العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

التمتّع بالمساحات الخارجية

أفكار مدينية لدالية بيروت

النسخة الورقية

«عمّر وبيع». كانت تلك نصيحة والدتي بعد تخرجي مهندساً معمارياً في نهاية الثمانينيات. كانت خيبتها أنّ ذلك لم يحصل قط! بعدما عاشت في بيروت منذ الانتداب الفرنسي وعايشت فترات الاستقلال والحروب المتعددة، المحليّة والإقليميّة والعالمية، أصبح لدى والدتي أفكارها الخاصة عن كيفية تحقيق مدخول ثابت في منطقة غير مستقرّة اقتصادية. كما غيرها كثر، قد آمنت بأنّ الثروة لا تتحقّق سوى عبر التجارة، أيّ نوع من التجارة، وأفضلها التجارة الخاصة بالعقارات... «عمّر وبيع». ذلك هو التناقض المتأصّل في علاقتنا مع الجغرافيا التي نتماثل معها، إذ تقارن الأرض بقيمة رأس المال الذي تؤمّنه، وبالتالي هي مجرّدة ومن الممكن التخلي عنها. لا مكان في هذه النظرة تجاه الأرض للتفاصيل كتلك المتعلّقة بالنباتات المحلية التي تمثّلها الأرض، أو الطيور المهاجرة التي تستقبلها موسمياً، أو الممارسات الاجتماعية المرتبطة بها وطبقات الرواسب التي كونتها! إنّ النظرة المجرّدة للأرض تركّز على التبادل القيَمي للمناظر والمنحدرات والمنطقة والمنشآت المتعلّقة بها.

تحبّ والدتي التنزّه. أكثر ما تحبّه هو السيران، إذ تستمتع بالأشجار والنسيم والمناظر الطبيعية. مع النموّ الحضري لبيروت، شهدت والدتي على اختفاء الكثير من المناطق التي اعتادت أن تقصدها لتقوم بسيران، مثل حرج بيروت، والدالية، والغلاييني، والرملة البيضا، ووطى المصيطبة، والكوكودي، والأوزاعي، وعرمون وبشامون. نظراً لحركة البناء المكثف خلال الستين سنة الماضية، مع استثناء الدالية، فقد اختفت هذه المناطق أو أصبح الوصول إليها متعذراً. لا تزال والدتي تذهب برفقة أخيها وأختها في سيران تحت بضع شجرات صنوبر في عرمون محشورة بين المباني السكنية متعددة الطبقات. حالياً، لا توجد قوانين تضمن لنا استمرارية شجر الصنوبر بتغطية المنحدرات الغربية للبنان للأجيال المقبلة. رغم أنّ السيران كان وسيلة منتشرة للترفيه للعديد من سكان بيروت، فإنّ انخفاض المساحات المفتوحة داخل وحول المدينة جعل هذا النشاط الترفيهي مجهولاً للكثير من السكان الشباب. السيران هو النشاط الترفيهي الذي يتيح لفئات اجتماعية عدّة وبشكل متساو إمكانية الاستمتاع بالحياة من خلال التواصل مع المساحات الخارجية. على عكس النظرة المجرّدة للأرض، التمتع بالمساحات الخارجية أثر بكل التفاصيل والخصوصيات التي تجسّدها الأرض. أشكال الصخور، والنباتات، والوجود الموسمي للحيوانات وآثار وجود الناس، كلها مغامرات واستكشافات ذات قيمة عالية للاستمتاع بها في الهواء الطلق.

في سياق اقتصادي تقدر فيه قيمة الأرض وفق رأس المال الذي تنتجه، وذلك وفقاً لعامل الاستثمار وما تطل عليه والموقع مما يحولها سلعة للتبادل، ما هي قيمة الحصول على حقوق متساوية للسكان للاستمتاع بالحياة؟ لن أجيب على هذا السؤال، لكن سأتبعه بسؤال بلاغي لا يرتبط به: ما هو الحدث التاريخي السخيف الذي يجعل من موقع جيولوجي هام مثل الدالية ملكية خاصة؟! إنّ الدالية هي آخر الأماكن المفتوحة في بيروت والتي أصبحت حالياً هدفاً للتطوير العقاري الخاص بالفنادق. يمكننا الحديث عن الطمع، والفساد السياسي والخصخصة التي لطالما اعتمدتها أجهزة الدولة تاريخيا والتي قد تؤدي إلى تدمير للدالية بوصفها منطقة مفتوحة في المدينة، لكن الأهم هو إيجاد طريقة تمكّن سكان المدينة من تخصيص قيمة في الحق المتساوي في الاستمتاع بالحياة وذلك من أجل سحب موافقتهم الضمنية (أو عدم اكتراثهم) بعمليات البناء غير المسؤولة. إنّ «الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة» هي محاولة في هذا الاتجاه. بدأت الحملة في العام ٢٠١٤ مع هدف «المناصرة من أجل حماية واجهة المدينة البحرية بوصفها مساحة مشتركة، ومنطقة مفتوحة تُستخدم من قبل كل سكان المدينة وزوارها بطريقة مدنية ولكن عفوية». مذّاك، نشرت الحملة دراسات عدّة وثّقت الأهمية الاجتماعية، والثقافية، والجيولوجية والبيولوجية للموقع، بالإضافة إلى حملات عامة، ورسائل رسمية للوزارات المعنية، وتنظيم نشاطات في الدالية، وإطلاق الشعارات، والصور والأشرطة للترويج لهذا الفضاء. كذلك قامت الحملة بأرشفة الصور القديمة الخاصة بالمكان، ونشرت بيانات صحافية ورفعت دعاوى قضائية.

