العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

رالف نادر «غير القنوع» يتحدّث إلى «بدايات»

عن حقوق المستهلكين والانتخابات الرئاسية

النسخة الورقية

«الرجل القنوع يتكيّف مع العالم، الرجل غير القنوع يظلّ يسعى لتكييف العالم حسب إرادته. لذا فكل تقدّم يعتمد على الرجل غير القنوع» (برنارد شو)

«رجل غير قنوع» هكذا وُصِف رالف نادر على امتداد حياته، ليس بالمعنى الذي أراده برنارد شو. غير قنوع في الولايات المتحدة يعني متوحّشاً، غير منطقي، ورالف يردّ على التهمة بالإشارة إلى قولة برنارد شو «إن نعت الأشخاص بما هم غير قنوعين، أو بأنّهم حالمون أو غير واقعيّين، أسلوب يتبعه النظام الرأسمالي للمحافظة على الأمر الواقع. أدركت باكراً أنّه يتعيّن على المرء أن يسأل دائماً من هو الذي يوجه إليك النعت ولماذا؟».

في هذا الحوار مع «بدايات»، أخذني رالف نادر في رحلة عبر المحطّات الرئيسة في حياته، من طفولته المبكّرة، إلى نشاطه الحقوقيّ بما هو أحد أبرز المدافعين عن المستهلكين في الولايات المتحدة الأميركية، وصولاً إلى حملاته الانتخابيّة لرئاسة الجمهوريّة ونشاطاته الحاليّة.

وُلد رالف في وينستيد، بولاية كونيكتيكات، لأبوين لبنانيّين. درس في مدارس الولاية قبل أن ينتقل إلى جامعة برنستون ومنها إلى جامعة هارفارد حيث تخرّج من كليّة الحقوق في العام ١٩٥٨. سافر إلى كوبا في ذاك العام لحضور مؤتمر صحافي لفيديل كاسترو، وعاد إلى الولايات المتّحدة لينشر أولى مقالاته عن انعدام السلامة في السيارات الأميركيّة «التي تحوّلت بعنوان «غير آمنة بأيّ سرعة» العام ١٩٦٨ فحاربته كبريات احتكارات السيّارات.

انتقل إلى واشنطن للعمل على تغيير القوانين المتعلّقة بالمستهلكين. وفي مطلع الثمانينيّات، يئس من العمل من خلال الكونغرس وأنشأ مؤسّسة «محامين من أجل العدالة الاجتماعيّة». في العام ١٩٩٥ بدأ حملاته الانتخابيّة لرئاسة الجمهوريّة التي كرّرها مرّتين في العالم ٢٠٠٠ والعام ٢٠٠٣، ونال فيها ٥٪ من أصوات الناخبين. وبعدما أقلع عن التأثير عن طريق الكواليس في واشنطن، انتقل لتحدّي النّظام من الأطراف والهوامش بعدما أتمّت الاحتكارات السّيطرة على المتون.

يحذّرني رالف من أنّه لن يتكلّم عن لبنان أو الشرق الأوسط، فكونه متحدّراً من أبوين لبنانيّين لا يخوّله بالضرورة الحديث عن السياسة في المنطقة. لا يعتبر نفسه مرجعاً عن الشرق الأوسط. يعرف بعض الأشياء عن الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط لكنّه لا يعرف الكثير عن السياسات في الشرق الأوسط. لذا اقتصر حديثه على الإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بأميركا وخصوصاً عن ثقافة البزنس التي كرّس حياته للنضال ضدّها. لكنّه أصرّ على أن يريني (إيميل) أرسله للتوّ إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت يعتذر فيه عن عدم قبول شهادة دكتوراه فخريّة من الجامعة. «رفضتُ لثلاثة أسباب: أوّلاً، أنا ضدّ التعليم بواسطة المكافأة. ثانياً، الدكتوراه شهادة يستحقّها المرء ولا يتلقّاها. ثالثاً، على فرض أنّي قرّرت قبول درجة شرف، فلن اتلقّاها من مؤسّسة أميركيّة إشكالية عبر البحار، وبالتأكيد ليس بعد أن نالتها دونا شلالا [لبنانيّة الأصل، وزيرة الصحة حينها] وهي من المسؤولين عن حصار العراق والعقوبات التي فرضت عليه، ما أدّى إلى وفاة لا أقلّ من مليون إنسان».

وقد خصّصنا القسم الآخر من المقابلة للانتخابات الرئاسيّة. خاض نادر الانتخابات الرئاسيّة هو نفسه مرّتين. ولديه الكثير ممّا يقوله عنها وعن المال السياسيّ والمرشّحين.

 

. كيف اخترت طريقك في الحياة؟ كيف تطوّر وعيك عن أميركا الاحتكارات؟

كان أبي يبادر إلى إطلاق نقاشات عن قضايا سياسيّة واقتصاديّة خلال العشاء ونحن بعد في المدرسة الثانويّة. وكانت العدالة الموضوع الذي يثير شغف والدي أكثر من أيّ موضوع آخر. وهو أمر مفهوم. كان لبنان واقعاً تحت الاستعمار الفرنسي حينها، بالإضافة إلى بلدان عربيّة أخرى تستعمرها قوى غربيّة. تبنّى والدي الولايات المتحدة وطناً له وكان شغوفاً بالعدالة من خلال القانون. لم يحرجنا في النقاشات، علّمنا التفكير النقدي. كان يعرف بالمعاينة الشخصيّة كيف أنّ الاحتكارات آخذة في تدمير المؤسّسات الصغيرة، والمؤسّسات العائليّة، وكان هذا حالنا جميعاً. هكذا بدأت أعي طريقة تشغيل الاحتكارات. وكان عليّ أنا وإخوتي أن نتدخّل في النقاش ونؤثّر فيه من خلال المحاجات العقلانيّة. والمضحك في الأمر أنّي نُعتّ بأنّي غير عقلاني طوال حياتي. كان ندرة يزن كلماته ويستزيد من الأسئلة لمنح كل واحد من أبنائه الفرصة للمشاركة في النقاش إلى أن يشمل النقاش الجميع، وقد تتراوح مواضيع النقاش من الدين إلى «حال الاتّحاد»، ولم يكن يحقّ لأحد منّا أن يستسلم أو يتهرّب من النقاش، فالمتوقّع منّا أن يصمد كلٌّ في مواقعه وأن يدافع عن أفكاره بالحجّة والبرهان.

