمية، وإنما هي متورطة في خطأ أساسيّ، ليس هذا المقام مقام الخوض فيه، وإنّما سنخوض في تبيانه عند الكتابة عن «الإسلام ديمقراطي اشتراكي» الذي سيصدر عما قريب إن شاء الله.

الحدّ الأدنى لجميع المواطنين

فالاشتراكية العلميّة، عندنا، تقوم على دعامتين اثنتين، وفي آن واحد: أولاهما زيادة الإنتاج، من مصادر الإنتاج، وهي المعدن، والزراعة، والصناعة، والحيوان. وذلك باستخدام الآلة، والعلم، وبتجويد الخبرة الإدارية، والفنية. وثانيتهما عدالة التوزيع، وهي تعني، في مرحلة الاشتراكية، أن يكون هناك حدّ أعلى لدخول الأفراد، وحدّ أدنى. على أن يكون الحد الأدنى مكفولاً لجميع المواطنين، بما في ذلك الأطفال، والعجائز، والعاجزون عن الإنتاج، وعلى أن يكون كافياً ليعيش المواطن في مستواه معيشة تحفظ عليه كرامته البشرية. وأمّا الحدّ الأعلى للدخول فيشترط فيه ألّا يكون أكبر من الحدّ الأدنى بأضعاف كثيرة حتى لا يخلق طبقة عليا تستنكف أن تتزاوج مع الطبقة ذات الدخول الدنيا. ومن أجل زيادة الإنتاج وجَب تحريم ملكية مصادر الإنتاج، ووسائل الإنتاج، على الفرد الواحد، أو الأفراد القلائل في صورة شركة، سواء كانت شركة إنتاج، أو شركة توزيع. ولا يحلّ للمواطن أن يملك، ملكاً فردياً، إلّا المنزل، والحديقة حوله، والأثاث داخله، والسيارة، وما إلى ذلك مما لا يتعدّى إلى استخدام مواطن استخداماً يستغلّ فيه عرقه لزيادة دخل مواطن آخر. والملكية الفردية، حتى في هذه الحدود الضيّقة، يجب ألّا تكون ملكية عين للأشياء المملوكة، وإنّما هي ملكية ارتفاق بها، وتظلّ عينها مملوكة لله ثم للجماعة بأسرها.

ثمّ إنّه كلما زاد الإنتاج من مصادر الإنتاج اتجهت عدالة التوزيع إلى الإتقان، وتقريب الفوارق، وذلك برفع الحدّ الأدنى، وبرفع الحد الأعلى، على السواء. لكنّ رفع الحد الأدنى يكون نسبياً أكبر من رفع الحد الأعلى، وذلك بغية تحقيق المساواة المطلقة. وعند تحقيق المساواة المطلقة بفضل الله، ثم بفضل وفرة الإنتاج، تتحقّق الشيوعية، وهي تعني شيوع خيرات الأرض بين الناس. فالشيوعية إنّما تختلف عن الاشتراكية اختلاف مقدار. فكأنّ الاشتراكية إنّما هي طور مرحليّ نحو الشيوعية.

ولقـد عاش المعصومُ الشيوعيةَ في قمّتها حيـن كانت شريعتـه في مستـوى آية الزكاة الكبرى «يسألونك ماذا ينفقون قل العفو» ولقد فسّر العفو بما يزيد عن الحاجة الحاضرة. وحديثه عن الأشعريين في مستوى الشيوعية، وذلك حين قال «كان الأشعريون إذا أملقوا، أو كانوا على سفر، فرشوا ثوباً، فوضعوا عليه ما عندهم من زاد، فاقتسموه بالسوية، أولئك قوم أنا منهم وهم منّي». وهذا هو فهم الأمّة المسلمة التي لمّا تجئ بعد. ولقد أدرك هذا الفهم أصحابُنا الصوفية وذلك حين تصوّروا جميع الأرض، وما عليها من خيرات، كمائدة أنزلها الله على عباده، وأمرهم أن يرتفقوا منها بزاد المسافر، ويواصلوا سيرهم إليه. فهذه الأرض، مثلها عندهم مثل المائدة، وضعت للآكلين، وعليها اللحم، والخبز، والخضر، والحلوى، وجلس إليها عشرة رجال، فإنّ كلّ ما عليها هو على الشيوع بينهم، ولا تقع لك الملكية الفردية لقطعة لحم منها، إلّا حين تحتويها أصابعك، وتبدأ رحلتها إلى فمك.

