العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

ثقوب الذاكرة

النسخة الورقية

«لا ينبغي للكاتب العاقل أن يُرى إلّا في مكانين:
إمّا مع الملوك مكرَماً، وإمّا مع العبّاد متبتّلاً»
«العقد الفريد»، ابن عبد رب

الذاكرة صندوق البريد. تضع فيه كلّ شيء، لكنّك لا تُخرِج منه إلّا ما تريد. تعود إليه بعد كلّ تلك السَنوات لتجد أنَه أصبح قديماً، مهترئاً بعض الشيء، وتنتابك قناعة بأنّه لم يُفتَح كما يجب من قبل. ولا لمرَة واحدة. رغم أنَ بابه بقي موارباً. في لحظة ما، بعد أن تكون قد تقدمت في السِن، تدرك أنَ الصُندوق قد أصبح بعيداً جداً، وراءك، وأنّ عليك الالتفاف والعودة إليه. ولكي تفعل ذلك، عليك أن تكون هشّاً نوعاً ما، كما لو أنّك تقود دراجة ضدّ الزمن. وأن تكون سريعاً، خفيفاً، تقفز فوق العطل والرحلات وزيارات الأصدقاء والمواعيد، وأن تنفرد بنفسك، لأنّ الرحلة نحو الذاكرة هي دوماً لراكب واحد فقط. وقد لا يكون هناك من بقي حواليك ليؤنسك.

إنّك تتأبّط ذاكرتك

لذلك، عندما تصل إلى الصُندوق، يدهمك نوع من الخوف. كما لو أنّك إذا ما فتحته فسيخرج منه نسخٌ عنك بالآلاف. لكنك ستظلّ وحيداً. كما لو أنّ كلّ نسخة منك مطبوعة لوحدها وتتحرك في حدودها فقط. تنظر إلى الصندوق وتتأبّطه بحنان. كأنّه حيوانك الأليف الذي ظللتَ تربّيه في الخفاء، ولا يزال جائعاً وسئم.

إنّك في الواقع تتأبّط ذاكرتك. والأمر ربّما لا يستحقّ كلّ هذه العناء العاطفيّ، أو هذه المقاربات التجميليّة. الأمر أبسط من ذلك، وأقسى. لكنّك لا تملك إلّا أن تمدّ يدك إلى عمق الصندوق. وتشعر وأنت تتحسّس ذكرياتك بأنّ ما فيه لم يعد يعني أيّ شخص آخر سواك. وأنّ كلّ تفصيل، كلّ انعطافة أو حدث، كلّ صوت أو رؤيا، لا يزال محفوظاً في مكانه. تماماً حيث وُضِعَ. وتدرك أنّ الامتياز الإنساني هنا، هو أنّ أحداً لا يكلّف نفسه عناء فتح صناديق الآخرين.

تجلس على كرسيّك الجلديّ في المكتب، وحولك عشرات الكتب المختلفة. منها كتب مذكّرات. لقد تركها أشخاص للعالم بعد أن قرّروا نبش أشياء من صناديقهم. وأنتَ ربّما تريد أن ترى كلّ ما أودعتَه في صندوقك منذ بداية أربعينيات القرن المنصرم وحتى أوائل هذه الألفيّة. تريد أن ترى، لكنّ عينيك لا تسعفانك. ولا ذهنك أيضاً. وقد يكون لا بأس في هذا على الإطلاق. فأنت كائن انطوائي. لم تبح يوماً بجميع تفاصيل حياتك، ولا تملك نزعة الرجل الذي يسعى لإثارة إرباك صغير أو بلبلة بأسراره. هل لديك أسرار؟ ربما. أو هذا غير مهمّ، فأنت لم تسمح لأشخاص كثر بالاقتراب من منجمك الصغير. ثمّ هناك اعتقادك بأنّ لا أحد يأبه بتفاصيل حياتك اليومية، أو عاداتك في الأكل والشرب والملبس وأسلوبك مع الآخرين. من أنت في نهاية الأمر؟ وما أهمّية ما عشته أو خبرته بالنسبة للآخرين؟ لأجيال ازدحمت حياتها اليوم وبات بينها وبين التاريخ القريب نوع من الزجاج العازل للصوت. أم هل لتجاربك بعد كلّ تلك السنوات أيّة قيمة اليوم؟ ماذا بقي من شغفك بالأمكنة ومطاردتك الدائبة للعالم، ورسم أحداثه الكبيرة والصغيرة بالتقارير الصحافيّة التي لم يبتعد الأدب الذي حاولت جاهداً طرده، عنها؟