أمّي في المقابل علّمتنا بالأمثولات أكثر منه بالنقاشات. عانيت بسبب ارتدائي السراويل القصيرة إلى أن بلغت الثامنة من العمر، وكان عليّ أن أتحمّل سخرية زملائي. وعندما كنت أشكو الأمر لأمّي وأحاجج بأنّ سائر الأولاد يرتدون السراويل الطويلة، كانت تقول «ولكنّك مختلف، الأولاد الآخرون لديهم أمّهاتهم، وأنت لديك أمك». ثمّ تسألني: هل أنت قائد أم تابع؟ وتقول لي عليك أن تطرح هذا السؤال على نفسك في كل المناسبات. إنّ هذا الانفصال عن الجماعة – تفكير الجماعة، الانقياد للجماعات– سوف يرافقني كلّ حياتي.

شفيق أخي الأكبر، يكبرني ببضع سنوات. في المدرسة التكميليّة، أعطاني لائحة كتب للقراءة. هي كتب كلاسيكيّة منها «موبي ديك» و«تاريخ الصين» ولكن الأكثر إثارة لاهتمامي كانت أعمال آبطون سينكلير مثل «كتاب الأدغال» الذي يصف المظالم التي يتعرّض لها عمال تعليب اللحوم. وأيضاً كتاب إيدا تاربل «تاريخ شركة ستاندرد أويل كومباني» الذي تكشف فيه كيف أنّ آل روكفلر استخدموا طرقاً غير شرعية لإنشاء احتكار في الحقبة المبكّرة من صناعة النفط، وكذلك أعمال ستيفنس «النضال من أجل الحكم الذاتي» وهو بحث شامل في السياسة الأميركيّة. حفزتني تلك الكتابات على التأمّل في تركيب السلطة في أميركا.

في الثانويّة كان عليّ أن أراجع وثائق الكونغرس في مكتبة المدرسة لأنّ ما من أحد كان مهتمّاً فيها، فكوّنت فكرة عن طريقة عمل الكونغرس. ثمّ إنّي كنت مهتمّاً دائماً بأن أكون مواطناً صالحاً ولم أكن مهتمّاً بأن أنجح داخل النظام. النجاح لم يكن كلمة نسمعها في البيت. أن تكون لك غاية كان يعني أن تؤدّي عملك على نحو جيّد كائناً ما كان الهدف. و«جيّد» هنا يعنى المساهمة في الخير العام لا إحراز النّجاح الفرديّ.

عندما قدّمت طلب الانتساب الى جامعة برنستون أردت التخصّص في شؤون الشرق الأقصى، وكنت مؤهلّاً لنيل منحة لأنّي تخرّجت بشهادة شرف من الثانويّة، وأجيد لعب كرة السلّة وبعض اللغات. غير أنّ أبي لم يسمح لي بطلب المنحة لاعتقاده أنّ المنَح يجب أن تعطى للشباب الذين لا يستطيع أهلهم دفع الأقساط الجامعيّة، فالمطعم الذي يديره يعمل بطريقة جيّدة، وقد دفع أقساط تعليمنا الجامعي جميعاً، مع أنّنا كنّا مؤهّلين لنيل المنح الدراسيّة بناءً على علاماتنا لا على حاجاتنا الماديّة.

مصدر النفوذ الثاني بالنسبة إليّ هو اجتماعات قاعة البلدة في وينستيد التي كان أبي يأخذنا إليها كلّ أسبوع منذ الطفولة. ووينستيد حينها كان يحكمها أهلها فيجتمعون في قاعة البلدة ويشرّعون ويناقشون في كلّ الأمور ويمارسون الديمقراطيّة. وكان أبي يأخذ مبدأ الحريّة على مأخذ الجدّ منذ أن حطّ على أرض الولايات المتحدة وشاهد «تمثال الحريّة»، يسألنا كلّ يوم بعد الدراسة ما إذا كنّا تعلّمنا أن نفكّر أو أن نؤمن بشكل مستقلّ، دون تدخّل من أحد.

. حدّثنا عن بدايات حركة حقوق المستهلكين؟

كنت طالباً في كليّة الحقوق بجامعة هارفارد عندما تعرّض صديقي الحميم وزوجته واثنان من أولاده لحادث سير خطر، نجا صديقي بمفرده لكنّه أصيب بالشلل. بسبب شكوكي في الشركات، بدأت النظر في إحصائيّات ضحايا حوادث السيّارات، وكانت الأرقام مرتفعة جدّاً: ٤٧،٧٠٠ قتيل في العام ١٩٦٤ وأربعة ملايين جريح، أي إنّ أميركيّاً واحداً من كلّ أميركيّيْن اثنين معرّض لأن يكون ضحيّة حادث سيّارة. كتبت مقالة في مجلة «ذي نايشن» أناقش فيه تصميم السيّارات ومخاطرها. كان الموضوع جديداً كلّ الجدّة حينها والإعلانات عن السيّارات تبيع القوّة والأناقة مع السيارة وتربط الترويج لها بالجنس. والقدرة التنافسيّة لموضوع تصميم سيّارات آمنة ضعيفة في وجه الجنس والقوّة والأناقة.

عام ١٩٥٨ بادرت شركة فورد إلى تقديم سلّة سلامة للسيّارات وكسبَتْ شعبيّة عليها. الآن أسقطت شركة «جنرال موترز» سلّة السلامة وهدّدت شركةَ فورد بإخراجها من السوق إن هي ظلّت تبيعها. كانوا يخشون أنّ إجبارهم على بيع سلّة السلامة سوف يزيد من التشريعات والقواعد، وهم لا يريدون أن تتدخّل الهيئات الفيدراليّة في الرقابة على سلامة السيّارات. فكّرت أنّه إذا فرضنا قواعد سلامة من خلال القانون الفيدرالي فسوف يفرض عليهم تطبيق تلك القواعد. كانت الأسطورة الرائجة تقول إنّ كلّ حادث سيّارة مسؤول عنه الرجل الذي خلف المقود. إنّها أسطورة «السائق المتهوّر». حاججتُ بأنّها مجرّد أسطورة وأنّ الوفيّات نتيجة حوادث السير مشكلات بنيويّة لأنّ السيّارات ليست مصمّمة لتوفير الأمان بل يجري تسويقها بما هي مركبات حُلميّة ذات أثر جنسيّ-نفسانيّ.

باشرت أبحاثاً استغرقت ثلاث سنوات لإثبات فكرتي. كان التقرير وافياً وشكّل فتحاً في مجاله بحيث لم يمكن تجاهله. دعا إلى تشريع ينظّم صناعة السيارات، وركّز على الأعطال في التصنيع بما هي السبب الثانوي للحوادث ولوقوع الضحايا. بعبارة أخرى: إنّ المركبة التي تظنّها جوهر سعادتك خطيرة إلى أبعد الحدود. حاولتْ جنرال موترز تلطيخ سمعتي بشنّ حملة تحرٍّ في حياتي الشخصيّة. أرسلوا نساء لإغرائي وتصويري في وضعيّات محرجة. في نقاش في الكونغرس عن جنرال موترز، حاججت بأنّه يتعيّن أن يكون للمرء حياة متقشّفة ليستطيع الحديث بصدق عن الصناعة الأميركيّة. اعتذرتْ جنرال موترز لكنّي قاضيتهم وحصّلت منهم على ٤٧٥،٠٠٠ دولار غرامة على خرق خصوصيّتي. وظّفت المبلغ في وقفيّة شكّلت الموارد الأولى لنشاطي في السنوات التي تلت.