الشيوعية يحقّقها الإسلام

وحين يحدّثنا القرآن عن الجنّة «وقالوا الحمد لله الذي صدَقنا وعده، وأورثنا الأرض، نتبوّأ من الجنة حيث نشاء، فنِعم أجر العاملين» إنما عنى أيضاً النموذج المصغّر للجنّة الكبرى، الذي يتحقّق في هذه الأرض التي نعيش عليها اليوم وذلك حين «تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورا» على حدّ التعبير النبوي الكريم. وهو ما داعب خيال ماركس وضلّ الطريق إليه كلّ الضلال، ولن يبلغه إلّا المسلمون الذين لمّا يأتوا بعد. وحين يأتون سيتحقّق في الأرض طرف من قوله تعالى «إنّ المتّقين في جنّات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين. ونزعنا ما في صدورهم من غلّ، إخواناً على سرر متقابلين. لا يمسّهم فيها نصب وما هم منها بمخرَجين». وهذا الطرف هو الشيوعية التي يحقّقها الإسلام بمجيء أمّة المسلمين، ويومئذ تشرق الأرض بنور ربها، وتتمّ نعمة الله على سكّانها، ويحلّ في ربوعها السلام، وتنتصر المَحبّة.

٥- المساواة الاجتماعية: محو الطبقات والفوارق

هذه أصعب المساويات تحقيقاً، وتعتبر المساواة الاقتصادية، والمساواة السياسية مقدّمة لها، وهي تتويج لهما، وخلاصة، وقمّة. وهي لم تتحقق للإنسانية إلى يوم الناس هذا، ولن تتحقـق في المستقبل إلّا بالجهد الشاقّ، والتربية، والتعليم، لتصحيح، وتغيير ما هو كالطبيعي في المسلك الإنساني. وهي بذلك أرقى إنتاج المدنية في جميع العصور. إذ المدنية إن هي إلّا محاولة تبعد الإنسان عن نزعاته الحيوانية الدنيئة، وتقوده إلى مستوى أعلى من الخلق، حيث يستبدل قانون الغابة ــ قانون العنف، والسيطرة بالقوة ــ بقانون العدل، والحق، والمرحمة ــ فيدخل بذلك التحسين في نوع العلاقات البشرية، فيحلّ الرضا محلّ القوة، والعدالة محلّ الاستغلال، والحرية محلّ الكبت، والعاطفة المتسامية بالعقل القوي، محلّ العاطفة الناضبة. (…)

ضد الفوارق والتمييز

موضوع المساواة الاجتماعية هو الفرد البشري، كما كان الأمر في شأن المساواة الاقتصادية، والمساواة السياسية. فإنّ الفرد البشري، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرات، هو الغاية وراء كل سعي جماعيّ. هو غاية وسيلتها الإسلام والقرآن، وهما أعظم الوسائل المنهجية على الإطلاق. ووسيلته أيضاً المجتمع، وهو أعلى ما أنتجته الإنسانية إلى اليوم. والفرد الذي هو غاية هو الفرد البشَري، من حيث هو بشَري. حتى وإن كان أحمق. فإنّه يجب ألّا يجعل وسيلة إلى شيء سواه. ومن أجل ذلك وجب ألّا تقوم بين الأفراد فوارق من جرّاء المولد، أو العنصر، أو اللون، أو العقيدة، أو الجنس من الذكورة والأنوثة. قال تعالى في ذلك: «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنّ الله عليم خبير»، وقوله «إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم» يعني إنما تكون الكرامة بالعلم والخلق. فإنّ التقوى علم وعمل بمقتضى العلم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «إنّ الله عليم خبير». «عليم» إشارة إلى العلم. «خبير» إشارة إلى التصرف بالعلم. وقال المعصوم «الناس لآدم وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم».