في حالة بيروت، مفهوم الحق المتساوي لا يقتصر على الفروقات الطبقية، بل ربما الأكثر أهمية هو المجموعات الإجتماعية/الطائفية/الإجتماعية/الطائفية/السياسية المختلفة التي يتزايد تباعدها داخل المدينة. الدالية والكورنيش هما المكانان المتبقيان اللذان يجمعان الناس من الفئات الاجتماعية المختلفة، ليلتقوا ويختبروا (وربما يتشاركوا) التجارب نفسها. ينعزل عدد أكبر من سكان بيروت داخل الحدود السياسية والطائفية لمناطقهم والتي تصبح حدود فعلية. يضاف إلى ذلك قلق المسؤولين الرسميين من تأمين مساحات مفتوحة مشتركة حيث الحدود غير مرسومة بشكل واضح، وبدا ذلك واضحاً في التردد في فتح حرش بيروت خوفاً من تهافت السنة والشيعة والمسيحيين من المناطق المحيطة به إليه. إنّ الفضاءات المفتوحة أمام الجميع لا توفّر بالضرورة الاندماج الاجتماعي، الذي يمكن رؤيته على الكورنيش حيث تجتمع معظم الفئات الاجتماعية المختلفة في أقسام مختلفة من الفضاء الأفقي، وتعيد رسم حدود مناطقها بشكل عفوي. لكن الكورنيش، وبشكل أكبر الدالية، هي مساحات يلتقي فيها المرء بقاطني المدينة من مناطق مختلفة وذلك خارج الخطاب الرسمي المسيطر المتعلق بمسألة لمن تعود ملكية المدينة. بما أنّ طريق الكورنيش والبحر يحدّان الدالية فهي تهرب من قبضة الفريق المسيطر، مما يسمح بدخول مجموعات مختلفة من مناطق مختلفة من المدينة إليها. بشكل مماثل، نجا الموقع حتى فترة قريبة من جشع المطورين العقاريين، ما سمح له أن يكون أكبر منطقة فيها أقل وجود لمبان على شاطئ بيروت، مما سمح بالحفاظ على النبات والحيوان فيها مقابل احتضانها مروحة واسعة من النشاطات التي فشلت المدينة بشكل متزايد في استيعابها.

تظهر فرادة الدالية وغناها بشكل أكبر في الوثائق المتنوعة التي أنتجتها الحملة وتركّز على أهميتها الجيولوجية، والأركيولوجية والبيئة والاجتماعية. لقد أطلقت الحملة مسابقة مفتوحة للأفكار في الربيع الماضي بعنوان «ألف دالية ودالية» لتقديم بدائل للتطوير العقاري الخاص الذي كان مخططاً له أن يحصل في المكان. ورغم أنّ الفترة الزمنية للمسابقة كانت قصيرة (٢٤ آذار/ مارس ــ ٢٦ أيار/ مايو ٢٠١٥) فقد تلقّت الحملة ٢٠ مشروعاً، وجزء منها كانت مشاريع معمقة ومبتكرة ومسؤولة مدنياً. تُظهر المشاريع الثلاثة الرابحة ثلاث مقاربات مختلفة للمنطقة من دون أن تكون مقتصرة عليها. في الملفّ الذي قدّمته للمسابقة تقول مجموعة «داليةن» (Daliehn): «اخترنا اعتبار الدالية وسيطاً مؤقتاً، وتفضيل المسار على المنتوج، واقتراح خاصية عدم الاكتمال بوصفها معطى نهائياً في اقتراحنا «النهائي». هذا المكان الطبيعي يتعلّق بما ينمو بقدر ما يتعلّق بالجامد، ويتكوّن من مواد وقوى وممارسات حيّة ومتغيّرة...».

يطوّر هذا المشروع استراتيجيات مكانية وقانونية ومؤسساتية لصالح «ثلاثة أنظمة زمنية» تتعايش مع بعضها البعض ويعزز كل منها الآخر. إنّ الإطار الثقافي والمدني محشور مكانياً بين النظام الجيولوجي والبري الساحلي والنظام البيئي المائي. إنّ هذا المشروع هو خارطة طريق لحماية وتطوير الدالية بوصفها مكاناً في بيروت حيّاً دائماً وبالتالي متغيّراً.