كانت القضيّة ضدّ جنرال موترز بداية معركة طويلة ضدّ كبريات الشركات من خلال ما سمّيته «حقوق الاستجابة»: أي المرافعات القانونيّة لصالح الجمهور. سبب تطبيق هذا القانون وعدم تطبيق القانون الآخر مسألة مهمّة من جيل إلى آخر، تثير أسئلة يجدر طرحها علناً. القانون لصالح من؟ هو السؤال الذي يجب أن يكون في صميم نشاط المؤمنين في البنية القانونيّة إطار للنّضال ضدّ الشركات، وهي حالُ إيماني حينها. سافرت إلى الدول الإسكاندينافيّة ودرست نظام «الأومبودزمان» وكنت مقتنعاً بأنّي بدلاً من مهنة محاماة فرديّة، أكثر إدراراً للربح، أريد أن أدافع عن مصلحة المستهلكين العاديّين، مهما تكن الأكلاف الشخصيّة.

. تعرّضتَ للانتقاد لأنك ركّزت على المرافعة عن المستهلكين بدلاً من الانخراط في حركات الحقوق المدنيّة وفي الحركات المعارضة لحرب فيتنام في الستينيّات. ماذا تقول في هذا الصّدد؟

أفادت حركتنا أيّما إفادة من الحركة المناهضة للحرب والداعمة للحقوق المدنيّة. كلتا الحركتين خلقتا مناخاً للنضال من أجل حقوق المستهلكين، للنضال ضدّ استيلاء الشركات على السلطة. آثرت العمل داخل الإطار القانوني مناضلاً من أجل المستهلكين ومعظمهم يعيش في الفقر أو في الغيتوات المدينيّة. هكذا أسهمت في حركة الحقوق المدنيّة بطريقة غير مباشرة.

بعد «قانون سلامة المركبات» عملنا على «قانون نظافة الغذاء والدواء». كانت اللحوم والدجاج المعلّبة التي تباع للفقراء مفتقرة إلى الشروط الصحيّة. حمّل القانون الحكومةَ الفيدراليّة المسؤولية عن مراقبة اللحوم وعمليّات التعليب. ثمّ فرضنا «قانون السلامة الصحيّة» الذي تضمّن تشريعات وقواعد لمنتجات أخرى تتعلّق بالإشعاعات. وفي العام ١٩٦٨، فرض «قانون الغذاء والزراعة» تعديلات تتعلّق بالحليب والأرزّ والحبوب والأراضي الزراعيّة. مَن تعتقدين أفاد من تلك القوانين؟ من هو الطرف الأكثر مسؤوليّة عن الفقر وخرق الحقوق المدنيّة غير العنف المستتر الذي تمارسه الشركات؟ ومن هم الذين يجري خداعهم وابتلاؤهم بالأمراض وإصابتهم بالإعاقات إن لم يكونوا الأقلّيّات والفقراء؟

في السبعينيّات، تمكّنا من فرض تشريع ٥١ قانوناً جديداً تدور كلّها مدار حماية المستهلكين. كانت قوانين حماية المستهلك موجّهة ضد الشركات، فيما المنطق ذاته يستخدم في أيّامنا هذه تحت عنوان «مكافحة الفساد» أو «حماية المستهلك»، ولكن بدلًا من النضال ضد كبريات الشركات، صار يخدم في حمايتها وتسويغ مراكمة الثروات. وهذا ما يجري على نطاق العالم أجمع، بقيادة البنك الدول وكبريات الشركات وبالتعاون مع الحكومات المحلّيّة.

. تقول «نحن». هل لك أن تفسّر من تعني بـ«نحن»؟

كنّا فريقاً من الطلبة الجامعيّين في معظمنا، نصف مليون طالب موزّعين على معظم الجامعات، وباحثين، يتوزّعون العمل يبحثون في إطار «مجموعة البحث في المصلحة العامّة». في السبعينيّات قدّمت الشهادات أمام الكونغرس عن عدد من القضايا مثل سلامة المناجم، التلويث بواسطة الزئبق، الإقراض غير العادل، طمر نفايات القطارات و«قانون حريّة المعلومات». وثمّة العديد غيرها مثل قانون مساعدة الطلاب والسيارات النظيفة، وقد انبنت كلّها على الأبحاث وروّج لها الطلاب، أمّا أنا فكانت وظيفتي تأمين تواصل العمل بين المجموعات.

بدأت المصاعب في السبعينيّات. لم تكن البداية مع ريغان، وقعتْ أوّل انتكاسة لقوانين حماية المستهلك في عهد كارتر عندما تقدمنا بـ«قانون مراقبة الكونغرس» المستوحى من قضيّة لوكهيد مارتن، وهي حالة فساد كلّفت الحكومة الفيدراليّة بليوني دولار. اقترحت تشكيل دور تابعة للمسؤوليّة المهنيّة من أجل الدفاع عن مسرّبي معلومات عن حالات الفساد داخل الشركات. والنقطة المركزيّة في الأمر: متى يحقّ للموظّف ان يحسم بأنّ الولاء للمجتمع يجب أن يتغلّب على الولاء لسياسات المؤسّسة، أي لأرباح الشركات، فيبادر إلى إبلاغ الأطراف الخارجيّة أو القضاء. لم تكن أميركا الشركات مغرمة بذلك المشروع المترافق مع «قانون مراقبة الكرنغرس». أخذوا يهاجموننا. علّق أبي على الهجوم بقوله إنّ الغلط في أداء أيّ حكومة يبدأ عندما تكون أسهل وسيلة لفقدانك وظيفتك هي أن تمارس تلك الوظيفة حسب الأصول.