وعدم التمييز الاجتماعي ضد الضعيف، ومحو الفوارق التي قامت على قانون الغابة بين الأفراد والطبقات هو عمل التمدين الأكيد، فإذا وجدت مجتمعاً للضعفاء فيه حقّ محفوظ، وكرامة مرعيّة، وإذا وجدت مجتمعاً للنساء فيه حرية، وحرمة، وتشريف، وللأطفال فيه حقوق، وله بهم عناية، وعليهم رحمة، ولهم فيه محبّة، فاعلم أنه مجتمع متمدّن، ومتحضّر.

والأسرة هي المجتمع الأول، وفيها تعلّمَ، ولا يزال يتعلّم، الفرد النظام، والسلوك الاجتماعي النظيف، واحترام القانون، وتوقير السلطة، والتعاطف، والتسامح، والمحبة. ولا تزال للأسرة مقدرتها الفائقة على تربية الأفراد التربية التي تكون بعيدة الأثر، في حياتهم الفردية، وحياتهم في مجتمعهم الصغير، وفي مجتمعهم الكبير، حين يبرزون إليهما، وعماد الأسرة الأمّ، وهي ملكة المملكة الصغيرة، ولكن مع شديد الأسف فإنّ الاعتراف بها لم يتّفق للأسرة البشرية إلى اليوم. فإنها كانت، ولا تزال، مضطهدة. وكان، ولا يزال، دورها في بيتها دور الخادمة. ولهذا الوضع سُود العواقب على تنشئة الأطفال، مما يترك عميق الأثر في حياة المجتمع برمّته وفي جميع مستوياته.

التعليم مسار تطوّري

ولقد أسلفنا القول في هذا الكتاب عن أمر المساواة المطلقة بين الرجال والنساء مما لا نحتاج إلى إعادته في هذا الموضع، ولكن لا بد من الإشارة إلى أنّ أمر المساواة الاجتماعية لا يجيء عفواً، وكأمر طبيعي للتطوّر. بل لا بد فيه من التخطيط، والتطوير الذكي للمجتمع، ذلك بأنه يحتاج إلى تعليم، ويحتاج إلى تربية. والتعليم غير التربية، فإنّ غرض التعليم إكساب الفرد الخبرة المهنية التي تجعله مفيداً للمجتمع في الميدان الذي خلق وهو مستعدّ له بما ركز في فطرته من موهبة. وهو ضروري ليسلّح الأفراد بالقدرات العلمية، والفنية، والإدارية، والتكنولوجية، لتنمية حضارة مجتمعهم، وللتسامي بها في مراقي الكفاءة والكفاية. وفي التعليم يقع التخصص، ويقع التمييز، ويسود الاتجاه إلى التخطيط لإنجاب حاجة المجتمع ــ فيه يقع التمييز بين الرجال، والنساء، ويقع التمييز بين الرجال، والرجال أيضاً، ذلك بأنه إنّما يرمي إلى تنمية، وتغذية الموهبة عند كل موهوب، حتى يخدم مجتمعه في الميدان الذي خلق وهو مستعد له استعداداً فطرياً، بيد أنّ هذا التمييز الذي يقع في ميادين الإعداد لخدمة المجتمع المدنية لا يحمل معه أيّ امتياز اجتماعي ترتفع به، تلقائياً، مكانة فرد فوق فرد آخر. وفي هـذه النظرة، التي تتّجه إلى إعداد المواطنين إعداداً مهنياً بواسطة برامج التعليم الموجّه، قيمة المرأة غير قيمة الرجل، ولكنها قيمة مساوية لقيمته. بمعنى أنّ المرأة، حين تعدّ لتكون أمّاً، بأن تعلَّم كل ما يؤهلها لهذه الوظيفة الحيوية المتشعّبة، لا تقلّ خدمتها للمجتمع، في نظر المجتمع، عن خدمة أخيها الذي يعدّ ليكون مهندساً، أو طبيباً، أو مشرّعاً. وليس لإعداد الأمومة الصالحة حدّ تقف عنده، فإنّ الفتاة كلّما علمت كلّما زادت كفاءتها في ميدان الأمومة نفسها. ومن أجل مصلحة المجتمع يجب أن يعلم كل فرد عملاً يتقنه باليد وبالعقل، وهو كذلك من مصلحة الفرد نفسه، لأنّ الإنسان لا تنضج قيَمه الفكرية، ولا قيَمه الخلقية، إلّا إذا كان يحب العمل اليدوي، ويتقن طرفا منه إتقاناً حسناً، ذلك بأنّ الترقّي جميعه إنما هو علم، وعمل بمقتضى العلم. قال تعالى في ذلك «إليه يصعد الكَلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه». كل هذه المسائل تدخل في غرض التعليم.