ماذا بقي من صداقاتك ومشاريعك؟ وأنت الذي كنت تدخل في مغامرات كمن يلج غرفة مليئة بالوحوش، فيهزّ أركانها بأعواد نار متوهّجة يظلّ يحملها كطفل إلى أن تخبو شرارتها. هل خرجت حقاً معافى من كلّ تلك الخسارات؟ أم أنّك لم تدخلها أصلاً؟ المؤكد هو أنّك لم تكن تستعيد نشاطك حتى تبادر إلى نحت مغامرة أخرى في الصحافة أو الثقافة، تعرف أنها ستتدحرج سريعاً قبل أن يظهر ما أو مَن سيوقفها.

الأصدقاء حين يغيبون

أمام صندوق مذكّراتك، أنت المُرسِل والمُرسلُ إليه. وما عشته لحظة بلحظة في السابق، وببطء، يبدو الآن كأنه مكتوب على عجل في بطاقات بريديّة. بطاقات ها أنت تحملها بين يديك. لقد وصلتك اليوم، أو على الأقلّ تسلّمتَها من نفسك. وعلى ظهر كلّ بطاقة تجد صورةً لمكان ما أو صديق أو ربما خسارة، ومقابلها أحداث تعنيك وحدك. أنت تعرف أنّ بعض الأحداث قد تحلّلت في الصندوق ولم يبق منها أيّ شيء. أنّ أسماء لم تعد موجودة، أماكن تلاشت، رحلات لم يبق منها ذكرى ولو ابتسامة أو دعابة، خيبات كنت تعتقد أنّها ستلازمك دهراً، انفعالات وردّات فعل ضربت جهازك العصبيّ، كلّها تبدو الآن، بعد مرور عقود على إيداعها في صندوق الذاكرة، بغير أهمّية، ولا يشكل نسيانها أيَّ فرق. سواء تجلّت في ذهنك أو لا، فإنّ ذلك لن يغيّر شيئاً من واقعك. تسلّم جدلاً أنّها ذكريات هضمتها الأحداث الكبرى، ولن تفلح في إعادة تركيبها مهما حاولت. أنت فتى الأمكنة بالأساس. أمّا ذكرياتك الحميمة، التي قد يسعى نحوها قارئ بدافع الفضول أو الخبث، فتبدو كأنها ذكريات شاركتَها في جلسة عابرة ومضيت. لقد بقيت حائراً، تنفضك الأرض من مكان إلى آخر، وبرضى منك. تسجل القارّات وأسبابها في الأمكنة السياسية، عمود يوميّاتك الفقري. وها أنت تقف وحيداً أمام صندوق حياتك، الذي كسائر صناديق الآخرين، لا يفتح بسهولة. وربّما سيكون عليك كسره أو رميه على الأرض، أو أن تخلع بابه العالق كما تركته، تكتفي بإخراج ما تراه مناسباً، وتفرده أمام الآخرين. والأرجح أنّك ستجد في صندوق ذاكرتك فُتاتاً من بطاقات الآخرين البريديّة أو قطعاً من صناديقهم.

فهذا ما يفعله الأصدقاء حين يغيبون. يتركون في ذاكرة من بقي حياً عاداتهم المفضّلة، أصواتهم، رؤيتهم للحياة، ونكرانهم المتواصل للموت. وهذا ربما ما أفعله الآن.

 

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.