بدأت أميركا الشركات شراء أعضاء الكونغرس وفقدنا القضيّة. كارتر لم يؤيّد المشروع. كانت أيّام ريغان قاسية. أعاد النظر في القوانين الحكوميّة وأخذ يفكّك ما قضينا عشرين سنة في تشييده. راجع أصحاب الشركات دورهم في السياسة وبدأوا يموّلون مراكز الأبحاث لأغراض الدعاية ومحاولة تغيير شروط المناقشة كليّاً. أنشأوا «مؤسّسة الميراث» للقضاء على قوانين حماية المستهلك. عدّلوا تشريعات وقواعد الصحّة والسلامة على اعتبارها مسألة اقتصاديّة في حين أنّنا ناضلنا من أجل تعريفها على أنّها قضايا أخلاق وسلامة. حوّلوا طريقة ممارسة السياسة في واشنطن وسائر البلد. اشتروا سياسيّين وإعلاميّين ديمقراطيّين وازداد الحزب الديمقراطي اقترابا من الحزب الجمهوري، وجدت نفسي بلا قواعد، فانكفأت إلى النشاط القاعدي بدلاً من العمل على تغيير السياسة، فقد استولت الاحتكارات على السياسة بحيث استحالت إمكانيّة إسداء الهزيمة لهم في الكونغرس. لقد تعلّموا اللعبة، شرّعوا قانون الشركات [الذي يعترف للشركة بصلاحيّات قانونيّة وحقوق وامتيازات وواجبات كالتي يتمتّع بها الفرد، وهي حقوق متمايزة عن حقوق الأفراد الذين تتكوّن منهم الشركة، فتستطيع الشركة شراء الأملاك وبيعها وتوارثها، إلخ.]، وفي منتصف التسعينيّات استكملت الشركات الاستيلاء على السياسة. منذ ذلك الوقت لم يكن لنا حكومة تعمل لصالح الشعب، وإنّما حكومات تعمل لصالح شركة إكسون-موبيل وشركة جنرال موترز، لا حكومات «من الشعب وإلى الشعب».

. كيف سيطرت الشركات على أميركا؟ متى حصل الانقلاب، كيف نظّموه؟

كان في معظمه رد فعل على التعبئة الفعالة التي قمت بها في واشنطن وعلى قوانين المواطنة التي كنا نصدرها. لويس باول، الأمين العام لغرفة التجارة الأميركيّة وعضو الكونغرس لاحقاً، كتب مذكّرة عنوانها «٧١ شاغلا للشركات تجاه نشاطات نادر» يذكر فيها «ربّما كان العدوّ الفرد الأشدّ فاعليّة ضدّ البزنس الأميركي هو رالف نادر، الذي تحوّل إلى أسطورة وهو لا يزال على قيد الحياة ومعبود الملايين من الأميركيّين بفضل الإعلام بالدرجة الأولى». وأوصى باول بضرورة «شنّ الهجوم بلا هوادة على أمثال نادر وماركيوز [الماركسي الألماني هربرت ماركيوز، الواسع التأثير في جيل الستينيّات]، وسواهما من العاملين على تدمير النظام. لا هوادة في الدفع بقوّة في كافّة الميادين السياسيّة لدعم نظام الاقتصاد الحرّ. ولا تردّد في المعاقبة السياسيّة لمعارضيه».

باول مصاب بالرُهاب وهجومه هجوم على الديمقراطيّة في أميركا. على الصعيد العمليّ طالب عالم الأعمال باستئجار كواليسيين في الكونغرس وصبّ الأموال على السياسيّين من كلا الحزبين، وتأمين حضور في الجامعات وتحريك مراكز الأبحاث اليمينيّة وضخّ الأموال في «مؤسسة التراث الأميركي» وسواها من مراكز الأبحاث التابعة للشركات. غير أنّ المثير هنا أنّ التعليق على مذكرة باول حين إعلانها أخطأ معناها. هو طالب الشركات بالوحدة والتوجه إلى واشنطن لممارسة الضغوط على أعضاء الكونغرس وقد نجحوا في ذلك. غير أنّ الإستراتيجيّة التي حازت النجاح الأكبر هي أنّ مذكّرة باول أدتّ إلى إفساد عميم للحزب الديمقراطي. تاريخياً، كان الديمقراطيّون يأتون بأموالهم من عالم العمل والنقابات. وقد حصل الانعطاف في العام ١٩٧٢ عندما أخذوا يقبلون التبرّعات من الشركات. أدرك باول في مذكّرته أنّ إفساد الحزب الديمقراطي سوف يزيد من فساد الحزب الجمهوري للمزايدة على الديمقراطي.

منذ ذلك الحين، وضعت النقابات العمّاليّة في موقع دفاعي لم تستطع أنْ تتجاوزه، وهي قد نزفت بسبب الأتمتة ثمّ بواسطة العولمة عندما أخذت الشركات تصدّر مصانعها عبر البحار. كانت أموال النّقابات تشكّل ربع أكلاف الانتخابات الرئاسيّة، يذهب معظمها إلى الديمقراطيّين، وهكذا كان العمّال يؤثّرون في سياسات الديمقراطيّين الانتخابيّة قبل العام ١٩٧٤. الآن يدفع مجمّع الشركات ٥٢ دولاراً للنّفقات الانتخابيّة مقابل دولار واحد تدفعه النقابات العمّاليّة، فيما كانت المساهمة متساوية.

ومنذ أن صارت الأموال تتدفّق من الشّركات على الحزب الديمقراطي، لم يصدر أيّ تشريع يحمي حقوق المستهلكين. وهذا هو أثر المال وتدخّل الشركات في السياسة، وتخريب أيّ نوع من الهجوم المعاكس على عدوانهم.

. كيف كان الأثر على لجان المواطنين؟

ضاعفنا الجهود في مقابل تدنّي المردودات يوماً بعد يوم. هزم الديمقراطيّون في موجة انتخابيّة عارمة، وخسرنا نوّاباً ينتمون إلى المجموعة التقدميّة فيه فخفضوا سقف مطالبهم وصاروا تكتيكيّين لا برنامج هجوميّاً لهم. وعندما تكون في حالة دفاع في السياسة يستحيل عليك التخلّص منها. صارت «لجان المواطنين» تدافع عن المواقف الدفاعيّة لنوّاب الحزب الديمقراطي التقدمي.

كسب جيمي كارتر انتخابات العام ١٩٧٦ وعيّن بعض الأشخاص الجيّدين، لكنْ حلَّ الشللُ والاستنقاع بعد العام ١٩٧٨. أخذنا نعاين انهيار كلّ البناء الفوقي الذي انشأناه والذي دافع عن رجال ونساء عاديّين في واشنطن. بدأت المؤسّسات المانحة تخفض تمويلها لمجموعات المواطنين، موّلوهم إلى حين أفسدوهم وأجبروهم على الخيار بين أهون الشرّين في وسائل العمل. كان معظم أمناء مؤسّسة فورد من رجال الأعمال فبدأوا يوقفون تمويل «لجان المواطنين».