في المقابل فإنّ «الملاذ الأخير» (The Last Refuge) هو مشروع يستكشف التدخّل المادي في الموقع بوصفه وسيلة للتحكّم بالنشاط الاجتماعي على الأرض من أجل حماية القيمة الإيكولوجية والجيولوجية للدالية. يقدّم المشروع تقنيّات بناء وتدخّلات بناء ذات مواقع إستراتيجية للحفاظ على وصول مفتوح للبحر مع حماية ميزاته الإيكولوجية. في هذا الإطار، تكتب المجموعة في الملف الذي قدّمته إلى المسابقة: «الدالية هي آخر ملاذ للعديدين من أجل ممارسة حقهم في الوصول إلى الفضاءات العامة في المدينة، وبشكل أدقّ: حقّهم في الوصول إلى البحر... إنّ هدف تصميمنا سيكون مصالحة الحساسية الإيكولوجية والأركيولوجية للموقع مع الممارسات السوسيو ــ ثقافية الموجودة مسبقاً أو المقترحة حالياً. نركّز على حماية الدالية من خلال الممارسة، وفي الوقت عينه التعاطي مع كل التحديات التي يواجهها الموقع اليوم في ما يتعلّق بالملكية والتحدّيات الاجتماعية البيئية والتدهور الماديّ». يطوّر «الملاذ الأخير» تجربة شاملة عبر المكان حيث البناء هو عنصر واحد فقط، مما تجري مراقبته بوصفه تدخلاً زمنياً في إطار الوجود الأوسع وطويل الأمد للدالية.

يضع المشروع الثالث الرابح «ليس فقط عن الدالية» (Not Just About Dalieh) الدالية في إطار خطاب أوسع عن الوعي المدني. تعتبر الدالية جزءاً من شبكة الأماكن التي ينبغي أن يعي شأنَها سكانُ بيروت، ويهتموا بها ويستمرّوا في التواجد داخلها. يُظهر المشروع أهمية تلك المساحات العامة في المدينة، وذلك عبر تطوير تجارب تشاركية لمختلف المجموعات السياسية والإثنية التي تحتويها المدينة: «عبر الاعتماد على تنوّع الأشخاص المتواجدين على الكورنيش، نرغب في اعتبار الدالية منصّة تبادل من أجل جذبهم وتسهيل الحوار بينهم عبر الخبرات والتجارب المتشاركة... إنّ مشروع «ليس فقط عن الدالية» يتمحور حول استعادة الحق في الوصول إلى الطبيعة والإرث العام والحوار في المدينة التي تتوسع على حساب نوعية حياة الإنسان». يقترح المشروع حملة توعية يجري تطويرها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ووسم العلامات التجارية، وبرامج بناء في الموقع. بناءً على ذلك، ستحتوي الدالية ثلاث مناطق أساسية: ٢٠٪ من الموقع سيكون محمياً من أي نشاط بشري من أجل الحفاظ على النظم البيئية على اليابسة وفي البحر. ٢٥٪ من الموقع سيجري تطويره ليصبح متنزهاً عاماً مع كل متطلبات منشآته وخدماته، فيما ٥٥٪ من الموقع سيبقى منطقة مفتوحة مع أقل قدر ممكن من التدخل، وحيث يمكن تنظيم نشاطات اجتماعية، بشكل غير رسمي، في مكان مرتجل إلى حدّ كبير.

الدالية الآن

اعتبارالدالية كوسيطاً زمنياً وتفضيل مساره على نتيجته، واقتراح عدم انتهائه كمشروع بوصفه نهائياً في المقترح "المكتمل".

التعرف على ثلاثة أنظمة/مناطق للعمل تسمح بتوسع مستقبلي:
١- الجرف الأزرق: تطوير بحري.
٢- العمود الفقري الاجتماعي: إضافات على الكورنيش تؤدي إلى استملاكات عفوية وتبادل اجتماعي. استعادة الشاطئ العام كجزء من الفضاء العام للدالية وجعل المرفأ نموذجاً أولياً للتطوير والتنمية المجتمعية.
٣- الرئة الحضراء: مساحة خضراء للمدينة

 


نظام أزرق (بحري): إعادة تأهيل نظام الشعاب الطبيعي وموطن سباع البحر المحميّ.
إدخال ثقافات الشعاب لتطوير مواطن قنافذ البحر، وتكثيف السمك وإدخال بيئة منظمة للغطس. تأسيس نظام بيئي للشعاب يعمل ككاسر أمواج معزّز.


نظام برتقالي (اجتماعي): عبر جعل الهضبة الموجودة موقع غير رسمي للاستخدام المنظم، يمكن للدالية أن تصبح مكاناً للعروض على أنواعها، والاحتفالات، والتجمعات الاجتماعية – الثقافية أو مكاناً للتنزه.


منطقة خضراء: تدعيم الإنتاج الطبيعي للرئة الساحلية الموجودة أصلاً والتي أصبحت اليوم موطناً طبيعياً محافظاً عليه للزهور البرية مما يعيد للمدينة رئتها الخضراء.

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦
أفكار مدينية لدالية بيروت

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.