التربية تحرير للمواهب

وأمّا غـرض التربية فهو تحرير المواهب الطبيعية: العقل، والقلب، من أسْر الأوهام، والأباطيل. فبسلامة القلب من الخوف، وصفاء الفكر من الأوهام، تتحقق حياة الفكر، وحياة الشعور، وهي غاية كل حي. وهي مهمة التربية. وللتربية وظائف كثيرة هي في جملتها نقل الإنسان من الاستيحاش إلى الاستيناس، حيث تصبح عاداته جميعها إنسانية، ومهذبة. فهو يأكل بطريقة إنسانية، ويشرب بطريقة إنسانية، وينام، ويجلس، ويتحدث، ويتصرف في جميع شؤونه، العامة والخاصة، بطريقة إنسانية ومهذبة، فلا يعرض مباذله، ولا يبدر منه ما يؤذي السمع، ولا البصر، ولا العقل، ولا القلب. وهو لا يبصق في الأماكن العامة النظيفة، ولا يتبول، ولا يتغوط، في الأماكن العامة. ولا يرمي الأوساخ، والقاذورات، في الأماكن النظيفة على الطرقات. وهو، على العموم، يحاول، بجهد الطاقة، أن يترك كل شيء على صورة أحسن من التي وجده عليها.

ويجب أن يعدّه لكل أولئك التربية. التربية في المدارس، وفي النوادي، وفي الأماكن العامة، حيث يجري التثقيف، والتعليم، للشعب، كل حين، وبغير انقطاع، وبكل وسائل الإعلام التي تستطيع الدولة أن توفرها، من إذاعة، وتلفزيون، وسينما، ومسرح، وصحافة، وكتب، ومجلات، ومحاضرات، وأنواع التسجيل المختلفة، لأنواع الفنون المختلفة، حيث توجّه الدولة كل إمكانات المجتمع لإنجاب الأفراد الناضجين، وذلك بتوخّي النهج التربوي السليم. فإن مشاكل المجتمعات كون أغلبية الأفراد إما مراهقين، أو أطفالاً. ويقلّ فيها الأفراد الناضجون الذين يقوون على مواجهة الحقيقة، (والأطفال يتابعون مبدأ اللهو، وهو مبدأ يجعل الإنسان يتصرف مدفوعاً بأهوائه ورغباته، ويحاول أن يحقق أية رغبة عند ظهورها، دون أن يوازن بين رغبة وأخرى وينفّذها، ويقترن الجري وراء هذا اللهو الوقتي المباشر بتجنب ما قد يسبب الفشل، أو الألم، أو الإنكار، ومسلك كهذا ينشأ من الفشل في التمييز بين الرغبات المتنازعة على أساس معقول طويل المدى. وغالباً ما يحلّ التمنّي محلّ ما هو محتمل أو مرغوب فيه) وليس هناك مخرج إلا عن طريق التربية.

والتربية، بخلاف التعليم، لا يقع فيها التخصص، ولا التمييز بين الرجال والنساء، وإنما هي حق أساسي لكل فرد بشري، وهي تشمل حتى الأطفال، ولا تحدّ إلا بطاقاتهم على التلقي، والإدراك، والتنفيذ.

والقاعدة الذهبية في التربية هي أن تضع الأفراد أمام المسؤولية وأن تُعينهم، بكل الوسائل، على تحمل المسؤولية، ذلك بأن غرض التربية هو إنجاب الأفراد الناضجين. هو إنجاب الرجال، من الأطفال، ومن المراهقين، الذين تعجّ بهم المجتمعات عجيجاً. والفارق بين الأطفال والمراهقين، وبين الرجال هو أن الرجال يتصرفون بحرية، ويتحمّلون مسؤولية تصرفهم، بينما الأطفال والمراهقون يتركون التصرف خوف المسؤولية، أو يتصرفون ويحاولون الهروب، تحت الظلام، من مسؤولية تصرفهم.

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.