أطلقنا حملة لمقاومة إعادة الهيكلة، ووقفنا في وجه هجمة تحرير الأسواق العارمة، ولم يعد بإمكاننا فرض تنفيذ القوانين الجيّدة، ذلك أنّ الموظّفين المناصرين للشّركات وضعوا كلّ التشريعات في الأدراج. لجأنا إلى استراتيجيّة أخرى: بدأتُ أدور في البلد لتشكيل مجموعات مختلفة تعيد تأسيس البنية التحتيّة المدنيّة، وإحدى الطّرق لذلك هي تشريع قوانين تلزم الشركات بأن تضيف إلى الفواتير التي ترسلها للزبائن الدعوة إلى الانضمام إلى لجان الدفاع عن حقوق المستهلكين. نجحت الحملة نجاحاً كبيراً ولكن ما إن صرنا على أهبة اجتياح البلد، رفعت الشركات قضيّة ضدّنا على اعتبار أنّ ما نطالب به يخرق حقّ الشركة – أيْ حق شركة باسيفيك غاز، والمصارف – في التزام الصمت وهو الحقّ الذي يصونه التعديل الدستوريّ الأوّل بالنسبة إلى المواطنين الأفراد. نالوا ما أرادوا. وصدّق القضاء على رفضهم وألغت إلزاميّة إرسال الشركات الدعوات إلى زبائنها للانتساب إلى منظّمات للدفاع عن المستهلكين مع فواتيرهم.

عندما تولّى كلنتون الرئاسة تمّ عزلي تماماً، ولم يعد بإمكاني أنْ أناقش قضايا أمام الكونغرس. ضيّقوا علينا فأخذتْ معظم مجموعات المواطنة تخفض سقف مطالبها حتى إنّ جماعة كلنتون عصرونا عصراً وعلّقوا الأوجه الأكثر حيويّة من الديمقراطيّة الأميركيّة. صار العمل ضمن النظام القانوني مستحيلاً: استولوا على النظام القانوني بواسطة القانون الذي يعتبر الشركة شخصاً حيّاً ومتمتّعاً بالوعي. وتكاثرت التشريعات لصالح الشركات وأنفقت أموالاً طائلة وجرى تهميش القانون العام. وترافق ذلك مع رفع قيمة القروض على التعليم، فامتنع الطلاب عن اختيار القانون العام لأنّه لن يفضي إلى وظائف دسمة تسمح بإيفاء الديون بعد التخرج، فيما التخصص في قانون الشركات يتيح لك تسديد القروض في بضع سنوات.

أزال «قانون الشركات» الحواجز بين النّزعة التجاريّة والمواطنة، سلّعوا الانتخابات، وسلّعوا السياسة، سلّعوا كلّ شيء، صار كلّ شيء معرّضاً للبيع، عندما انكسر سدّ «القانون العام» وسمح للمجمّعات الشركات بدخول ميادين كانت محظورة عليها سابقاً. من يمكنه شراء الديمقراطيّة؟ الذين يملكون المال، يمكنهم شراء الانتخابات، شراء الموافقة، شراء كلّ شيء. يجب أن تكون ثمّة منطقة حرام للديمقراطيّة! يجب تحريم شراء وبيع الحكومات، يجب تحريم شراء الطفولة وبيعها، البيئة لا يمكن أن تكون عرضة للشّراء والبيع، وهي كلّها الآن معروضة للشراء والبيع، وهذا الذي يُسمّى «قانون الشركات» يسمح للشركات بأن تموّل الانتخابات أسوة بالأفراد. وهو ما كسر الديمقراطيّة، وأنشأ ديكتاتوريّة نظام الحزبين. إذذاك قررتُ خوض الانتخابات الرئاسيّة، للإعلان بأنّ زمن العمل من داخل النظام قد ولّى، وأنّ ثمّة حاجة إلى كسر ديكتاتوريّة نظام الحزبين. كنت أعلم أنّني لن أفوز. كانت حملتي حملة توعية سياسيّة.

. ما الذي كشفه ترشيحك للرئاسة؟

كشف نظام ديكتاتوريّة الحزبين والتلاعب بالشعب الأميركيّ وكيفيّة السيطرة عليهم بواسطة التخيير بين أهون الشرّين. كان المرشحون من خارج الحزبين يعاملون بما هم مواطنون من الدّرجة الثانية. لا حقّ لهم بالاطّلاع على قوائم الترشيح أو المشاركة في الحوارات الرئاسيّة. كان عليك أن تملك ١٠٪ من الأصوات في الانتخابات الأوّليّة ليحقّ لك المشاركة في الحوارات الرئاسيّة. وهذا تمييز ضدّ الحرّيّات المدنيّة للمرشّح: لكلّ مواطن الحقّ المتساوي في خوض الانتخابات لتولّي الوظيفة العامّة. المعارضة والمقاومة التي جذبت الناخبين تاريخيّاً أسهمت في تحسين الأداء السياسيّ وحقّقت بعض العدالة في بلدنا. كان الإعلام الذي يرفض تغطية حملاتنا يسمّينا «مفسدين» العمليّة الانتخابيّة. وقد اتّهمت بأنّي سهّلت فوز بوش.

والمعيب أنّ الحزب الديقمراطيّ هو الذي يمنع ملايين الناخبين من أن يختاروا مرشّحاً ثالثاً، يريدون احتكار السياسة التقدّميّة في وقت صاروا فيه أكثر محافظةً اقتصاديّاً من الجمهوريّين.

. هل تعتقد أنّك سوف تشاهد تغيير نظام الحزبين في أيامك؟

الحقيقة أنّني متفائل إلى حدّ كبير. أوّلاً، القيود على المرشّحين من خارج الحزبين آخذة في التقلّص بسبب الأزمة الاقتصاديّة وبداية نهاية الرأسماليّة الأميركيّة. ثانياً، ثمّة قضايا عديدة مرفوعة من «حزب الخضر» و«الحزب الليبرتاري» أو حتى «حزب المحافظين» الذين تنامى نفوذهم في ولاية بعد ولاية، بات بالإمكان تجاوز العقبات ومنح الناخبين المزيد من الخيارات والأصوات. وثالثاً، تشير نتائج الانتخابات إلى أنّ نحو ٦٠٪ من الأميركيّين يتطّلعون إلى حزبٍ ثالث فعّال.

. لننتقل إلى انتخابات هذا العام. كيف ترى إليها؟

إنّها آخر ألاعيب حفلة سيرك، لكنّه سيرك قاتل، لأنّ الجميع يجعجع على أمل أنْ يصير قائداً للولايات المتّحدة ويضع إصبعه على الزرّ الذي يفجّر القنبلة النوويّة. إنّها عمليّة شاذّة حيث الذين يملكون الثروات الطائلة، لكنّهم عديمو الكفاءة، يعتلون خشبة المسرح، ويحقّقون الشهرة والجاه، غير أنّ العقول التي تَقْولبها رسائل التويتر لا تنتج مجتمعاً ديمقراطياً متألّقاً. إنّهم يحوّلوننا إلى مُشاهدين، وتتحوّل الانتخابات إلى تسلية نتنازل فيها عن حقّنا في المحاسبة بما نحن مواطنون.



. ما رأيك في المرشحين؟ لنبدأ بدونالد ترامب. ما الذي تقول لك شعبيته عن الجسم الانتخابي الأميركيّ وعن مطالبه؟

ترامب يهزّ النظام وهذا أمر جيّد. قد يُنتج ذلك نتائج إيجابية وقد ينتج نتائج سلبيّة، مثل اختيار الحزبين لنائب رئيس يمينيّ، يربطهما معاً بمصالح وول ستريت ودولة الاحتكارات. لا تعرف الصحافة كيف تحشر ترامب. إنّه يخاطب الناس الذين ملّوا السياسة ولم يمارسوا أيّ نشاط سياسيّ من قبل. يعرف هؤلاء أنّهم يتعرّضون للسّرقة وهم يَضيقون ذرعاً بالسياسيّين. وهذا ما يعرفه ترامب جيّداً جدّاً. الناس يتطلّعون إلى رجل قويّ. هذا من معالم التقهقر في مجتمعاتنا، عندما يقول

«سوف أخنق أنفاس من يتعرّض لكم». الناس يريدون تطمينات من هذا النّوع. إنّه يراهن على الوضوح، عباراته مبتسرة جدّاً، يقول أشياء مثل: «إنّهم ينيكوننا» «سوف أبني جداراً» [بين الولايات المتّحدة والمكسيك لوقف سيل الهجرة]. تكمن عبقريّة ترامب في اللعب على الكلمات. إنّه ينطق باسم اللاوعي الأميركيّ ويعكس العقليّة اليمينيّة في المجتمع الأميركيّ ويجيد الحديث إلى هذا اليمين المحافظ: هؤلاء هم نحن، هذا هو مجتمعنا. لكنْ ليس من العدل استسهال اتّهام ترامب بأنّه يمينيّ. إنّه شعبويّ يخاطب ثقافة الطبقة الوسطى الأميركيّة البيضاء. يدعو إلى إعادة النّظر في اتفاقيّات التّجارة الدوليّة، يقول إنّ كبار الرأسماليّين يسرقوننا، ويرحّلون الوظائف عبر البحار، ويراكمون الأموال، فيما نحن عاطلون من العمل.

يقول أموراً لم يقُلها رجل أعمال من قبل. عندما تحدّاه أحدهم بأنّه سجّل طلب إشهار إفلاسه، قال «إنّني ألجأ إلى الإفلاس بما هو مصلحة ماليّة. أستطيع أن اسمّي عديدين استخدموا إشهار إفلاسهم لكسب الأموال. لست أقول أيّ شيء مختلف وأنا أقوم بكلّ هذا بطريقة قانونيّة». إنّ ترامب في وقاحته يخدم الأجندة التقدّميّة، والنقّاد التقدّميّين لسياسات وول ستريت وللقوانين العاملة لصالح التكتّلات الرأسماليّة. إنّه يملك فرصة لكسر طغيان نظام الحزبين الذي يسيطر على المشهد السياسيّ لصالح كبار الرأسماليّين. يتطلّب الأمر صاحب بليونات من الدولارات لكسر هذا النظام. وترامب يزيد من الفرص أمام نظام متعدّد الأحزاب، متعدّد الأصوات، متعدّد الخيارات.

وترامب يقدّم نفسه على أنّه شخصيّة أبويّة. «لا تجزعوا، سوف أوفّر لكم الوظائف»، «سوف أتدبّر أمر الإرهابيّين». وعندما يتعثّر، يقلب الآية. يقول إنّه لا يريد أجوراً مرتفعة، ثمّ يناقض نفسه خلال أسبوع، فيقول «انظروا، أستطيع أن أغيّر رأيي. لا تجزعوا. الجدار الواقي بين أميركا والمكسيك. من سيدفع أكلافه؟ المكسيك. سمعت أنّهم لن يدفعوا. تدرون ماذا؟ هذا يعني أنّنا سنزيد عشر أقدام إضافيّة إلى ارتفاع الجدار». ثمّة بعض المهارة في هذا.

الأمر الثالث في ترامب أنّه منغّل. أسمّيه «جمهقراطي». يدعو إلى اعتماد قانون للضمان الاجتماعي والصحّيّ، وهو من أنصار المشاريع العامّة. وهذا ما يطمْئن الذّكور البيض المحافظين وآخرين إلى أنّه لن يكون محافظاً مخبولاّ مثل السناتور تيد كروز وأشباهه.

وهذا ما نلقاه عندما نسير قرب ورشات بناء ونتحدّث إلى عمّال بيض وهم يشعرون بأنّهم مقموعون لغويّاً. قد يصعب على واحدة في مثل عمرك إدراك ما سوف أقوله. إنّهم يحبّون الوقوف عند الناصية وأن يصفّروا عند مرور امرأة جميلة. ولكنّهم لا يستطيعون ذلك بعد الآن. ضاعفي الحالات عبر الزمن: لا يحقّ لك أن تتحدّث عن هذا الأمر، ولا يحقّ لك أنْ تتحدّث عن ذاك الأمر، وربّ العمل يأمرك بأن تسكت. وربّما أنّ زوجتك تريدك أن تسكت، وأولادك يطالبونك بأن تسكب. فيما هم قد ورثوا لغة متكاملة فيها عبارات إثنيّة من مثل «بولاك» للبولونيّين. وكثير منهم نشأوا على نكات إثنيّة، وقد باتت محرّمة كلّيّاً في أيّامنا هذه. هل تدرين أنّ كلّ كتب النّكات الإثنيّة قد سحبت من المكتبات الآن؟ وكان يوجد منها الكثير على الدوام. كتَب نكات عن الزنوج، كتب نكات عن اليهود، كتب نكات عن البولونيّين، كتب نكات عن الإيطاليّين. كان العمّال يلجأون إلى النّكات الإثنيّة في الثلاثينيّات والأربعينيّات والخمسينيّات لتخفيف الضغوط عنهم، ويتضاحكون لكلّ نكتة يلقيها أيّ منهم ويرمونه بنكتة في المقابل. ولا تزال هذه الأمور سارية المفعول في أميركا. ثمّة مئات من الأمور يحبّ القوم أن يقولوها، فإذا ترامب يزايد عليهم فيها، يسكرهم بها. وبهذه الطريقة نجح في لفت أنظارهم أوّل الأمر.

. هل تقصد أنّ ترامب محقّ في موضوع اللياقة السياسيّة؟ وأنّنا بتنا شديدي التزمّت في هذا الصّدد؟

نعم، بالتأكيد. ترين ذلك في الجامعات، ما اسمه؟ «إنذار التنبيه»؟ بلغ الأمر حدّ العبَث. أقصد يجري قمع الناس، وإثارة مشاعر الغضب، وما النتيجة؟ تحويل النّاس إلى بَشَرات تتجرّح إذا سقطت عليها أشعّة القمر. الشباب اليوم شديدو الحساسيّة لأنّهم لم يخدموا خدمتهم العسكريّة الإلزاميّة. لم يقابلوا عريفاً يصيح بهم «انبطحْ أرضاً ونفّذ ٥٠ حركة ضغط صعوداً وهبوطاً، ولست أهتمّ إذا كنت ستفعلها في الوحل».

إلى ذلك، وهذا مهمّ، ثمّة شريحة ضخمة من النّاخبين لا تحبّ أيّاً من الحزبين. وكثير منهم لا يقترعون أصلاً أو يقترعون على قاعدة أهْون الشرّين. لكنّهم يحبّون من لا يُشترى ولا يُباع.

إنّ ساندرز غير قابل للشراء أو البيع. وقد أثبت أنّه ليس مضطراً إلى ارتياد أحياء الأغنياء في نيويورك بحثاً عن مموّلين من القطط السمان، وهذا خرق عظيم بالمناسبة. كان الديمقراطيّون يقولون لعقود من الزمن «نؤمن بإصلاح تمويل الانتخابات، لكنّنا لن نقلع عن تلقّي التمويل من الشّركات من جهة واحدة». ساندرز أقلع عن الممارسة من جهة واحدة. وأحاط نفسه بالنّاس العاديّين الذين يتبرّع الواحد منهم بما لا يزيد عن ٢٧ دولارا للحملة الانتخابيّة.

لست أدري إلى أيّ حد تعرفين عن «لجنة النقاشات الرئاسيّة» وهي شركة خاصّة لا تتوخّى الربح. أراد الديمقراطيّون والجمهوريّون التخلّص من «رابطة الناخبات» التي كانت تدير النقاشات الرئاسيّة لأنّها كانت شديدة الاعتداد بالنفس فأنشأوا تلك اللجنة. تمّ تمويلها من التكتّلات الرأسماليّة – آنهاوزر-بوش، فورد، آي تي أند تي. فإذا هذه الشركة باتت تقرّر بالنيابة عن الحزبين عدد النقاشات، وشكلها، ومدراء الجلسات، وسائر الآليّات. لا أعتقد أنّ الأمور سوف تسوء أكثر من ذلك. حتى وصلنا إلى العام ٢٠١٦ فإذا النقاشات مناسبات لتولّي أجهزة الإعلام الخاصّة تحقيق الأرباح. فالآن لدينا تلفزيون «فوكس نيوز» والـ«سي. إن. إن» تتناوبان على إدارة النقاشات. وكلتا الشركتين تسجّل أرقام مشاهدة هائلة، خصوصاً أن ترامب حوّل الحوارات الرئاسيّة إلى سيرك. تصوَّري: لديك أجهزة إعلام متهالكة على الربح في «فوكس» و«سي إن إن» وسواهما، وهي تقرّر من يشارك في الحوارات وما هي مدّتها وأين مكانها. هل هذا ضرب من المزاح؟ لقد جرى تسليع الحوارات في الانتخابات الفرعيّة وما من أحد يعلّق على ذلك!

. ماذا عن ساندرز وترامب؟

ساندرز يعبّر عن رأي أكثري، وقد أنشأ نظاماً فعالاً، يعكس رأي الأكثريّة، وهو يطالب بزيادة الحدّ الأدنى للأجور – وهذا ما يطالب به عشرات الملايين من الأميركيّين ــ ويعارض خفض الرقابة على أسعار الأدوية التي ترتفع شاهقة.

ساندرز وترامب كلاهما من الخوارج، سياسيّاً يُحدث تموّجات كبيرة في الحياة السياسيّة وتغييراً كبيراً منذ الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة. لكنّ المرشّح الذي يعبّر عن الأكثريّة هو بيرني ساندرز. وقد أنفق ملايين الدولارات من تبرّعات متواضعة وهو لا يريد اللجوء إلى مموّلين. ترامب من أبناء الدّاخل بمعنى انتمائه إلى عالم التكتّلات الرأسماليّة، يتلقّى المساعدات الماليّة والإعفاءات الضريبيّة الحكوميّة لصالح شركاته، ويستخدم قانون الإفلاس للتهرّب من سداد ديونه. له انتقادات كثيرة على صناديق التحوّط ورجال وول ستريت، القطط السمان الذين ينمّون تعويضاتهم بما هم رؤساء مجالس إدارة. ويقول كأنما عن غير وعي كامل منه: «لماذا ندفع للسياسيّين كلّ هذا المال؟ لأنّهم ينفّذون كلّ ما نطالبهم به». وهذا تأكيد لما كنّا نقوله من سنين عندما يجيء على لسان ربيب عالم التكتّلات الرأسماليّة. لقد تحدّى ترامب وول ستريت في غير مناسبة، دعا إلى إعادة النظر في الاتفاقات التجاريّة، مع أنّي لست أدري مدى جدّيّته في هذا. لكنّه يقول إنّه ضدّ حسم حصّة من الأرباح لتغذية صناديق التحوّط وهاجم أموال الفوائد الخاصّة، وقد موّل حملته الانتخابيّة بماله الخاصّ، وبالتّالي هاجم العوائد المتأتّية للذين يديرون الأموال دون أن يكونوا من المستثمرين. إلّا أنّه خفّض من مستوى النقاش السياسي إلى أعماق غير مسبوقة من الغرائزيّة والتجهّم والخواء، ترافقها مقادير هائلة من التبجّح واللغو. وهذا سيّئ لأنّه صبّ أموالاً كثيرة في أجهزة الإعلام، وهو نوع من النّقاشات باتوا يشجّعون عليه.

. ماذا عن ساندرز وهيلاري كلنتون؟

المشكلة الرئيسة في ساندرز هي أنّه قال منذ البداية وكرّر ذلك لاحقاً، إنّه إذا رشّح الحزب الديمقراطيّ هيلاري كلنتون فسوف يدعم ترشيحها. فخسر بذلك كلّ تأثير لدفعها إلى اعتماد أجندة أكثر تقدّماً. وخسر أيضاً ثقة جميع الذين ينشطون دعماً له. فماذا يقول لملايين الناس الذين أيّدوه وتبرّعوا لحملته، هؤلاء الذين سوف يفقدون الأمل؟ إنّ كلنتون تتباهى بسجلّها وتجربتها بطرائق يمكن لساندرز استخدامها لفضح نقاط الضعف الجدّيّة عندها والمعوّقات الكبرى لأهليّتها للرئاسة. صحيح أنّ ساندرز يردّ على نقاط كلنتون، لكنْ تعوزه الدقّة المطلوبة لتدمير عجرفتها.

هيلاري كلنتون ليست صادقة مع الشعب الأميركيّ عندما تحتفظ لنفسها بتسجيلات الخطب السريّة (تتلقّى عليها ٥٠٠٠ دولار بالدقيقة) التي تُلقيها في مؤتمرات رجال الأعمال في وول ستريت وفي ندوات الجمعيّات التجاريّة. عقود إلقاء الخطب التي توقّعها كلنتون تشترك في السريّة والكتمان. غير أنّ كلنتون لم تبلغ الناخبين بعد بما كانت تقوله خلف أبواب مغلقة لكبار أصحاب المصارف وأصحاب مصانع السيّارات والأدوية والمطوّرين العقاريّين. ومع ذلك فهي تملك القحَة لاتهام ساندرز بأنّه ليس شفّافاً. وعندما يتّهمها هذا الأخير عن حقّ بأنّها عيّنت هنري كيسنجر، وزير الخارجية زمن ريتشارد نيكسون، مستشاراً لها، تناور وتتحاشى الجواب بأن تسأل ساندرز أن يسمّي مستشاريه للشؤون الخارجيّة. الحقيقة أنّ كيسنجر وكلنتون يتشاركان في أمور عديدة من حيث تقديم الإمبراطوريّة الأميركيّة على أعلى درجات وحشيّتها. كيسنجر «جزّار كمبوديا»، الذي شنّ هجوماّ غير شرعيّ لتخريب ذاك البلد المسالم، ما مهّد الطريق أمام تولّي بول بوت ذبح ملايين من الأبرياء. أمّا كلنتون، فهي «جزّار ليبيا» غير الشرعيّ، وليبيا الآن مأساة متواصلة تتنامى «ارتداداتها غير المقصودة» أسبوعاً بعد أسبوع. في إعادة تذكير كاسحة بنزعة هيلاري كلنتون الحربيّة الكارثيّة، يخلص جيفري ساشز، أستاذ الاقتصاديّات المستدامة في جامعة كولومبيا، إلى أنّها «مرشّحة آلة الحرب»، مرشّحة التكتّلات الرأسماليّة والحرب. وقد خسر ساندرز كلّ أوراقه من أجل الدفع نحو اعتمادها لسياسة مختلفة.

تعكس هذه الانتخابات الرئاسيّة نهاية هيمنة الرأسماليّة الأميركيّة كما عرفناها إلى الآن. إنّ النظام قيد الانهيار، الكثير من الناس يضعونه موضع تساؤل، أمّا كيف سوف ينتهي، فوسط معارك وقد تكون معارك عنيفة، إن لم يُنصت ذوو السلطة إلى طبول التحذير التي قرعها خلال الانتخابات أنصار ترامب وأنصار ساندرز على حد سواء وهم يقولون: «هذا النظام فاسد منهار ويحتاج إلى إصلاح». هذه رسالة واضحة يطلقها الشعب الأميركيّ في هذه الانتخابات. لقد فقدوا الأمل في الرأسماليّة الأميركيّة والمعركة مفتوحة. ومن لا يحرم كبار المرشحين من صوته، لن يستطيع توقع التغيير. أن نحرمهم أصواتنا، هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمونها.

أعتقد أنّ هيلاري كلنتون سوف تهزم دونالد ترامب، لأنّها الحليف الأكبر لرأس المال الكبير، أي أنّ انتصارها أشبه بانتصار دونالد ترامب على دونالد ترامب. فهو لا يستطيع السيطرة على نفسه فكيف بسيطرته على آخرين؟

. هل تعتقد أنّ وسائل التواصل الاجتماعي أفادت منظّمي الحملات الانتخابيّة أم أضرّتهم؟

أعتقد أنّها أسدت خدمة عظيمة لساندرز. لكنّني أعتقد، في الحصيلة، أنّها تدمّر عقول الجيل الجديد. لا مثيل لها من حيث الاستهلاك المحض للوقت والتفاهة المحضة والنرجسية المحضة والألم المحض. ولست أعتقد أنّنا باشرنا تحليل ما يصيبنا جميعاً بسببها، والأفدح هو ما يصيب الأجيال الجديدة. نشرت «النيو يورك ريفيو أوف بوكس» مؤخّراً مراجعة لأربعة كتب عن أثر الهواتف الذكيّة على الناس. وسألوا طالبات جامعة بايلور عن عدد الساعات التي يقضينها على الهاتف، كان الجواب ما معدله ١٠ ساعات باليوم. هذا لا يشبه مشاهدة التلفزيون. هذا انغماس كامل. والأمر يزداد سوءاً. هذا يعني تناقص القدرة على التركيز وعلى التواصل مع الآخرين. لم يعد الشباب يتحادثون على الهاتف. ليس بواسطة الحكي على كل حال. لقد باتوا أكثر حساسيّة. والهواتف الذكيّة تعزل الشاب والفتاة عن الأسرة. إنّه جهاز عازل جداً. قالت إحدى الفتيات إنّها تتعاطى بـ٦٠٠ رسالة إلكترونيّة باليوم، وإنها سوف تموت إذا حُرمت من هاتفها. في البدء، قلنا: حسنٌ، هذا سوف يسهّل التنظيم الآن. لا طوابع بريد، لا اتصالات هاتفيّة بعيدة، جماهير جاهزة للحظتها. هذا ما لم يحصل. تصلك عرائض ولكنّ مواقع التغيير الآن تغرقها العرائض.

. لنعد إلى الوراء بعض الشيء. ما هو الهدف الذي ناضلت لتحقيقه لأطول فترة ولم تحقّقه؟

حملات لتنظيم جماعات المواطنة. كلّ المجتمعات الديمقراطيّة عليها أنْ تمارس التنظيم. لا يكفي أن نعرف ما الصحيح وما الخطأ وأن نعلن ما ينبغي تحقيقه. كما قال جان مونيه: «لا يمكن تحقيق شيء بدون شعب، ولكن لا شيء يدوم دون مؤسّسات». في جامعة برنستون نظّمت صفّاً من الخريجين لتنفيذ مشروع يوزّع الطلّاب إلى مجموعات نشاط مدنيّ عبر البلاد وعبر العالم. وأنشأ أحد الصفوف بكليّة الحقوق بهارفارد ١٦ مركزاً لتطبيق القانون وتحقيق العدالة. هذا مصدر أسفي الأكبر: عدم تعميم هذا النموذج، لأنّه كان سوف يغذّي بقوة عروق مجتمع ديمقراطيّ وإنتاجيّته.

العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦
عن حقوق المستهلكين والانتخابات الرئاسية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.